الفصل الرابع عشر: يسوع ربّ السبت

 

الفصل الرابع عشر
يسوع ربّ السبت
12: 1- 8

نحن هنا في أول صراع بين يسوع والفريسيين حول السبت. أما المناسبة فهي عمل قام به التلاميذ: اقتلعوا سنبلاً وأكلوا. وهذا أمر تحرّمه الشريعة. ولكن يسوع سيُفهمهم أنه ربّ السبت، أنه يستطيع أن يوجّه ممارسة الشريعة في خطّ جديد، لأنه ربّ الشريعة. وستكون ليسوع جدالات أخرى حول السبت. حين شفى اليد اليابسة عند رجل كان في المجمع (9:12-14). حين شفى المرأة الحدباء (لو 13: 10-17)، فسمع رئيسُ المجمع يقوله للناس، ولكنه في الواقع يوجّه كلامه إلى يسوع: "لكم ستّة أيام للعمل، ففيها تأتون وتستشفون، لا في يوم السبت" (آ 14). وحين شفى الرجل المستسقي (لو 14: 1-6). وفي يو 5: 1-18 نقرأ شفاء المخلَّع الذي كلّفه هذا الشفاء غاليًا، لأنه تمّ يوم السبت فكان اليهود يضطهدون يسوع، لانه كان يفعل هكذا يوم السبت (آ 16). عاد يسوع إلى العهد القديم ليدافع عن عمله، ولكنه بيّن بشكل خاص سلطته على كل الشرائع ولاسيّما شريعة السبت.

1- نظرة عامة
إن ف 12 يجد مكانه في تصميم مت. فبعد أن قدّم الانجيليّ يسوع في سلطته كمفسّر للشريعة في نهاية الزمن (ف 5-7)، وأرانا هذه السلطة عبر بعض المعجزات التي لها مدلولها العميق (ف 8-9)، حدّثنا عن يسوع الذي اختار المنادين بالملكوت فأرسلهم وسلّمهم سلطانه (ف 10). ولكن هناك خلافاً حول هذا الملكوت. فيوحنا المعمدان الذي سبق المسيح ليعدّ له الطريق بدأ يشكّ: "أأنت هو الآتي، أم ننتظر آخر"؟ اين الفأس لا تقطع الاشجار من أصولها؟ ومدن الجليل التي رأت عجائبه وسمعت أقواله، ولكنها ما تابت، تستحقّ مصيرًا قاسيًا في يوم الدينونة (ف 11).
أما رفض يسوع كذاك الآتي ليقيم ملكوت الله، فهو موضوع المقاطع الثمانية التي تتوّزع ف 12. وقمّة هذا الرفض ستكون حين يتّهم الفريسيون يسوع (آ 22-24) بأن فيه شيطاناً، بأنه من حزب بعل زبول، كما ستكون قمّة أخرى حين يحدّثنا يسوع عن عائلته الحقيقيّة (آ 46- 50). وهكذا تمّت القطيعة بينه وبين محيطه الروحيّ حين ردّ على الفريسيين. ثمّ تمّت مع محيطه الاجتماعيّ حين رفض رباط اللحم والدم وأعلن: "كل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" (آ 50). أجل تلك هي عائلة يسوع الجديدة.
على أساس خبر هذه القطيعة الدراماتيكية مع العالم اليهوديّ، فسّر ف 13 المتحدّث عن أسرار الملكوت، كيف أن هذا الملكوت تدشَّن على الأرض، ومع ذلك قاومه الناس وتجاهلوه. والمقابلة مع النصين الموازيين في لو ومر ترينا مرّة أخرى العمل الرائع الذي قام به متّى في "وظيفته" كمعلّم ومربٍّ في كنيسته: ركزّ في ف 12 على الصراعات المتعلّقة بالسبت (لا ترد لفظة "سبت" قبل ذلك في إنجيل متّى، وفي هذا الفصل 7 مرات؛ رج 24: 20؛ 28: 1)، وأورد العهد القديم بطريقة أصلية (آ 5-7؛ آ 18- 21: آ 40 ي)، وأبرز أقوال يسوع الرئيسيّة (آ 8: رب السبت هو ابن الانسان، آ 12: عمل الخير يوم السبت، آ 28، 30، 36، 42، 50).
حين درس الشّراح موضوع السبت بشكل عام وفرائضه السلبيّة والايجابيّة، لاحظوا أن آ 1-8 قد دوّنت بشكل نهائي في كنيسة متّاويّة تتصارع مع المعلّمين اليهود في ذلك الزمان. فالفريسيون لا يهاجمون يسوع، بل تلاميذ يسوع. وجدالات التلاميذ مع خصومهم ترتدي طابع الخصومة بين المجمع (أي العالم اليهوديّ) والمسيحيين قبل القطيعة النهائية التي قرّرها مجمع يمنية (أو: يبنة). غير أن هذا لا يعني أن الصراع حوله السبت لم يبدأ في أيام يسوع وخلال حياته التبشيريّة. لهذا نرفف رأي بولتمان الذي يقول إن هذه المقطوعة قد "خلقتها" الكنيسة من "لا شيء"، من خبرتها مع العالم اليهودي.
حين نقرأ المشناة نجد أنها تتألّف من 63 مقالاً. وإذا جعلنا جانبًا "كليم" فالمقال المكرّس للسبت هو الأهم والأطول. إنه يبدو مملاٌ بتنظيماته الدقيقة جدًا حول يوم الراحة. ومع ذلك، هناك مواضيع دينيّة في أساس التعليم عن السبت وممارسته. فالسبت هو "علامة العهد الابدي مثل الختان" (شرح خر 23: 15). "من حفظ السبت دلّ على أن الله خلق العالم في ستة أيام" (شرح خر 20: 16). "إن السبت يضيف على قداسة اسرائيل... فمن مارسه شهد لمن قال للعالم كن فكان، وهو الذي خلق عالمه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع". وقال رابي ناتان: "إليكم سلّم السبت، ولم تسلّموا إلى السبت". عبارة قريبة من الانجيل: السبت للانسان وليس الانسان للسبت. "نجّسْ سبتًا واحد لكي تستطيع أن تحفظ فيما بعد سبوتاً عديدة" (شرح خر 26: 13).

2- الدراسة التفصيلية
أ- البنية
حين ندرس البنية والمراجع، سوف نتجاوز آ 8 فنصل إلى آ 21، مع أننا أمام ثلاث مقطوعات: السنابل التي اقتلعها التلاميذ يوم السبت (آ 1-8). الرجل الذي شفى له يسوع يده (آ 9-14). يسوع عبد الله على ما في أشعيا الذي "لا يماحك ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع" (آ 15- 21).
مقاطع ثلاثة تبدأ كل منها بحاشية عن تحرّك يسوع. "في ذلك الزمان اجتاز يسوع في السبت بين الزروع" (آ 1). "ومضى من هناك وجاء إلى مجمعهم" (آ 9). "فعلم يسوع فانصرف من هناك" (آ 15). فالمقطعان الاولان يوردان حدثين عن السبت في إطار جدال (بل صراع) مع الفريسيين. أما المقطع الثالث (آ 15- 21) فيتضمّن إجمالة قصيرة عن نشاط يسوع مع استشهاد طويل من أش 42: 1-4، 9
ونجد في 8: 1-17 توازيًا لافتًا. ففيه نجد خبرين متشابهين (8: 1-4، 5- 13) تتبعهما آ 14-17، التي تتحدّث عن أشفية. وهكذا يكون الموضوع: إن رسالة يسوع تقوم في الشفاء في خطّ الكتب المقدّسة التي تقدّم كلمة الله. سار يسوع بحسب الكتاب المقدس الذي يعلن مشيئة الله، فدلّ على أنه خاضع لمشيئة الله.
ب- المراجع
نقوله حسب نظرية المرجعين: إن مت 12: 1- 21 تأسّس على مر 2: 23- 28 (اقتلع التلاميذ سنبلاً)؛ 3: 1-6 (شفاء الرجل مع يده اليابسة)؛ 7:3- 12 (إجمالة مرقسيّة تتحدّث عن مهمّة الشفاء التي يقوم بها يسوع). قام مت ببعض التبديلات ولاسيّما على مستوى الاسلوب، وزاد براهين في المقطوعة الأولى والثانية (12: 5-7، 11-12 أ)، وأوجز مر الذي كان طويلاً (3: 7- 12)، واستفاد من المناسبة ليُدرج استشهادات كتابيّة هي مفاتيح في إنجيله.
هناك عدد من التشابهات البسيطة بين مت 12: 1-8 ولو 6: 1-5 التي ترتبط مع مر 23:2-28. غير أن هذا لا يعني أن لو عرف مت. وهناك من تحدّث عن مر أول ومر ثان، أي تدوينين متلاحقين. وهناك من قال إن مت ولو قد تأثّرا بنسخة المعين التي نجدها في مر 23:2-28. أو: إن متّى استعمل نص مر كما استعمل تقليدًا آخر قديمًا.
ج- التأويل
إن التقليد التاريخي كما نقرأ في مت 12: 1-8 يشبه كرة من الثلج تنزل عن الجبل. قد تكون النواة 12: 1-4 وز. نحن أمام خبر حول قول تلفّظ به يسوع. نجد فيه (1) تصويراً للظروف أو تلميحاً اليها. (2) السؤال الحسّاس. (3) سؤال معاكس يقدّمه الرب. نجد هذا النمط في مر 2: 15-17 وز (هو متكىء يأكل... قال الفريسيون... قال يسوع: ليس الأصحّاء بحاجة)؛ 2: 18-22 وز (كان التلاميذ لا يصومون... لماذا لا يصومون. قال يسوع: أو يستطيع بنو العرس)؛ 3: 1-6 وز؛ 3: 22- 30 وز؛ 6: 1-6 وز؛ 7: 1- 15 وز؛ 9:9-13. هذا ما نسمّيه "إعلان في خبر" (إعلان ليسوع في خبر). أو "اعتراض في خبر" (اعتراض من إنسان فيجيب عليه يسوع).
على هذه النواة الاساسية (آ 1- 4)، أضاف التقليد السابق لمرقس، مر 27:2: "وقال لهم: السبت جُعل للانسان، لا الانسان للسبت" ثم أضاف مرقس نفسه 28:2: "إن ابن الانسان هو ربّ السبت أيضًا". وفي النهاية توسّع مت في الخبر، فأضاف ثلاث آيات تتوخّى تقوية البرهان الوحيد الذي وجده في مرقس (مت 12: 5-7).
وهكذا تنقسم المقطوعة (آ 1-8) ثلاثة أقسام: الوضع (آ 1). انتقاد الفريسيين لهذا الوضع (آ 2). جواب يسوع (آ 3-8) الذي يتألف بدوره من ثلاثة أسئلة (تبدأ: فقال لهم) تتبعها ثلاثة أقوال تبدأ مع: أقول لكم. فيكون التصميم على الشكل التالي:
1- في ذلك الزمان اجتاز يسوع في السبت، بين الزروع، فجاع تلاميذه فاخذوا يقتلعون سنبلاً ويأكلون (آ 1). هذا هو الوضع.
2- فأبصر الفريسيون ذلك، فقالوا له: "ها إن تلاميذك يفعلون ما لا يحلّ فعله في السبت" (آ 2). هذا هو انتقاد الفريسيين. فيردّ يسوع.
3- * فقالت لهم (يطرح ثلاثة اسئلة):
أ- أما قرأتم ما فعل دواد حين جاع هو والذين معه؟
ب- كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة...
ج- أوَ ما قرأتم أيضًا في الناموس.
* واني أقول لكم. ويقدّم ثلاثة أقواله:
أ- ههنا أعظم من الهيكل
ب- أريد الرحمة لا الذبيحة
ج- ابن الانسان هو ربّ السبت.
هناك من قال مدافعًا عن الفريسيين. هل قضوا وقتهم يوم السبت في الحقل؟ نحن هنا في إطار دراماتيكي. فقد يكون هناك وقت بين الوضع ورّدة الفعل على هذا الوضع. فقد يكون من جاء وأخبر الفريسيين ما فعله التلاميذ. كل هذا هو اسلوب أدبيّ ينطلق من الواقع.
وأبرز أحد الشرّاح براهين تسند قوله بأن خبر السبت الذي نقرأه هنا، يرتكز على تقليد ملموس في حياة يسوع. (1) اتفق مرقس (23:2-28؛ 3: 1-6) مع تقليد خاص بلوقا (13: 10-17؛ 14: 1-6) وإنجيل يوحنا (5: 1-18؛ 9: 1- 41) على القول بأن ممارسة يسوع للسبت كانت موضوع خلاف مع السلطات اليهوديّة. قدّم مرقس (2: 23-26) أموراً حول الوضع (اقتلاع السنبل) الذي لا يمكن أن يعتبر نمطاً في الممارسة المسيحيّة. (2) كان يسوع وتلاميذه من الفقراء (يُسمح لهم أن يأكلوا بحسب الشريعة)، وكانوا من "الوعّاظ" المتنقّلين. (3) أن يكون يسوع مسؤولاً عن أعمال تلاميذه (مر 2: 24) أمر معقول من الوجهة التاريخيّة (رج مر 2: 18؛ 7: 5). (4) أجاب يسوع على هذه الانتقادات ببرهان كتابيّ نجده في أخبار صراعات أخرى (مت 7: 1-13؛ 18:12-27). واستعمال 1 صم 21: 2- 10 يفترض وضع جوع، لا مسألة من اللاهوت المسيحيّ (أضيف العنصر الاخباري ليؤمِّن موقعًا للبرهان الكتابي). (5) لا نستطيع أن ننكر وعي يسوع أنه مرسل من الله. في مر 12: 35-37 قابل نفسه مع داود.
ونزيد على هذه البراهين الخمسة اعتباراً آخر. تذكّرت الكنيسة جدالاً حول السبت لكي تدافع عن ممارستها في حفظ اليوم الأول من الاسبوع، لا يوم السبت. غير أننا لا نجد في مر 23:2-26 ما يساعدنا على جواب مسيحيّ بالنسبة إلى يوم السبت. نحن لسنا هنا أمام كلام يتحدّث عن تبديل السبت أو الغائه، بل كيف يمارس السبت؟ كيف يمارس يوم الربّ: في عبودية الحرف، أم في حريّة أبناء الله؟

3- تفسير الآيات
أ- في ذلك الزمان (آ 1-2)
"في ذلك الزمان اجتاز يسوع". ق مر 2: 23: "وكان يوم السبت مجتازًا بين الزروع". رج 25:11 (في ذلك الوقت). لسنا هنا أمام معلومة كرونولوجيّة، بل أمام جسر (وصلة) يصل موضوعًا بآخر. يساعد على ضمّ 11: 25-30 (يبدأ في ذلك الوقت، ويعلن يسوع معطي الراحة) إلى 12: 1- 8 (حيث يسوع هو ربّ السبت). ترك مت فعلَ "وحصل" (أنه كان مجتازًا) وجعل الفاعل "يسوع". جعل السبت في صيغة الجمع. رج 12:12. نجد "سبوريموس" (الزرع) أو "تا سبوريما". رج تك 1: 29؛ لا 11: 37 حسب السبعينيّة.
"فجاع تلاميذه فجعلوا يقتلعون السنبل". ق مر 23:2 الذي قال إن التلاميذ اقتلعوا السنبل فقط. أما مت فأضاف: "جاعوا"، من أجل التوازي بين داود من جهة ووضع يسوع وتلاميذه من جهة أخرى. اقتلعوا السنبل لكي يفتحوا لهم طريقاً (كذا في مر). نجد "تيلّو" (اقتلع). "ستاخيس" (سنبل). أكل هذا الحب دون ان يُطبخ. لقد صرنا قريبين من الفصح. هذا يعني أنه مضى على رسالة يسوع أقله سنة واحدة.
فعارض الفريسيون عمل التلاميذ (آ 2). هم يتبعون يسوع. ومع ذلك يهملون شيئًا هامًا في الدكالوغ، في الوصايا العشر، يهملون فريضة من فرائض العهد. لقد تعدّوا على وصية الله نفسه (تك 2: 2؛ كتاب اليوبيلات 2: 16- 18). لقد ابتعدوا عن احدى العلامات التي تفصل اليهوديّ عن الوثنيّ.
"أبصر الفريسيون". ق 3:12 أ؛ مر 2: 24. "ها تلاميذك يفعلون ما لا يحلّ". كان نص مر 2: 24 بشكل سؤال (لمَ يفعلون في السبت)، فحوّله مت إلى اتهام. "هم يفعلون". هذا ما يُبرز خطورة الصراع.
سمحت الشريعة للفقراء بأن يقطفوا سنابل من زوايا الحقول (لا 9:19- 10؛ تث 23: 34-25). أما خر 24: 21 فأمر بالعمل ستة أيام وبالراحة في اليوم السابع، حتّى في وقت الحراثة وفي وقت الحصاد. فسّر الفريسيون عمل التلاميذ بحسب عصرهم على أنه تعدٍّ على هذه الفريضة. هناك 32 نوعًا من الأعمال ومنها الحصاد (أو: القطاف) لا تُعمل يوم السبت. إذن، لا يبقى هناك إلاّ ظروف فائقة يُسمح فيها بلاممارسة الشريعة. وأما سؤال الفريسيين فهجوم على الطريقة التي بها يفسّر يسوع الشريعة، وبالتالي يسمح للرسل بأن يعملوا بموجب هذا التفسير.
ب- فقال لهم يسوع (آ 3-4)
عمل يسوع ما يُعمل في الجدال الرابيني، فردّ على الاعتراض بسؤال واستند إلى الكتاب المقدس. وبشكل خاص عاد إلى 1 صم 21، وإلى داود الذي تجاوز الشريعة. تجاوزها مرّتين لانه كان جائعًا (لا يقول النص ذلك، بل التقليد اللاحق). ونستنتج: يسوع هو المسيح وابن داود. هو ملك مثل سلفه. ويحقّ له أن يفعل مثله. وهناك تقليد رابيني يقول إن داود فعل ما فعل يوم السبت، يوم يبدّل خبز التقدمة ويُوضع مكانه خبز جديد. اذن، فعل يسوع مثل داود. فإن حكمتم على يسوع فاحكموا على داود أيضًا. ومن يجسر أن يحكم على داود؟ برّر المعلّمون عمل داود لانه كان في خطر (يلاحقه شاول)، ولأنه كان خائرًا من الجوع. ولكن يقول معترض يهودي: هل كان يسوع وتلاميذه في خطر الموت جوعاً؟ ما أراد يسوع أن يدخل في تعاريج علم الفتاوى. فقد لخّص التقليد كله في "أعظم الوصايا وأولها" (مت 22: 38). "في أثقل ما في الناموس" (23:23). فتعليمه الجديد هو نظرة جذريّة إلى ما يشكّل قلب الشريعة والأنبياء.
"فقالت لهم" (آ 3). ق 12: 2 أ؛ مر 2: 25. "أما قرأتم ما فعل داود". ق مر 25:2؛ 12: 10، 26، "كيف دخل بيت الله". هذا ما يقابل مر 26:2 الذي جعل عبارة "حيث كان أبياتر رئيس الكهنة" في النهاية. أما لو 6: 4 فلم يذكر أبياتر. لا شك في أن مت ولو فهما (كما قال أيرونيموس) أن مر أخطأ حين ذكر أبياتر. بل هو ابن أبياتر. هو أحيمالك (1 صم 21: 1). لماذا ألغى الإنجيليّ الأول والانجيليّ الثالث العبارة ولم يوضحاها؟ هذا ما لا نعرفه. "بيت الله" في السبعينيّة يقابل تابوت العهد (ق قض 18: 31). فما كان بعدَ بُني هيكلُ سليمان.
"وأكلوا خبز التقدمة". رج مر 2: 26. لا يعقل أن يكون داود قد قال لرفاقه بأن يأكلوا من هذا الخبز إلا اذا كانوا حفظوا نفوسهم من النساء. "خبز التقدمة" (خر 40: 23) 12 رغيفاً، توضع في صفين أما قدس الاقداس تُخبز يوم الجمعة، وتُؤخذ إلى الهيكل في صباح السبت، وتجعل على مائدة كتقدمة شكر. رج خر 23:25-30؛ 40: 22-23؛ لا 24: 5-9؛ عد 4: 1-8؛ 1 صم 21: 4-6؛ 1 أخ 32:9. "لا يحلّ له أكله". رج لا 9:24 "فتكون لهارون وبنيه يأكلونها في موضع مقدّس". هل عُمل بهذه الشريعة في أيام داود؟ يبدو أن الجواب هو كلا. رج مر 26:2 الذي أضاف: "أعطى منه أيضاً للذين كانوا معه". ترك مت ولو هذه العبارة لأنهما اعتبراها نافلة.
كان جدال حول قوّة استناد يسوع إلى 1 صم 21. (1) ذكّر يسوع الفريسيين أن الخير الاكثر (الحاجة البشرية) يسبق الخير الأقل (شريعة بسيطة). إذا كان داود الملك العظيم قد تجاوز الشريعة حين ألحّ عليه الجوع، فلماذا لا يحقّ لتلاميذ يسوع الذين جاعوا أن يقطفوا سنبلاً؟ (2) يسمح المعلّمون بنقض السبت في الخطر. ويسوع وتلاميذه كانوا في خطر روحيّ. قد لا يستطيعون أن يواصلوا رسالتهم. (3) إذا كان اقتلاع السنابل حصل في 15 نيزان، أول أيام الفصح، ساعة يهيّئ الكهنة حزمة التقدمة ولو كان اليوم سبتًا، فلماذا لا يفعل يسوع مثلهم؟ أخذ داود ما يحلّ للكهنة وحدهم، فلماذا لا يحلّ ذلك ليسوع وتلاميذه؟ (4) إن الوضع الاسكاتولوجيّ الملحّ يسمح بتعليق الشريعة. لقد صار ملكوت الله قريبًا. (5) هاجم يسوع التقليد الشفهيّ لا الشريعة المكتوبة. بما أن الكتب المقدسة لم تحكم على داود بسبب عمله، فهذا يدلّ على أن الصلابة التي بها يفسّر الفريسيون الشريعة لا توافق الشريعة، وبالتالي ليست فهمًا حقيقيًا لهذه الشريعة. (6) أكّد ايريناوس في كتابه "ضد الهراطقة" (4/ 8: 3) أن جميع الابرار يمتلكون درجة كهنوتيّة (1 بط 2: 5، 29). جُعل داود كاهنًا بيد الله. وهكذا جميع الرسل هم كهنة الرب. فإذا كان الكهنة يتجاوزون السبت، فلماذا لا يفعل ذلك رسل يسوع؟ (7) إن مثَل داود يوضح امكانيّة نقض الشريعة بحثاً عن خير أعظم. فالوصيّة الالهيّة تلغي وصيّة أخرى. وبما أن وصية المحبّة هي أعظم الوصايا، فحفظها قد يقودنا إلى عصيان العهد القديم. ولكن هذا البرهان يوافق بالاحرى 9:12-14 وعمل الخير إلى صاحب اليد اليابسة. (8) وأخيرًا في إطار كرستولوجي: إذا كان داود والذين معه تجاوزوا الشريعة، فماذا نقول عن ابن داود ورب داود، عن المسيح الذي يمثّل الله في نهاية الزمان؟
ماذا نقول في كل هذا؟ إن سلطة يسوع تجد صورة لها في سلطة داود. فإن حقّ لداود أن يفعل ما فعل، فيسوع يستطيع بالتأكيد أن يفعل مثله. ثم إن يسوع لم يقبل بالتقليد الشفهيّ، وحاول الرجوع إلى مشيئة الله كما في التوراة. في هذا المجال نلاحظ شيئاً مهماً وهو أن البنتاتوكس (الاسفار الخمسة) لا يمنع في السبت الا عملين اثنين فقط: اشعال النار (خر 3:35)، جمع الحطب (عد 15: 32-36). أما خر 20: 10 وتث 5: 14 فيمنعان "العمل" دون أن يحدّدا نوع العمل. ثم إن الكتاب نفسه سمح بأعمال لن يوافق عليها التقليد اللاحق (2 مل 11: 4-8). لقد زاد اليهود عددًا من الفرائض المتعلقة بالسبت وهي التي نقرأها في المشناة (وهو أمر أشرنا إليه).
ج- "أو ما قرأتم في الناموس" (آ 5-8)
إن آ 5-7 هي خاصة بمتّى ولا تجد ما يوازيها في مر ولو. أما آ 5 فتعني: "إذا كان الكهنة الذين يخدمون في الهيكل يوم السبت لا يخطئون (حسب قول رابيني بأن خدمة الهيكل تمرّ قبل خدمة السبت) إن تعدّوا السبت، فهل يخطئ تلاميذ يسوع حين يخدمون يسوع الذي هو أعظم من الهيكل؟
زيدت آ 5-7، لأن الكاتب اعتقد أن البرهان في آ 3-4 غير كاف. فالعودة إلى سلوك داود ليست قويّة في ما يخصّ السبت. لهذا أراد مت أن يقدّم برهانًا قويًا يبرّر تصرّف يسوع وتلاميذه. فجاء مع عبارة "وبالاحرى". هو لم يجادل في سلطة الشريعة، بل في فرائض السبت. أجل، يسوع لم يأت لينقض الشريعة، بل تفاسيرُها التي صارت حملاً ثقيلاً على المؤمنين البسطاء، على "الصغار".
"أو ما قرأتم في الناموس" (آ 15)؛ ق نح 8: 3 (قرأوا في سفر التوراة)؛ عا 4: 5؛ مت 42:21؛ مر 26:12. أضاف مت "في الناموس"، فدلّ على الناحية السلوكيّة (هلكه) في البرهان. حين يوجّه يسوع كلامه إلى الشعب يقول: "سمعتم". ولكن حين يكلّم الرؤساء يقول: "أو ما قرأتم" (5: 21- 48؛ 4:19؛ 21: 16، 42؛ 22: 31).
"ينقضون السبت". رج أش 56: 2، 6؛ حز 13:20 حسب السبعينية، 1 مك 1: 43، 45؛ 2: 34. إن القول بأن الكهنة "يدنِّسون" السبت (رج صف 3: 4) طريقة تقليديّة للتعبير عن الواقع. إذا أراد الكهنة أن يسيروا بحسب عد 28: 9- 10، فعليهم أن يقدّموا ذبائح يوم السبت، وهكذا يتعدّون الوصيّة التي تمنع العمل يوم السبت. ولكن هل يشبه نشاط التلاميذ خدمة الكهنة؟ وإن كان الكهنة يخدمون الهيكل حين يقدّمون الذبائح، هل يخدم التلاميذ يسوع حين يأكلون؟ ولكن لا جواب الاّ على المستوى المسيحيّ. يسوع هو أعظم من الشريعة وأعظم من الهيكل. وما يقوله لتلاميذه يتجاوز كل ما يقدّمه العهد القديم. نحن هنا في إطار كنيسة متّى التي يجب عليها أن تبرز هويّتها في وجه العالم اليهودي. فإن كانت بعد متعلّقة بالشريعة، فهي لا تربط سلوكها اطلاقاً بتفاسير الشريعة على مثال ما يفعل المعلّمون في نهاية القرن الأول المسيحيّ.
"فإني أقول لكم". هنا تبدأ أقوال يسوع الثلاثة: "ههنا أعظم من الهيكل". "أريد الرحمة لا الذبيحة". "ابن الانسان هو ربّ السبت". هكذا شدّد الانجيل على سلطة يسوع (قيل لكم وأنا أقول لكم). لا مرجع في تفسير الشريعة إلاّ يسوع. قال النصّ: أعظم من الهيكل. ولم يقل "أعظم من الشريعة".
في آ 7، أدرج مت نص هو 6: 6 الذي سبق له وأورده في 13:9. إن هذا الاستشهاد يقطع التواصل بين آ 6 وبين آ 8. "لو كنتم فهمتم" (يو 13: 12). قرأ الفريسيون ولكنهم لم يفهموا. لا يطلب يسوع من الفريسيين أن "يرحموا" التلاميذ. بل يقوله إن الرحمة تسبق شريعة السبت وذبائح العبادة. إن كان هناك من صراع بين يسوع من جهة والسبت والشريعة والعادة من جهة ثانية، فعليها كلها أن تخضع ليسوع. وهكذا لو فهم الفريسيون المعنى الحقيقيّ للكتاب، لما حكموا على أناس أبرياء.
إذا كان يسوع هو سيّد السبت (آ 8). إذا كان فوق السبت لا تحته (لا خاضعًا له)، فهو يملي شريعة السبت، وبالتالي لا يحتاج إلى براهين. ثم إن آ 8 تُتمّ فكرة آ 6. "ههنا أعظم من الهيكل" تتوضح بـ "ابن البشر هو سيّد السبت".
ترك مت، شأنه شأن لو، عبارة مر 27:2: "وقال لهم: جُعل السبت للانسان لا الانسان للسبت". لا ننسى أن بعض الحلقات المتاويّة كانت تمارس السبت. ثمّ، ما أراد مت أن يتكلّم عن الانسان بشكل عام، بل عن ابن الانسان بشكل خاص في إطار كرستولوجيّ.

4- قراءة إجمالية
أ- التلاميذ (آ 1)
في هذه الآية الأولى نتوقّف عند الوضع الذي كان فيه التلاميذ، مما جعل الفريسيون يوجّهون انتقادهم إلى يسوع الذي لم يعرف تفسير الشريعة، ولم يعلّمها لتلاميذه. وإن كان قد علّمها، فلماذا لا يوبخهم على ما يفعلون؟
في ذلك الزمان. هكذا ربط مت هذه المقطوعة (12: 1-8) بما شق (11: 28- 30). سبق له وقابل بين "نير (يسوع) الخفيف" ونير الفريسيين. وها هو يقدّم لنا مثالاً عن هذا الصراع بين نيرين، بين فرائض الفريسيين حول السبت وما يطلبه يسوع. جُعلت لفظة "السبت" في الجمع (السبوت) لتدلىّ على جدّية السؤال. لسنا أمام عمل منفرد في سبت من السبوت، بل نحن أمام قاعدة عامّة يتبعها التلاميذ في جميع السبوت. أجل، لقد تركوا تفاسير المعلّمين، وتركوا الشريعة أيضًا. فالتفاسير الشفهيّة لها من السلطة عندهم ما لها الشريعة المكتوبة.
"سبوريما" هي حقول القمح. لا يدوس يسوع والتلاميذ القمح، بل يفتحون لهم طريقاً ويقطفون بعض السنابل. قد نكون في منتصف نيسان. فاستفاد الرسل من الظرف فأكلوا بعض الحب مستفيدين من تسامح الشريعة في هذا المجالس: "وإذا دخلت زرع (حقل فيه زرع) صاحبك، فاقطف بيدك فركًا، ولا تلق منجلاً على سنبل صاحبك" (تث 25:23)، وكانت آ 4 قد قالت: "إذا دخلت كرم صاحبك، فكل من العنب قدر شهوتك ولا تجعل منه شيئًا في وعائك".
ب- الفريسيون (آ 2)
رأى الفريسيون ما يعمله التلاميذ، فانتقدوا يسوع من خلال تلاميذه. في لوقا، توجّه الفريسيون مباشرة إلى التلاميذ. هم لم يتّهموا التلاميذ لأنهم سرقوا، بل لأنهم تعدّوا على الفرائض التي تنظّم يوم السبت. فطحن الحب وجمعه هما بين 39 عملاً محرّمًا في يوم السبت. وقابل الفريسيون ما فعله التلاميذ بعمل حقيقيّ في الحقل كالزرع والحصاد. وسيقول تفسير رابيني عن السبت فيما بعد: "يسمح للانسان أن يقتلع بيده سنبلاً ويأكل يوم السبت، ولكن لا يسمح له بأن يقتلع بواسطة آلة".
ج- أسئلة ثلاثة (آ 3- 5)
وإذ إراد المسيح أن يدافع عن تلاميذه، لجأ إلى خبر داود الذي أكل مع رفاقه خبز التقدمة، الخبزات المكرسّة، وذلك في نوب (1 صم 21: 1-6)، ممّا جعل الكاهن أحيمالك يرتعد. ليس الموضوع موضوع سبت في هذا الخبز. ونقاط المقابلة مع ما فعله تلاميذ يسوع بعيدة جدًا: إن داود، هذه الشخصيّة العظيمة في العالم اليهوديّ، قد سمح لنفسه بأن يتجاوز الشريعة. وهذا ما فعله هؤلاء الرسل الصغار! فلماذا تحكمون عليهم؟ والاشخاص الذين كانوا مع داود (التلاميذ مع يسوع) قد تجاوزوا الشريعة بعد أن "سمح" لهم داود بذلك. أفلا يستطيع المسيح، ابن داود، أن يسمح ايضاً لتلاميذه أن يتجاوزا الشريعة في جوعهم؟
نجد هنا صدى لجدالات كتابيّة بين يسوع وممثلي العالم اليهودي الرسميّ، بين تلاميذ يسوع، بين الكنيسة، والحلقات الرابينيّة ساعة دوّن متّى انجيله. ونشير هنا إلى أن خبر داود هذا كان موضوع تفاسير عديدة لدى الكتبة.
سؤال في سؤالين: ما فعله داود، ما فعله الذين كانوا معه. ولا حاجة إلى الجواب. يحقّ ليسوع أن يفعل ما فعله داود، ولتلاميذه أن يفعلوا ما فعله رفاق داود. والسؤال الثالث: "أو ما قرأتم أيضًا في الناموس أن الكهنة". بدأ متّى في كتب الأنبياء (لا ننسى أن يش، قض، صم، مل، هي أيضًا أسفار نبويّة بحسب تسمية التوراة العبرية. هم الأنبياء الأولون. أما أش، إر، حز، فهم اللاحقون)، وها هو ينهي "بقوّة" في أسفار الشريعة الخمسة. بعد أن استند إلى الملوك، ها هو يستند إلى الكهنة.
استند مت إلى عد 28: 9 ي، فبيّن أدن الكهنة أنفسهم يتعدّون على "راحة" السبت ليهيّئوا التقادم في الهيكل، ومع ذلك لا تلومونهم. فإذا كان يحقّ للكهنة أن ينقضوا السبت لأنهم مرتبطون بالهيكل، فكم أحرى بالمسيح!
د- أقوال ثلاثة: ههنا أعظم من الهيكل (آ 6-8)
* القول الأول: ههنا أعظم من الهيكل (آ 6)
نستطيع أن نفهم هذا القول في معنيين رئيسين. الاول كانتقاد للهيكل يشدّد على أن يسوع يحمل إلى الناس أكثر وأعظم مما يحمله العالم اليهودي بشعائر عبادته. مثل هذا التفسير لا يسنده سياق النصّ. والمعنى الثاني هو اعلان مسيحانيّ يُفهمنا أن المسيح بحسب الاسكاتولوجيا اليهوديّة، هو سيّد الهيكل ومُعيده إلى بهائه الأول (رج 21: 10-17).
أقرّ مت هنا وفي آ 3-4 أن التلاميذ تعدّوا شريعة السبت، وهو يكتفي بأن يبرّر هذا "التعدّي" بتلميح إلى زمن خارق يفتحه يسوع. إن الاهميّة الكبرى لهذا البرهان هي الطريقة التي بها يستند إلى العهد القديم: هو لا يقدّم يسوع كشخصيّة كبيرة تشرف من علُ على التاريخ فتحوّل إلى رماد وتراب الفرائض التقليديّة. فيسوع يتّخذ مكانته في هذا التاريخ، ويثبت قيمة السبت قبل أن يحلّ الأحد محلّه.
* القول الثاني: أريد رحمة لا ذبيحة (آ 7)
يستعيد هذا القول هو 6: 6 (رج مت 13:9): ففي الحالين، بدا السياق هجوماً واضحاً على الفريسيين. وإن الاستشهاد بهوشع يوافق بالاحرى ف 9 حيث يشرح الكاتب "رحمة" يسوع الناشطة تجاه أناس خطأة وعشّارين مثل متّى ورفاقه. فقالت يسوع حينئذ: "أريد الرحمة لا الذبيحة، فإني لم آت لأدعو الصدّيقين، بل الخطأة".
لا تظهر كلمة "تيسيا" (ذبيحة) إلاّ هنا وفي 13:9 في كل انجيل متّى. هي لا تدلّ على ذبيحة أو ذبائح تقدّم في الهيكل، بل على ممارسة الفرائض الدينية بشكل عام، وفرائض السبت بشكل خاص (في هذا السياق). إن هذه الآية لا تعارض ديانة الرحمة "الانسانويّة" مع "الطقوس الخارجيّة"، في كل ديانة عماديّة (فيها شعائر عبادة من صلاة وطقوس). بل ممارسة الرحمة ممارسة عمليّة مع تقوى متكبّرة تحتقر الآخرين، تقوى الفريسيين التي تحكم على الذين لا يخضعون لتعاليمهم.
نلاحظ أن هذا الاستشهاد الكتابي يرد مرّتين في مت، ولا يرد إلاّ في مت. إنه يوافق الوضع التاريخيّ الذي عرفته الكنيسة المتّاويّة حيث اصطدم المسيحيون الآتون من العالم الوثني، مع تشديد المعلمين اليهود وقساوتهم. "هؤلاء التلاميذ هم أبرياء" (لا ذنب عليهم) (أنايتيوس في اليونانية) (آ 5)، لا لأنهم لم يتجاوزوا شريعة السبت، بل لأنهم كانوا معذورين حين تجاوزوها.
* القول الثالث: ابن البشر هو ربّ السبت (آ 8)
رافق مت مر ولو دون أن يقدم ما يقابل مر 27:2 (السبت جُعل لأجل الانسان لا الانسان لاجل السبت)، فاختتم هذه المقطوعة بتأكيد أساسيّ يرينا وحده كل بعدها. فإن كان التلاميذ تجاوزوا شريعة السبت "ببراءة" (لا ذنب عليهم)، فلأن معلمهم هو ربّ السبت. إن النص الموازي في مر 27:2-28 جعل بعض الشّراح يفكّرون أن عبارة "ابن الانسان" هنا تدلّ على الانسان بشكل عام. ففي آ 27، يتحدث مرقس عن الانسان (انتروبوس) الذي لأجله أسّس السبت. ولكن السياق العام في مت ولو (بل في مر أيضًا)، يدلّ بوضوح على ابن الانسان. كل هذا يدلّ على يسوع كديّان ومخلّص الأيام الأخيرة، بحسب التقليد الذي تحدث عنه دانيال وأخنوخ. فالإيمان والانتماء إلى الربّ هو الذي أعطى التلاميذ، ثم المسيحية الأولى كلها، هذه الحرّية في تجاوز شريعة طقسيّة لدى اليهود، ولاسيّما في نقطتين رئيسيتين هما السبت والختان. ويشير هذا النصّ أيضًا الى ينبوع آخر لهذه الحرية هو الرحمة، أي إرادة الله بأن يقترب الخطأة والوثنيون من الخلاص. وهكذا نكون في خطّ الرسائل البولسيّة التي سبقت إنجيل متّى بعشر سنين ونيّف.

خاتمة
نحن هنا في جدال مع الفريسيّين حول السبت. وسوف تتبعه جدالات أخرى يدلّ فيها يسوع على سلطته على الشريعة بشكل عام، وعلى السبت بشكل خاصّ. وهذه السلطة وإن جاءته من الله، وسلطته سلطة الله، إلاّ أنه يجذّرها في العهد القديم. في سفر صموئيل الذي يُعتبر من الأنبياء الأولين. وفي سفر هوشع الذي جعل الرحمة فوق الذبيحة. وزاد على هذا البرهان التوراتيّ براهين "بشريّة" يقدّمها الرابينيّون فتصبح "شريعة" شفهيّة. وفي النهاية، بيّن يسوع أن الانسان هو الأهم. ومن أجل خلاص الانسان، ماذا لا يفعل يسوع؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM