الفصل السابع عشر: يسوع بين الفريسيين واخوته

الفصل السابع عشر
يسوع بين الفريسيين واخوته
12: 38- 50

قال يوحنا عن يسوع في بدء إنجيله: جاء إلى خاصته وخاصته لم تعرفه. بل ما أرادت أن تتعرّف إليه. هذا ما نكتشفه في هاتين المقطوعتين اللتين تتكاملان. في الاولى (38:12-45) نرى الفريسيين يطلبون آية، بعد كل الآيات التي شهدوها، فيسمّيهم يسوع الجيل الشرير الفاسق، ويحيلهم إلى يونان وكرازته في العالم الوثنيّ. وفي المقطوعة الثانية (12: 46- 50) نرى أم يسوع واخوته الذين جاؤوا ليردّوه إلى البيت، "إلى القبيلة"، لأنه يسبّب لهم المشاكل. وسيقول يوحنا فيهم إن اخوته لم يكونوا يؤمنون به (7: 5). إنهم مثل أهل الناصرة الذين لم يعرفوا أن يكرموا هذا النبيّ، إبن بلدتهم، حينئذ تركهم يسوع ولم يصنع عندهم عجائب كثيرة لعدم إيمانهم (مت 13: 58).
إذن، نتوسّع هنا في هاتين المقطوعتين. نبدأ بالاولى وعنوانها: آية يونان (آ 38-45). ثم نتطرّق إلى الثانية وعنوانها قرابة يسوع الروحيّة (آ 46-50). في المقطوعة الاولى نجد تجربة يسوع والعداء له. وفي الثانية، الجهل وقلّة الإيمان.

1- آية يونان (12: 38- 45)
أ- نظرة عامة
نحن هنا أمام مقطعين. في مقطع أول عنوانه آية يونان، يلتقي مت 38:12-42 مع لو 11: 29-32 الذي يذكر يونان وملكة الجنوب، مع مر 8: 11-12 حيث يرفض يسوع أن يعطي آية، مع مت 16: 1-4 الذي يتحدّث عن الطقس بما فيه من صحو ومطر لينتهي بالاشارة إلى يونان. أما المقطع الثاني فعنوانه: هجوم جديد من قبل الروح الشرير. هنا يلتقي مت 12: 43-45 فقط مع لو 11: 24-26 الذي يرينا الانسان الفارغ من الله يستقبل "سبعة ارواح" فتكون آخرته شرًا من أولاه.
إن مت ربط آ 38-42 بشكل مباشر (أكثر مما فعل لو 11: 16 ,17-23) مع هجوم الفريسيّين على يسوع وهجوم يسوع المعاكس عليهم (مت 12: 22- 36). ففي أساس هذين الخبرين (آ 22-36 وآ 38-42)، وُجد ولا شكّ مرجع دوّن في اليونانيّة. وهذا ما تدلّ عليه تشابهات عديدة بين مت ولو حتى على مستوى الألفاظ (مع العلم أن هناك اختلافات). أما الرباط التعليمي (وربما السيروي) فواضح جدًا. انزعج الفريسيون (أو: ربّما خافوا) من أقوال يسوع ضدّهم (آ 31-36)، فعادوا الى الجدال: إذا كنت تعتبر نفسك على حقّ (آ 36-37 هكذا لا نعود نتكلّم عليك بالشرّ)، فأرنا آية تدلّ على مسيحانيّتك. وإن آ 43-45 يجب أن تُفهم أيضًا في هذا السياق. "هذا الجيل" (آ 39، 45، التضمين) قد أخطأ مرّتين. مرّة أولى لم يفهم آية يونان. ومرّة ثانية لم يسمع ليسوع ولم يفهم كلامه. أو هو رفض أن يسمع ويفهم (14:13-15).
وانتقل يسوع إلى مثَل سوف ينطبق على الفريسيين: هذا الجيل الشرير (آ 45). مثَل من نوع خاص نجده في مت (آ 43-45) ولو (11: 24-26)، وقد أخذاه من مرجع واحد هو المعين (تشابه النصّين حتى على مستوى التفاصيل). ثم جعلاه في سياق أدبي واحد هو صراع يسوع مع الفريسيين. ولكن مت أورد آ 45 ج (أمر هذا الجيل الشرير)، فربط بوضوح أقوال يسوع في القطعتين ضدّ هذا الجيل (آ 39، 45). أما نصّ لو فقد ينطبق على شخص "سقط" (في الجحود) بعد أن أعلن إيمانه، خطئ ثم شُفي (غُفر له). ولكن سياق النص ومفارقته مع مت لا يسمحان بهذا التفسير الفرديّ. ثم كيف نفهم لو آ 25 ومت آ 44؟ وهكذا يجب أن نفهم المثل كتنبيه من أجل المستقبل: فالجيل الحالي الذي تطهَّر بواسطة رسالة يسوع "ثلاث سنوات" (فترة محدّدة)، هو مهدّد بمصير شرّ من مصيره السابق. بل إن هذا المستقبل القاتم قد بدأ. وهكذا لا ينبّه يسوع فقط. بل يتّهم خصومه، وهو يرى بعينيه هجمة قوى الشرّ عليهم وانتصارها.
ب- دراسة تفصيلية
أولاً: المراجع
* آية يونان (آ 38- 42)
نحن هنا برفقة المعين (رج 11: 16، 29-32) مع بعض التأثير من مر 8: 11-12 (رج لو 12: 38). ونقدّم ملاحظتين تُسندان هذه النظرة. الأولى: نجد نسختين عن هذا الخبر في متّى: 12: 38-40؛ 16: 1-4. نفهم هذا التكرار إن وُجد الحدثُ في مرجعين مختلفين هما مر والمعين. الثانية: رفض مر 8: 11-12 أن تُعطى آية لهذا "الجيل"، ولكن مت ولو قالا إنه ستُعطى آية يونان (مت 12: 38- 42؛ لو 11: 16- 29- 32). إذن نحن أما مرجعين مختلفين. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، من قال إن مر هو أول الاناجيل، لا. ينسى أن مت ولو يقدّمان نسختين، واحدة قريبة من المرجع وأخرى من مر.
* الروح النجس (آ 43- 45)
لا نجد ما يقابل مت إلا لو 24:11-25. هناك توافق بين الاثنين حتى على مستوى المفردات. هذا يعني أن الانجيليّين عادا إلى مرجع مشترك هو المعين. أو أن أحدهما استقى من الآخر.
ثانيا: التأويل
إن مادة 12: 38-45 تعود إلى المعين (رج لو 11: 16، 24-26، 29- 32)، وهي تشكّل خبر تجربة: الفريسيون يجربون يسوع. بعد أن طلب الكتبة والفريسيّون آية من يسوع، أجابهم في خطبة تتوزعّ في ثلاث نقاط. الأولى: آية لهذا "الجيل" (آية يونان آ 39- 40). الثانية: أقوال حول الأجيال السابقة (آ 41-42. يونان، ملكة الجنوب). الثالثة: مصير "هذا الجيل" (آ 43- 45).
أدخل مت في المواد التي أخذها من المعين أربعة أمور رئيسيّة. الأولى: وضع مقدّمة تشبه مر 8: 11. وهذا ما جعل من آ 38-42 أ خبر تجربة أو خبر صراع (بين يسوع والفريسيين). ولهذا اختلف من هنا عن لو 29:11-32. الثاني: أوضح مت معنى آية يونان حين أدرج آ 40 التي تقابل محنة يونان التي دامت ثلاثة أيام وثلاث ليال، مع الزمن الذي فيه ظل يسوع في القبر. الثالث: قلب مت ترتيب الآيات حول رجال نينوى وملكة الجنوب (رج لو 11: 31- 32. نجد ملكة الجنوب ثم رجال نينوى) لكي يجمع في موضع واحد الأقوال حول يونان (كما فعل في 11: 1-19 حين جمع في موضع واحد كل الأقوال حول يوحنا المعمدان). الرابع: زاد متّى خاتمة (آ 45 ج: "فهكذا يكون أيضًا في أمر هذا الجيل")، وهكذا ربط بوضوح مثَل الروح النجس بالأقوال السابقة. فإن آ 38-45 تشكّل في نظر مت وحدة تامّة.
ثم إن آ 38-45 تتضمّن على ما يبدو ثلاث مجموعات مختلفة. الاولى: إن الأقوال حول رجال نينوى وملكة الجنوب (آ 41-42) التي كانت معًا منذ البدء، لم تتبع في الاصل المقطوعة حول آية نينوى (آ 38-40). الثانية: إن آ 43-45 حول عودة الروح الشرير قد كانت منعزلة في وقت من الأوقات. الثالثة: هذا يعني في ما يتعلّق بأولى مراحل التقليد أن القطع التي نجدها في آ 38- 40، 41-42، 43-45، يجب أن تُدرس كل واحدة على حدة
أما أصعب المسائل حول آ 38-45 فهي اثنتان. الاولى: تفسير آية يونان في التقليد. الثانية: العلاقة بين المعين والنصّ الموازي في مر 8: 11-12. ونبدأ بالمسألة الثانية. في مر قال يسوع إنه لا تُعطى آية لهذا الجيل. أما المعين فأعلن أنه ستُعطى آية لهذا الجيل. هناك من يقوله: نحن أمام قولين ليسوع أو خبرين مختلفين. فهذا غير معقول. لهذا أو أن التقليد المرقسيّ ألغى الإشارة إلى يونان، أو أن تقليد المعين زاد ما قيل عن يونان. لا نستطيع أن نقرّر. ولكن نقوله. (1) إن آية يونان مهما كان معناها الدقيق، تعني في النهاية رفضًا لمن طلبوا آية من السماء. هكذا يلتقي نصّ مر (لا تعطى آيّة) مع المعين: كلاهما رفضا أن يعطيا معجزة (أو آية) تبرهن على مسيحانيّة يسوع. من هنا نستطيع أن نرى في مر تفسيرًا لنصّ المعين (قال بعضهم: قد تكون كنيسة مرقس تركت آية يونان لأنها لم تفهمها). (2) قد تكون آية يونان على شفتي يسوع قد أشارت إلى يسوع شخصيًا (هناك آية للشعب رج أش 18:8؛ 30:20؛ حز 24: 24). اذا كان الأمر كذلك، هناك تواز غريب مع لو 17: 20- 21 حيث يجيب يسوع على سؤال حول زمن مجيء الملكوت، فيعلن أنه لا تُعطى آية، ويزيد: "ملكوت الله في داخلكم" (كلمات تعود إلى يسوع نفسه). وهكذا نستطيع أن نرى المعنى نفسه في مت 12: 38-40 ولو 17: 20- 21: ترك يسوع "البراهين" العجائبية، وركّز على شخصه وعلى عمله. (3) إن مواد المعين التي استعيدت في مر قد ظهرت في شكل موجز. من أجل هذه الأسباب الثلاثة نقول إن نسخة المعين ليست سابقة.
والمسألة الثانية: إذا كانت نتيجة المسألة الأولى صحيحة، عند ذاك نتساءل عن المعنى الاصلي لآية يونان. إن التفسير الذي يتحدّث عن الموت والقيامة (مت 12: 40)، يعود إلى متّى ويرتبط بموت يسوع وقيامته. إذًا، جاء بعد الحدث. أما لو 11: 30 الذي "يعود إلى ابن الانسان في جيله" فقد أضيف فيما بعد. وهذا ما يفرض علينا بعض الفرضيات: هل كان يسوع نفسه آية هو أو كرازته؟ هل كان خلاصه من الموت آية؟ على ضوء مت 24: 30 (علامة ابن الانسان في السماء)، هل تكون الآية مجيء ابن الانسان كديّان؟ هل نماهي بين آية يونان ودمار أورشلم؟
إن آ 38-42 تجد ما يوازيها في 16: 1-4. إلاّ أن هذا النصّ الاخير يرتبط بما في مر 8: 11-13، لا بالمعين. وهكذا نكون أمام تكرار. تعود آ 38-42 إلى المعين، و16: 1-4 الى إنجيل مرقس.
ج- تفسير الآيات
أولاً: آية لهذا الجيل (آ 38- 40)
إن خطبة يسوع في 12: 22-37 لم تفحم الخصوم. فالكتبة والفريسيون لا يريدون كلامًا، بل معجزة، تبرّر ما يعلنه يسوع عن نفسه. ولكن في نظر مت، قد وضع يسوع أكثر من آية تُقنع العقل المنفتح (11: 2-4).
"عندئذ أجابه قوم من الكتبة" (آ 38): في 16: 1 كان الصادوقيّون والفريسيون. في مر 8: 11: الفريسيون هم وحدهم. في لو 16:11: "غيرهم". يبدو أن المعين لم يتضمّن مقدمة للقول حول آية يونان. فقد تبعه مت حيث 39:12-42 يسبق المقطع حول الروح النجس (آ 43-45= لو 11: 24-26). بالنسبة إلى الفريسيين والكتبة، رج 2: 4؛ 7:3. جعل مت الفئتين معًا لأن تأثيرهما كان كبيرًا على الشعب. "يا معلم" (ديدسكالي). لا نجد هذه اللفظة في النصوص الموازية. رج مت 8: 19. "نريد منك آية". ق يو 30:6: "أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك"؟ في مت 16: 1؛ مر 8: 11؛ لو 11: 16 نجد "آية من السماء". كلهم يضعون الفعل "جرّب" (بايرازو).
فقَد الكتبةُ والفريسيون الإيمان، فطلبوا أن يروا آية (سيمايون، أوت في العبرية: برهان على كلمة الله؛ خر 3: 12؛ 1 صم 7:10، 9؛ 14: 10؛ 1 مل 3:13، 5؛ 2 مل 19: 29؛ 20: 8-9؛ أش 7: 11، 14؛ 38: 22؛ إر 44: 29). فموسى وهارون قد أعطيا آيات ليجلبا الشعب إلى الإيمان (خر 4: 30- 31). وهكذا يجب على يسوع أن يبرهن على أن الله بجانبه فيجترح معجزة تبهر الانظار. إذا كانت هذه المقطوعة قد احتفظت بتذكّر حقيقي، فهذا يعني أن الأشفية التي قام بها يسوع، وطرْد الشياطين الذي قام به، لم تعتبر كافية لتشكّل برهانًا يدلّ على ما يقوله يسوع عن نفسه. لهذا طلبوا آية أخرى، آية لا شكّ فيها. قد لا يكون في سؤالهم عداء، بل رغبة في أن يدلّ يسوع على أنه نبيّ آخر الأزمنة.
"فأجابهم: جيل شرير". ق 16: 4؛ لو 11: 29. تذكّر يسوع جيل البرية (تث 1: 35؛ 32: 5). "فاسق أو زان". لأنه تعبّد للاصنام وترك الإله الحيّ. لأنه خان الله كما تخون المرأة زوجها. رج اليوبيلات 23: 14 (جيل شرير)؛ أش 57: 3 (جيل أعمالهم شريرة). إنهم زناة. "مويخاليس" (زان، فاسق) ترد ثلاث مرَّات في الأناجيل الازائية وهي تصف دومًا "الجيل" (مت 12: 39؛ 16: 4؛ مر 38:8). وترد في العهد القديم (أش 52: 3؛ إر 3: 10؛ حز 23؛ هو 1-3؛ 3:5-4). ترك لوقا اللفظة لان قرّاءه لا يستطيعون أن يفهموها.
"لن يُعطى إلاّ آية يونان". رج لو 11: 29، الذي أغفل لفظة "النبيّ" (قال مت "يونان النبي" ليبّين المدلول النبويّ الذي حصل ليونان). آية يونان. يعني يونان هو آية. في "حياة الأنبياء" التي ألّفها اليهود في القرن الأول ب م، نجد ما يلي: "أعطى يونان آية لليهود ولجميع الأرض: حين يرون الحجر يصرخ من الضيق، حينئذ تقترب الآخرة. وحين يرون جميع الوثنيين مجتمعين في أورشليم، ستُسحق المدينة من أساساتها". نشير إلى أن طلب آية أمر معقول تاريخيًا. رج تث 13: 1-5؛ لو 2: 8؛ يو 2: 18. والآن قد فسّرت آية يونان (آ 40). كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال. هكذا يكون ابن الانسان في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. بدا نصّ مت وكأنه يوضح ما تضمّنته خطب أع، خصوصًا أن القيامة هي أعظم آية في إسرائيل (أع 2: 24، 32، 36؛ 15:3...). "كما أقام يونانُ...". هذا تفسير لما في لو 11: 30= المعين (كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الانسان لهذا الجيل). ماذا نرى؟ (1) شدّد مت على التوازي بين شقّي العبارة (كما ... كذلك). (2) أخذ نصّ السبعينيّة. (3) أضاف ألفاظًا من عنده. نلاحظ أن لا شيء يرد في النصّ حول نجاة يونان وحول قيامة يسوع. ولكن صورة الثلاثة أيام والثلاث ليال تشير بلا شكّ إلى القيامة.
ثانيًا: قولان حول هذا الجيل (آ 41-42)
في لو، جاء القول عن ملكة سبأ قبل القول عن رجال نينوى. هكذا كان النصّ في المعين. أما مت فقد جعل رجال نينوى قبل ملكة سبأ كما سبق وقلنا. هكذا جمع كل ما يتعلّق بيونان.
إن آ 41-42 لم تنسبا بعض المرات إلى يسوع، بل إلى نبيّ مسيحيّ. وهكذا تكونان قد تكوّنتا بعد الفصح. (1) كان أهل نينوى وملكة سبأ من الوثنيين. وفي مت، هي الكنيسة (لا يسوع) التي نظرت إلى الوثنيين نظرة إيجابية. (2) إن الاشارة إلى الحكمة تدلّ على اهتمام خاصّ بالجماعة التي عرفت المعين. (3) إن موضوع لاتوبة إسرائيل يميّز اللاهوت البعد الفصحيّ. ولكن هذه "البراهين" لا تبرهن على شيء، بل العكس هو الصحيح. فهناك تواز تام في 11: 20-34 (الأمم تدين اليهود). وهناك ما يقال عن شخص يسوع المسيح. وقد اعتاد يسوع أن يأخذ أمثاله مما حوله كما في السامريّ الصالح. وعنصر التشبيه والتحذير في أقوال يسوع يتوافق مع تعليم الامثال: الآن جاء يوم الخلاص.
من هو "أعظم"؟ على ضوء6:12 (أعظم من الهيكل)، نقول إن مت فكَّر في يسوع (رج يو 4: 12؛ 53:8). هو أعظم من يونان، أعظم من سليمان. سموّ في عالم النبوءة. سموّ في عالم الحكمة. ولكن هناك من قال إن النصّ يتحدّث بالأحرى عن الملكوت. ولكن في التقليد الازائي لا ينفصل الملكوت وإعلان الملكوت عن شخص يسوع. وهكذا نكون أمام حدث المسيح. كل هذا يقابل مجيء الملكوت والمنادي به يسوع المسيح. عرف العالم اليهوديّ التعارض بين توبة أهل نينوى وعدم إيمان إسرائيل. نقرأ في شرح خر 12: 1: ترك يونان أرض اسرائيل قائلا: "بما أن الامم تميل أكثر منكم إلى التوبة، سأجبر على إعلان الحكم على إسرائيل. وإن كان بنو اسرائيل قد سمعوا ليونان، إلاّ أن أعمالهم كانت شريرة فلم يتوبوا في المسوح والرماد".
ملكة الجنوب ستقوم في الدينونة (آ 42). رج أمل 10: 1-13؛ 2 أخ 9: 1- 12؛ يوسيفوس، العاديّات 8: 165- 173. رج لو 11: 31. ملكة الجنوب هي ملكة سبأ. جاءت ملكة سبأ تمتحن سليمان بأسئلتها. وهكذا فعل الفريسيون مع يسوع. رأت ملكة سبأ الحقيقة، أما الفريسيون فلا.
ثالثًا: الروح النجس (آ 43- 45)
ما هو تفسير آ 43-45؟ هناك عدّة تفاسير. (1) تشكّل هذه الآيات تنبيهًا بالنسبة إلى المستقبل: فجيل يسوع الذي تنقّى الآن بخدمته الرسولية، تهدّده قوّة الشرّ العظيمة. (2) لا يكفي أن نطرد الشياطين، فالمساحة التي أفرغت يجب أن يملأها الله. وإلاّ ستكون الآخرة سيّئة جدًا. (3) الروح النجس هو صورة عن الشر الذي يميّز جيل الكتبة والفريسيين. لهذا، فالحقبة التي يغيب فيها الروح الشرير هي صورة عن برّ ظاهر لدى الكتبة والفريسيين. وعودة الروح النجس مع سبعة شرّ منه يمثّل الحالة التي تصل إليها هاتان الفئتان. (4) الرجل الممسوس يدلّ على هذا الجيل من اليهود. والتقسيم هو عمل يسوع. "والفراغ" الذي في الانسان هو لا إيمان اليهود ولاتوبتهم، وحالتهم الاخيرة هي الحكم عليهم في الدينونة الاخيرة. (5) دافع يسوع عن نجاحه حين طرد الشياطين، حين نظر فشل سائر المقسّمين. (6) قرأ عدد من آباء الكنيسة هذا الخبر وكأنه مثل استعاري. هيلاريوس اسقف بواتييه في فرنسا: رأى ثلاث مراحل في تاريخ اليهود: هناك مقابلة بين الروح النجس والشّر. كان إسرائيل تحت سلطان الشيطان حتى مجيء الشريعة. بعد سيناء تحطّمت قوّة الشيطان، فذهب إلى الامم. وفي النهاية عاد إلى اليهود بعد أن رذلوا المسيح.
هنا يجب أن نميّز ثلاث حقبات في التقليد الانجيليّ. في الحقبة الاولى (أي حياة يسوع)، لم تكن آ 43-45 مثلاً، بل تنبيهًا يتوجّه مباشرة إلى الشعب الذي لم يستفد من خدمة الشفاء وطرد الأرواح، فما استطاع أن يأخذ بتعليم يسوع (رج مثلاً البرص العشرة في لو 17: 11-19). فيسوع ساعد بلا شكّ عدداً كبيراً من الناس الذين شكّوا في تعليمه. ونعموا بالثمرة (الأشفية، طرد الأرواح)، ولكنّهم رذلوا الشجرة (شخصه)، فنبّههم يسوع: إن لم يدخلوا في الملكوت، يصيرون آخرين بعد أن كانوا أولين، ويصبحون فريسة قوى الشرّ (يو 5: 14).
ولكن لماذا جُعلت آ 43-45 بقرب مقطوعة بعل زبول (آ 22 ي)؟ لقد أراد الانجيل أن يقول إن تقسيم يسوع وحده كان فاعلاً. أما الآخرون، فقد طردوا الشياطين، ولكنّهم عادوا أقوى ممّا كانوا.
إذا أردنا أن نفهم آ 43-45 في منظار مت، يجب أن نفهم أن المفتاح هو: "تكون آخرة ذلك الانسان شرًا من أولاه". فالسياق الواسع هو علاقة يسوع بهذا الجيل وماذا يحدث ان انتصر اللاايمان. لم يستطع يسوع أن يرد إسرائيل. فمذا سيحصل بعد ذلك؟ أعطيت لإسرائيل الإمكانيّة لكي يرى ويسمع من هو أعظم من يونان وأعظم من سليمان. ولكنه لم يستفد من هذا الوضع. لهذا ستكون دينونته قاسية، بل أقسى من الدينونة التي تصيب الوثنيّين (عب 28:10-29). كان اسرائيل في الجهل وهو الآن يعرف، لهذا تكون آخرته شرًا من أولاه. رذل يسوعَ بعد أن رأى أعماله ولا سيّما طرد الشياطين، فما ستكون آخرته؟
د- قراءة إجمالية
أولاً: آية يونان (آ 38- 42)
وعاد الحوار بين يسوع والفريسيين بعد أن ظننا أنه انقطع. وعاد الانجيليّ يقدّم تعليم يسوع. وانضم الكتبة إلى الفريسيين، ولم يكن انضمامهم من قبيل الصدف. فنحن أمام مسألة ترتبط بالكتاب المقدس. فيجب أن يكون الكتبة هنا. ولا ننسى أيضًا أن عددًا من الكتبة كانوا من حزب الفريسيّين. ولقد اعتاد مت أن يجمع هاتين الفئتين (5: 20؛ 15: 1؛ 23: اي)، لأنهم يمثّلون السلطة الدينية الحاكمة في إسرائيل. فلا بدّ أن يسمعوا كلام يسوع.
أما طلب الخصوم من يسوع بأن يعطيهم آية، فقد لا يكون عدوانيًا بكل معنى الكلمة. سمّوه "المعلم"، وعبَّروا عن سؤال جديّ طالما طرأ على عقول الناس. إن فعل "تالاين" (نريد) يدلّ على رغبة صحيحة، كما يدلّ على طلب يسنده أمر قاطع (7: 12؛ 28:15؛ 16: 24؛ 19: 17. كأني بهم يتحدّوه، أو هم يفرضون عليه). طلبوا آية، والآية هي غير المعحزة في التقليد اليهوديّ. فإذا اراد المسيح أن يعرّف بنفسه، عليه أن يقدم بعض الآيات كما تقول المدارس (رج 16: 1؛ 3:24، 30).
طلبوا. فجاء جواب يسوع سلبيًا. رفض أن يعطيهم آية. ثم اتّهمهم بأنهم جيل شرير فاسق. هذا الجيل يجد تعبيرًا عن نفسه في شخص الرؤساء، في الكتبة والفريسيين. ومعنى الكلمة (جيل) هو لاهوتيّ بالدرجة الأولى: هو يدلّ على شعب اسرائيل الذي يتجاوب أو لا يتجاوب مع تنبيهات يرسلها الله إليه في وقت محدّد. وهذا الجواب بحسب التقليد البيبلي لا يكون فقط فرديًا. فالجيل جماعة من الناس متضامنة تقف أمام الله، على مثال المدن والأمم (11: 16؛ 12: 41؛ 16: 4؛ 17: 17؛ 23: 36). وموضوع الزنى الذي ينطبق على إسرائيل، يرتبط مباشرة بالعهد القديم (مز 73: 27؛ أش 57: 3 ي؛ حز 23: 27 ي).
وآية يونان. لا يشير إلى آية مُنحت ليونان، ولا إلى آية تشكّل خبر يونان. بل إلى آية تدلّ على مصير يونان، ثم مصير يسوع: الغرق في الموت. وهكذا نجد تلميحًا خفيًا إلى موت المسيح الذي يجعل هذا الكلام في سلسلة الانباءات بالآلام. نلاحظ ما لاحظنا قبلاً، وهو أن النصّ لا يشير إلى نجاة يونان ولا إلى قيامة يسوع. النصّ هو هجوميّ، وهو لا يوفّر هذا الجيل الشرير الذي يطلب آية. عند ذاك سيقدّم لهم يسوع آية معاكسة. سيقدّم لهم موته القريب لا التمجيد الذي انتظروه من أجل مسيح ظافر يحطّم الاعداء. ولكن هل يمكن أن نؤمن بديّان ومخلّص يشارك يونان مصيره المزري في بطن الموت؟ فالذين ظلّوا سجناء في نظرتهم الخاصة إلى الخلاص، قدّم الله لهم آية سلبية هي صورة المسيح الذي يسلم إلى الموت والقبر.
وتابع يسوع: "فكما أقام يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك ابن البشر" (آ40). جاء نصّ مت أوضح من نصّ لو، ولكنّه لم يزد شيئًا على ما قرأناه في آ 39. فإن "كاتوس" (كما) و"هوتوس" (كذلك) اللّتين قرأناهما في لو، يدلاّن على أننا لا نستطيع أن ننتظر "العظمة" في مصير يسوع كما في مصير يونان. كلاهما سيبتلعهما الموت. واستفاد مت من يون 2: 1 (كان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال)، فتحدّث فقط عن غياب يونان في الحوت بشكل يجعل القارئ "يبتسم". نشير هنا إلى أن يوستينوس قال بعد أن أورد آ 39: "حين قيلت هذه الكلمات الخفيّة، استطاع السامعون أن يفهموا أنه، بعد الصلب، سيقوم في اليوم الثالث" (الحوار 107: 1)
اعتبر بعض الشرّاح أن آ 40 أ (كما أقام يونان)، قد زيدت في وقت متأخِّر على نصّ مت. بل العكس هو الصحيح. بما أن آ 40 لا تتضمّن أي تلميح إلى قيامة يسوع، يجب أن تكون قديمة جدًا، لاسيّما وأنه كان باستطاعة الكاتب أن يحوّل نصّ يون 2: 1 (حسب السبعينية) تحويلاً بسيطًا حتى يجعله يتكلّم عن القيامة. مثلاً، كان باستطاعته أن يقول: في اليوم الثالث، بدلاً من "ثلاثة أيام وثلاث ليال". وهكذا يبدو أن التقليد فرض نفسه على مت، فأورده كما وصل إليه. وهكذا لا تلمّح آ 39-40 بشكل مباشر إلى القيامة، بل تشيران إلى موت ابن الانسان بما فيه هذا الموت من مفارقة تحيّر العقول.
حُرم اليهود من الآية التي طلبوا، فلم يتوبوا. لهذا سبقهم الوثنيّون يوم الدينونة الأخيرة. وانقلاب الوضع هذا كان قد أعلنه العهد القديم (1 مل 10: 1 ي). هنا أعظم من يونان: هنا أعظم من سليمان. فيسوع لا يسمو فقط على يونان وسليمان. ولم يعمل فقط المعحزات أكثر ممّا فعل سليمان أو يونان. فيسوع يرفض الآيات الخارقة التي يطلبها منه خصومه. نحن لا نؤمن بيسوع لأسباب بشريّة، كما نؤمن بيونان أو العهد القديم. فيسوع هو أعظم من العهد القديم لأنه المسيح. غير أن هذا الـ "أعظم" يظهر في بشريّة ضعيفة سيبتلعها الموت على الصليب. فمن يتمتّع بكرامة لا محدودة أمام الله، يقابل المحدود في نظر البشر، لهذا لم يستطع هذا الجيل أن يحتمله.
ثانيًا: الروح النجس (آ 43- 45)
حين نقرأ آ 44، نكاد نفهم أن الروح النجس لم يخرج طوعًا من هذا الانسان الذي يمثّل "هذا الجيل" (آ 39-42). جاء من هو أقوى منه فطرده. ماذا يعني يسوع بفعل "خرج"؟ قد نرى فيه عمل يسوع التطهيريّ داخل هذا الجيل الشرير الفاسق.
الانسان هو مسكن الارواح. بل هو مسكن الروح القدس (2 كور 5: 1). هو يقيم فيه كما يقيم الأمير في قصره. والروح لا يبقى بدون عمل في الانسان الذي يسكنه. هو لا يأتي من أجل "الراحة" (آ 43).
"يجده فارغًا، مكنوسًا، مزّينًا". رأى بعضهم في هذا الكلام تلميحًا إلى جمال النفس التي تنقّت بالمسيح. وهو جمال يدعو الروح الشرير إلى أن يدخل برفقة أرواح آخرين. يفرحون كلهم بالإقامة في هذه النفس البشريّة التي أفرغتها الخطيئة من الله. كما رأى آخرون خيبة أمل الروح الشرير الذي يكره الاماكن النقيّة. ولهذا، فهو يطلب العون لدى رفاقه ليدخل عنوة إلى هذا البيت الذي لا يخصّه. مهما يكن من أمر هذه التفاسير، فمرمى المثل هو في هذه العبارة: "تكون آخرة هذا الانسان شرًا من أولاه". قد تكون الأزمنة الاخيرة للشعب المختار شراً من الاولى. هذا ما أعلنه أنبياء السوء وهو ما يعارض الاسكاتولوجيا الرسمية. فعلى مستوى الفرد كما على مستوى الجماعات المتعاقبة، ليس التاريخ البشري صعودًا متواصلاً ولا نزولاً لا دواء له، بل صراع مع أرواح كان يسوع أول من جابهها وانتصر عليها (4: 1- 11).

2- قرابة يسوع الروحيّة (46:12- 50)
أ- نظرة عامة
مع هذه المقطوعة الاخيرة من ف 12، نجد نصًا مشتركًا بين الأناجيل الازائية الثلاثة. سار مت على خطى مر، فجعله بعد سلسلة من الجدالات مع الفريسيين، تتحدّث عن هذا الجيل الشرير الفاسق (آ 39-45). أما هدفه فواضح وهو أن يبيِّن القطيعة الدراماتيكية بين يسوع وأقرب الناس عليه. على المستوى الروحي، قطيعة مع الفريسيين. على المستوى الجسدي، قطيعة مع "أمه واخوته".
في مر (3: 31-35) ومت (46:12-50)، سبق هذا الخبرَ بشكل مباشر أمثالُ الملكوت (مر 4؛ كما 13). وهذا أمر له معناه. أما في لو (8: 19- 21)، فهذا الخبر يأتي بعد الامثال. وقد خفّف لوقا من حدّة الخبر، وتلك هي طريقته في إنجيله وفي سفر الاعمال. فألغى السؤال القاسي الذي طرحه يسوع في مر 3: 33 (من أمي ومن أخوتي) وفي مت 12: 48. إذا أردنا أن نفهم هذا الخبر، نتذكّر أهميّة العلاقات العائليّة في العالم اليهوديّ، بل في عالمنا الشرقيّ حتى اليوم (8: 12- 22؛ 10: 37).
ب - دراسة تفصيلية
أولاً: المراجع
هذه النسخة المتّاويّة تعود إلى مر 3: 31- 35. وما يشير إلى أولويّة مر هو مقدّمته في 3: 20- 21 التي ألغاها كل من مت ولو. فقد اهتمّا بترك معلومات تقول إن يسوع "فقد صوابه".
ثانياً: التأويل
في هذه النقطة من الكتاب، استنفد متّى معظم مواد المعين، ما عدا (إلاّ أشياء قليلة) الأقوال التي سيستعملها في ف 18 وف 23- 25. أم الآمن، فهو يعود إلى مر. وبعد أن استغلّ كلّ شيء قبل 3: 31، ها هو يستغلّ خبر "التوبيخ" الذي نجده في مر 3: 31- 35 (رج لو 8: 19- 21، جعله بعد خبر الزارع).
إن مر قد جعل لهذا الخبر السيروي مقدمة تبدأ بهذا الكلام: "وأتوا إلى البيت. فاحتشد الجمع فيه أيضًا حتى لم يعد في وسعهم أن يتناولوا طعامًا. ولما سمع ذووه وافوا ليأخذوه لأنّ الشعب كان يقول: فقد صوابه. إنه متهوّس" (3: 20- 21). ألغى مت هاتين الآيتين، لأنه اعتبرهما مسيئتين إلى يسوع. كيف يمكن لمريم (لا تذكر مريم في مر 3: 21. يُقال فقط: ذووه، العائلة الكبيرة. العشيرة. أما في آ 31 فيقول مر: جاءت أمه وأخوته) التي تحدّث عنها مت في 1: 18-25 أن تفكّر أن يسوع "فقد صوابه"؟ هذا الالغاء الذي قام به مت، يخفّف التوتّر بين عائلة يسوع الطبيعية (أمه واخوته أي أبناء العشيرة) وعائلته الروحيّة (الذين يعملون مشيئة الله). وهذا ما يجعل حضور العائلة (12: 46-50) يلعب دور التحوّل (كيف يستطيع حتى ابن عائلة يسوع الطبيعية أن يصبح من عائلته الروحية) لا دور التعارض (كما على مستوى الفريسيين، حيث لا إمكانية تفاهم إطلاقًا). وحتى (وهذا ليس بأكيد) إن لعب مر 3: 20- 21، 31-35 عند مرقس أو التقليد السابق له، دورَ هجوم على نوع من "حكم" الاقارب (كما قال بعض الشرّاح). مثلُ هذا التفسير بعيد كل البعد عن السرد المتاويّ الذي هو بعيد عن كل ما يجرح الشعور، كما يقول يوحنا السلميّ (السلّم الثالث).
ج- تفسير الآيات
أولاً: ظروف الخبر (آ 46-48)
"وفيما هو يكلّم الجموع". رج دا 9: 21 حسب السبعينية؛ مر 5: 35. لا نجد ما يوازي هذه العبارة في النص الموازي لهذا النصّ. هذا يعني أنها من تدوين مت؛ ق 18:9؛ 17: 5 يختلف عن مر 7:9. تظهر "اوخلوس" (الجمع) في مر 3: 32. وقد صارت في صيغة الجمع (رج 4: 25)، فدلّت وكأننا أمام سامعين جدد. ما عاد يسوع يكلّم وجهاء اليهود (كما فعل في 12: 22-45)، بل الجموع. وهكذا ننتقل من خبر جدال إلى دعوة ونداء (11: 25-30: أحمدك يا ربّ السماء والأرض). هنا نتذكّر التوازي مع 12: 1- 21 حيث جاءت مقطوعة حول الجموع بعد خبرَي جدال مع الفريسيين.
"ها أمّك واخوتك". أوجز مت مر 3: 31-32 أ، وزاد "ها" (ايدو)، وجعل "أمه" قبل "اخوته" (وهكذا يكون التوازي كاملاً مع آ 47- 48، 49)، وأعاد كتابة مر 3: 31 بحيث صرنا في تواز تام بين آ 46 ج وآ 47 ب: يطلبون أن يكلّموه.
لمّا أشار مر 3: 31 إلى الجمع الواقف خارجًا حين كان يسوع في البيت، كان منطقيًا. ولكن مت لم يقل لنا ما قاله مر (رج لو 8: 20). أوجز مرجعه وما أخبرنا بما هو معروف بأن يسوع هو في داخل البيت. هذا ما يبيِّن مرة أخرى أولويّة مر على مت.
"فأجاب وقال للذي أخبره" (آ 47). يوجّه يسوع كلامه إلى شخص فرد لا إلى الجمع كما في مر 3: 32. "أمك واخوتك" كما في آ 46 ب. إن السينائي والفاتيكاني ومخطوطات أخرى لا تورد آ 47. ولكن يبدو أنه يجب المحافظة عليها لثلاثة أسباب. (1) هناك اختلافات بين آ 47 وما يقابلها في مت ومر. (2) قد تكون الآية سقطت عرضًا على يد الناسخ، لأن آ 46 وآ 47 تنتهيان بلفظة "لاليساي" (يكلّموه). (3) إن آ 48 لا تتبع آ 46. قالت: "أجاب وقال للذي أخبره". فمن هو هذا الذي أخبره؟ عند ذاك تكون آ 47 في محلّها: "فقال له واحد: ها أمك واخوتك".
ثانياً: جواب يسوع (آ 49- 50)
مدّ يسوع يده نحو تلاميذه وأعلن أنهم أمه وإخوته. هذه الاقوال لا تفكّك الرباط العائلي، بل تجعله عاملاً نسبيًا. فهناك رباطات أقوى من الرباطات العائلية. انطلقت البدعة الظاهريّة من "من هي أمي ومن هم اخوتي"، لتعلن أن يسوع لم يولد من أم، ولم يكن له أقارب.
"مدّ يده نحو تلاميذه" (آ 49). اختلف مت عن مر 3: 34 (وأجال نظره في الذين حوله وقال)، لانه أراد ان يشير إلى تلاميذه لا إلى الجمع. يرد فعل "مدّ" (اكتاينو) 6 مرات عند مت، 3 عند مر، 3 عند لو. رج خر 4:4؛ 8: 16؛ 9: 22، 23 حيث يستعمل في الكلام عن موسى (وهارون).
"ها أمي وإخوتي". أن تسمو العائلة الروحيّة على العائلة الطبيعيّة (رباط اللحم والدم) أمر نجده في العالم اليهوديّ القديم. رج تث 33: 9. والاسيانيّون رأوا جماعتهم تحلّ محلّ العائلة التقليديّة. وانقطاع يسوع عن عائلته قد يكون الدافع إليه خبرة شخصية وانتظار اسكاتولوجيّ. فالملكوت يطلب كل شيء من يسوع والذين يتبعونه. من أجل هذا تكلّم يسوع عن الذين خصوا أنفسهم (تركوا الزواج) من أجل ملكوت السماوات (19: 12).
إن العلاقة بين 12: 50= مر 3: 35 والمقطوعة، كانت موضع خلاف بين الشرّاح. الأول ظنّ أن مر 3: 35 يُعتبر إضافة توضح 3: 31- 34. الثاني اعتبر 3: 35 أحد المراجع التي منها نسجت آ 31-34. لهذا لا يعتبر هذا القول من أقوال الرب. والثالث قال إن 3: 35 عُرف كآية منعزلة. أما تأثيرها فيرتبط بحضور أقارب يسوع. لا ننسى أننا أمام خبر ذات أساس تاريخيّ، وقد تكون آ 31-35 قيلت مرّة أو مرتين، فجاءت آ 35 منفصلة عن آ 31-34 لتدّل على نظرة اسكاتولوجيّة (رج 34-37)، كما في القول حول العائلة في 8: 22.
"كل من يعمل" (آ50). "أبي الذي في السماوات". عبارة خاصّة بمتّى. يُذكر هنا "الاب" ليدلّ على أنه ليس هناك أب واحد في عائلة الله، في العائلة المسيحية الجديدة (هناك من اعتبر أن هذا القول يعكس واقعًا تاريخيًا، هو أن يوسف كان قد مات خلاله حياة يسوع العلنيّة).
نجد ما يقابل آ 50 (= مر 35:3) في يو 15: 14: "أنتم أحبّائي إن عملتم ما أوصيتكم به". وفي رسالة اكلمنضوس الثانية (9: 11): "قال الرب: إخوتي هم الذين يعملون مشيئة أبي". ومثله اكلمنضوس الاسكندراني: "قال الربّ: إخوتي ورفاقي الوارثون هم الذين يصنعون مشيئة أبي". وهناك انجيل العبرانيين (المقطع الخامس) الذي يرد في أبيفانيوس (الهراطقة 30/ 14؛ 5): "من هي أمي ومن هم اخوتي؟ ومدّ يده إلى تلاميذه وقالت: إخوتي وأمي هم الذين يصنعون مشيئة أبي".
ونجد نسخة عن آ 46-50 في إنجيل توما (عدد 99): "قال له التلاميذ: إخوتك وأمك واقفون خارجًا. فقال لهم: هؤلاء الذين هم هنا، الذين يعملون مشيئة أبي، هم إخوتي وأمي. هؤلاء هم الذين يدخلون إلى ملكوت أبي". ماذا نقول في هذا النص؟ (1) هو أقصر ممّا في الأناجيل الازائية. (2) التلاميذ (لا الجمع ولا واحد من الجمع) هم الذين أخبروا بوجود العائلة. (3) توافقَ مع لو فلم يذكر السؤال: من هي أمي، ومن هم أخوتي؟ (4) توافق مع لو حين لم يذكر أخوات يسوع. (5) عارض الازائيين الثلاثة حين ذكر إخوته قبل أمه. (6) توافق مع مت حين قال "يعمل مشيئة أبي" لا "مشيئة الله". وهكذا دلّ إنجيل توما على أنه انطلق في كلامه من الأناجيل الإزائية.
د- قراءة إجمالية
"وفيما هو يكلّم الجموع". جاءت هذه العبارة لتنقلنا من مقطع إلى آخر (18:9؛ 17: 5؛ 47:26). يذكر إخوةُ يسوع مرّات في العهد الجديد: مر 3: 31= مت 12: 46؛ مر 3:6= مت 13: 35 (مع أسمائهم)؛ يو 12:2؛ 3:7، 5، 10؛ أع 1: 14؛ 1 كور 9: 5؛ غل 1: 19. وتذكر أخواته في مر 3: 32؛ 3:6= مت 13: 55. يرى الشرّاح الكاثوليك في هؤلاء الاخوة أبناء يوسف من زواج أولا قبل "زواجه" مع مريم، أو أبناء عم يسوع أو من العشيرة. رج ترجمة "أح" (أخ) العبرية بلفظة "أدلفوس" في تك 8:13؛ 14:14، 16؛ 15:29 حيث لسنا أمام اخوة من أب واحد وأم واحدة. يجب أن نعرف أن معنى كلمة "أخ" أوسع في العبرية (بل في العالم السامي كله) منه في اليونانية. ساعة قطع يسوع العلاقة مع عائلته الروحية (الفريسيون) وعائلته بحسب اللحم والدم، بدأت تتكوّن حوله عائلة جديدة. وتفرّد متّى كما اعتاد أن يفعل، فذكر التلاميذ هنا. إنه يفكّر بلا شكّ بالذين يتبعون يسوع وبالمسيحيين في الكنيسة التي كتب إليها انجيله. فموضوع المسيحيين على أنهم إخوة يسوع، موضوع معروف ساعة تدوين الانجيل في صيغته النهائية (روم 29:8؛ رج كو 1: 18؛ عب 2: 11). نحن هنا أمام عائلة مع رباطات وثيقة تربط يسوع بتلاميذه. فالعالم الهليني، شأنه شأن العالم اليهوديّ، قد عرف مدلول لفظة الأخ وطبّقها على أعضاء جماعة دينية محددة.
وأخيرًا، يذكّرنا المسيح كما حدّثنا عنه مت، بأهميّة العمل بمشيئة الله (7: 21-27). ففعلُ "بوياين" يدلّ على السرد المتاويّ. والفريسيون يقولون ولا يفعلون (23: 25-15). لهذا يُشجبون. ولكن النصّ هنا هو كرستولوجيّ قبل أن يكون أخلاقيًا. فالتعلّق بيسوع يعني أن نعمل مشيئة أبيه. وقد قال يسوع في انجيل يوحنا: "أنتم أحبائي إن عملتم بوصاياي". لا يقول النصّ ما هي مشيئة الآب. والمعنى الذي يعطيه مت لهذه اللفظة (تاليما، مشيئة، إرادة) (6: 10؛ 7: 21؛ 12: 50؛ 18: 14؛ 21: 31؛ 26: 42) هو طاعة ملموسة للشريعة كما أعاد المسيح تفسيرها. وليس مشيئة خاصة تتوجّه إلى التلاميذ فتدعوهم إلى الايمان بيسوع واتباعه والتألم معه. فالانجيل كله يفترض أن هذه "المشيئة" التي يكتشفها يسوع ويطلب منّا بإلحاح أن نتمّها، ويفهمنا أن ذلك ممكن، هذه المشيئة نستطيع أن نعملها في جوّ من الفرح. أما التقليد الرابيني فشدّد بالاحرى على "طلب" (درس) هذه المشيئة (روم 12: 1-2)، كما شدّد على المجهود الذي يُطلب منّا لكي نتمّها.

خاتمة
نوّد هنا أن نقدّم ثلاث ملاحظات.
الأولى: أخبرنا 22:12-50 بعض الشيء عن فهم متّى للإيمان. ففي آ 22-37، خضعت خدمة يسوع في طرد الشياطين لتفسيرين يختلفان اختلافًا جذريًا. هذا يعني أننا أمام واقع ملتبس ويستطيع أن يحمل مدلولين متعارضين. فأين هي الحقيقة؟ يقول النصّ إن هناك أسبابًا تدعونا للأخذ بنظرة يسوع لا بنظرة الاخرين (12: 25-39). وعرف متّى ايضًا أن اليقين العقلي له حدوده، وذلك واضح في آ 33-37 وآ 38- 45. وهكذا، حتى آية يونان التي هي قيامة يسوع، والتي عرفها "هذا الجيل"، لم يؤمن بها الشعب. لماذا؟ نجد الجواب في نظرة مت إلى سامعي يسوع. إنهم ينتمون إلى "جيل شرير فاسق" (آ 39). ومهما كانت هذه النظرة إلى معاصري يسوع، يبقى أن الإيمان الحقيقيّ في نظر متّى، يتضمّن بُعدًا خلقيًا. لا يمكن أن يكون إيمان مع إرادة مريضة وطبيعة رديئة. فلا نجد الثمر الجيّد في شجر رديء (آ 33). في هذا الاطار، يصبح الاعتراف بيسوع المسيح مسألة قلب جيّد لا مسألة فهم صحيح. فالخطيئة هي أكثر من جهل (كما يقول سقراط). ومعرفة الكتاب لا تخلّص الانسان إذا كان القلب فاسدًا. لهذا لا يستطيع عنادُ الكتبة والفريسيين الذين رفضوا يسوع، أن يجعلهم يقبلوا به. أعمتهم خطيئتهم، فما عادوا يستطيعون أن يوجّهوا طريقهم شطر الحقيقة. أغلقوا قلوبهم القاسية، فما استطاعوا أن يتعرّفوا إلى المسيح ساعة التقى بهم وجهًا إلى وجه.
الثانية: تعلن 12: 22-45 حضور الخلاص والفرصة السانحة. لقد جاء ملكوت الله، وقد سُلبت مملكة إبليس. فقد ظهر من هو أكبر من يونان وأكبر من سليمان. وقد أعطيت آية مدهشة لا يقف بوجهها شيء: قيامة يسوع. أجل تكلّم الله في ابنه (11: 25-30) كما لم يتكلّم من قبل. هذا يعني أن الآن هو يوم الخلاص في معنى لم يُعرف في الماضي. ولا نعجب إن كان اللاسمع واللاجواب يعنيان أن الأشياء الاخيرة ستكون شرًا من الأولى. كانت المناسبة كبيرة والخسارة أكبر.
الثالثة: في مت 4: 21-22 ترك يعقوب ويوحنا أباهما حين دعاهما يسوع ليكونا في عداد تلاميذه. في 8: 22 قال يسوع لمن أراد أن يتبعه أن لا يذهب إلى دفن أبيه، بل بالحري يترك الموتى تدفن موتاها. وفي 10: 34-37 قيل للذين يحملون الانجيل أنهم سيجدون المقاومة داخل عائلتهم الخاصة. هذه الصورة التي تقدّمها لنا هذه النصوص "مزعجة". إن الايمان بيسوع يدعونا إلى أن نخسر الرباطات العائلية. أن نتنكّر لوالدينا وأقربائنا. حين نقبل بهذه الحقيقة القاسية، تصبح نظرة متّى إلى الأمور مفهومة. اذا كان الايمان هو فوق كل شيء، فكل ما يعرقل الايمان يجب أن يُترك. قد لا يكون الظرف مؤاتيًا، وقد لا يحمل فهمُ هذه الضرورة عزاء. فما يحمل العزاء هو أن "ترك" العائلة يقابل الدخول في عائلة أخرى. وهذا هو تعليم مت (12: 46-50). أجل، حين تضعف الرباطات العائلية، يجب أن لا يُترك التلميذ وحده بدون عائلة يجب عليه أن ينضمّ إلى عائلة الإيمان، إلى الكنيسة حيث الآب هو الله، حيث المؤمنون الإخوة والأخوات (23: 8). وهكذا يتمّ طلب يسوع بأن نترك العائلة في إطار العائلة المسيحيّة التي تنتظر أعضاء جددًا بأيد مفتوحة. كم نحن بعيدون عن نداء إلى العزلة التي قد تحمل الكثير من الأنانيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM