الفصل الخامس عشر: يسوع خادم الرب وحبيبه

 

 

الفصل الخامس عشر
يسوع خادم الرب وحبيبه
12: 9- 21

نحن في هذا الفصل أمام وجهين يختلفان كل الاختلاف: وجه الفريسيين الذين يسحقون "الصغار" بوصاياهم المتعدّدة وأحمالهم التي يجعلونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإحدى أصابعهم. ووجه يسوع الذي يبدو كعبد الله المتألم كما حدّثنا عنه أشعيا في أناشيده. هو خادم الرب، بانتظار أن يكون لتلاميذه ذاك الخادم الذي يغسل لهم أقدامهم. هو لا يماحك ولا يصيح، ولا يفرض "سطوته" على الناس، ولا يهدّد الخطأة والعشّارين بالموت. بل هو ذلك الوديع الذي تنبع وداعتُه من محبّة الآب، فيعامل الآتين اليه بالرحمة، بل هو يذهب اليهم كما يذهب الراعي ليبحث عن الخروف الضالّ.
وهكذا يتوزعَّ هذا الفصل في درفتين: شفاء يوم السبت (9:12-14)، ويسوع عبد الله وخادمه (12: 15- 21). في الدرفة الأولى نشاهد الصراع الثاني بين يسوع والفريسيين حول السبت بمناسبة شفاء رجل يده يابسة. بعد أن كان الصراع الاول جدالاً حول ما فعله التلاميذ حين اقتلعوا سنبلاً وأخذوا يأكلون لكي يسدّوا جوعهم. أما في الدرفة الثانية، فيعود متّى إلى النبي أشعيا لكي يرسم لنا صورة يسوع والطريقة التي بها يتعامل مع الآتين اليه ولاسيّما العشّارين والخطأة.

1- شفاء يوم السبت (12: 9-14)
أ- نظرة عامة الى المقطوعة
موضوع هذه الآيات (آ 9-14) هو موضوع 12: 1-8 وجدال يسوع مع الفريسيين بسبب تصرّف التلاميذ. غير أن المشهد يختلف كل الاختلاف.
فيسوع يواجه خصومه وحده، وهو لا يلجأ إلى البرهان الكتابيّ، بل يأخذ أسلوب الهجوم بسخريّة لاذعة (آ 11-12)، فيطرح سؤالاً بسيطًا لا يحتاج إلى جواب. عند ذاك اجتمع الفريسيون حالاً وقرَّروا أن يهلكوه. وهكذا نكون أمام تدرجّ واضح بين مقطوعة ومقطوعة. في الأولى (آ 1-8) لا نجد ردّة فعل واضحة، ولكننا نفهم غيظ الفريسيين. أما في الثانية، فكلام مت واضح: "خرج الفريسيون وائتمروا عليه ليهلكوه" (آ 14؛ رج مر 3: 6 الذي جعلهم يتحالفون مع الهيرودوسيين).
حين نقابل هذا النصّ مع مر، نرى أن المقابلة تدلّ على أسلوب متّى التعليمي: بسّط مت ما يمكن ان يحوّل السامع عن جوهر الخبر على مستوى تشويق القارئ (ق آ 3-4 ب من مرقس)، وشدّد على حوار يسوع مع خصومه. في هذا الحوار، اتخذ يسوع المبادرة وظلّت المبادرة في يده (أكثر مّما في مر). عامل خصومَه بسلطة، فأخزاهم كاشفًا خبثهم ورياءهم (آ 11-12).
أما نصّ لو 6: 6- 11 فجاء أقرب إلى مر منه إلى مت. ثم إن الانجيل الثالث أورد في مكان آخر وبشكل مختلف (14: 5: من منكم إذا سقط ابنه أو ثوره في بئر؛ رج 13: 15-16: كل واحد منكم يحلّ في السبت ثوره) مت 12: 11- 12 اللذين يجهلهما مرقس. إن هذا الخبر القصير الذي نقله التقليد بشكل مختلف يعود إلى يسوع، وقد رسمه مت في سياق يُبرز مضمونَه الأساسيّ.
إن هذه المقطوعة (آ 9-14) تلتقي مع المقطوعة السابقة (آ 1-8) في نقطة أساسيّة: فكلتاهما تجعلان الرحمة (الايوس) الناشطة تمرّ قبل الواجبات الدينيّة أو بالاحرى العباديّة (تيسيا، ذبيحة). فهذه اللفظة (تيسيا) التي ظهر معناها الواسع في المقطوعة الأولى (آ 7، أريد الرحمة لا الذبيحة)، ستجد هنا ما يثبت هذا المعنى. لسنا أمام صراع حول العبادة في الهيكل والكهنة، بل أمام موضوع حسّاس جدًا. حوالي سنة 80 (بعد حرق الهيكل بعشر سنوات): العلامة بين الاكرام الواجب ليوم السبت ومحبّة الانسان (انتروبوس، آ 10، 12، 13)، أي انسان كان، وليس فقط الأخ والقريب والمواطن وابن ديني.
وهكذا نفهم أن الموضوع هو الخير الذي نصنعه: العمل الجميل (كالوس) في مت. العمل الحسن (اغاتوس) كما في مر ولو. كان المعلمون يتجادلون كثيرًا حول أنواع العناية المسموح بها للمرضى يوم السبت. "من فتح دملة يوم السبت، فإن أراد فتحها فقط فهو خاطىء. ولكن لا اذا أراد ان يزيل منها السائل". وأيضًا: "نستطيع أن نخرج ونحن نحمل على الجرح ضمادًا من توم او بصل. فإن سقط الضماد لا نربطه من جديد، كما لا نستطيع ان نضع ضمادًا يوم السبت". أما القاعدة العامة فهي: يعلّق السبت (كما تعلّق فريضة فلا تمارس) في خطر الموت الذي يهدّد الانسان. أما بالنسبة إلى الحيوان فالحالة موضوع جدال. قال تفسير خر 22: 2؛ 23: 13: "نستطيع أن "نعلّق" السبت لكي نبعد خطر الموت". غير أن المعلّمين لم يتّفقوا على الطرق التي تسند هذه "التجاوزات" للسبت. رابي عقيبة (135) أسنده إلى القتل الذي يوقف شعائر العبادة التي توقف السبت.
تجاه هذه التنظيمات الدقيقة والمعقّدة، بدا تعليم يسوع في إنجيل متّى حاملاً الحرّية والقلق. هو يحمل الحرّية (يحرّر) حين يُخضع كل ممارسة دينيّة لخدمة الانسان في أمور ملموسة تضيّق عليه. وهو يحمل عليه. وهو يحمل القلق، لأنه إذا تعمّم، جعل الحياة المنظّمة في الكنيسة مستحيلة. فيقول قائل: هناك "خير" يسبق واجبًا دينيًا يجب أن أتمّه. هنا لا بدّ من التمييز. ولا بدّ من وجود قواعد وفرائض فاضحة تساعد المؤمن على العيش في الجماعة التي ينتمي إليها.
ولكن مرمى النصّ ليس هنا. فالموضوع هو أن نعرف: هل سيعترف الفريسيون بسلطة المسيح على السبت نفسه؟ وهل سيعترف المؤمنون بسلطة يسوع على ممارسات الحياة الكنسيّة؟
ب- الدراسة التفصيليّة
أولاً: التأويل
إن مت 9:12-14 يعتبر "معجزة قاعدة"، نحن أمام خبر معجزة يعطي قوّة لفريضة مقدّسة. نرتّب مثل هذه المعجزات إذا كانت تبرّر قاعدة أو تجازي تصرفاً يوافق القاعدة، أو تعاقب تصرّفًا يعارض القاعدة. وهكذا نسمّي هذه المقطوعة (آ 9-14) معجزة تبرّر قاعدة، لأنها تبرّر فريضة إلهيّة: عمل الخير يوم السبت. ونجد أمثلة أخرى من هذا النمط في 17: 24-27 (دفع الجزية)؛ مر 2: 1-12 (المخلّع).
إن 12: 9-14 يتضمّن مواد تعود إلى مراجع ثلاثة. آ 9- 10، 12-14 ترتكز على مر 3: 1-6 (رج لو 6: 6- 11). آ 11 تعود إلى المتّاويات (خاص بمتّى) أو المعين (رج لو 13:11، 15، 5:14). آ 12 أ هي من تدوين متّى. أما الاساس التاريخي، فإن آ 12 ب- 13 (مدّ يدك فمدّها) هي تاريخيّة كما يقوله عدد كبير من الشرّاح. فكيف تأخذ الجماعة الأولى واجب الشفاء يوم السبت؟ والقول في مر 3: 4 (عمل الخير يوم السبت) هو حقيقيّ ويدل على لقاء، نجد مثله الكثير في الأناجيل. وهناك ايضاً ثلاثة أمور لافتة. (1) أشار مرقس إلى الهيرودوسيين (أغفل هذا الأمر مت ولو)، وهذا لا يمكن أن ينسب إلى اهتمام كنسيّ (إذن يعود إلى زمن المسيح). (2) هناك تعابير ساميّة واضحة في مر 3: 1-6. (3) لا شكّ في أن الصراع الذي تبرزه الأناجيل بين يسوع والفريسيين، يجد جذوره في حياة يسوع على الأرض.
هل تعود آ 11 (أي انسان منكم يكون له خروف واحد، رج لو 13: 15؛ 14: 5) إلى يسوع؟ كل شيء يدفعنا في هذا الاتجاه. فالقول يفترض ما نجده في العهد القديم (تث 22: 4)، وهو يتضمّن عبارة خاصة بيسوع. وهي تتوافق مع عدد من الأخبار حيث يتحدّى يسوع سامعيه في شأن السبت، كما تتوافق مع ممارسة الرحمة تجاه معاصريه (رج 5: 48).
ثانيًا: تفسير الآيات
* ومضى من هناك (آ 9- 10)
كان يسوع في الخارج، فدخل إلى المجمع (آ 9)، وما زال اليوم سبتًا. في الانجيل الاول، المجمع هو مكان المواجهة. وهذا ما سوف يحصل الآن.
"وإذا برجل يده يابسة" (آ 10). رج هو 9: 14 حسب السبعينية. زاد لوقا أنها اليد اليمنى. وهذا ما يزيد في خطورة الاعاقة. "هل يحلّ الشفاءُ يوم السبت"؟ ق لو 14: 3. جاء السؤال بشكل مباشر. زاد مت: هل يحلّ؟ وهكذا ترتبط المقطوعة الثانية مع المقطوعة الأولى (آ 2: لا يحلّ فعله يوم السبت، آ 4: لا يحلّ له أكله). ويبدو الفريسيون في كلامهم قريبين من المعلمين في زمن متّى. ويظهر الرباط بين السؤال والجواب. ليس السؤال: هل يحلّ ليسوع، بل هل يحلّ لكّل انسان.
هل يحلّ الشفاء يوم السبت؟ يجيب الاسيانيون وصاحب كتاب اليوبيلات: كلا. أما المشناة فأعلنت أنه يجب أن نخلّص الحياة إذا كانت في خطر. ولكن قد يُشفى فيما بعد: لا جواب. وقال عدد من المعلمين إنه يحقّ حمل المرضى يوم السبت (كما مع المخلّع). ولكن يبقى السؤال المطروح في مت: لا يحلّ الشفاء يوم السبت.
إذن، كيف نفسّر عمل يسوع؟ هو لم يعارض مشيئة الله كما وردت في شريعة مكتوبة، بل فرائض بشريّة. ولكن الكتب تمنع الشفاء في السبت حيث لا شيء يلحّ، مثل يد يابسة لدى إنسان. لماذا لم يساوم يسوع وينتظر يومًا آخر؟ بل إن يسوع عمل ما عمل ليدلّ على أن كل هذه الفتاوى تعارض شريعة المحبّة. ثم إن تعليمه الاسكاتولوجيّ لا بدّ أن يزعج بعض التقاليد والعادات. وقد شفى الناس يوم السبت لأن الشفاء عمل عظيم يمجّد الله. فلماذا لا يتمجّد الله بهذه الصورة يوم السبت؟
"بغية أن يشكوه". يتّهموه. رج مر 3: 2. "كاتيغوريو". هذا ما يفترض محاكمة. إن الفريسيين الذين لعبوا مرارًا كما في الخبر دورًا كاذبًا، سألوا يسوع ليوقعوه في فخّ. لم يكونوا صادقين حين طلبوا جوابًا حول السلوك (هلكه)، بل أرادوا أن يشوا به إلى المحكمة الدينيّة. إذا استندنا إلى آ 14 نقول إن الفريسيين انطلقوا من خر 3: 14 (من دنّس السبت يقتل). ولكن هذا لا ينطبق أبداً على "تجاوز" يسوع لشريعة السبت.
* "وقال لهم: أي انسان" (آ 11-12)
في هذا الموضع، أدرج متّى قولاً يتيح ليسوع أن يردّ على سؤال منتقديه بسؤال معاكس يستند إلى عاطفة نجدها في كل انسان. إن سقط خروف في حفرة، فهل نتركه؟ وجاء البرهان مع "بالحري". إن سقط الخروف نصعده، فماذا نفعل إن سقط انسان؟ ولكن يسوع لا يضيع وقته في الجدال الطويل والعقيم الذي توقّف عنده الفريسيون مرارًا. بل هو يذهب مباشرة إلى قلب الموضوع. بإيجاز ووضوح شدّد على "أهم ما في الشريعة أي العدل والرحمة والأمانة" (23: 23). كل هذا يستبعد الجدل ويفسّر لماذا عاد يسوع إلى الحسّ في الانسان لا إلى دقائق الشريعة.
إن آ 11-12 توازي بشكل قريب لو 14: 5 وبشكل بعيد لو 15:13 (ينتمي إلى اللوقاويات 13: 10-17). إن لو 14: 5 يعود إلى المعين. ومثله يفعل مت.
"يكون له خروف". نجد "هان" (واحد). هل يريد الكاتب أن يشدّد: خروف واحد فقط؟ هكذا يكون متعلقًا به. هنا نتذكّر لو 14: 5 الذي يقول: ثوره أو ابنه. هل نستطيع أن نعود إلى مثل ناتان موبخًا داود ومحدّثًا إياه عن نعجة يملكها فقير ويعاملها كابنته (2 صم 3:12-4)؟ لماذا لم يستعمل مت "ابنه"؟ لأنه يحتاج إلى برهان "بالحري". وإن تكلم عن الخروف، فقد يكون تذكّر خبر الخروف الضال في 18: 12-14 (رج لو 15: 4-7).
جاء "السبت" في صيغة الجمع. ربّما جمع التفخيم. ق 25:9؛ أم 12: 10 (البار يهتم بحياة بهيمته). وقال تث 22: 4: "إذا رأيت حمار أخيك أو ثوره واقعًا في الطريق، فلا تتغاضَ عنه، بل أنهضه معه"
وكانت الخاتمة في آ 12 تطبيقًا لما في آ 7: الرحمة قبل الذبيحة (هنا نتذكّر السامري في لو 10: اهتم الكاهن بالذبيحة التي سيقدّمها فخاف أن يتنجّس. ولكن أين الرحمة)، فكأني بالنصّ يقول: الوصايا بين انسان وانسان تسبق الوصايا بين انسان والله. ولماذا لا نتذكر 1 يو 4: 21: "من يحبّ الله يحبّ أخاه أيضًا"؟
"فعلُ الخير يحلّ في السبت". هذا هو الجواب على سؤال الفريسيين. "هل يحلّ الشفاء في السبت"؟ بما أن الشفاء عمل خير، فهو يحلّ يوم السبت. قال أحد الآباء: "إن مُنعنا من فعل الخير يوم السبت، لم يعد ذاك اليوم مقدسًا". قال مر 3: 4: "ماذا يحل في السبت: أن يُفعل الخير أم أن يفعل الشرّ؟ أن تخلّص نفسٌ أم تقتل"؟ أما مت فحوّل عبارة مر إلى نتيجة استخلصها: إذا كان الانسان يعمل خيرًا من أجل خروف يوم السبت، وإن كان الكائن البشري أكبر قدرًا من الخروف، إذن يُسمح عمل الخير لانسان يوم السبت. وهكذا اعطى يسوع قاعدة عامّة: يحقّ عمل الخير، إذن يحقّ الشفاء.
* قال للرجل: مدّ يدك. (آ 13-14)
بعد أن برّر يسوع عمله وأظهر لسامعيه خبثهم (وهم لا يريدون أن يخلّصوا بهيمة!)، شفى الرجل الذي يده يابسة. ونلاحظ أن يسوع لم يجتذب له يده، ولم يلمسه ولم يساعده (ق 8: 3، 15؛ 25:9). تكلّم فقط. وهكذا بدا عمل الشفاء متواضعًا مثل كلمة يسوع. بدون أي تحدٍّ . نتذكّر هنا خبرين. الاول في 1 مل 13: 1-10 حيث يشفي رجل الله يد الملك يربعام، فتعود كما كانت. وفي وصيّة شمعون حيث صلّى شمعون إلى الرب من أجل صاحب اليد اليابسة.
فاغتاظ الفريسيون وبدأوا المؤامرة على يسوع، مع أنه لم يفعل شيئًا يتجاوز فيه شريعة السبت. صنع يسوع الخير إلى انسان مريض، فراهن على حياته. تحدّث مر عن الفريسيين والهيرودوسيين. أما مت فاكتفى بالفريسيين ليشدّد على المعارضة الدينيّة (لا السياسيّة) في موت يسوع.
ج- قراءة إجمالية
كان يسوع في الحقل مع تلاميذه فبدأ الصراع. دخل إلى المجامع، فعاد الصراع إلى اشدّ ممّا كان. دخل يسوع إلى مجمعهم، أي مجمع اليهود. كان وقت يذهب فيه المسيحيون إلى المجامع. ولكن سيأتي وقت تُغلق فيه هذه المجامعُ في وجوههم، والسبب في ذلك هم الفريسيون الذين عارضوا يسوع خلال حياته على الأرض، وما زالوا يعارضونه في كنيسته، ولاسيّما في سورية وفلسطين حيث انتشر بشكل خاصّ إنجيل متّى.
رجل يده يابسة. اين كان هذا الرجل؟ في المجامع، على باب المجمع؟ قال لو 6: 6: "كان هناك". هل كان يهوديًا أم لا؟ هذا ما لا نعرفه. نحن فقط أمام "انسان" (انتروبوس). كل انسان. في المقطوعة السابقة، اتّخذ يسوع المبادرة. أما هنا فالفريسيون هجموا وسألوا يسوع: هل يشفي يسوع هذا الرجل (كذا في مرقس)؟ هل يحلّ أن نعتني بمريض يوم السبت (كذا في مت. سؤال عام، لا خاص كما في مر)؟ وأوضح الانجيليون الثلاثة أن الفريسيين طرحوا هذا السؤال على يسوع لكي يتّهموه في المحكمة (27: 12؛ لو 2:23- 10، 14). هذا يعني أنهم انتظروا منه جوابًا بالايجاب: نعم يحلّ. ولكن يسوع لا يقع في مثل هذه الفخاخ (نتذكّر الجزية لقيصر).
لسنا هنا أمام خطر الموت. فلماذا التعدّي على شريعة السبت؟ رفع يسوع الجدال أبعد من حالة خاصّة: هل يحلّ فعل الخير يوم السبت؟ هل نعطي الحياة أم الموت؟ سمّاهم يسوع "مرائين" كما قال لو 13: 15، لأنهم يقسون على الآخرين ويشفقون على نفوسهم. لقد جعلوا في شروحهم للشريعة اعفاءات من إكرام السبت حين تقع بهيمة لهم في حفرة. تدبّروا أمورهم فلماذا لا يطبّقون على الآخرين ما يطبّقونه على نفوسهم؟ هذا إذا كنا أمام خروف. وبالاحرى إذا كنا أمام انسان.
شدّد المسيح على الفرق بين الانسان والحيوان. وهذا ما نجده أيضًا مرّتين في مت (6: 26 وز؛ 10: 31). إذا كان الله يهتمّ بالحيوان، فكم بالأحرى يهتمّ بكم، أيها التلاميذ، أيها البشر. فالاله الخالق يحيط دومًا خلائقه بعنايته الناشطة، ولكن لا بطريقة عامة ومغفلة. فقد حفر اسم كل واحد منا على كفّ يده، وكلُّ واحد منّا فريد في عينيه. قابل الانجيل هنا الانسان بالخروف. وزاد: كم أحرى بالانسان المهدّد بالمرض والموت. فالله يتدخّل بقول يسوع وفعله لكي يخلّصه، لكي يعيد النظام إلى خلق أصابه مرض أو حادث ما. في هذا النشاط الخلاصي تكون الأولوية للانسان وهذا أمر لا يختلف فيه أحد.
وفي القسم الثاني من آ 12 يتلاقى التقليد الإزائي (مر 3: 4؛ لو 6: 9). غير أن تعبير مت جاء مكثفًا وعامًا فدل على عبقريّته في تقديم والتعليم. لم نعد أمام موضوع معرفة، ما يحل فعله في السبت مثلاً. فالفكرة اليهودية حول الراحة السبتية قد حلّ محلها نشاط على مستوى أعمال الرحمة التي لا يحلّ فقط أن نعملها، بل يتوجّب علينا أن نعملها بدون تأخّر. هذا هو معنى "كالوس" (جميل) الذي يقابل في 5: 16 الأعمال الصالحة، الحلوة (كالا ارغا)، وهذا ما يوافق اليوم نشاط الخلاص الذي أتمّه يسوع في خدمة الانسان في عصره.
توخّى هذا الخبر لا أن يروي لنا أولاً فترة من حياة يسوع، بل أن يقود المسيحيّين الأولين في حياتهم الخلقيّة وسط معلّمين يهود كانوا معادين لهم. لهذا روى النصّ بسرعة شفاءَ الرجل وردّة فعل الفريسيين. فيجب أن يبقى انتباه السامع (أو القارئ) مثبتًا على جوهر العبرة، على "الدرس": المسيح هو ربّ السبت. وقد دلّ بالقول والعمل على أن الرحمة تمرّ قبل الذبيحة، وأن خدمة الانسان تسبق كل فرائض الشريعة.

2- يسوع عبد الله وخادمه (12: 15- 21)
أ- نظرة عامة
هنا يترافق مت مع مر 7:3-12 الذي يحدّثنا بالاحرى عن يسوع الطبيب الالهي. عن يسوع في تعامله مع الجمع الذي تبعه وحاصره حتى كاد يسحقه. ومع لو 17:6-19 الذي يشير إلى جمهور غفير تبع يسوع من كل اليهوديّة وأورشليم، ومن ساحل صور وصيدا. وافوا ليستمعوا إليه فقدّم لهم عظة السهل (تقابل عظة الجبل في مت) التي تبدأ بالطوبى للمساكين والجياع والباكين والمضطهدين.
ساعة قرّر الفريسيون (آ 14) أن يميتوا يسوع، بيّنوا أنهم ينكرون سلطانه إنكارًا جذريًا. في ذلك الوقت لم يقدّم لنا مت تأكيدًا لهذا السلطان، بل تفسيرًا جديدًا وأصيلاً لسلطته المسيحانيّة بواسطة أحد أناشيد عبد يهوه (أش 42: 1-4).
هذه الآيات هي في مكانها في هذا السياق. فهي تدلّ أن بين يسوع والعالم اليهوديّ الرسميّ، أكثر من جدال وصراع، أكثر من تصادم على مستوى الافكار والسلطة، بل أمام سوء تفاهم أخطر من كل هذا: نحن أمام نظرتين تتصادمان حول الطريقة التي بها تتمّ (آ 17) الكتب. والمقابلة مع مر ولو ترينا أسلوب مت: أوجز خبر الوقائع الذي أعطانا بعض عناصره فيما سبق (4: 25= مر 7:3 ب- 8؛ رج لو 17:6 ب)، فبسّطه وكثَّفه (رج آ 15 ب؛ ق 3: 10- 11) واحتفظ بالعنصر الأهمّ كما وجده في مر: الأمر الذي أعطاه يسوع للمرضى بأن لا يشهروه (آ 16= مر 3: 12؛ رج لو 4: 41 حيث نجد تعبيراً آخر: انتهر الشياطين ولم يدعها تتكلّم). وقد أوضح بشكل خاص معنى أمر يسوع هذا بواسطة أش 42: 1-4، وهذا ما يشكِّل أصالة متّى في هذه الآيات.

2- الدراسة التفصيلية
يذكّرنا هذا المقطع بما في 8: 16-17 (شفى، تمّ كلام أشعيا: أخذ عاهاتنا). ففي المقطعين، نحن أمام ملخّص عن نشاط يسوع الشفائي يتبعه استشهاد مأخوذ من أشعيا. وفي الحالين يتحدّث نصّ العهد القديم عن عبد الله المتألم، عبد يهوه.
في آ 15-16 نجد ملخصًا عن نشاط يسوع. رج 23:4-25: "وكان يطوف في الجليل كله، يعلم في مجامعهم ويبشر بانجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وسقم في الشعب". "فعلم يسوع فانصرف من هناك". ق 13:2، 22؛ 12:4؛ 13:14؛ 15: 21؛ 18:22؛ رج مر 7:3 حيث نقرأ أن يسوع انصرف مع تلاميذه إلى العبر. يسوع هو الذي يعلم، يعرف (رج لو 6: 17). "وتبعه كثيرون" ق 15: 30؛ 19: 2؛ مر 3: 7؛ لو 6: 17. يتبعونه، ولكنهم ما صاروا بعد تلاميذه (4: 2؛ 19:8). "فشفاهم جميعًا". ق 16:8؛ مر 1: 34؛ 3: 10؛ لو 4: 40؛ 18:6. "جميعًا" هي لفظة متاويّة. شفى الجميع. "أوصاهم أن لا يشهروه". هذا هو السرّ المسيحانيّ. رج 8: 4؛ 30:9؛ 20:16؛ 9:17.
"ليتمّ ما قيل بالنبيّ أشعيا" (آ 17). رج 1: 22؛ 3:3؛ 4: 14. ويرد أشعيا في هذا الموضع في ترجمة عبريّة متأثّرة بالسبعينيّة وبالترجوم (الآرامي). هو أكبر استشهاد كتابي من العهد القديم في الانجيل الاول. من أين جاء مت بهذا الاستشهاد؟ هل وجده في "كتاب الاستشهادات" الذي يحمله المبشّر معه وفيه كل ما يتعلّق بالمسيح؟ يجيب نعم بعضُ العلماء بعد أن رأوا النصّ في بردية رايلندس 460، واعتبروا أن لا علاقة مباشرة بين هذا الايراد الكتابي والسياق. ولكن يبدو أن النصّ أصيل في مت. لا نجده في هذا الشكل في أي مكان آخر. وهو يتوافق كل التوافق مع السياق (1) "اغابيتوس" (حبيبي) نجدها في مت 17:3؛ 17: 5. (2) "عليه أحلّ روحي". عبارة تذكّرنا بالعماد وتربطنا بالمقطوعة التالية حول علاقة يسوع بالروح القدس (12: 22-37). (3) ذكر النص مرتين الأمم (آ 18 د، 21) فتوافق مع أولى اهتمامات متّى. (4) ترجم مت "ي ص ع ق" في آ 12 ب "اريساي" اليونانية ففسّر آ 15: لا يريد يسوع أن يخاصم الفريسيين أو يجادلهم. (5) إن ترجمة "ب ح و ص" بـ "إن تايس بلاتيايس" (بدلاً من "إكسو") تصبح مفهومة على ضوء آ 16. فيسوع لا يُسمع في الشوارع. فقد طلب من الناس أن لا يشهروه. (6) "ي و ص ي" في أش 42: 1 صارت في السبعينية "إكسويساي". أما في مت: "ابانجالاي". لماذا فعل متّى هذا؟ لأنه يفكر بالانجيل، بالبشارة (رج 33:8؛ 11: 4؛ 8:28، 10). وقد نكون أيضًا في علاقة مع 38:12-42 الذي يتحدّث عن تبشير الأمم، أهل نينوى ومملكة الجنوب.
إن آ 18- 21 تخدم كلها مواضيع اهتمّ بها متّى. لا شيء نافلاً. تمسّك متّى بنصّ أش 42: 1-4 لأنه يساعده كل المساعدة على تصوير طبيعة نشاط يسوع في اسرائيل. يسوع هو عبد الله الخفيّ. حلّ روح الربّ عليه. لا يماحك ولا يقاتل، ولا يجادل بدون فائدة، يُهدّئ حماس الجمع بعد الشفاءات التي اجترحها. هو يشفق على الجميع، ولاسيّما على القصبة المرضوضة والفتيل المدخّن. وهو يحمل الخلاص إلى الأمم.
لن نتوقّف عند المقابلة بين نصّ أشعيا ونصّ متّى لكي نرى كيف تعامل الانجيل مع النص الاشعيائي. بل نقدم ملاحظتين حول 12: 1- 21. الاولى: صاحب الانجيل الاول هو يهوديّ. فإذا قبلنا بأولوية مر على مت، وإذا نسبنا استشهاد أش 42 إلى مت، هكذا تكون أمور عديدة قد وضعتها يد متى حين يختلف عن مرقس. الثانية: يُذكر السبت في مت اربع مرات فقط. في 12: 1-8 (اقتلاع السنابل يوم السبت). في 9:12-14 (شفاء في يوم السبت). في 24: 20 (الهرب يوم السبت). في 28: 1 (ولما انقضى السبت عند فجر اليوم الاول من الاسبوع، جاءت مريم المجدلية). ليس للنصّ الأخير أي مدلول لاهوتيّ سوى أنه يفتح الباب على يوم الاحد. إلاّ أن الثلاثة الباقية تدلّ على أنّ السبت ما زال ممارسًا لدى المسيحيين (24: 20). وعلى أن مت ظلّ يهتمّ بما يحلّ أو لا يحلّ عمله يوم السبت لدى اليهود ولدى المسيحيين في المنطقة التي تعيش فيها الجماعات المتاويّة. كما لا نعرف إن كان الانجيلي قريباً من مسيحيين أمميّين يكرّمون الأحد بدل السبت. غير أنه يبدو من المعقول أن نفترض أنه كان صراع بين جماعة متّى والآخرين حول طبيعة ممارسة السبت.
ج- قراءة إجمالية
أشار مت وحده أن يسوع كان عارفًا كل المعرفة بمؤامرة الفريسيين ضدّه (غنوس في اليونانية). ومعرفة يسوع هذه بما يدور حوله، تميّز السرد عند متّى (رج 8:16؛ 18:22؛ 26: 10). من جهّة، نرى في مت أن المسيح يُشرف إشرافًا تامًا على مختلف ظروف رسالته. ومن جهة ثانية، يتبع يسوع طريقًا مظلمة حيث يبدو مسلَّمًا إلى بغض أعدائه الذي يتوضّح (أي: البغض) شيئًا فشيئًا ليصل إلى أهدافه. هاتان الوجهتان في مصير يسوع، يحاول متّى أن يجعل قرَّاءه يفهمونهما.
إن فعل "اناخوريو" يعني أولاً ابتعد، مضى، انصرف (2: 13؛ 9: 24). ثم اعتزل، اختفى عن عيون الفريسيين كما في 2: 14-22؛ 13:14. والايراد المأخوذ من أش 42 يوضح معنى هذا "الهرب" أو هذا "الاعتزال". يجب أن يُتمّ في السلام والهدوء رسالةً لم تنته بعد. لسنا أمام حبيس انفرد عن العالم من أجل الصلاة. فيسوع يحافظ على نشاطه كما لم يفعل من قبل. فالجماهير (بولوي) تتبعه، وكلهم يُشفون. غير أن هذا النشاط يتمّ بلا ضجّة ولا مشادة عنيفة (آ 19). فهنا كما في مواضع كثيرة من مت، لا نستطيع أن نقول إذا كان النص المأخوذ من العهد القديم هو الذي أثّر على تدوين الخبر، أو اذا كان الخبر هو الذي أشرف على اختيار النصّ الكتابي؟ لماذا لا نقول بتأثير متبادل بين الخبر ونصّ أشعيا.
شفى يسوع المرضى، ثمّ أمرهم بأن يسكتوا (ابيتيمان). الفعل المستعمل هنا قويّ جدًا: هو أمر يرافقه تهديد (8: 26؛ 16: 20، انتهر). فهنا أيضًا يتكلّم يسوع بسلطان. لسنا هنا أمام عمل نفهمه في إطار فطنة انسان ضعيف لم تأت ساعته بعد. فإن مت لا يعطي أي تفسير سيكولوجيّ أو سوسيولوجيّ لهذا الامر السرّي الذي "أصدره" يسوع. هل نحن أمام إجراء يدلّ على الفطنة تجاه الفريسيين؟ أو تجاه الجموع التي خاف يسوع من حماسها المسيحاني؟ هل أراد أن يجتذب الناس لا إلى شخصه بل إلى التعليم عن الملكوت؟ أو هل نحن أمام بناء تعليمي شيّدته الكنيسة الأولى فنسبت إلى يسوع فكرة سرّ في داخله، وذلك لتفسّر على ضوء القيامة فشل موته؟ لن نستطيع يومًا أن نعرف ما حدث بالضبط على مستوى حياة يسوع التاريخيّة. ولكننا نستطيع أن نعرف رأي متّى حين أدرج نصّ أش 42 في هذا الموضع من خبره.
يبدأ الاستشهاد بأشعيا بأداة "هينا" (لكي) التي ترد في قرائن مماثلة. فهي لا تدلّ على الهدف الذي نحوه توجّه الظروفُ العامة مصيرَ يسوع (لكي، في المعنى السيكولوجي أو السوسيولوجي). ولا تدلّ على الهدف الذي إليه يصبو يسوع بكل قواه (لكي في المعنى البطوليّ). بل تدلّ على مخطّط الله الذي يخضع له يسوع بتواضع (التوراة تحمل كلمة الله ومشيئة الله. وحين يخضع لها يسوع، يُتمّ "نبوءاتها"، فهو يخضع لمشيئة الله). ويرى مت أننا نستطيع أن نكتشف هذا المخطّط في بعض صفحات العهد القديم التي أهملها أو أساء تفسيرها العالم اليهوديّ الرسميّ. غير أننا نلاحظ أن مت لا يتوخّى أن يقدّم إلى اليهود برهانًا عقليًا عن مسيحانية يسوع، كما سيفعل فيما بعد يوستينوس ابن نابلس في فلسطين. فكل هدفه هو أن يبرهن على أن مصير يسوع الدراماتيكي (وهنا، تصميمه على تتميم رسالته بدون صياح ولا عنف) يجد بعض أسسه في الكتاب المقدس. إن مت يريد أن يفكّر، أن يتأمّل، لا أن يبرهن. وأسلوبه هو أسلوب اليهود. أما أسلوب يوستينوس فأسلوب اليونان.
ماذا نجد في نص أشعيا؟ خمسة أمور:
- نحن أمام أطول إيراد لمت من العهد القديم. هذا ما يدلّ حالاً على الاهميّة التي يعلّقها الانجيلي على الأفكار التي يعلنها الاستشهاد الكتابيّ. ففي جداله مع المعلمين اليهود، لم يكن يرى شيئًا أهم من الاعلان أن يسوع "يجب" (ينبغي) عليه أن يمنع الذين نالوا نعمة الشفاء إطلاق أي دعاية "في الشوارع" (آ 19).
- إن نصّ الاستشهاد لا يوافق موافقة تامّة، لا النصّ الماسوري العبريّ، ولا نصّ اليونانية السبعينية. وهذا ما يجعلنا نفكر بايراد بيبلي صيغ في وسط متاويّ وقد استعمله الانجيلي. هنا نلاحظ تقاربه مع السريانية البسيطة (التي تأثّرت بالترجوم الآرامي).
- في سياق أش 42: 1-9 وسائر أناشيد عبد يهوه (49: 1-6؛ 50: 4- 11؛ 13:52-53: 12)، اختار متّى الآيات والتي تشدّد أكثر ما تشدّد على ما "لا يفعله" عبد الله وخادمه. نجد في هذه الآيات الاربع، أربعة أفعال في صيغة النفي (لا يخاصم، لا يصيح، لا يكسر، لا يطفئ) تدلّ على أن يسوع تحاشى أن يفعل ما يفعله أصحاب السلطة أو العنف. بما أن يسوع لم يفعل هذا الذي قرأناه في الاستشهاد الكتابيّ، فقد خيّب الانتظار المسيحاني في العالم اليهوديّ الرسميّ. وهذه السمة تفهمنا لماذا منع كل دعاية: "أوصاهم بشدّة ألاّ يشهروه".
- ومع ذلك، ورغم غياب كل عنف، فقد ظلّ عبد الله (في الخفاء) يتابع عمل البرّ (كريسيس، ربما الدينونة والتمييز، آ 18- 20) الذي بدأ به. اختاره الله ونال روحه من أجل هذا العمل (3: 17). وتُشدّد آ 20 (يقود الحقّ إلى الغلبة) على نشاط يتواصل حتى يبلغ الهدف. ففي مصير عبد الله يتمّ من قبل الله عملُ الحق والبرّ والدينونة.
- ذُكرت الأمم (الوثنية، آ 18، 21) مرتين، فقابلت موضوعاً يتواصل في السرد المتّاويّ. هذا الانجيل الذي كُتب "ضد" العالم اليهوديّ في الشتات الفلسطينيّ السوري حوالي سنة 80، يتطلع منذ الآن إلى ارتداد الأمم الوثنيّة إلى المسيح. وهكذا نرى العناية القصوى التي وجّهت هذا الكتاب المسيحيّ لاختيار هذا المقطع من نبوءة أشعيا. فهذا المقطع يتضمّن كل المواضيع العزيزة على ذاك العشّار الذي ترك في يوم من الايام مائدة الجباية وسار وراء يسوع.

خاتمة
ذاك هو عبد الله (ع ب د. ي هـ و ه) في صورته الخفريّة والخفيّة. لم نصل بعد إلى "عبد الله المتألّم" الذي يحدّثنا عنه أش 52. أما علاقته مع البشر فهي على مستوى الحقّ، على مستوى التمييز والدينونة، على مستوى الفرائض التي عليها يركّز الله (إله البرّ) علاقاته في البشر الذين تعاهد معهم. هل يكفي هذا؟ كلا. فنحن على مستوى الوصيّة الأولى من وصايا الله وصيّة المحبّة للقريب، وصيّة الخدمة للقريب حتى بذل الذات على مثال ما فعل يسوع حين غسل أقدام التلاميذ، فكانت بداية الطريق التي أوصلته إلى الصليب. فالحبّ خدمة، والخدمة حبّ. وهكذا ربط متّى وصيّة المحبّة مع المقولة الكروستولوجيّة التي تعلن أن يسوع هو عبد الله وخادمه. لقد عاش يسوع الخادم وصيّة المحبّة، فجسّد في شخصه الكمال الذي نادى به ليدعونا إلى التشبّه بالله: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل هو".

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM