ال الفصل الثالث عشر: أحمدك يا ابت

الفصل الثالث عشر
أحمدك يا ابت
11: 25- 30

دعا يسوع المدن الجليلية الى التوبة. دعا "هذا الجيل" الذي لم يسمع ليوحنا المعمدان، كما لم يسمع ليسوع الذي عمل العجائب الكثيرة. ولكن إذا ارادوا أن يسيروا مسيرة التوبة، عليهم أن يصيروا "أطفالاً". ولن يكونوا كذلك إلاّ إذا دخلوا في حياة يسوع الحميمة. هذه الحياة التي اكتشفها الرسل يوم رأوا يسوع يصلّي فطلبوا منه أن يعلّمهم الصلاة (لو 11: 1 ي). هذه الحياة التي ظهرت في العلن أول ما ظهرت في مشهد العماد. أعلن الآب من السماء: "هذا هو ابني الحبيب". وها هو الابن ينشد بدوره: "لا يعرف أحد الابن إلاّ الآب، ولا يعرف أحد الآب إلاّ الابن ومن يريد الابن أن يكشف له". وهكذا وصلنا إلى مناخ عوّدنا عليه الانجيل الرابع، وصلنا إلى نداء التتلمذ لمن هو وديع ومتواضع القلب.

1- نظرة عامة
نحن في الواقع أمام مقطوعتين صغيرتين نستطيع أن نفصلهما: يسوع يخبر الصغار عن الآب (11: 25-27= لو 10: 21-22). يسوع يدعو التلاميذ ليحملوا نيره لأنه خفيف (آ 28-30).
نبدأ فنقول إن ف 11-12 مع ف 13 تتماسك تماسكاً لاهوتياً لافتاً ويشرف عليها موضوع "الخفيّ" (آ 25). وهكذا تتسجّل آ 25-27 في بنية الانجيل العامّة تسجيلاً واضحاً. قد نتوقّف عند قيمتها كوثيقة من أجل معرفة سيرة يسوع. ولكننا لا نشكّ في أن الانجيلي وعى ما كان يعمل حين أدرجها في هذا الموضع من سرده.
إن آ 25-27 تجد ما يوازيها في لو 10: 21-22. أما آ 28- 30 فهي خاصّة بمتّى. إن سياق خبر لو (آ 23) يجعلنا نظنّ أن مت جمع هنا ثلاثة أقوال تلفّظ بها يسوع في أوقات مختلفة. آ 25-26؛ آ 27؛ آ 28-30. تبدو هذه الآيات وكأنها اختمرت في محيط يوحنّاوي، على مستوى الاسلوب وعلى مستوى الفكر، ولا سيّما آ 27 (لا يعرف أحد الابن إلاّ الآب) (رج يو 35:3؛ 29:7؛ 10: 14-15؛ 12:17). غير أن مت قد استعمل عدداً من الألفاظ التي نجدها في هذه الآيات. مثلاً في 28: 18 نجد المعنى الكرستولوجي لفعل "ديدوناي" (أعطى). في 7: 6؛ 14: 35؛ 17: 12 نجد المعنى اليوحناوي لفعل عرف "ابيغينسكين". وفي 2: 15؛ 3: 17؛ 4: 3؛ 8: 29؛ 14: 33؛ 16: 16؛ 24: 36؛ 26: 63؛ 27: 40، 43؛ 28: 19، نقرأ عن يسوع الذي هو الابن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ أن ما ترمي إليه هذه القطعة، ليس الحديث عن الابن كالابن، بل بالأحرى عمّا يكشفه الابن (يخبر به) للبشر (آ 27): ابوكلبساي). هذه السمة الأخيرة تربط رباطًا عميقًا آ 27 مع آ 25-26 (آ 25 ب: كشفته للاطفال). وإذا ألقينا نظرة إجماليّة إلى آ 25-27، نفهم أنها لا تعني أن الله يكشف بصورة عامة "للصغار" ما يخفيه عن الحكماء (آ 25-26)، بل تدلّ على الطريقة الخاصة التي بها يكشف الله عن نفسه في رسالة يسوع، في فم يسوع.
تلك نظرة إلى المقطوعة الاولى (آ 25-27) التي تجعلنا في جوِّ الآب والابن. أما المقطوعة الثانية (آ 28-30) فهي تحدّثنا عن الحمل الخفيف الذي يقدّمه يسوع لنا لنحمله. لا شكّ في أننا ندرس هاتين المقطوعتين معًا، وإن كانت المقطوعة الأولى قولاً تفوّه به يسوع في ظرف خاص، فالتقَفه التقليد الشفهي دون أن يعرف كيف يربطه بما قبله أو بما بعده. أما متّى فعرف أن يضعه في هذا المكان من سرده، فتوخّى أن يعطينا تعليمًا لاهوتيًا بارزًا.
إن يسوع الذي رذلته مدن البحيرة (آ 20-24)، ورفضته المدارس الرابينيّة في قريته الناصرة وفي مدينته كفرناحوم، ولم يفهمه المتعلّمون في شعبه من كتبة وفريسيّين (آ 25-27)، قد توجّه الآن إلى المساكين (11: 5 ب)، إلى جميع الذين يرزحون تحت حمل ثقيل جعله عليهم العالم اليهوديّ وشريعانيّته.
وسترينا الآيات التالية (12: 1-8 وحدث السنابل، و12: 9-14 وخبر اليد اليابسة)، يسوعَ في صراع مع علماء الشريعة والكتبة حول مشكلة السبت التي هي مشكلة حاسمة بالنسبة إليهم. ليست الحكمة هي التي تحمل الراحة (م ن و ح ه) إلى البشر، بل يسوع نفسه الذي هو وديع ومتواضع القلب. فمتطلّباته ليست ثقيلة بل خفيفة، لأنها لا تنفصل عن الخلاص الذي يحمله.
نلاحظ أن عددًا من الشرّاح حاولت أن يجد في كلام يسوع هنا لغة ترتبط بالعالم الحكميّ. فتذكروا أم 8 الذي يتحدّث عن الحكمة الموجودة منذ الأزل، التي ولدت حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة المياه. كما تذكّروا سي 24 الذي يتحدث عن حكمة سكنت في الاعالي وجعلت عرشها في عمود الغمام. ونقرأ في سي 51: 11: "أعترف لك واسبحّك وأبارك اسم الربّ" (رج حك 6-8). ولكن يبدو أننا هنا بالاحرى في أسلوب جليانيّ كما في سفر دانيال. ما استطاع الحكماء أن يفسّروا حلم نبوخذ نصّر (دا 3:2-13). ولكن السرّ كُشف لدانيال الذي توّسل إلى إله السماء (18:2-19، 28) فأعطاه المعرفة، فامتدح الله لانه منحه الحكمة (2: 23). في الواقع نحن أمام ملكوت أقامه الله نفسه (2: 44). ملكوت لا يُنقض إلى الابد، ملكوت يثبت إلى الأبد.

2- دراسة تفصيليّة
أ- المراجع
إن آ 25- 30 لا تساعدنا لكي نجد حلاً للمسألة الازائية. فلا شيء يوازيها في مر، والنصّ اللوقاويّ الموازيّ (لو 10: 21-22) يتوافق مع مت 11: 25- 27 حيث الاختلافات واضحة ومعبّرة. غير أننا نكتشف أن التوافق على مستوى الألفاظ بين مت 11: 25-27 وما يوازيه في لو، يدلّ على أننا أمام المعين الذي اعتاد أن يستقي منه الانجيلان الأول والثالث.
يبقى علينا أن نعرف أصل مت 28:11- 30. لا شيء يوازي هذه القطعة في لو. هل أخذت من المعين (اذن لماذا لم يأخذها لو)؟ هل هي من المتّاويات أي هذا التفكير الشفهي الذي تفرّد به متى دون سائر الانجيليين؟ نحن نجد وراء آ 27، خر 33: 12-13. ووراء آ 28-30، خر 33: 14. وهكذا تكون المقطوعتان (آ 25-27 وآ 28- 30) مرتبطتين بمواضيع من سفر الخروج. لهذا يجب أن تبقيا معًا. وهناك من شكّ أن تكون الواحدة قد وُجدت بمعزل عن الأخرى. إذن، هل دوّنها متّى نفسه؟ هناك ما يعارض هذا القول. (1) معظم الألفاظ ليست متّاويّة، وهي لا ترد في مكان آخر من مت. (2) إن حُذفت آ 29 ب ج التي يمكن أن تكون متّاويّة لأكثر من سبب، تكون النتيجة قولين متوازيين. أ- تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين. ب- وأنا أعطيكم الراحة (أريحكم). أأ- احملوا نيري عليكم. ب ب- تجدوا الراحة لنفوسكم. هذا يعني اننا أمام تدوين متّاويّ لوحدة سابقة لمتّى الذي سميّ المفسّر الخلاّق. (3) هناك عبارات ساميّة تجعلنا نقول إننا أمام أصل أرامي توسّع فيه متّى. كما نعرف أن هذه المقابلة بين ما وصل إلى موسى من وحي، وما وصل إلى يسوع، كانت موضوع تأمّل لجماعة متّى التي ستشدّد على القول بأن الابن وحده يعرف الآب. أما موسى فبقي كالخادم على عتبة "قدس أقداس" الله دون أن يتجرَّأ على الدخول، لأنه لا يرى أحدٌ وجهَ الله ويبقى على قيد الحياة سوى يسوع المسيح الذي رأى الآب وأخبرنا عنه (يو 1: 18).
ب- التأويل
تبدو آ 25-30 في ثلاثة أقسام. القسم الأولى هو فعل شكر ومديح بسبب الوحي الذي أخفاه الله عن الحكماء وكشفه للأطفال (آ 25-26). القسم الثاني هو إعلان كرستولوجيّ: إن المعرفة التي تحمل الوحي تكمن في يسوع (آ 27). القسم الثالث ينهي المقطوعة بدعوة تقول: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين وأنا أريحكم" (آ 28- 30)
إن العلاقة الموضوعيّة بين 25:11-30 و11: 2-24 هي واضحة بما فيه الكفاية. وجد 11: 2-19 ذروتَه في المثل الذي يشير إلى رفض اليهود ليوحنا ويسوع. و11: 20-24، يعلن الدينونة ضدّ مدن الجليل لأنها رفضت أن تتوب. ويتابع 11: 25-30 موضوع الجواب الذي نقدّمه لله. هذا يعني أن رفض الناس ليسوع لم يكن الكلمة الاخيرة. فإذا كان "هذا الجيل" لم يتبع يوحنا ويسوع، وإن كانت كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم لم تعترف بمعجزات يسوع، فهناك الأطفال (أي التلاميذ) الذين أدركوا ما حدث.
إن 19:11 قد ماهى بين يسوع والحكمة. وقد نكون ضمنيًا هنا أمام التماهي نفسه. في أي حال، هناك مقابلات بين الحكمة ويسوع. وحده الآب يعرف الابن. كما أنه وحده يعرف الحكمة (أي 28: 12-27؛ سي 1: 6-9؛ با 3: 32). وحده الابن يعرف الآب كما تعرف الحكمة وحدها الله (حك 8: 4؛ 9: 1-18). إن يسوع كشف ما كان خفيًا، والحكمة كشفت أسرار الله (حك 9: 1- 8؛ 10: 10). دعا يسوع الحكمة النداء عينه (سي 51: 23-30؛ رج أم 1 : 20-23؛ 8: 1-36؛ 24: 19- 22؛ موشحات سليمان 33: 6-13).
غير أنه يجب أن نرى الخلفيّة الأولى لما في آ 25-30 في التقاليد اليهوديّة حول موسى. فالاعلان حول الآب والابن اللذين يعرف الواحد الآخر، يجد أساسه في خر 33: 12-13، حيث يعرف الله موسى، وحيث يطلب موسى أن يعرف الله. والوعد بالراحة في 11: 28 يسوع نفسه "وديعًا" (آ 29)، فالوداعة هي صفة رئيسيّة في موسى (عد 3:12). وعندما عاد يسوع إلى "النير"، استعمل كلمة تنطبق على الشريعة التي أعطاها موسى. وهكذا تصبح آ 25-30 صورة عن يسوع في ألوان موسويّة. والتشابهات والاختلافات بين المسيح ومعطي الشريعة تُوضح هدفَ الانجيليّ الأول حين دوّن ما دوّن.

3- تفسير الآيات
أ- وحي الله للصغار (آ 25-26)
كنا انتظرنا بعد 11: 20-24 رثاء لما سيحدث لهذه المدن. فإذا بيسوع يقدّم لنا صلاة شكر ومديح كما في يو 11: 41-42.
"في ذلك الوقت تكلّم يسوع" (آ 25). رج لو 10: 21 (وفي تلك الساعة تهلّل يسوع في الروح القدس وقال). أراد الانجيليّ الأول والانجيل الثالث أن يُعيدا كتابة المعين كلّ بحسب عبقريّته. "ابوكرينوماي" أجاب. ولكن أحدأ لم يسأل يسوع. نحن هنا في إطار عبريّ: "و ي ع ن. و ي ا م ر" (رج 15:15؛ 4:17؛ 22: 1؛ 5:28).
"أحمدك ايها الآب، رب السماء والأرض" (في انجيل الناصريين نقرأ: أشكرك: اوخارستو). يتوافق مت مع لو 10: 21 توافقاً تاماً. تُذكر السماء والأرض في 5: 17؛ 24: 35؛ 28: 18 (أي الكون كله). "اكسومولوغيو" (مع الضمير انت، أو الفعل وحده). رج تل 29: 35؛ 1 أخ 26: 34؛ 23: 30؛ 13:29؛ 2 أخ 13:5؛ 22:30، طو 13: 10؛ مز 17:7؛ 2:9. لا نحصر هذا الحمد في القول إن الرب أخفى وحيه عن الحكماء والفهماء، بل ننشده لأنه أعطى وحيه. من أجل المعرفة التي أعطاها للابن، من أجل الراحة التي يعطيها للعائشين على هامش الحياة. "أبّا"، أيها الآب. رج 9:6. نلاحظ أننا لا نجد أبدًا في الاناجيل القانونيّة لفظة "ابي" (أنا) يقولها يسوع للآب.
"ربّ السماء والارض". عبارة تذكّرنا بعمل الله في الخلق (تك 1: 1). نجدها ثلاث مرات في العهد الجديد. هنا، لو 10: 21؛ أع 7: 24، رج طو 7: 17، يه 129، وفي عدد من الاسفار المنحولة.
"أخفيتَ ذلك عن الحكماء وأصحاب الدهاء وكشفته للاطفال". أجل، جعل الله البسطاء ذوي حكمة (مز 7:19)، رج حك 10: 21 (لأن الحكمة تفتح فم الاخرس وتعطي الفصاحة لألسنة الاطفال)؛ دا 1:17 مع الفتيان الاربعة (نيانسكوي، ممتلئين حكمة)؟ سي 3: 19. نجد عبارة "الحكماء والعقلاء" في أش 29: 14؛ 1 كور 1: 19؛ رج أم 16: 21؛ دا 2: 21. قد يفكّر الانسان بحكمة أهل هذا الدهر. ولكن حكمتهم بعيدة عن الحكمة الحقّة. ونحن نجد في التوراة نظرة "محقّرة" إلى هؤلاء الحكماء (أي 13:5؛ أش 5: 21؛ إر 8:8؛ 23:9-24؛ 7:49؛ عو 8؛ با 3: 23، سي 37: 16- 26). في هذه الآية، فكّر يسوع (ومتّى في خطّه) بالكتبة والفريسيين بشكل خاص (كما يقول يوحنا الذهبيّ الفم). والأطفال هم الذين لا يعرفون الشريعة الشفهيّة. هذا ما يتوافق مع "باراديدومي": تقليد يسوع غير تقليد الكتبة والفريسيين. وفي أي حال، على العالم اليهوديّ أن يقاوم تجربة تجعل الإيمان مجهودًا عقليًا محفوظا "للكمّال".
"نيبيوس": الولد، الطفل (ع ل ه في العبرية). وقد أستعملت السبعينية اللفظة للحديث عن الابرار (مز 7:19؛ 6:115؛ 119: 130). رج "ف ت ي م" في عالم قمران (تفسير حبقوق 4:12؛ تفسير ناحوم 3: 1 ي؛ 3:4، 5، 7). الصغار هم ضعفاء وبسطاء في نظر العالم. ولكن الله اختارهم.
ارتكز 29:11 على أش 29: 14، وكذا فعل بولس في 1 كور 1:19: "حكمة حكمائه تضمحلّ، وعقل عقلائه يفنى". ولكن هذا القول معروف في النصوص اليهوديّة. فالوحي لا يصل إلى الجميع، بل فقط إلى الذين هيأوا نفوسهم ليتقبّلوه (تجرّد القلب، تجرّد الروح، المساكين، أي 28: 28؛ مز 25: 14). لهذا ترتبط المعرفة الدينيّة بالشخص، وهي تحمل بُعدًا أخلاقيًا. مثلُ هذه المعرفة لا تُمنح لأشخاص لامبالين، لمراقبين حياديين، لأشخاص لا يعطشون إلى الأمور السامية. فالأمور الروحيّة يميّزها الروحيّون فقط (1 كور 2: 14-15). ومحبّو الله وحدهم يستطيعون أن يعرفوه.
الوحي يُخفى بالضرورة عن علماء يبحثون عن نفوسهم، فتبقى أبواب الحكمة الحقيقيّة موصدة في وجوههم. فالعلم كالغنى ينفخ (1 كور 8: 1). أما البحث عن الله فيفترض التجرّد عن الكبرياء. وقد قال أوغسطينس عن الله: "إن كنت عرفته، فهذا يعني أنه ليس الله". فأمام الله، يجب أن يكون الانسان متواضع القلب ومتواضع العقل، على ما قال بولس: "أو لم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟ فإن كان العالم بحكمته لم يعرف الله في حكمة الله، حسُن لدى الله أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة" (1 كور 1: 20- 21).
وما معنى "ذلك"؟ (أخفيت ذلك). ما الذي يُخفى عن الحكماء والفهماء، ويُكشف المختارين؟ هنا، نعود الى لو 10: 17- 21 الذي هو السياق المباشر. ماذا نجد؟ سقوط الشيطان من السماء. سلطة التلاميذ بأن يدوسوا الحيّات والعقارب. تسجيل أسمائهم في السماء. أما في مت، فنتطلّع إلى أعمال يسوع (11: 2، 19) إلى معجزاته (11: 20- 21؛ رج 11: 5-6). هذا الجيل ومدن الجليل (11: 10-24) لم تفهم "ذلك"، تلك الأشياء. لأنهم لم يفهموا الوحي الذي أوصله يسوع بكلامه وأعماله. أما الاطفال فاكتشفوا وحدهم الحقيقة الكرستولوجيّة وهي أن الملكوت حاضر في يسوع. مثل هذه المعرفة هي اسكاتولوجيّة. ومضمونها يشبه "سرَّ ملكوت الله" (مر 4: 11 وز).
لقد رأينا أهمية أش 29 من أجل فهم مت 11. وإن 11: 25 سيستضيء في خلفيّة من الانتظار اليهودي لنهاية الأزمنة. مثلُ هذه النهاية ستعطي معرفة غير متوقّعة وحكمة للمختارين. وقد عبّر إر 31: 34 عن ذلك فقال: "لا يعلّم بعد كل واحد قريبه، وكلُّ واحد أخاه قائلاً: اعرف الرب، لأنهم جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب، لأني سأغفر أثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد". رج حب 2: 14 الذي قال: "لأن الأرض ستمتلىء من معرفة مجد الرب كما يغمر الماء البحار" (رج هو 6: 2-3 حسب السبعينيّة). غير أن عددًا كبيرًا من اليهود اعتقد أن الفداء الكبير سيُنادى به في وحي حول زمن مجيء المسيح، مع أسرار مخفيّة منذ إنشاء العالم (13: 35؛ رج مز 78: 2؛ تفسير حبقوق 7: 1-5؛ 11: 1-2؛ أخنوخ 93+ 91: 12- 17. في "رؤيا الاسابيع" جعل الكاتب نفسه في زمن خاص جدًا. ظنّ أن وقت الجحود صار قريبًا، فيعلّم الله المختارين وتنعم الجماعة بالحكمة الاسكاتولوجيّة). هذه الفكرة أساسيّة في الأدب الجلياني (رج 11: 25). غير أن الوحي ليس من أجل المستقبل، بل هو في الزمن الحاضر: فالمعرفة الاسكاتولوجيّة موجودة في يسوع الذي كشف في شخصه ورسالته عن أسرار نهاية الأزمنة (13: 16- 17). وقصارى القول، إن مت 11: 25-27 يُعلن تحقيقَ الرجاء الاسكاتولوجيّ.
"نعم يا أبت، هكذا حسن لديك" (آ 26). ق 1 كور 1:21، ولو 10: 21 هو قريب جداً من مت. إن هذه الآية تستعيد ما قيل في الآية السابقة. "اودوكيو". رج غل 1: 15-16؛ أف 1: 9.
ب- اعلان كرستولوجي (آ 27)
إن آ 27 توضح الابعاد الكرستولوجيّة كما في آ 25-26: إن الوحي للأطفال يمرّ عبر يسوع. نتذكّر في بعض النصوص الرؤيويّة عند اليهود، أن الوحي الاسكاتولوجيّ يحمله الملائكة (رج زك 4: 1 ي؛ دا 8: 15-26؛ 9: 22-27؛ 10: 18-12: 4؛ أخنوخ 1: 2؛ أع 7: 35). أعطيت الشريعة بواسطة الملائكة، (غل 3: 9؛ عب 2: 2؛ رؤ 7: 13-17؛ 17: 7-8). أما في المسيحية، فقد أعطيت في إنسان هو يسوع. هنا نتذكّر المدائح في قمران: "بي أنرت وجوه الكثيرين وأنميتهم، فصاروا لا يعدّون، وعرّفتني أسرارك العجيبة. وفي مجلسك العجيب أظهرت قدرتك لي وصنعت معجزات من أجل مجدك ولكي تعرّف جميع الأحياء إلى أعمال جبروتك" (4: 27-29).
كانت كنيسة متّى جماعة اسكاتولوجيّة مكرّسة للكمال المستند إلى معرفة مخطّط الله والعمل بالشريعة، كما في جماعة قمران. ولكن يسوع هو محور الكنيسة. وفي جماعة قمران المحور هو معلّم البرّ.
"دُفع إليّ كل شيء من الآب". ق لو 10: 22؛ ق مت 18:28؛ يو 35:3 (الآب يحب الابن ويجعل كل شيء في يده)؛ رج 3:13؛ 2:17. في انجيل توما 61: "أعطي لي مما هو لأبي". "كل شيء". رج "ذلك" في آ 25 (تث 18:18). تدلّ الأداة "ذلك" على كل وحي الله في يسوع، على كل الوحي الاسكاتولوجيّ، على كل الحقيقة في يسوع كما تطلّع إليها الأنبياء. هذا يعني أن الانجيل الأول يقدّم صورة عن أعمال يسوع وأقواله، ويحمل الوحي الاسكاتولوجيّ. كما ينقل المرء تقليدًا إلى آخر، هكذا سلّم الآب معرفته للابن. وهكذا يكون يسوع مثل سائر البشر. غير أن التقليد الذي تسلّمه قد تسلّمه من الله (عند المعلّمين هناك سلسلة إسنادات تصل إلى معلّم كبير). كان التقليد يقول إن موسى تسلّم الشريعة بواسطة الملائكة. أما يسوع فتسلّم الوحي كابن الله.
"وليس أحد يعرف الابن الا الآب، ولا أحد يعرف الآب الاّ الابن". ق يو 10: 15. هنا يتوازى نصّ لو أكثر من نصّ مت: "ليس أحد يعلم من الابن إلاّ الآب، ولا من الآب إلاّ الابن" (لو 11: 22). نحن هنا أمام معرفة تنطلق من خبرة. الآب يعرف الابن، يكرمه. وكذلك الابن. لا تُعرف طبيعةُ الآب الاّ بوحي الهيّ. وكذلك طبيعة الابن.
"ومن يريد الابن أن يكشف له". ق لو 10: 22. هذا ما يقوله المعين. إن المعرفة المتبادلة بين الآب والابن هي لخير البشر. فالابن يُنعم علينا، فيعرّفنا بما عرفه من الآب. رج يو 1: 18 (الله لم يرَه أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي عرّفنا به)؛ 14: 9. قال يسوع: "من رآني رأى الآب". وقالت أوريجانس: "إن يسوع يكشف الآب إذ يصبح فيه مفهومًا. فمن فهمه فهم الآب أيضًا" (المبادئ 1/ 2: 6).
في خر 33: 12-13، الله يعرّف موسى باسمه. وموسى يصلي لكي يعرف الله. قال موسى للرب: "ها قد قلتَ لي: خذ هذا الشعب، ولم تعرّفني من ترسل معي. وأنت قد قلتَ: إني عرفتك باسمك وحصلتَ على نعمة حين رأيتني. والآن أصلّي إليك إن كنت قد حُزت رضاك. أرني طرقك لكي أعرفك وأجد حظوة في نظرك" (هذا بحسب السبعينيّة). نحن هنا كما في مت 25:11-30، أمام معرفة متبادلة (أن أرى الله ويراني كما قال فيلون الاسكندرانيّ). قد يقال أن العالم اليهودي القديم، استبعد هذه المعرفة المتبادلة. ولكن ذلك ضمنيّ في النصّ (7:33- 11، 17-23). وإن تث 34: 10 قال: "لم يقم في اسرائيل نبيّ مثل موسى الذي عرفه الله وجهاً إلى وجه". فعبارة "وجهًا إلى وجه" تدلّ على معرفة متبادلة بعد أن كشف الله عن نفسه لموسى. لسنا هنا كما في علاقة بين الملك وعبيده الذين ينحنون أمامه احترامًا ويلامس وجههم الأرض. بل في علاقة حميمة مع الاله الذي التقى به موسى. وهذه الخبرة لم يحصل عليها إلاّ موسى.
أجل إن مت 11: 25-30 يرتبط بما في خر 33: 12-13. ونقدّم أربعة اعتبارات. (1) يتبع النصين وعد بالراحة. قال خر 33: 14: "وجهي يسير أمامك وأريحك". وقال مت 11: 28: "تعالوا إليّ وأنا أريحكم". (2) إن مت 11: 28 وخر 33: 12-13 هما صلاة. في الأولى يصلّي موسى. وفي الثانية يسوع. موسى طلب أن يعرف، أما يسوع فيعرف. (3) ما نقرأ في مت 27:11 هو خاص جدًا: وحده الآب يعرف الابن، ووحده الابن يعرف الآب. في خر 33، تُذكر معرفةُ الله لموسى قبل معرفة موسى لله. "انت قلت: عرفتك باسمك. والآن أنا أصلي: أرني طرقك بحيث أعرفك". وهذا ما يفسّر الترتيب في مت. معرفة الآب للابن ثم معرفة الابن للآب. (4) في مت 11: 29 نجد كلاماً عن يسوع "الوديع". وفي العالم اليهوديّ كان موسى مثال الوداعة. فحين أعلن يسوع أنه الوديع، أخذ صفة عُرف بها موسى.
ج- نداء من يسوع (آ 28-30)
"تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين وأنا أريحكم" (آ 28). قال أوغسطينس: "المسيح هو السبت الحقيقيّ" (سبت أي استراح). ق تك 8: 9؛ سي 24: 19 (قالت الحكمة: تعالوا إليّ). يوسيفوس، العاديّات 3: 61 (موسى أراح الشعب بضعة أيام). بستيس سوفيا (الايمان الحكمة) 95 (أنتم يا جميع المثقلين بحملكم تعالوا إليّ وأنا أريحكم، لأن حملي سهل ونيري خفيف).
من هم المتعبون (رج 1: 28) والمثقلون (فورتيزو)؟ تقول العظة الاقليمية المزعومة: "هؤلاء الذين يطلبون الحقيقة ولا يجدونها". ونجد أيضًا ثلاث إمكانيات. (1) هؤلاء الذين يتألّمون من أثقال يضعها عليهم الفريسيّيون (4:23). (2) هؤلاء الذين يتألّمون ممّا تفرضه عليهم حالة التلمذة (رج 10: 36-39). (3) هؤلاء الذين يتألّمون من ثقل الخطيئة (يوحنا فم الذهب، اوسابيوس). نستطيع القول إن نير المسيح وحده يعطي الراحة الحقيقيّة. والذين لا يأتون إلى يسوع، يُحرمون من الراحة، يكونون من المتعبين والمثقلين.
ما معنى: "وأنا أريحكم"؟ رج خر 33: 14 وما في العالم الحكميّ (سي 6: 28؛ 51: 27) من كلام عن الراحة. والعهد المسيحاني يكون عهد الراحة، ويُعتبر سبتًا عظيمًا (عب 4: 9). وفي الاسكاتولوجيا اليهوديّة، النهاية هي كالبداية، والخليقة الأولى هي كالخليقة الاخيرة. بعد الخلق الاول استراح الله (تك 2: 2). وكذلك بعد الخلق الثاني. نقرأ في عب 4: 1-3: "من آمن دخل في الراحة". فحضور الملكوت يعني حضور الراحة. وتحدّثت رسالة اكلمنضوس الثانية عن راحة (اناباوسيس) الملكوت. كان مت قريبًا من عب 4: 3 فقال: يسوع هو المسيح، والآتي بالملكوت. يقدّم الراحة الاسكاتولوجيّة للذين انضمّوا إليه وإلى قضيّته. وهذه الراحة ليست بطالة وكسلاً، بل سلام واكتفاء، وملء الحياة الذي يأتي مع المعرفة ويصنع الحقيقة كما أوحاها ابن الله الذي هو دومًا مع شعبه. ما يسند تفسيرنا هو السياق الواسع. فإن آ 27 تأتي في نهاية ف 11 الذي مضمونه اسكاتولوجي ساعة يسبقه بشكل مباشر جدال حول السبت (12: 1-4). وفي عبارة أخرى، إن سياق آ 27، يشجّعنا على أن نرى هذه الراحة في إطار السبت الاسكاتولوجي.
"إحملوا نيري عليكم" (آ 29). صيغة الأمر تقابل النداء: "تعالوا إليّ" والوعد الذي يرتبط بالفعلين هو هو: الراحة. النير هو ما يوضع على رقبة بقرتين تسيران معاً. هذه اللفظة هي استعارة تدلّ على الطاعة والخضوع والعبوديّة. رج إر 5: 5 (نير الشريعة)؛ سي 6: 30 حسب العبري (نير الحكمة)؛ 51: 26 (نير الحكمة)؛ مز سليمان 7: 9؛ 17: 30 (نير المسيح)؛ أع 15: 10 (نير الشريعة)؛ غل 5: 1 (الشريعة)؛ الديداكيه (تعليم يسوع). وقد تحدث معلّمو اليهود بشكل عام عن نير الشريعة (ع و ل. ت و ر ه) ونير الوصايا (ع و ل. م ص و ت). ولكن ليس من يهودي قال: احملوا نيري (أنا). وهذا ما فعله يسوع، فهو لا يلعب فقط جزءًا من دور الحكمة، بل يلعب ايضًا جزءًا من دور الشريعة.
إنه الحكمة. إنه الشريعة (تتماهى الحكمة مع الشريعة في با 3: 49، 37؛ 4: 1؛ سي 24: 3-25). ولا ننسى أن التوراة في العالم اليهودي هي ما عرّف الله به عن طبعه وطبيعته ومقاصده، وما يريد من الانسان أن يفعل. هي ملء وحي الله وإرادته في الانسان. وهكذا عندما يتماهى يسوع مع التوراة، يصبح ملء وحي الله وإرادته. ولكن هذا ما سبق وقالته آ 27 حين أعلن الابن أنه يعرف الآب وأنه تسلّم ملء وحيه. وهكذا يكون يسوع في آ 27، 29 (وهو يتعارض مع موسى) التجسيد الكامل لقصد الله وما تطلبه الشريعة. فمعطي الشريعة والشريعة هما واحد (وهكذا يكون يسوع أسمى من موسى: موسى أعطي الشريعةُ، يسوع أعطى الشريعةَ. موسى أعطى شريعة الله لاسرائيل. يسوع أعطى شريعته الخاصة، رج 7: 24).
"وكونوا لي تلاميذ (تعلّموا مني) لاني وديع ومتواضع القلب". ق 2 كور 10: 1 عن وداعة المسيح وحلمه. يبدو هذا الكلام في شكل متوازٍ
28 آ- تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين
28 ب- وأنا أهب لكم الراحة
29 آ- احملوا (خذوا، لا أحد يفرضه عليكم) نيري عليكم
29 د- تجدوا الراحة لنفوسكم
30 آ- لان نيري ليّن
30 ب- وحملي خفيف.
نجد هنا فعل "تعلّم" (منتانو، 3 في مت، مرة واحدة في مر، ولا مرة في لو). وديع (براوس). "في القلب" (إن تي كرديا، 8 مرات في مت، مرة واحدة في مر، 5 في لو).
تعلّموا مني. يتعلّم الحكماءُ التوراة. أما التلميذ فسيتعلّم من يسوع. "يدرس" فيه كما في كتاب. يتأمّل في أقواله وفي أفعاله.
"فتجدوا الراحة لنفوسكم". ق إر 6: 16؛ ق تك 8: 9؛ أش 28: 12. يبدو أن نصّ مت قريب من السبعينيّة لا من النصّ الماسوريّ. نشير إلى أن لفظة "نفوسكم" لا تقابل "أجسادكم"، وكأن الراحة هي فقط راحة النفس لا راحة الجسد. نستطيع القول: الراحة لكم، لحياتكم الروحيّة والماديّة، لملء الراحة.
"نيري ليّن وحملي خفيف" (آ 30) نحن هنا أمام مفارقة: أي نير هو مريح، أي حمل هو خفيف؟ تحدّثت رسالة اكلمنضوس الأول (16) عن "نير نعمته" لا تجاه تعليم يسوع، بل تجاه تواضعه ولعبه دور عبد الله المتألم. "ليّن" (خراستوس، يرد مرة واحدة في مت). "الحمل" (فورتيون). رج 23: 14. وهناك الفعل "فورتيزو". رج خر 1: 11؛ 2: 11 والأحمال التي يضعها المصريون على بني اسرائيل. "خفيف" (الفروس). يرد هنا وفي 2 كور 17:4.
كان اليهوديّ التقيّ يجد الوصايا غير ثقيلة ومحرّرة (تث 30: 11). هكذا يقول تلميذ يسوع. نقرأ في 1 يو 5: 3: "ووصاياه ليست بثقيلة". ق يو 1: 17: "أعطيت الشريعة بموسى، أما بيسوع المسيح فالنعمة والحق".
إن آ 30 تشرح لنا وعد الراحة في آ 28-29، ولكنها لا تقول لنا لماذا نير يسوع ليّن، وكيف يكون حمله خفيفاً. هناك عدة احتمالات. (1) محبّة الله والقريب (43:5-44؛ 19: 19؛ 37:22) تجعل حفظ الوصايا أسهل. ق تك 29: 20 (خدم يعقوب سبع سنين من أجل راحيل، فبدت له بضعة أيّام لأنه كان يحبّها). (2) نير يسوع هو ليّن وسهل، لأن يسوع يعمل من أجل الخطأة، لأن حمل يسوع لا يرخي الانسان في مجهوده الخاص، بل يجعله في رفقة من هو وديع. (3) الثقيل هو تقليد الفريسيين الشفهيّ. بما أن التلاميذ تحرّروا منه، صار حملهم ثقيلاً. (4) من يُتمّ طلبَ يسوع، فهو ينال جزاءه في المستقبل وهذا ما يخفّف ثقلَ الحاضر. "العبوديّة" لكلمة يسوع في هذا العالم تحمل كنزًا للعالم الآتي، والتألّم في الزمن الحاضر لا يُقابل بالمجد الآتي. (5) نير يسوع ليّن لأنه يمكّننا من أن نعرف الراحة الاسكاتولوجيّة في قلب العمل المخيف. هذا هو معنى الفرح في الاضطهاد (5: 10-12). (6) هذا الكلام هو صوت الخبرة. قد يكون عمل يسوع ثقيلاً للذين لم يجّربوا العيش معه (ق سي 6: 10). عش تعرف الحقيقة. من غير "العبد" يستطيع أن يعلن: "الخدمة هي كمال الحريّة".
في انجيل توما 90، قال يسوع: "تعالوا اليّ لأن نيري ليّن وحملي خفيف، فتجدوا الراحة لنفوسكم". أخذ النصّ من مت.
وهناك من قابل مت 11: 25-30 مع سي 51: 23-27 حيث نقرأ: "أدنوا منيّ أيها الغير المتأدّبون، وامكثوا في بيت التأديب (في مدرستي). لماذا تقولون: تنقصنا هذه الاشياء؟ ولماذا نفوسكم ظامئة؟ فتحتُ فمي وتكلّمتُ. خذوا هذه لكم ولا تدفعوا ثمنًا. إجعلوا رقابكم تحت النير، ودعوا نفوسكم تقبل التعليم الذي تجدونه قريبًا. أنظروا بعيونكم وقولوا: تعبتُ قليلاً ووجدتُ لنفسي راحةً كبيرة".
هذا الكلام الذي يعود إلى الرب، قد عبّرت عنه كنيسة مت في ليتورجيتها، وقدّمته لنا نشيدًا يُتلى في سرّ العماد أو الافخارستيا. من يتتلمذ ليسوع يعرف أنه يسير وراء من يحمل صليبنا معنا ويملأ قلوبنا فرحًا رغم الشدّة التي قد نمرّ بها.

4- قراءة إجمالية
يسوع يكشف الآب للصغار (آ 25-27)
"في ذلك الوقت" (كايروس، غير كرونوس الذي هو الوقت الذي تعدّه الساعة). ليس لهذه اللفظة قيمة كرونولوجيّة او طوبوغرافيّة، بل لاهوتيّة. فهي تربط آ 25 مع آ 20-24. إن كانت مدينة يسوع قد رفضته (هي كفرناحوم)، فالصغار (نيبيوي) يرافقون الوثنيين (صور، صيدا) لكي يتقبّلوه. فمدن الجليل التي كانت مركز المدارس الرابينيّة والثقافة الدينيّة، لاسيّما بعد سقوط أورشليم سنة 70 ب م، رفضت أن تتعرّف إليه (والتلمود الذي سيكتب فيما بعد هو أكبر شاهد على ذلك). أما البسطاء فعرفوه.
حمد يسوعُ الله الآب لأنه فشل لا في المطلق، بل مع الحكماء والعقلاء. هذا لا يعني أنه يفضّل صغار القوم على "النخبة" ويتعاطف معهم. ولكنه يرى أن هذا الفشل (والنجاح الذي يرافقه) يقابل جوهر العمل الذي يتمّه في خدمة الآب وفي خدمة البشر: هو يريد أن يخلّص المساكين بعد أن أهملهم الأقوياء. ذاك هو معنى الفعل "اكسومولوغيو" الذي يجعله مت ولو على فم يسوع. هو يعود إلى العهد القديم ويعني: أعلن الله من أجل عمل الخلاص، اعترف (هـ ل ل، رج مز 6:6؛ 18:7؛ 5:18...).
إن الطريقة التي بها كلّم يسوع أباه هنا، هي طريقة اليهود في فلسطين، مع لهجة لا مثيل لها من الخضوع البنويّ الذي يدلّ على الحياة الحميمة بين الابن وأبيه. وهنا نجد التعارض بين "أخفى" و"كشف" الذي هو مفتاح ف 11 كله. الفاعل هو الله، لا الانسان. وستشدّد آ 26 على أن الايمان واللا إيمان اللذين يواجهان يسوع، ليسا صدفة وعرضاً، ليسا نتيجة مجهوده السلبي أو الايجابيّ. فرضى الله ومسرّته هما اللذان يُشرفان على نشاط يسوع كله.
الآب أخفى "ذلك". هو ما أخفى وجهات خاصة، وجهات سامية وعميقة، من نشاط يسوع وخدمته، بل المدلول الاجماليّ لعمل الوحي. وهؤلاء "الحكماء" و "العقلاء" هم الاشخاص الذين تحدّثنا عنهم في المقطوعات السابقة: المتعلّمون، الاخصّائيون، السلطات في المجال الدينيّ (أش 29: 14= 1 كور 1: 19). أما "الصغار" فهم "المساكين"، "مساكين الروح"، كما في التطويبات (مز 19: 8؛ 116: 6؛ مت 5: 3؛ 18: 3). صغار القوم هم "الخطأة" العائشون في الريف وموضوع احتقار الفرّيسيّين الذين انصبّ اهتمامهم على معرفة (مادية وعقلية) التوراة معرفة كاملة مع التقاليد الرابينيّة.
لقد دفع الآب إلى الابن كل شيء. سلّمه كل شيء. وهكذا كان ليسوع سلطان سيجابه بواسطته سلطة الكتبة والفريسيين. وفي أيام متّى، سلطة المعلّمين. هو "الابن" (هيوس). الابن الوحيد. الابن الحبيب. يمثّل أباه على الأرض ويعمل دومًا مشيئته كأنها "خدمة". هذه النظرة تشرف على مثل الكرّامين القتلة (21: 33- 44 وخصوصاً آ 37؛ رج 24: 36؛ 28: 19؛ ق 17:3؛ 17: 5 مع مز 7:2؛ 3:4؛ 9:8؛ 14: 33؛ 16: 16؛ 43:27). إن هذه النظرة إلى الابن لا تشدّد على القرابة الجوهريّة بين الآب والابن بقدر ما تشدّد على سلطة الآب والابن في طبيعتها التاريخية الملموسة. ونحن نقرّبها من فكرة ابن الانسان كما تظهر في دا 7 وتتوضّح في مت 25: 31-46.
هذه الألفاظ اليهوديّة المرتبطة بالعالم الجليانيّ تفسّر وجود لفظة "كشف" (ابوكلبساي). فكما أن الله يكشف عن ابنه للبشر (16، 17). فالابن وحده يستطيع أن يكشف الآب للبشر. هو لا يحمل إليهم أفكاراً جديدة عن الله أو تقنيّات خاصّة للبلوغ الى الله. فالابن يكشف عن أبيه بكل نشاطه (من رآني رأى الآب. إذن يكفي أن نرى يسوع لنعرف الله). وإذ دشّن على الأرض ملكوت أبيه، كشفت معجزاتُه عن سلطته تجاه البشر (المرضى، الخطأة، الفريسيون القساة القلوب). وفي الوقت عينه كشفت هذه المعجزات عن مشيئة الله وقصده تجاه البشر. فطابع ملكوت الله الأبدي ظهر في أعمال الابن من خلال رسالته على الأرض.
ب- يسوع يقدّم نيره للتلاميذ (آ 28- 30)
كان الحكماء في اسرائيل يحيلون الناس إلى الحكمة. أما الرابينيون فكانوا يقدّمون نير التوراة، نير ملكوت السماوات والله والقدوس، نير الوصايا. أما المسيح في مت، فدعا البشر إلى التعلّق بشخصه (بروس مي، تعالوا إليّ). فجميع الوسطاء بين الله والإنسان، وقد كانوا عديدين في الفكر اليهوديّ المتأخّر، التهمهم حضورُ يسوع على الأرض. ما عادوا موجودين من أجل ذاتهم. صاروا مقدمة له.
أرسل يسوع نداء ملحًا إلى الفرح. نداء يدعونا فيه لكي نقطع الرباطات بمعلّمين آخرين ونتعلّق به وحده. والمتعبون هم الذين يشقون ويرون نفوسهم تضعف يوماً بعد يوم. والمثقلون هم الذين وُضعت عليهم الاحمال الثقيلة وكأنهم بهيمة من البهائم (لو 46:10). لا نجد الفعل إلاّ هنا. أما الاسم فنجده في آ 30؛ رج 4:23؛ لو 11: 46؛ أع 27: 10؛ غل 6: 5. ما هو التعب الذي يلمّح إليه النصّ؟ قالوا: أتعاب الحياة. وقالوا: فرائض الفريسيين. بل نحن بالاحرى أمام الشريعانيّة اليهوديّة التي جعلت الناس سجناء وعبيدًا يعيشون في الخوف. عند ذاك انتصب يسوع ضد "ديانة" عصره التي تفرض نظامًا قاسيًا على الناس دون أن تمنحهم فرح الخلاص. لهذا جاء فعل "أراح" (رؤ 6: 11؛ 14: 13؛ مت 43:12) كما في العالم الجليانيّ. ففي الملكوت يستطيع المؤمنون أخيرًا أن يرتاحوا من دموعهم وأتعابهم. وتصبح هذه الراحة الاسكاتولوجيّة واقعًا حاضرًا بالنسبة إلى الذين يتعلّقون بيسوع.
هل يعني هذا الكلام أن يسوع جاء ليحرّر البشر من كل فريضة أخلاقيّة؟ كلا. بل أحلّ محلّ متطلّبات الشريعة اليهوديّة، متطلّباته الخاصة التي هي أكثر جدّية وأكثر جذريّة (رج ف 5-7) من متطلّبات الشريعة الموسويّة. غير أن المعلّم الذي يقدّم هذه "الفرائض" يختلف كل الاختلاف عن الرابينيين. فهو وديع ومتواضع القلب. وقبل أن يُخضع الانسانَ لشريعة، وإن متجدّدة، فهو يمنحه فرح الملكوت الذي يبشّر بالرحمة. حين يأخذ الانسان "نيراً"، فهو يدلّ على أنه ألزم نفسه كلها في الطاعة للرب كما العبد في عمله. وحين نأخذ نير يسوع، نتعلّق به، نتبعه، نتعلّم، نتتلمذ على يده. وهكذا نتعلّم في مدرسته البُعد الحقيقيّ للشريعة. وهو وحده يستطيع أن يجعل من هذه الشريعة حملاً خفيفًا.
ويرينا الانجيل كله في يسوع ذاك الخادم (عبد الله) المتواضع أمام الله، الوديع أمام البشر، والمتميّز عن علماء الأخلاق. وهذه الوداعة هي سمة من سمات المسيح المنتظر (زك 9:9 ي؛ مت 5: 11؛ مز 37: 11) التي نساها العالم اليهوديّ. هذه الوداعة هي التي تعطي الراحة في عودة إلى الله وفي أمانة جديدة لشريعته التي لا يمكن أن تكون إلاّ شريعة المحبّة. وهذه الأمانة قد جعلها يسوع ممكنة بفضل حياته وتعليمه. يكفي أن ننظر إليه، يكفي أن نسمع كلامه، يكفي أن نرافقه في حياته، لكي نفهم أن نيره ليّن وحمله خفيف.

خاتمة
وهكذا بدت لنا آ 25-30 إجمالة لتعليم يسوع كلّه. ففي هذا المقطع أوحى يسوع أنه الموحي. هذا يعني أنه حين كشف عن نفسه أنه ابن الآب الوديع "المتواضع"، أتمّ دعوة إسرائيل، وجسّد في شخصه الشريعة والحكمة، وهكذا عرّفنا بإرادة الله الكاملة.
هنا نتذكّر النمطيّة التي توسّع فيها مت 1: 1-8: 1. فظروف ولادة يسوع وحياته الخفيّة تشبه إلى حدّ بعيد ظروف حياة موسى. والمعمودية والتجربة تشيران إلى عبور البحر الأحمر والمسيرة في البرّية. والجبل الذي عليه ألقى يسوع عظة الجبل يشبه جبل سيناء. ومرمى كل هذه التوازيات يرتبط أول ما يرتبط بالاسكاتولوجيا. فكما كان في البداية، كذلك سيكون في النهاية. ولهذا فالكنيسة التي هي شعب الله الاسكاتولوجيّ قد حملت أسماء تعود إلى الشريعة.
وهكذا ارتبط شعب العهد الجديد بشعب العهد القديم في مت مع ثلاثة أقوال: الوحي الجديد يشبه الوحي القديم. الوحي الجديد لا يتعارض مع الوحي القديم. العهد الجديد يتجاوز العهد القديم بقدر ما يسوع ابن الله يتجاوز موسى الذي هو خادم في بيت الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM