الفصل السادس عشر: يسوع وبعل زبول

الفصل السادس عشر
يسوع وبعل زبول
12: 22- 37

أشفية عديدة تمّت على يد يسوع. جميعهم شفوا. ورأى الناسُ في يسوع المسيحَ المنتظر في آخر الزمان. ولكن يسوع رفض هذه الدعاية التي تهدّد رسالته في أساسها وتبعدها عن مفهومها في خطّ إرادة الآب. شفاء أولا هدّد حياة يسوع (9:12-14) الذي أسكت الناس ومنعهم من أن يشهروه، وفضّل مسيرة عبد الله كما أنشده أشعيا. وها نحن في شفاء ثان (22:12) يدعو الجموع إلى أن تستعيد النظر والكلام. "أليس هذا ابن داود"؟ غير أن الفريسيين سيتّخذون (كما فعلوا في كل ف 12) موقفًا معاديًا يدلّ على أنهم لم يكتشفوا بعد أن الملكوت قريب. ليس الله هو الذي يعمل في يسوع، بل بعل زبول، أمير الشياطين. وهكذا أغلقوا عيونهم عن الحقّ، وارتكبوا خطيئة لا تُغفر حين رفضوا أنوار الروح القدس. لهذا سيُترك لهم بيتهم خرابًا، كما سيقول يسوع فيما بعد.

1- نظرة عامّة
إن خبر اتّهام الفريسيين ليسوع يسبقه في مت وفي لو (11: 14-16) شفاء أعمى وأخرس (قال لوقا فقط: أخرس). أما المرجع المشترك بين الخبرين، فنجده في خبر آخر لمتّى (9: 32-34) يتحدّث أيضًا عن اتهام الفريسيين ليسوع في سياق بعيد عن هذا الاتهام. أما في نص مرقس (3: 20-22) الموازي، فالمقدمة لا تشير إلى الأشفية، بل إلى هدف أقرباء يسوع بأن يمسكوه بعد أن ظنّوا أنه فقد صوابه. عند مرقس، الكتبة هم الذين أطلقوا الاتهام. في لوقا، بعض الاشخاص الموجودين في المجمع (15:11: بيد أن بعضهم قالوا).
ارتبط مت ولو بمرجع يوازي مر 3: 22. ونحن نقرأ اتّهامًا مماثلاً في يو 7: 20 (إن بك شيطانًا)؛ 8: 48 (إنك سامري وان بك شيطانًا). 52 (الآن نعلم أن بك شيطانًا)؛ 10: 20 (إن به شيطانًا. إنه يهذي. فما بالكم تستمعون له؟). ولكن القرائن تختلف وكذلك الالفاظ، بين ما نجد في الانجيل الرابع وفي الاناجيل الازائيّة في هذا المجال.
اتّهم الفريسيّون يسوع بأن شيطاناً يمتلكه (مت 12: 22-24؛ مر 3: 20- 22؛ لو 11: 14-16)، فردّ يسوع وهاجم (مت 12: 25-27؛ رج 7: 16- 20؛ مر 23:3-30؛ 9: 40؛ لو 11: 17-23؛ رج لو 43:6- 45؛ 10:12).
حين نلقي نظرة سريعة إلى إزائية الاناجيل، ندرك حالاً أربعة أمور:
- إن آ 25-37 التي تبدو آ 22-24 مقدّمة لها، هي طويلة جدًا، ولاسيّما في متّى الذي اعتاد أن يوجز النصوص التي يأخذها من مرقس خصوصًا.
- إن نص مت يبدو، على غير عادته، أغنى من نصّ مر ويتفوّق عليه في لغة العنف (آ 34، 36-37، لا نجدها أيضًا في لو).
- نكتشف نصوصًا تُعاد ولا تتكرّر ألفاظها في متّى (آ 33؛ رج 7: 16- 20) وفي لوقا (آ 23؛ رج 9: 50)، كما نكتشف في لو نصوصًا تبدّل موضعُها بالنسبة إلى مر.
- في تشعّب التقليد هذا، اتّفق الشرّاح اتّفاقًا حوله الاقوال الرئيسية في مت ولو (آ 28، 32، 35 وز). هذه الوقائع تبيّن أن التقليد الاولاني تأثّر بهذه المجموعة الواسعة من أقوال يسوع. ونحسّ أن مت جمع في إطار واحد أقوالاً قيلت في ظروف مختلفة. وهذا ما تؤكّده المقابلة مع مر ولو. أما نصّ مت فيدور حول موضوعين رئيسيّين: مملكة تنقسم على نفسها (آ 25- 31). الشجر وثمرها (آ 33) مع صورتين متوازيتين (آ 34-35). أما آ 36-37 فتشكّلان خاتمة المقطوعة كلها.

2- دراسة تفصيلية
أ- البنية
تقع هذه القطعة في متتالية واسعة (22:12- 50) تنقسم ثلاثة أقسام. الاول (12: 22-37) هو خبر يروي اعتراضًا كبيرًا على يسوع في شفائه المرضى. الثاني (38:12-45) هو خبر يحاولون فيه أن يجرّبوا يسوع طالبين منه آية. والثالث (46:12-50) خبر قصير حول عائلة يسوع الحقيقيّة. الاعتراض (القسم الأول) والتجربة (الثاني) يسجّلان اللاإيمان في إسرائيل. أما القسم الثالث فيوجّه "درساً" لأقارب يسوع، ويبيّن لنا ما يفعله الايمان: يجعل من الناس إخوة وأخوات ليسوع.
في آ 22-37 وآ 38-45، نحن في جدال مع الفريسيين. ولكن في آ 46- 50، يتوجّه يسوع ببساطة إلى الجموع بعد أن "اختفى" الفريسيون. وهذا ما حدث من قبل. في 12: 1-8 وآ 9-14 نحن في جدال، والفريسيون هم هنا. ولكنهم لا يلعبون أي دور في آ 15- 21. وهكذا نكون أمام بناء مبنيًا بناء متوازيًا آ 1- 21 وآ 22- 50. مقطعان يرويان صراعًا بين يسوع والفريسيّين، ومقطع ثالث يغيب عنه الفريسيون.
ب- المراجع
هذا النص (12: 22-32) هو دمج بين مر 3: 22-30 مع مواد مأخوذة من المعين (لو 14:11، 23؛ 12: 10). إن لو 11: 14-23 ينتمي الى جزء من الانجيل الثالث يدلّ على اتصال قليل بمرقس، وعلى اختلاف على مستوى الألفاظ والاسلوب. فمع مر ولو (= المعين) نستطيع أن نعيد بناء طريقة متّى في تدوين هذه المقطوعة. تأسّست المقدمة كلّها (آ 22-24) على المعين (قد استعمل مت هذا الخبر في 9: 32-34. وهكذا نكون أمام تكرار). وكذا نقول عن آ 25-26 وآ 27-28 مع العلم أن آ 25-26 تجدان ما يوازيهما في مر 6: 25-26. وهكذا يكون تأثير مر في آ 22-28 قليلاً جداً.
أما في آ 29، فقد استعاد متّى مثلَ الرجل القويّ كما في مر 27:3 (إن شكل المثَل في المعين وفي لو 11: 21-22 هو مختلف جداً). في آ 30، عاد متّى إلى المعين (رج لو 11: 23). ولكن حين نصل إلى نهاية نسخة المعين حول الجدال، يعود الانجيل الأول أيضًا إلى مر حيث المقطع حوله التجديف يلي مثَل الرجل القويّ (مر 28:3-29؛ رج مت 12: 31-32). حين كيّف متّى هذا النصّ، بدا وكأنه يتطلّع إلى اختلافة في المعين (رج لو 12: 10). وخلاصة الكلام، إن آ 22-28، 30 هي من المعين. آ 29 من مر. آ 31-32 تعود إلى المتّاويات.
أما القول حول الشجرة الجيّدة والشجرة الرديئة (12: 33- 37)، فالآيات الثلاث الأولى (آ 33- 35) ترتكز على خطبة نجدها في المعين (لو 6: 43- 45)، وقد سبق لمتّى واستقى منها (رج 7: 16- 20). أما الآيتان الأخيرتان (آ 36-37) فلا تجدان ما يوازيهما. لهذا تُعتبران من المتّاويات (أخذتا من التقليد الشفهيّ أو دوَّنهما متّى نفسه).
ج- التأويل
نحن هنا مع خبر مبنيّ على جدال (رج 9: 1-8). بعد تقسيم وطرد أرواح، نقرأ ثلاثة أجوبة: جواب الجموع ليسوع (هذا ابن داود). جواب الفريسيين للجموع (يُخرج الشياطين ببعل زبول). جواب يسوع للفريسيين (كل مملكة تنقسم على نفسها). جواب الجمع (بشكل سؤال وتساؤل) وجواب الفريسيين (بشكل اتّهام) يردان بسرعة. وبعد ذلك يتوسّع مت في جواب يسوع الذي يقوم في ثلاثة أقسام. (1) ثلاثة ردود يتبعها تحذير (آ 25- 30). (2) مقطع عن الخطيئة التي لا تغفر (آ 31-32). (3) مقطع صغير عن الإثمار والكلام الذي يتفوّه به الانسان (آ 33-37).
ونقدّم النص الانجيليّ بحسب هذا الترتيب الدقيق:
* تقسيم: "حينئذ قدّم إليه ممسوس (فيه شيطان أعمى وأخرس). فشفاه حتى إن الاخرس تكلّم وأبصر (رج 9: 32 مع أخرس فقط. أما هنا فجمع النصّ 9: 27-33: أعميان وأخرس).
* ثلاثة أجوبة
- جواب الجمع: فبُهت الجموع كلهم. وقالوا: "أفلا يكون هذا ابن داود"؟ كان جوابهم بشكل سؤال، وكأنهم بدأوا يكتشفون حقيقة يسوع. ولكن هل يتركهم الفريسيون يصلون، هم الذين أخذوا مفاتيح المعرفة، فما دخلوا ولا تركوا الناس يدخلون.
- جواب الفريسيين: وسمع الفريسيون فقالوا: "هذا الرجل لا يُخرج الشياطين الا ببعل زبول، رئيس الشياطين". وهكذا انقسم الناس حول يسوع.
- جواب يسوع: وإذ أدرك يسوع أفكارهم، قال لهم: "كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب. وكل مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت".
*... في ثلاثة ردود
- الردّ الاول: فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان، فقد انقسم على نفسه، فكيف إذن تثبت مملكته؟
- الرد الثاني: وإن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم أنتم بمن يخرجونهم؟ (كان تلاميذ الفريسيين يقسّمون على الأرواح النجسة. وهكذا سيحكمون على معلّميهم). لذلك هم أنفسهم سيحكمون عليكم.
- الرد الثالث: وأما إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فذلك أن ملكوت الله قد انتهى اليكم. وهل يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إلاّ أن يربط القويّ أولاً؟ عندئذ فقط ينهب بيته.
* تحذير: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق". تلك هي الخطيئة التي لا تُغفر: "من أجل ذلك أقول لكم: إن كل خطيئة وكل تجديف يُغفر للناس. أما التجديف على الروح القدس فلا يغفر. ومن تكلّم على ابن البشر يُغفر له. وأما من يتكلّم على الروح القدس فلا يُغفر له، لا في هذا الدهر ولا في الآتي".
* الثمار والكلمة: إجعلوا الشجرة جيّدة فتكون ثمارها جيّدة... كل كلمة بطّالة ينطق بها الناس سيؤدّون عنها حسابًا في يوم الدين.
إن مر 3: 22-27 ولو 11: 14-23 (المعين) هما في الاصل خبر أرامي. وهو يقوم في لو 14:11 (تقسيم)+ مر 22:3= لو 11: 15 (اتهام)+ مر 23:3-26+ لو 11 :17-18 ب (مملكة منقسمة)+ مر 27:3= لو 11: 21- 22 (الرجل القويّ). الهجوم والجوابان ترتبط بالتاريخ. ولكن هل قيلت هذه كلها في وقت واحد؟ ربّما. وإن مر أو مرجعه زاد قولاً منعزلاً حول التجديف، فضايق البداية. أما المعين فزاد الأقوال في لو 11: 19- 20، 23.

3- تفسير الآيات
أ- "قدّم إليه ممسوس" (آ 22- 24)
"حينئذ قدّم اليه ممسوس أعمى". ق 24:4؛ 16:8؛ 13:9؛ لو 11: 14. لماذا ذكر مت العمى؟ هل أراد أن يتذكر 9: 27- 31 أو أن يهيّئ الطريق كما في 20: 29-34؟ أم أراد أن يميِّز بين 12: 22-24 وما يقابله في 9: 32-34؟ نحن هنا في تعارض بين أعمى جاء ليرى، وبين الفريسيين الذين لا يستطيعون أن يروا. "فشفاه حتى إن الاخرس تكلّم وأبصر" (نلاحظ أن الانسان هو في الاصل أخرس). ق 9: 33؛ 12: 15.
"فبُهت الجموع كلهم" (آ 23). توّسع مت هنا في المعين. قال لوقا فقط: "تعجّب الجموع". إن مت يهتمّ أكثر من سائر الاناجيل بيسوع ابن داود (1: 1؛ 27:9). وهكذا وصلت الجموع إلى بعض النور وتساءلت: أما يكون يسوع المسيح الداوديّ؟ أعداء يسوع الحقيقيّون هم الفريسيون الذين هم أكيدون من أنفسهم، فلا يحتاجون إلى نور آخر. أما الشعب، فيتحمّس ليسوع ويحاول أن يتحسّس الطريق مثل هذا الأعمى لكي يبصر. وها هو يتكلم، ويعلن ببعض خفر أن هذا هو المسيح ابن داود.
"وسمع الفريسيون" (آ 24). وقدّموا جوابًا للجموع، وما نسوا يسوع بشكل غير مباشر. خافوا أن يفلت الشعب من أيديهم، أن يؤمن بيسوع. في لو 11: 15، لم يُذكر الفريسيون. وفي مر 3: 22: "كتبة جاؤوا من أورشليم". وحده مت قال: الفريسيون. اعتاد مت أن لا يذكر "الكتبة" مع الفريسيين مبتعدًا عن مر. رج مت 9: 11؛ 14:17؛ 23:21؛ 35:22، 41؛ 3:26، 47؛ 27: 1 وما يوازي كل هذا في مر. فنظرة مت إلى "الكاتب" نظرة إيجابية بعد أن تتلمذ هو فصار الكاتب الذي يُخرج كلَّ جديد وكل قديم.
بدأوا كلامهم بـ "هذا" التي تدلّ على الاحتقار. وجاء كلامهم لا في صيغة المخاطب، بل الغائب. هم لا يجادلون شافي المرضى، بل يتكلّموا عنه مع "المشاهدين".
ب- جواب يسوع في ردّ مثلث (آ 25- 30)
"أدرك يسوع أفكارهم" (آ 25). إن كلمات يسوع التي تبدو بشكل قول مأثور، تتحدّث عن مملكة للشيطان (مثل مملكة الله) مرتّبة ومنظَّمة. تحدّث مت عن المملكة، المدينة، البيت (= العائلة) من الاوسع إلى الأضيق، وهكذا يكون الخراب أكثر.
"فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان" (آ 26). ق مر 26:3؛ لو 18:11. إن التقليد الاولاني ماهى بين الشيطان وبعل زبول. وتبعه الانجيل. وهكذا هاجم الفريسيون يسوع على أنه يطرد الشياطين برئيس الشياطين. وهكذا نسبوا القوّة التي في يسوع إلى الشيطان لا إلى الله. ردّ يسوع ببرهان يقود إلى العبث. إلى ماذا يصل الشيطان إن هو تصرّف بهذا الشكل؟
"وإن كنت أنا ببعل زبول" (آ 27). رج لو 11: 19. "أبناؤكم" هم أعضاء هذه الجماعة ومحبّذوها. "يحكمون عليكم" في اليوم الأخير. بل يشهدون عليكم، وعلى ما في نواياكم من خبث. إن جواب يسوع جاء هنا واضحاً جداً. فبين نشاطين متشابهين (يسوع يقسّم، الآخرون يقسّمون) قد ميّز الفريسيون عمل يسوع من عمل تلاميذه. نسبوا هذين التقسيمين إلى مصدرين مختلفين كل الاختلاف (بعل زبول، الله). فأعلن لهم يسوع أن ليس في هذا شيء من المنطق. إذا كانت النتائج متشابهة، فالعلل متشابهة. الخير لا يخرج من الشرّ (12: 33-37). وقد نستطيع القول إن ما كان يفعله تلاميذ الفريسيين قريب من السحر. أما يسوع فكان يكتفي بكلمة أو بلمسة.
ماذا نقول عن آ 28؟ اعتقد يسوع أن قدرة الله تعمل فيه لينتصر على قوى الشرّ، وأن هذا النجاح في مصارعة الشر وأعوانه جزء من خلاص الله الاسكاتولوجيّ. ولكن اعترض بعضُ العلماء: اين المنطق في العودة إلى نجاح التقسيم (طرد الشياطين) لدى الآخرين (آ 27) ثم الاعلان بأن طرد الشياطين بيد يسوع هو علامة عن حضور الملكوت؟ لهذا نظر معظم الشراح إلى آ 27- 28 على أنهما لم تكونا هنا منذ البدء. ولكننا في هذا المجال أمام تفسير خاطئ. نحن في آ 28 لا ننتقل من التقسيم بشكل عام إلى حضور ملكوت الله. بل من عمل يسوع في طرد الشياطين إلى حضور الملكوت (إن كنت أنا أطرد الشياطين). فكيف يكتفي يسوع بأن يقول إن ملكوت الله قد أتى لأنه طرد بضعة شياطين؟ إن لم يكن التقسيم عمله اليومي، فكيف كان عُرف حتى في الناصرة؟ لذلك يقوم القول عن قوّة يسوع، على الشهادة حول دور يسوع الاسكاتولوجيّ. ففي أقوال الرب، يعلن يسوع بشكل ضمنيّ سرّ شخصه، ولكنه لا يعطي لنفسه لقبًا. هو لا يقول إن الملكوت أتى لأن المسيح (أو: ابن الانسان) قد حضر فحطّم مملكة الشيطان. بل يقول فقط: "أنا أطرد الشياطين". فيتساءل السامعون: "فمن هو هذا إذن"؟
"إن كنت بروح الله أخرج الشياطين". رج لو 11: 20 الذي قال: إن كنت باصبع الله. وألغى "أنا" (اغو): إن كنت أنا أخرج. زاد مت الضمير ليدلّ على التوازي مع آ 27: "إن كنت انا ببعل زبول". وقالت "ملكوت الله"، ولم يقل "ملكوت السماوت". لا فرق بين العبارتين. ولكن قال الانجيلي "روح الله" فجعل إزاءها: "ملكوت الله". هل وجد في المعين "إصبع" (الله) أو "روح" (الله)؟ هناك من يدافع عن "إصبع" للاسباب التالية: (1) لو وجد لو "روح" الله، لما كان أغفل القول، وهو الذي يهتمّ كثيرًا بالروح القدس ولا سيّما في أع. (2) ترد "دكتيلوس" (إصبع) ثلاث مرات في لوقا (11: 20، 46؛ 16: 24). ويعود 16: 24 الى تقليد لوقا، و11: 46 إلى المعين (لا ترد اللفظة أبدًا في أع). وهكذا لا نكتشف اهتمامًا خاصًا من لوقا بهذه الكلمة. (3) قد يكون الانجيل الأولى أحلّ "الروح" محل "اصبع" لان "الاصبع" ترتبط بالسحر، ولأن "الروح" يوافق السياق حيث "بنفما" (الروح) هي الكلمة المفتاح (12: 18، 31، 32). وقد يكون مت استبعد تشبيهًا انتروبومورفيًا.
وهناك براهين أخرى. (1) اهتمّ متّى بتشبيه يسوع بموسى فكيّف تلميحًا وجده في خر 8: 19 (قال السحرة: هذه اصبع الله). (2) إن لوقا مع اهتمامه بنمطيّة الخروج، قد زاد "إصبع". في الواقع المعنى هو هو. سواء قال مت "روح الله" أو لو "إصبع الله"، فروح الله وقوّة الله يعنيان قدرة الله. رج مز 8: 3؛ 33: 6؛ حز 3: 14؛ 8: 1-3؛ 37: 1.
"افتاسن" وصل فجأة. انتهى إلى، أدرك. الملكوت حاضر، الملكوت أتى. رج 17:4. بحسب 28:12، إن طرد يسوع للشياطين يهيّئ الملكوت. وإذ قهر الشياطين نقّى الناس من الشرّ بحيث يستطيعون أن يشاركوا في الملكوت. ونقول أيضًا إن الملكوت قريب جدًا، بل بدأ يفعل.
كيف فسّرت آ 27-28؟ بطرق مختلفة. (1) وضع آ 27 قرب آ 28 ليس منطقياً. فان دلّت "تقسيمات" يسوع على مجيء ملكوت الله، فماذا تفعل تقسيمات الآخرين؟ إذن لم يقل يسوع إما آ 27 وإما آ 28. فإن قيلتا فقد قيلتا في مناسبتين مختلفتين وفي منظارين مختلفين. وفي أي حال لا تناغم بينهما. (2) من المعروف أن جماعة "المعين" التي اعتقدت أن الحكمة الالهيّة أرسلت عددًا من المرسلين إلى اسرائيل، قد فهمت أن ملكوت الله قد جاء في نشاط مقسّمين غير مسيحيين. (3) اختلفت تقسيمات يسوع، لأنها وحدها عمل روح الله أو إصبع الله. وبالتالي ترتبط تقسيماته وحده بمجيء الملكوت. (4) آ 27 هي برهان خاص في وضع معيّن. وهو مهمّ من أجل إقناع معارضي يسوع بريائهم. فهو لا يفترض أن يسوع نفسه اعتقد بقدرة المقسّمين اليهود. (5) هناك افتراض ضمني يقول إن تقسيمات يسوع كانت كثيرة، فنجح اكثر من الآخرين على مستوى الكميّة ومستوى النوعيّة. (6) إن لفظة "أبناؤكم" تقابل الرسل. وهكذا لن تطرح مسألةُ تقسيمات يقوم بها غير المؤمنين. (7) قبل يسوعُ بمعجزات الآخرين، ولكنه اعتبر معجزاته مختلفة بسبب هويّته. المهمّ ليس التقسيمات بل المقسّم.
لا شكّ في اننا نختار الطرح الأخير (7) مع ارتباط بحياة يسوع التاريخية. فالطرح الأول لا يقدّم جواباً. والثاني يخون فهم متّى للاسكاتولوجيا في ارتباطها بشخص يسوع. والثالث يُطرح عليه سؤال: هل يطرد اليهود الشياطين بقوّة غير قوّة الله؟ الرابع يعارض المعنى الحرفيّ للنصّ. الخامس، هناك إمكانية، ولكننا نضع في هذه الآية اكثر ممّا تحمل. السادس لا يصدّق. وهكذا يبقى الطرح السابع الذي يتوافق مع تدوين متّى الذي "أدرج" "اغو" (أنا)، كما يتوافق مع موضوع من مواضيع متّى الاساسية: إن مجيء يسوع يدشّن تتمة الاسكاتولوجيا، معه بدأت تتمّ.
واتخذ ردّ يسوع الثالث شكل مثل من الأمثال (آ 29: الرجل القوي). هاجم يسوع مملكة الشيطان (الذي هو الرجل القويّ) وسحق قوّته، ونهب أمتعته، فلم يبق له من يسير معه. هناك نسختان لمثل الرجل القويّ. نسخة في مت 12: 29؛ مر 3: 27 وفي انجيل توما 35. وأخرى في لو 11: 21- 22. اعتبر بعضهم أن لوقا حوّل المثل إلى استعارات، فأعاد كتابة مر 3: 27. ولكن الفروقات بين مر ولو هي من الكثرة بحيث يستحيل أن يكون الواحد مرجعاً للآخر. وبما أننا لا نجد في لو 11: 21-25 شيئاً خاصاً بلوقا، فقد يكون لوقا عاد إلى المعين. نحن أمام مثَل يعود إلى المسيح (المراجع العديدة)، وهو يدلّ على اعتقاد يسوع بحضور الملكوت وأهميّة شخصه. وهو يقع في إطار رسالة يسوع في طرد الشياطين بنجاح. ونزيد أن الكنيسة جعلت انتصار يسوع على الشيطان يرتبط لا بالرسالة نفسها، بل بالصليب أو في الأيام الاخيرة (رؤ 20: 1-15). نشير إلى أن التقليد اليهوديّ قد اعتقد أن هزيمة الشيطان هي حدث من نهاية الأزمنة (يوبيلات 23: 29؛ أخنوخ 10: 4-7؛ 54: 4-6؛ وصيّة زبولون 9: 8).
"كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القويّ" (آ 29). ق أش 24:49 (أتؤخذ الغنيمة من القويّ أو يفلت المسبيّ من القاهر)؛ مزامير سليمان 5: 4: "لا يأخذ الانسان كوخاً من رجل قويّ". ونقرأ ايريناوس في "ضدّ الهراطقة" (5/ 22: 1): لا يُقهر الرجل القويّ بشخص أقل منه، أو يساويه، بل بشخص أقوى منه". قال مر 27:3: "لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القويّ وينهب متاعه من غير أن يربط القويّ أولاً". بسّط مت مر، وأعاد صياغة عبارته، وحوّل كلامه إلى سؤال (هل يستطيع) ليكون التوازي افضل مع آ 26 (يبدأ بالاستفهام "بوس"، هل) وآ 27. بيتُ الرجل القويّ هو مملكة الشيطان. وأمتعته أو ممتلكاته هي الاشخاص الذين يمتلكهم. ويسوع يحرّرهم بخدمته في طرد الشياطين (قالت وصية نفتالي 8: 6: "يسكن الشيطان فيه كما في وعاء"). يربط الشيطان الناس (لو 13: 16)، ولكن تقول النصوص اليهوديّة إن الناس ايضاً يربطون الشيطان (طو 3: 17؛ 8: 3؛ يوبيلات 10: 7؛ أخنوخ 10: 4؛ 11-13؛ 13: 1؛ 28:69، وصيّة لاوي 18: 12؛ ق رؤ 20: 2: قيّده لألف سنة).
ويأتي تنبيه وتحذير في آ30 (يعود إلى المعين. رج لو 23:11). "من ليس معي فهو عليّ". هي صورة جمع القطيع وتبديده (رج أش 14:13؛ 40: 11؛ إر 23: 2؛ حز 34: 13؛ زك 13: 7-9: ق مت 36: 31 وز، يو 10: 12). لسنا هنا أمام تلميح إلى جمع يهود الشتات في نهاية الأزمنة. لا تعود هذه الكلمات إلى الشيطان ولا إلى المقسّمين اليهود. فيسوع يتكلّم بشكل عام عن الذين يقاومون الملكوت، ويقول إنه ليس من موقف "وسط"، أي لا تكون مع يسوع ولا تكون ضدّ يسوع. من ليس معه فهو ضدّه. من أخذ جانب يسوع حمل سلاح الله. ومن تجاهل تنبيهه صار عدوّ الله.
نقرأ في مر 40:9 (رج لو 9: 50): "من ليس عليكم فهو معكم" (نجد هذا القول أيضًا في بردية بهلنسة). نحن لسنا أمام اختلافة مع مت 12: 30 ومر، بل أمام قول مختلف. لا اختلاف في القولين، بل اختلاف في السياق الذي فيه قيلا.
ج- الخطيئة التي لا تغفر (آ 31-32)
انتهت ردود يسوع في آ 30، ولكنه ما زال يتكلّم. ترك موقعَ الدفاع، وبدأ الهجوم فجاءت كلماته تحذيرًا للذين لم يقبلوا بما تحمله أقواله من معنى. في مر جاء القول حول التجديف بعد مثل الرجل القويّ. في لو (12: 10)، في وسط كتلة المعين التي تتميّز بتوارد الالفاظ (12: 8-12)، يبدو أن مت تبع مر وإن كان استقى قوله من المعين. إن أصل آ 31-32 اللتين جاءتا منعزلتين، متشعّب جدًا. مَن الاول، مرقس أم المعين؟ هل نحن أمام نسختين مختلفتين لنصّ آراميّ واحد؟ ماذا أراد يسوع أن يعني "بابن الانسان"؟ وقد وُجدت نُصوص موازية لهذا النص في إنجيل توما 44 وفي الديداكيه أو تعليم الرسل 11: 7.
ونبدأ بانجيل توما. "قالت يسوع: من يجدّف على الآب يُغفر له، ومن يجدّف على الابن يُغفر له. أما من يجدّف على الروح القدس فلا يُغفر له على الأرض ولا في السماء". يبدو هذا النصّ توسيعاً لما في المعين. إذن، استقى توما من المعين، ولم يكن أصيلاً. فعبارتا "ابن الانسان" و"الروح القدس" صارتا: الآب، الابن، الروح القدس. وقد يكون هذا النصّ تأثّر أيضًا بمرقس (عن طريق متّى). "لا على الأرض ولا في السماء" هي توسّع في عبارة مت 23:12 (يرتبط بمر 3: 29): "لا في هذا الدهر ولا في الآتي".
وقالت الديداكيه: "كل نبيّ يتكلّم في الروح لا يُمتحن ولا يُدان. لأن كل خطيئة تغفر ولكنّ تلك الخطيئة لن تُغفر". نصّ قريب من مر لا من المعين.
هذا القول يعود إلى الرب، لا إلى نبيّ مسيحيّ، كما قال بعض الشرّاح. قال مر 28:3: "الحق أقول لكم". أما مت فيفضّل أن يقول: "لهذا أقول لكم" (رج 27:12). وهكذا يرتبط القول حول التجديف مع الآيات السابقة.
"كل خطيئة وكل تجديف". ق لا 24: 6 (من جدّف على اسم الرب فليُقتل قتلاً)، وانجيل نيقوديمس المنحول 3:4. قالت مر 28:3: "إن كل شيء يُغفر لبني البشر، الخطايا والتجاديف. وأما من جدّف على الروح القدس". أعاد مت النظر في نصّ مر ليحسّن التوازي بين آ 31 وآ 32. فصار النص كما يلي (نلاحظ التبدّلات):
آ 31 أ- كل خطيئة وتجديف يغفر للناس
آ 31 ب- أما التجديف على الروح فلن يغفر
آ 32 أ- الكلمة ضدّ ابن الانسان تغفر
آ 32 ب- أما الكلمة ضدّ الروح فلن تغفر.
أحلّ مت "ابن الانسان" محلّ "الانسان" فأزال الغموض في آ 32 أ حيث التجديف على ابن الانسان يغفر. الخطايا هي ضدّ البشر. والتجاديف هي ضدّ الله. الله مستعدّ لأنّ يغفر الخطايا بالنظر إلى الدينونة الأخيرة.
ونقابل مت 12: 31 أ= مر 28:3 مع لو 12: 10 أ= المعين. قالت مت: "كل الخطايا تُغفر لأبناء البشر". وقال لو: "كل من قال كلمة ضد ابن البشر يُغفر له". هذان القولان هما نسختان لأصل آرامي واحد قُرئ في شكلين مختلفين. قد تكون العبارة: "و ك ل. دي. ي ا م ر. م ل ه. ل ب ر ا ن ش. ي ش ت ب ق. ل ه". أخذ تقليد مر المعنى كما يلي: "كل شيء الذي هو تجديف على أحد من البشر يغفر". وفهم المعين: "كل ما قيل ضد ابن البشر". ولكن هل يعني هذا أن ابن البشر هو يسوع نفسه، أم إنساناً من الناس (كما نقول كل واحد هو ابن آدم). قد نكون هنا قريبين من الحقيقة. إن الله يغفر كل الخطايا ضد البشر. أما الذين يعارضون عمل روح الله في الأزمنة الاخيرة فيدفعون ميل الله إلى المغفرة الى أقصى حدوده، يخرجونه من "ذاته". كإني بهم يرفضون الغفران الذي يقدّمه لهم. مثل هذا التفسير يوافق مر والمعين.
كيف فسّر الشرّاح معنى التعارض بين المغفرة لمن يتكلم على ابن البشر وعدم المغفرة لمن يتكلم على الروح القدس؟ هذه بعض التفسيرات بالنظر إلى المعين الذي استقى منه مت ولو. (1) عبّر النصّ عن هذا الكلام في الجماعة البعد فصحيّة: من رفض يسوع كابن الانسان في رسالته على الأرض تُغفر له هذه الخطيئة. ولكن لن يُغفر له إن تكلّم ضدّ نشاط الروح القدس بعد العنصرة. (2) إن مقاومة يسوع كانسان تناله الغفران. أما المقاومة للروح القدس وعمله فلا تنال الغفران. وبعبارة أخرى الخطيئة التي يولّدها الجهل تغفر. أما الخطيئة المتعمِّدة فلا يمكن أن تُغفر. (3) المقاومة لكرازة الكنيسة تغفر إذا تاب الانسان. ولكن حين يدخل المؤمن الكنيسة ويتذّوق الروح القدس، مثل هذا اللاإيمان لا يُغفر (رج عب 6: 4؛ 10: 36) هذا الرأي الاخير هو رأي آباء الكنيسة.
هنا نذكر بعض تفاسير هؤلاء الآباء. لن نتكلّم عمّا تقوله الديداكيه لان قولها يبتعد عن تقليد الاناجيل الازائية: "التجديف على الروح هو معارضة لإلهام الروح". امبروسيوس (الروح القدس 1/ 3: 54): "الخطيئة ضد الروح القدس، هي نكران لكرامة الروح وقوّته حين ننسب إلى بعل زبول طرد الشياطين". إيريناوس: "الخطيئة التي لا تغفر هي رفض الانجيل" (ضد الهراطقة 3/11: 9). انجيل برتلماوس (4:5): "هي الافتراء على خدّام الله". اتناسيوس (رسالة إلى سرابيون 17:4): "هي نكران طبيعة يسوع الالهية".
وسيطرت فكرة في تاريخ الكنيسة تعتبر أن الخطيئة ضدّ الروح القدس هي الخطيئة التي تقود إلى الموت (1 يو 5: 16). أي السقوط بعد الارتداد إلى الله (اوريجانس، في المبادئ 1/ 3: 7) وقال نوفاسيانس: الذين انكروا إيمانهم تحت العذاب قد أخطأوا ضدّ الروح القدس فلا يغفر لهم إلى الأبد. ولاحظ ايرونيموس (رسالة 42) أن هذا الشرح لا يأخذ بعين الاعتبار سياق النصّ الازائي. فهناك لا مؤمنون يتعرضّون للهلاك. وكرّس أوغسطينس (عظة 71) عظة كاملة حول رغبة الله في غفران جميع الخطايا، وأعلن أن تلك الخطيئة تشير إلى لا توبة تمتدّ حتى الموت. وهكذا صار التجديف على الروح القدس حالة من العداوة ضدّ الله، لا عملاً محدّدًا.
"لا يغفر في هذه الدنيا ولا في الدهر الآتي". ظنّ بعضهم أن هناك خطايا تُغفر في الدهر الآتي (هذا ما نجده في التلمود). وانطلق بعض الآباء مثل اوغسطينس (مدينة الله 21: 24) من هذه العبارة، فوجدوا فيها برهانًا عن المطهر.
د- الثمار والكلمة التي نتفّوه بها (آ 33-37)
هناك افتراض ممكن بأن التجديف لا يمكن أن يكون شرًا تصل نتائجه إلى الأبد، لأنه يقوم فقط على الكلام الذي نتلفّظ به. وهكذا نستطيع أن نجد علامة بين الكلام والحياة الداخليّة. يجب أن يكون الانسان شريرًا لكي يتكلّم الشرّ. والذين تكلّموا شرًا عن يسوع، كشفوا حقيقة طبيعتهم. إن آ 33-37 هي استعادة لما في 7: 16- 20. وفيها ثلاثة مواضيع: الشجر والثمر (آ 33). الكلام والقلب (آ 34-35). الكلمات التي نتفوّه بها والدينونة التي تنتظرنا (آ 36-37). نجد في كل موضوع عبارة "من" (إن غار): من الثمرة تُعرف الشجرة. من كنزه الصالح يخرج الصالحات. من كلامك تتبرِّأ.
"إجعلوا الشجرة جيّدة" (آ 33). ق 17:7 (كل شجرة جيّدة تثمر ثمرًا جيدًا، وكل شجرة رديئة تثمر ثمرًا رديئًا)؛ لو 6: 43 (ما من شجرة جيّدة تثمر ثمرًا فاسدًا). "إجعلوا الشجرة رديئة". وهكذا نكون مع مت في تواز تام بين نوعين من الشجر. ق 17:7؛ لو 6 :43. في نظر متّى، الفريسيون هم مثل شجرة رديئة. والثمر الرديء الذي يثمرونه هو تجديفهم على الروح القدس ورفض لأنواره. ما عرفوا أن يميّزوا ملكوت الله من مملكة الشيطان. حمل ملكوتُ الله كلَّ خير، من أشفية وطرد شياطين. فماذا تحمل مملكة الشيطان إلى البشر؟ "لأنها من الثمرة تُعرف الشجرة". ق 7: 20 (من ثمارهم تعرفونهم). رج اغناطيوس الانطاكي إلى أهل أفسس (2:14): "تُعرف الشجرة من ثمرها". سي 27: 6: "الثمرة تدلّ على (نوعية) حراثة الشجرة. والحديث يدلّ على أفكار قلب الانسان". لو 6: 44. "كل شجرة تعرف بثمرها".
"يا نسل الافاعي" (آ 34). توجّه يسوع بشكل مباشر إلى الفريسيين وما فيهم من خبث والتواء؛ ق 3: 7؛ 23: 33. "كيف تنطقون بالصالحات وأنتم أشرار" (لا صالح يخرج من الاشرار). "الفم يتكلّم ممّا في القلب"؟ رج 12: 33؛ 15: 18. القلب هو كنز (6: 21؛ لو 6: 45). "الانسان الصالح..." (رج انجيل توما 45). نجد هنا التوازي كاملاً: "والانسان الشرير".
"كل كلمة بطالة" (آ 36). نحن هنا في تقليد شفهي، في المتّاويّات. ق 5: 21. بما أن الكلام يخرج من القلب، فالدينونة تكون بحسب كلام الانسان. قد نكون هنا أمام قول مأثور.

4- قراءة إجمالية
أ- اتهام الفريسيين ليسوع (آ 22-24)
أخرج يسوع شيطانًا من إنسان، فاتّهمه الفريسيون أنه هو مسكون من الشيطان، أنه من حزب الشيطان. هذا الخبر الذي رواه مت (ق لو 11: 14- 16) بدا واضحًا وتركّز كالعادة على شخص يسوع المسيح. فامتلاك الشيطان لانسان (دايمونيزومانوس، لفظة متّاويّة) "صيّره" أعمى وأخرس، ولم يزد على هاتين العاهتين. هذا ما يوضحه لو في آ 14 (لما أخرج الشيطان تكلّم الاخرس). رُوي الشفاء بشكل سريع جداً لكي يصل القارئ إلى اتّهام الفريسيين الذي سيكون مقدّمة لخطبة يسوع الطويلة (آ 25-37). في 9: 32، ذكر أخرس ولكنه لم يكن أعمى. والنصّ هنا يشدّد على أخرس فقط، كما فعل لو. نجد لفظة "بروسيناكتي" (قدّم، حُمل) التي ترد مرارًا في مت (يستعملها وحده بين الانجيليين). قد تشير إلى ممارسة مسيحيّة (في الكنيسة الأولى) تقوم بتقديم المرضى إلى الرسل أو خلفائهم (4: 24؛ 9: 2، 32؛ 14: 35؛ 17: 16).
لا يقول مت هنا، شأنه شأن مر 2: 12؛ 6: 51 ولو 47:2، إن الجموع بُهتت. فهو يتجنّب مثل هذه العبارات، ويفضّل البساطة المستندة إلى الواقع. فتحّركُ الجموع سيُحرّك رؤساء الشعب الذين سيرون سلطتهم مهدّدة. "أفلا يكون هذا ابن داود"؟ إن هذه العبارة تدلّ على دهشة الجموع التي رأت مثل هذه القدرة تشعّ في شخص بسيط. أما يكون هذا ما ننتظره من ابن داود (1: 1؛ 27:9؛ 22:15؛ 30:20، 31؛ 9:21، 15؛ 22: 42-45)؟ هي تسمية شعبيّة وعاديّة. ونحن نجدها خاصة في الاناجيل في أفواه التعساء الذين يأتون إلى يسوع. أما فكرة المسيح الآتي من نسل داود، فستفرض نفسها فيما بعد في العالم الهوديّ (مزامير سليمان 17: 21)، وإن كانت جذورها عميقة في الكتاب المقدس (2 صم 13:7-16؛ عا 9: 11).
تحدّث النصّ عن بعل زبول أو بعل زبوب. بعل زبوب هو اله عكرون (2 مل 1: 2)، هو الربّ الكريم. ولكن بسبب ارتباطه بالاوثان، صار بعل زبول. هذا الذي هو بعل الأمير، صار لدى اليهود أمير الشياطين. اتُّهم يسوع أنه يخدم بعل زبول. أنه أداة بين يديه. بل هو في خدمته وكأن الشيطان يمتلكه، يقيم فيه (حرف جر "إن" أي في).
ب- مملكة منقسمة على نفسها (آ 25-32)
ردّ يسوع على هجوم الفريسيين (آ 24)، فحصرهم في خيارين لا مخرج منهما: أو أني أطرد الشياطين بإبليس، فيكون الشيطان يحارب الشيطان بعملي. أو أني أطرد الشياطين بقدرة الله. عند ذاك لا تُغفر خطيئتكم، لأنكم لا تريدون أن تروا قدرة الله في عملي. هذه الطريقة في تقديم البرهان (معروفة في فلسطين)، تستند إلى فرضّيتين: الأولى، كل مريض يمتلكه الشيطان. الثانية، إن الأشفية التي أقوم بها هي إمّا شيطانيّة وإمّا إلهيّة. يجب أن تختاروا.
تُصوَّر قوّة الشيطان هنا وكأنها مملكة (باسيلايا). فالعالم هو مسرح صراع حاسم بين ملكوت الله الذي دشنّه يسوع (3: 1: 4: 17 وز) ومملكة الشيطان. لو كنا أمام ثنائية لكانت نهاية المعرفة غامضة. ولكن الشياطين وجدوا سيّدهم في شخص يسوع (4: 10؛ لو 18:10). وتُذكر المدينة والبيت. هما أيضًا يشيران إلى مملكة الشيطان.
وذكر مت ولو قولاً لا يعرفه مر: "إن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم انتم بما يخرجونهم" (آ 27)؟ لا شكّ في أن اليهود عرفوا طقس التقسيم (لإخراج الشياطين) ومارسه معلِّموهم الكبار (رج أع 13:19). ويسوع حين طرد الشياطين لم يفعل إلاّ ما فعله الرؤساء الروحيّون في شعبه. إذن، لماذا تُوضع له الفخاخ؟ فتلاميذ الفريسيين أو أبناؤهم (هيوي) سيكونون أول من يدهشون ويحكمون على قساوة الفريسيين تجاه يسوع. غير أن الجموع (آ 23) رأت في يسوع سلطة جديدة حين طرد الشياطين. وهذا ما أقلق الفريسيين.
ولكن إن اعترف الفريسيون بأن يسوع يطرد الشياطين بقدرة الله، صار الأمر خطيرًا. لان أشفيته هذه ستكون بدلالتها حاسمة: إن ملكوت الله قد أدرك البشر في شخص يسوع. أجل، في شخص يسوع وفي عمله، قد بلغت سلطة الله إلى الناس ولاسيّما خصوم المسيح. فالملكوت لا يمكن أن يكون بعد اليوم موضوع آمال بعيدة أو حنيناً دينياً. لقد صار حاضرًا في شخص يسوع. يكفي أن نتميّزه في الايمان.
وأكثر من ذلك، فبنشاط يسوع، قيّد الشيطان، الرجل القويّ (اسخيروس). فمرور يسوع على الأرض لم يكن زيارة عابرة لا غد لها. وهو لا يعمل فقط في مملكة الشيطان. بل هو واجه الشيطان وتغلّب عليه في هؤلاء الجموع، كما تغلّب عليه في تجارب ثلاث دشنّت حياته العلنيّة.
الشيطان هو الذي يدمّر. الشيطان هو الذي يبدّد. أما يسوع فهو من يجمع. يجمع الخراف في رعيّة واحدة. من جمع، كان من حزب يسوع. ومن بدّد، عمل ضدّ يسوع وضدّ الملكوت.
وهنا يرد الكلام حول "الخطيئة التي لا تغفر". لا يقول النصّ فقط إن الخطيئة بشكل عام (والتجديف بشكل عام) تغفر. بل حتى "الهجوم" على شخص يسوع خلال حياته البشريّة يغفر. أما التجديف على روح الله فلا يغفر. فالفريسيون أخطأوا حين جدّفوا على الروح العامل في رسالة يسوع. وهكذا تبقى المسألة الكرستولوجيّة في المقام الاول، حتى ولو كان الموضوع هو الروح القدس. حين لا نجدّف على الروح، نعترف أن يسوع يشفي (يطرد الشياطين) بقدرة الله. والذي يواجه شخص المسيح، على مثال الفريسيين، فيفسِّر عمله بالعودة إلى الشيطان، هو إنسان هالك. نشير إلى أن يسوع لا يحكم على أشخاص محدّدين، بل إن كلماته هي تحذير علني، هي نداء يوجّه للبشر ما دامت الدينونة لم تحصل بعد.
ج- الشجرة وثمارها (آ 33-37)
قال يسوع إن تجديف الفريسيين (آ 31) وكلامهم على يسوع (آ 24) ليسا بالشيء العابر. فهما ينبعان من القلب، ويدلاّن على ما في القلب من شرّ. إنهما كالثمرة التي تدلّ على الشجرة. وهكذا يُدان الفريسيون على أقوال تلفَّظوا بها ضدّ يسوع.
ونكتشف هنا ما اكتشفناه في عظة الجبل (ف 5-7) حول أهميّة الكلمة (30:5؛ 7: 16- 20؛ ق لو 43:6-45). فهي تعبّر عن اتجاه الانسان الأساسي. فالكلمة هي كالثمرة. إنها فعل نقوم به فنبني الآخرين أو نهدمهم. لهذا سيُدان الانسان على كل كلمة بطّالة نطق بها. هنا نلتقي بما قاله يعقوب في رسالته عن اللسان وشرّه: "إنّا جميعًا نزّل كثيرًا ومن لا يزّل في الكلام فهو رجل كامل" (3: 2).
خاتمة
وهكذا يشتدّ الصراع بين يسوع والفريسيّين. مهما فعل هو، مهما فعل تلاميذه، سيبحث الفريسيّون كيف يشكونه. وفي النهاية، يتآمرون عليه. لهذا، جاء شفاء الأعمى والاخرس صورة مسبقة عن وضع الفريسيّين. هم لا يستطيعون أن يروا. بل لا يريدون أن يروا. وإن رأوا فهم يرون ما يشاؤون. يرون، لا مملكة الله، بل مملكة الشيطان، مملكة رئيس الشياطين. فيا ليتهم لم يتكلّموا. يا ليتهم ظلّوا في الخرس مثل هذا الرجل الذي "سكنه" الشيطان. ولكنهم سوف يتكلّمون ليبعدوا الناس عن يسوع. بل سوف يجدّفون على الروح القدس. فيرفضون كل نور يأتيهم من العلاء. ولا تنفع نواياهم ولا كلماتهم. فمن ثمارهم يُعرفون. وكنيسة متّى سوف ترى نتيجة موقف الفريسيّين الذين عادوها بعد أن عادوا الربّ يسوع فقادتهم عداوتهم إلى الحكم عليه بالموت قائلين: "دمه علينا وعلى أولادنا".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM