الفصل السابع والعشرون:حول موت يسوع

الفصل السابع والعشرون

حول موت يسوع
27: 32-56

إن المقطع الذي نقرأه في 27: 32-56 يشمل مجموعة متعدّدة العناصر، يرتبط تماسكها بشكل رئيسيّ، بوحدة المكان: في الطريق إلى الجلجلة، على الجلجلة. هناك اشارات دلّت على طريقة مرقس في ترتيب انجيله (مر 15: 20ب-41) مع تدرّج في ألقاب يسوع من ملك اليهود إلى ملك اسرائيل إلى ابن الله. هذا الترتيب قد تركه مت، لأن لقب ابن الله قد ورد على ألسنة المارين (27: 40) فسبق اعتراف قائد المئة (27: 54).
مقابل هذا، سيطر موضوع الصليب في آ 32-44 حيث نقرأ الاسم ثلاث مرات (آ 32، 40، 42) والفعل ((صلب)) ثلاث مرات أيضًا (آ 35، 38، 44). وبعد هذا لن نعود نجد هذا الموضوع. ولكن يجب أن نلاحظ بشكل خاصّ علامة القطع في آ 45. فإن مت الذي أحلّ محلّ الاشارة الزمانية كما نجدها في مر 15: 25 (الساعة الثالثة لما صلبوه)، تفصيلاً من نوع آخر (27: 36 جلسوا هناك يحرسونه)،حافظ على الأشارة الزمانية الثانية (27: 45؛ رج مر 15: 33) ليجعلها بداية احتفالية لمشهد مأساوي. هذه الاشارة هي إطار لمشهد مركزُه موت يسوع(27: 50)، وهو يشكّل ذروة خبر الحاش.
هناك قسم أول (27: 32-44) ينقسم بدوره إلى ثلاثة عناصر: بعد انتقالة مكانية (خرجوا) وأدبية يشكّلها دربُ الصليب (آ 32)، نميّز سلسلة من الأحداث تحيط بصلب يسوع (آ 33-38). ثم يأتي حدث موزَّع توزيعًا واضحًا في ثلاث محطات، حدث الهزء بيسوع (آ 39-44). ويرسم ذكرُ رفيقي الصلب (آ 38، 44، كما في مر 15: 27، 32ب) الخطّ الذي يفصل القسم الثاني عن القسم الثالث.
1- درب الصليب (27: 32)
إن صورة المسيرة التي تقود يسوع من دار الولاية إلى الجلجثة (الجلجلة) تبدو واضحة جدًا عند مت. هي تبدو في سلسلة من جمل متلاحقة تبدأ مع واو العطف (كاي) وصيغة الحاضر في الغائب الجمع: نزعوا... ألبسوا. خرجوا... سخّروا (رج مر 15: 20ب). وهكذا يكون درب الصليب (مر 15: 21) المحطّة الثانية في عمليّة تبدأ مع الخروج من دار الولاية. أما في مت، فالفصل أوضح وآ 32 تدلّ دلالة واضحة على بداية جديدة. إن فعل ((ابيغاغون)) في 27: 31ب يشكّل وقفة (كما قلنا) لأنه يقع في نهاية سلسلة من ثلاثة استعمالات تقسم خبر المحاكمة بحصر المعنى. وبدل جمل مرتبطة بحرف العطف (كاي) (15: 21)، نجد عبارة تبدأ باسم الفاعل (فيما هم خارجون) وتصل إلى مقطع من نوع آخر.
في الواقع، وعلى المستوى الادبي، نحن بالأحرى أمام انتقالة تحاول أن تملأ الفجوة الطوبوغرافيّة بين دار الولاية وموضع الصلب، وتبني جسرًا بين فعلين يرتبطان بذات الفاعل لأفعال هذه الآية: إن الجنود الذين ((اقتادوا)) يسوع خارج دار الولاية (آ 31ب) والذين بعد ذلك وصلوا (التونتس، اسم الفاعل) إلى الجلجلة، هم ذاتهم الذين خرجوا (اكسارخومانوي) من دار الولاية ونظّموا حمل الصليب.
رسم مت هذه المحطات الثلاث معيدًا بناء هذا الحدث القصير. بدأ مر فجأة في الحديث عن تسخير سمعان القيريني. أما مت فهيّأ ((التسخير)). قال: عند خروجهم من دار الولاية، التقى الجنود بسمعان (يختلف تقديم مت عن تقديم مر: رجلاً اسمه سمعان). اكتفى مت بفعل ((هورون)) ليدلّ على طابع الصدفة في هذا ((اللقاء)). التقوا بسمعان، ثم سخّروه ليحمل صليب يسوع. وهكذا ترتّبت الأمور بشكل منطقيّ. والرمزيّة التي وجدناها في عمل القيرينيّ حين قرأنا مر، هي ذاتها التي نجدها في مت (10: 38؛ 16: 24).

2 - الصلب (27: 33-38)
حين صوّر مت الوصول إلى الجلجلة (آ 33)، تبع مر مع بعض التصحيحات (15: 22). ولكنه ابتعد عنه حين تحدّث عن الشراب الذي قدّمه الجنود ليسوع (آ 34). كان هدف الشراب أن يخفّف من ألم الانسان (15: 23). أما في مت فبدا شرابًا رديئًا هدفه أن يزيد آلام المصلوب آلامًا. ((ذاق ،ولم يُرد أن يشرب)).
نجد أصل هذا التبديل في التوراة. حين كتب متّى أنهم ((أعطوه خمرًا ممزوجة بمرارة ليشرب)) (زاد مت مرتين فعل ((شرب)) بياين، على نص مر)، أبرز الحدث بواسطة مز 69: 22. هذا المقطع من المزمور قد أشار إليه مر 15: 36 وتبعه مت 27: 48 في فعلة الجندي الذي أعطى يسوع ((الخلّ)) ليشرب. تفرّد مت فاحتفظ بالاية الأولى من المزمور التي تقول حسب السبعينيّة: ((أعطوني المرارة شرابًا)). في اليونانية: خولي. في العبرية ((راش)). تدلّ اللفظة عل نبتة فيها السمّ وفيها المرّ. تدلّ على ((السمّ)) (إر 8: 14؛ 9: 14؛ 23: 15: مياه مسمومة). رافق ((راش)) (( ل ع ن ه)) (الافسنتين) في تث 29: 17؛ إر 9: 14؛ 23: 15؛ عا 6: 12؛ مرا 3: 19. في معنى مرارة، رج مرا 3: 5 : ((حاصرني وأحاطني بمرارة ومشقّة)).
اعتُبر هذا النص نبوءة مسيحانية، فجلب إليه الخبر. ولكي يتحقّق الخبر في النبوءة، ترك مت نسخة مر التي تقول إن يسوع رفض رفضًا قاطعًا أن يشرب (15: 23ب: اوك الابون: لم يأخذ). أما عند مت، فقبل أن يدلّ يسوع على عدم قبوله، ((ذاق)) الشراب الذي يقدَّم له. لماذا رفض يسوع الشراب الذي يقدّم له؟ في مر، التراب هو نوع من بنج يسيء إلى وعي المصلوب. فيسوع حافظ على كرامته إلى النهاية. أما مت فقد شاء أن تتمّ النبوءة، فوجب عليه أن يترك يسوع يأخذ أقله جرعة من هذا السمّ الشنيع!
أشار مر 15: 24-25 إلى صلب يسوع مرتين وفي شكل بسيط. وأشار إليه مت فخفّف من هذا الواقع الأليم: ذكر الصلب مرة واحدة وجعل الفعل في صيغة اسم الفاعل ((وبعدما صلبوه)) (آ 35). ونصل بسرعة إلى أي شيء آخر هو تتمة المقطع المسيحاني المأخوذ من المزامير: إقتسام الثياب بالقرعة كما يقول مز 22: 19. اكتفى مت هنا باتّباع المصدر الذي أخذ منه.
ولكنه ترك هذا المصدر في آ 36 ليُحلّ محلّ الإشارة الزمانية (مر 15: 25: الساعة الثالثة، أي التاسعة صباحًا) لوحةً تدلّ على الجنود الذين يحرسون يسوع وهم جالسون. نشير هنا إلى أن فعل ((تيراين)) الذي يعني في مت 19: 17؛ 23: 3؛ 28: 2 حفظ الوصايا أو الفرائض، يعني في 27: 36، 54؛ 28: 4 ((حرس)) القبر. احتفظ مر 7: 9 بالمعنى الأوّل. في 27: 39، شدّد مت على أن الجنود بدأوا حراستهم منذ صلب يسوع. إن الظرف المكاني ((إكاي)) (هناك) لا يجد له ما يوازيه هنا، ولا في مشهد النسوة اللواتي ينظرن من بعيد إلى موت يسوع (27: 55: وكان هناك. ق مر 15: 40)، ولا في مشهدهن حين ((جلسن تجاه القبر)) (27: 61: وكانت هناك. ق مر 15: 47). إن لفظة ((إكاي)) مستعملة مرارًا عند مت: 29 مرة، عند مر: 11؛ عند لو: 16 مرة.
بدّل مت نص مر في آ 36، لا لأنه لا يهتمّ بالكرونولوجيا المرقسية في خبر الحاش، فهو سيستعيد فيما بعد (27: 45-46) ((الساعة السادسة)) (أي الظهر)، كما أوردها سابقه (15: 33-34). غير أن مر أجبر على ذكر الصلب مرة ثانية ليحدّد الساعة (كانت الساعة الثالثة لما صلبوه). أما مت فأشار إلى الصلب بشكل سريع، كما قلنا، وما أراد أن يتبع مر هنا، فجعل حاشية صغيرة لها معناها. لماذا؟
إذا أردنا أن نعرف السبب الذي دفعه ليجعل هذا التفصيل الخاص هنا، نعود إلى حالتين مشابهتين في خبر الحاش تدلاّننا على أشخاص جالسين (هذا ما لا نجده عند مر)، أشخاص ينظرون مطوّلاً إلى أويقات جوهريّة في الدراما التي تجري أمامهم. هذا ما كان من أمر بطرس الذي ((جلس)) في الرواق. إنه يتأمّل محاكمة يسوع مطوّلاً (26: 69). وهكذا ((جلس)) الحرّاس يتأمّلون هنا وسيهتف قائدهم باسمهم (27: 54. كما سيفعل بطرس باسم سائر الرسل). بل سيهتفون معًا: ((في الحقيقة كان هذا ابن الله)). و ((جلست)) النسوة عند القبر وطال جلوسهنّ، وكنّ ينظرنّ نظرة التأمّل إلى القبر (27: 61).
وفي ما يخصّ الجنود الذين يحرسون يسوع بعد أن صلبوه، نجد علاقة أخرى يوحيها تفصيل آخر خاص بالانجيل الأول: في 27: 54. هنا اختلف مت عن مر 15: 39. فقائد المئة على الجلجلة ليس وحده في الاعتراف بيسوع على أنه ابن الله. قال مر: ((ولما رآه قائد المئة، القائم بإزائه (كأني به وحده) يُسلم الروح هكذا، قال: في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله)). أما مت فقال: ((أما قائد المئة، ومن معه من حرّاس يسوع (ليس وحده، بل إن الحرّاس يشاركونه في فعل إيمانه)، فلما رأوا الزلزلة (التي تدلّ على حضور الله) وما جرى، خافوا جدًا (خوف مقدّس بحضرة الله) وقالوا (مع قائد المئة، قالوا كلهم): في الحقيقةكان هذا ابن الله)).
أجل، إن الجنود الذين يحرسون يسوع قد انضموا إلى قائدهم ليعبّروا عن تعلّق الايمان نفسه. وحضورهم هنا في 27: 36 يُعدّ الطريق لفعل إيمان يجعل منهم باكورة كنيسة الوثنيين، التي يرسل يسوع تلاميذه لكي يؤسّسوها (28: 19). وسيكون لنا أن نرى التعارض بين موقف اليهود وموقف الوثنيين أمام صليب يسوع: أما اليهود فسيجدّفون عليه ويهزّون رؤوسهم: ((إن كنت ابن الله فانزل إذن عن الصليب)) (27: 39-40).
وروى مت (آ 37) كيف وُضعت لوحةٌ تدلّ على علّة الحكم على يسوع. استعاد ما كتبه مر 15: 26 ورتّبه وقدّمه بشكل احتفالي. كتب مر: ((وكانت علّة الحكم عليه)). أما مت فأبرز ما فعل الجنود: ((وضعوا فوق رأسه علة الحكم عليه)). أجل، اكتفى مر بوضع اللوحة على الصليب. هذا ما يذكّرنا أيضًا بما فعله مت 27: 29 الذي صوّر عمل هؤلاء الجنود أنفسهم الذين يسخرون من يسوع فيضعون على رأسه اكليل الشوك، والتاج الملوكي. إنهم لم يعوا أنهم يكرمون ضحيّتهم في السرّ (سلام، يا ملك اليهود) بانتظار أن يكرّموها في العلن: جعلوا اللقب الشرعي: ملك اليهود. وكان كلام مت احتفاليًا فوسّع الكتابة: ((هذا يسوع، ملك اليهود)) (في مر 15: 25: ملك اليهود). هكذا اعتاد مت أن يذكر اسم يسوع مرارًا، وهو أمر ألمعنا إليه في ما سبق.
إن علامات السخرية التي اكتشفناها منذ بداية المحاكمة اليهودية مرورًا بالمحاكمة الرومانية،ما زالت ظاهرة هنا. وذلك قبل الاعتراف الذي قام به بوعي تام وإرادة حرّة، الأشخاصُ أنفسهم، بعد موت ذاك الذي صلبوه (27: 54).
ذكر مت (آ 37)، شأنه شأن مر 15: 27، صلب اللصين بجانب يسوع. وقد تجعلنا لفظة ((توتي)) عندئذ، نشعر أن صلب اللصين تلا صلبَ يسوع. فكأني بمتّى يريد أن يصحّح مرقس الذي يقول: صُلب اللصان مع يسوع وفي الوقت الذي فيه صُلب يسوع. في الواقع، استعمل مت صيغة الحاضر فدلّ على أنه لم يقل إلاّ ما قاله مر: ساعة صُلب يسوع قام الجنود بالعمل عينه تجاه رفيقيه.
سنجد هذين اللصين أيضًا غي آ 44. والمقطعان المكرّسان لهما،يتيحان لنا أن نقسم خبر أحداث الجلجلة، إلى ثلاثة أقسام. قسم أول ينتهي في آ 38: ((صُلب معه لصان)). قسم ثان ينتهي في آ 44: ((كان اللصان يعيّرانه)). ومع آ 45، يبدأ القسم الثالث، وينتهي في آ 56.
وهكذا ينتهي موضوع، وننتقل إلى مشهد آخر في هذا الفصل الذي سمّيناه: حول موت يسوع.

3 - تجديف وهزء (27: 39-44)
تتوزّع أشكال الهزء ضدّ يسوع المصلوب (رج مر 15: 29-32)، على ثلاث محطات تقابل ثلاث فئات من الناس. المارون (العابرون)، عظماء الكهنة، اللّصان. عاد مت، شأنه شأن مر، إلى المحاكمتين اليهودية والرومانية، واستلهم نصوص العهد القديم، فطبع هذا المقطع بطابعه الشخصي.

أ - المجموعة الأولى: المارون (آ 39-40)
تتألّف المجموعة الأولى من أناس مرّوا من هنا. وجاءت صورتهم كما في الكتاب المقدّس. ((يصفّق عليّ بالكفّين هزءًا جميعُ المارين، يصفّرون ويهزّون رؤوسهم)) (م را 2: 15). ((ليجعلوا أرضهم رعبًا وعرضة لصفير الهزء. فكل من يمرّ فيها يرتعب ويهزّ رأسه)) (إر 18: 16؛ رج مز 22: 8؛ 109: 25؛ أش 37: 22).
إن ((التجديف)) الذي يتلفّظ به هؤلاء الناس، يدلّ على رباط بالسياق السابق للانجيل. فالاعتداد بأن يسوع يدمّر الهيكل ويعيد بناءه في ثلاثة أيام (تريسين هامارايس تقابل ديا تريون هامارون، مت 25: 61 = مر 14: 58: ثلاثة أيام أو اليوم الثالث)، يعيدنا إلى الشهادة التي أدليت ضدّه خلال محاكمة السنهدرين (26: 61)، ويدلّ على بعض السخرية. فالشهود والهازئون الذين هم أعداء معلنون ليسوع، يعلنون حقيقة تدلّ على سلطة يسوع على الهيكل.
ويستعيد مت هنا ما قيل عن يسوع وعن ألقابه. فقد أدرج العبارة ((إن كنت ابن الله)) (بدون الـ التعريف كما في 27: 54؛ رج 26: 63)، لتسند التحدّي الذي نجده ((خلّص نفسك)). تحيلنا هذه العبارة أولاً إلى اعتراف يسوع بعد أن طلب منه قيافا أن يقول إنه ((المسيح ابن الله)) (26: 63-64أ). ولكن قيافا سبق وقال فأكّد يسوع ما دوّى في قاعة المجلس الأعلى. وتبرز السخرية نفسها هنا حيث الهازئون على الجلجلة يقولون: إن كان يسوع ابن الله فعليه أن يخلّص نفسه من هذا الوضع الرديء وينزل عن الصليب. إذن، أعلنت هويّة يسوع الحقيقيّة في فم الذي تمنّوا موته.
وبهذه العبارة نعود ثانيًا إلى خبر التجارب في البريّة حيث عبارة ((إن كنت ابن الله)) (4: ،3 6) تحمل الرنّة التي نجدها هنا. ولكنها تفترض استنتاجًا معناه: بما أنك، إذن إن كنت ابن الله. في خبر التجارب، تعود العبارة إلى الاعلان الالهي في عماد يسوع (3: 17) لتستخلص نتائج خاطئة (سيرفضها يسوع). وعلى الجلجلة، العبارة عينها هي صدى اعتراف يسوع أمام المجلس. ولكن في هذه المرّة، لم نعد أمام تجارب يقدّمها ذاك الذي يعرف من هو يسوع (كما سائر الشياطين، 8: 29). نحن أمام هزء محض من قبل أولئك الذين لا يريدون أن يصدّقوه. هذا لا يمنع الشيطان كما لا يمنع المارين على الجلجثة، من أن يعلنوا ما يشكّل الموضوع المركزيّ في الايمان المسيحي. وقد أعلن هنا في ذروة الألم والعار.
هناك من ماثل كلمات الهازئين على الجلجلة بتجارب كتجارب إبليس في البرية. أو كالكلام الذي وجّهه بطرس إلى يسوع (16: 23) ليبعده عن الآلام. أو كالموقف الذي يطلب فيه السامعون من يسوع آية لكي يجرّبوه (12: 28؛ 16: 1: بيرازونتس). قد نكون في هذه الأمور، كما في هزء المارين أمام تجربة. ولكن ليس هذا هو الهدفَ الأول الذي توخّاه مت.

ب - عظماء الكهنة (آ 41-43)
وبعد المارين جاء عظماء الكهنة. وقد حوّل مت كلمات هزئهم (آ 41-43) كما وردت في مر. أدرج لقب((المسيح)) مثل لقب ((ملك اسرائيل)) (آ 42؛ رج مر 15: 32). لا يقول هذا اللقب شيئًا يزاد على لقب ملك اسرائيل بالنسبة إلى اليهودي، ولكنه يجعلنا في امتداد الخطّ المرسوم مع تدخّل المارّين. وهكذا يجد سؤال قيافا واعتراف يسوع بحقيقة الألقاب التي أعلنها عظيم الكهنة (26: 63-64)، يجد هنا صدى مكمّلاً، لأن لقبَي ((المسيح)) و((ابن الله)) قد عادا هنا وإن بشكل ملموس في الحدث الذي ندرس، فلاحقا يسوع في قلب عذابه. وهكذا شدّد مت على السخرية التي وجدها في مر 15: 32أ: زاد الفعل ((إستين)) فقسم الآية إلى جملتين رئيسيتين. قال مر: ((هو المسيح ملك اسرائيل)). أما مت فقال: إنه ملك اسرائيل. وهكذا صارت هذه الجملة اعترافًا حقيقيًا بالمسيح: لقد وقع الخصوم في الفخّ الذي نصبوه.
وكتب مر 15: 32ب: ((لكي نرى ونؤمن)). ألغى مت الفعل الأول. لم نعد أمام غاية (حتى نؤمن)، بل أمام نتيجة. وجعل مت الفعل في المضارع، وزاد الضمير ((به)). ((لينزل فنؤمن به)). وهكذا يتركّز كل شيء على الايمان بيسوع، وهو إيمان يقوم موضوعه بأن نرى في شخصه المسيح، ((ملك اسرائيل)).
نحن نلتقي بالموضوع عينه في مقاطع أخر من مت: بعد أن يروا في يسوع سلطان اجتراح المعجزات (8: 13؛ 9: 28: هل تؤمنان أنني أقدر)،ها هو يطلب شخصيًا إيمان تلاميذه (18: 6: المؤمنين بي). ولكن ما قيمة كلام يقوله أولئك الذين اقتادوا يسوع إلى هنا؟ غير أن القارئ المسيحي يستشفّ هنا موقفه هو واللغة التي يستعملها لكي يعبّر عن هذا الموقف (هكذا نجرّب الله. أين قدرته؟).
إن آ 43 هي توسّع خاصّ بمتّى. وهي تتألّف من شقّين. الأول هو ايراد كتابي لم نستعدّ له، ولكنه يوافق طريقة تأليف الحاش. والثاني هو تبرير لما سبق، مع عودة إلى جلسة السنهدرين في معطياتها الكرستولوجية.
قال الايراد الكتابي: ((توكّل على الله (حسب حساب الله). فلينقذه الآن إن كان يريده)). إن كان راضيًا عنه. إن كان يهمه أمره. تستعيد العبارة جزءًا من مز 22: 9 كما في السبعينيّة.
إذن، نحن أمام مزج بين اثنين في آ 43. فإيراد المزمور يعطي القارئ المسيحي وسيلة ليفهم ما سبق. إنه يدلّ على أن الهزء الذي قاساه المصلوب يوافق انباءات الكتاب المقدّس. ويدلّ في الوقت عينه على التأكيد بخلاص قريب. فالبار في المزمور (22: 23-32) سينال حقًا خلاص الله. ثم إن هناك حاشية تلفت الانتباه. وهنا نقابل بين مر ومت. ترك مر لقب ((ابن الله)) إلى الأخير، ليكون المنارة الأخيرة في انجيله. أما مت فذكر هذا اللقب مرارًا خلال خبره (27: 40، 43، 54). فهو يقدّم بنوّة يسوع الالهيّة كالمعطية الأساسية التي يرتبط بها الباقي كله: سرّ دمار الهيكل وإعادة بنائه. انتصار المسيح المصلوب. تدخّل الله من أجله.

ج - اللصان (آ 44)
والتجاديف الأخيرة تأتي من ((اللصين)) (رج مر 15: 32ب) اللذين صُـلبا مع يسوع (آ 44). ونُسب إلى رفيقي عذاب يسوع ذات القساوة التي دلّ عليها المارون وعظماء الكهنة. هزئا بيسوع كما فعل الباقون.
هنا تبع مت مر كما فعل في بستان جتسيماني. وجد عند سابقه عبارة صلاة واحدة (26: 39 = مر 14: 35-36). ولكن يسوع يصلّي ثلاث مرات (أهمية هذا الرقم عند مت) في انجيل مت. صاغ مت الصلاة الثانية (26: 42) منطلقا من طلبة من طلبات الصلاة الربيّة (6: 10). ثم قال إن الصلاة الثالثة تشبه الثانية.هذا ما نقول عمّا افترض من كلام عيّر به اللصان يسوع على الجلجلة.

4 - موت ابن الله (27: 45-54)
حين نتوقّف عند هذه المقطوعة التي تشكّل ذروة خبر الحاش، نلاحظ أن مت تبع بناء مر 15: 33-39. موت يسوع هو في قلب الخبر (آ 50). ونجد تجاه الظلمة (آ 45) معجزات ترويها آ 51-53. وتجاه أقوال الهزء التي حرّكتها صلاة يسوع (آ 46-49)، نجد اعتراف قائد المئة وجنوده بابن الله (آ 54). ونلاحظ أيضًا أن يسوع يستعيد الدور الفاعل هنا بعد أن ترك هذا الدور منذ جوابه إلى بيلاطس في 27: 11.
ترتيب الأحداث هو هو عند مت ومر. ولكن مت توسّع فيها بواسطة معجزات أخرى لها معنى عميق على المستوى اللاهوتي (آ 51ب-53). وكانت أيضًا تبدّلات طفيفة على المستوى الادبي وعلى مستوى المعنى أيضًا.
أ - الظلمة (آ 45)
حين تحدّث مت عن الـظلمة، أعطى لنصّه طابعًا كتابيًا. جعله يتصل اتصالاً قويًا بخبر ضربات مصر كما في السبعينيّة، ولا سيّما ضربة الظلمة (خر 10: 21-29). وعاد مت أيضًا إلى عا 8: 9-11أ (عبارة ابن حبيب في عا 8: 10 تجد صدى في مت 3: 17...). وهناك اللهجة الهجومية، لا سيّما وأن هذه الآية ترافق خبر انشقاق حجاب الهيكل (آ 51). وذكر مت ((الأرض)) أو ((أرض اسرائيل)) كما في طفولة يسوع (2: 20). أو أرض يهوذا (2: 6؛ رج مي 5: 1). أو ((أرض زبولون ونفتالي)) (4: 5؛ رج أش 8: 23). هنا نعود إلى تفسير مر 15: 33.

ب - صلاة يسوع(آ 46)
تحدّدت ((الساعة التاسعة)) كما في مر 15: 34 (زاد مت: ((حوالي)) الساعة التاسعة). وجاءت صلاة يسوع في ذات الإطار البيبلي. وايراد مز 22: 2 يبقى شبيهًا بما في مر، مع اختلاف في لفظة ((إلي)). وهذا ما سيساعد على التلاعب على الألفاظ من قبل بعض القائمين هناك، فيحسبه يطلب عون إيليا.
جعل مر ((إلهي إلهي)) في الصيغة الاسمية. أما مت ففي المنادى. ولكن المعنى لا يتبدّل. فنحن هنا أمام صيغة نحويّة فريدة في كل العهد الجديد. في هذا المجال نتذكّر كيف ارتبط مت بمر في صلاة يسوع في جتسيماني (26: ،39 42). قال مر 14: 36: أبّا، أيها الآب في الصيغة الاسمية، فقدّم مت المنادى ((باترمو)): يا أبت.
وهكذا نعود إلى صلاة النزاع. ففي مت كما في مر، تشكّى يسوع. ولكنه تشكّي الابن الذي سبق له وخضع كليًا لإرادة أبيه السماوي (26: 39، 42)، والضيق الذي يقاسيه الآن هو تتمة لهذه الإرادة. هكذا نظر إليه الانجيلي الذي استفاد من المزمور ليعبّر عن فكرته. فالانجيلي وقرّاؤه يعرفون إنباء يسوع بقيامته (16: 21؛ 17: 23؛ 20: 19). وإيمانهم يدعوهم لأن يروا في قلب ضيق يسوع وألمه، اليقينَ بأن الله ينقذه.
ج - مشهد ((إيليا)) (آ 46-49)
إن المشهد الذي حرّكته صلاة يسوع، أخذه مت من مر وأعاد صياغته. فنحن لا نجد في الانجيل الثاني العلاقة بين اعطاء يسوع ليشرب وعمليّة السخرية. ((لنرَ هل يأتي إيليا وينزله)) (مر 15: 26)! فالذي يقوم بالفعلة هو الذي يقول الكلمة. أما مت ففصل بين الفعلة والقول، ونسب كلاً من الاثنين إلى فاعل مختلف. ((بعض القائمين هنا)) أورد التلاعب على الكلمات بالنسبة إلى إيليا. حينئذ قام ((واحد منهم)) (شخص آخر غير الذي تكلّم) فأعطى يسوع ليشرب بواسطة اسفنجة موضوعة على قصبة. وأخيرًا، ((قال الآخرون: لنرَ هل يأتي إيليا لينقذه))!
رغم هذه التحوّلات، لا يختلف بُعد مت عن بُعد مر اختلافات جوهرية. فالتلميح هو هو إلى مز 69: 22، وتقديم ((الخلّ)) شرابًا ليسوع. ونجد ذات التحدّي الأخير الذي يليه فشل ظاهر (لقد مات يسوع حقًا). كل هذا يدلّ بقوّة على أن الأمور يجب أن تكون هكذا. فالاثنتا عشرة كتيبة لم تأت لتدافع عن يسوع ساعة القبض عليه (26: 53). وإن إيليا لم يأت هو أيضًا لكي ((ينقذه)). استعمل مر 15: 36 فعلاً خاصًا يدلّ على انتزاع المصلوب عن الخشبة. أما مت ففضّل لفظة لاهوتية تشير إلى المزمور الذي أورد يسوع أولى كلماته. قال مر: ((ينزله)) (عن الصليب). قال مت: ((ينقذه)) (كما في المزمور).
إن يسوع سيُنقَذ. هذا ما لا شك فيه (رج أع 2: 25 ي). ولكن ليس إيليا هو الذي ينقذه (كما تقول تقاليد الرابانيين). ولن يُنقَذ الآن. يجب أن ينتظر القيامة.

د - موت يسوع (آ 50)
كان موت يسوع في صرخة عظيمة. هي الصرخة الثانية في هذا المشهد. قال مت ((بالين)) من جديد. وهكذا أقام رباطًا بين الصرخة الأولى والصرخة الثانية. ويتوضّح هذا الرباط في استعمال مت لفعل ((كرازاين)) (صاح، صرخ) كامتداد لتذكّر مز 22: هذا ما يلقي ضوءًا على الصراخ الذي لا نعرف كلماته. فالمزمور يستعمل هذا الفعل ثلاث مرات في الترجمة السبعينية (آ 3، 6، 25) ليشدّد على حرارة صلاة البار المتألّم. وهكذا نفسّر صرخة يسوع الأخيرة هنا، كنداء يوجّهه المصلوب إلى الله لكي ((ينقذه)). فيعلن أنه متيقِّن بأن صلاته ستستجاب (آ 6: إليك صرخوا فنجوا).
أما الآن، فيجب عليه أن يموت. كتب مر 15: 37 أن يسوع ((اكسابناسن)) أي لفظ أنفاسه. وقال مت ((افياناي تو بنفما)): ترك روحه تخرج، سمح لها أن تخرج. هي عبارة فريدة في العهد الجديد ولكنها موجودة في السبعينية (تك 35: 18) مع ألفاظ قريبة. لقد أراد مت أن يدلّ على سيادة يسوع في هذا العمل السامي الذي فيه يحرّر نسمة الحياة فيه، وهكذا توّج سلسلة من اللمسات المشابهة في خبر الحاش.

6 - المعجزات (آ 51-53)
وكان من نتائج موت يسوع (كما في مر 15: 38) انشقاق حجاب الهيكل. بدأ مت مع ((كاي ايدو)): وها إن. هكذا لفت انتباه القارئ إلى عبور نحو جزء جديد وهام في الخبر. هذه ((المعجزة)) الأولى تدشّن سلسلة من الـظواهر العجائبيّة التي ترتبط بعضها ببعض مع واو العطف ((كاي)). وهذا ما يدعونا ألاّ نفصلها عن بعضها. ما هي هذه المعجزات؟ انشقاق حجاب الهيكل، زلزلة الأرض (هزَّة أرضيّة)، تشقّق الصخور، انفتاح القبور، قيامة عدد من القديسين: بعد قيامة يسوع، ترك هؤلاء القديسون قبورهم، ودخلوا إلى المدينة المقدّسة، وظهروا لعدد كبير من الناس.
الأفعال هي هنا في صيغة المجهول. هذا ما نسمّيه المجهول اللاهوتي. الله زلزل الأرض، أقام الموتى... هذا ما نقرأ في حز 37: 12. لا شكّ أننا أمام صورة انترومومورفيّة تشبّه الله بالانسان الذي يعمل. ولكن المهمّ هو أن نعرف أن الله حاضر هنا في موت يسوع وهو الذي يفعل. بانت قدرته في موت ابنه وسوف تبان في قيامته.
نلاحظ في سلسلة ((المعجزات)) هذه أن الزلزلة الأرضية تحرّك الباقي الذي سيولد على التوالي في تعاقب منطقي: حين انشقّت الصخور تفتّحت القبور. وهذا مقدمة لقيامة القديسين، وخروجهم إلى الهواء الطلق، وظهورهم للناس. نتوقّف أولاً عند هذه المجموعة المتماسكة الخاصة بإنجيل متّى. ثم نرى كيف أن انشقاق حجاب الهيكل الذي ورثه مت عن مر، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يلي ولا سيّما على مستوى الموضوع.
إن الزلزلة الأرضيّة التي يتبعها الباقي هي جزء من السيناريو التقليدي لظهورات الله. وطابع التحطيم والضجّة يدلّ على أنه سيّد الكون (قض 5: 4؛ 2صم 22: 8؛ مز 68: 8؛ 97: 4؛ 104: 37؛ 114: 7؛ يه 16: 18). والأمر صحيح خاصة في لوحات نهاية الأزمنة (يوء 4: 16؛ أخنوخ الحبشي، عزرا الرابع) ومنها لوحات العهد الجديد (مت 24: 7 وز؛ رؤ 6: 12؛ 8: 5؛ 11: 13، 19؛ 16: 18). في مت 8: 24 تأتي عبارة ((سائسموس ميغاس)) فتعطي الخبر لونًا جليانيًا: زلزلة كبيرة، بدل عاصفة شديدة كما في مر 4: 37.
ولكن الموضوع هنا لا يتوقّف عند الزلزلة. بل يتحدّث عن تشقّق الصخور ((سخيزستاي)). استُعمل الفعلُ هنا وفي انشقاق حجاب الهيكل. غير أن نصوص التوراة (1مل 19: 11؛ با 1: 16؛ زك 14: 4) والعالم اليهودي قد تحدّثت عن هذه الظاهرة التي هي جزء من حضور الله بشكل بارز في الكون. وفي المقطع الذي ندرس، كان لهذه الظاهرة العلويّة نتيجة محدّدة وفريدة: فتح القبور أو أقلّه بعضهم. إن يسوع قد ذكر في هجوم صاعق على رؤساء العالم اليهودي، ((قبورَ الصدّيقين)) مع ((ضرائح الأنبياء)) (23: 29). وهنا نجد ((قبور القديسين)) (هاغيوس. تستعمل اللفظة كاسم في الأناجيل لتدلّ فقط على يسوع، مر 1: 24؛ لو 4: 34؛ يو 6: 69. ما عدا هنا).
((القديسون)) هم ((أبطال)) العهد القديم. قال أش 4: 3: ((ومن بقي في صهيون وتُرك في أورشليم يقال له قديس فتُكتب له الحياة)). وقال مز 34: 1: ((خافوا الرب يا قديسيه)) (رج دا 7: ،18 21). وقال آخرون: القدّيسيون هم الأنبياء الشهداء، وذلك بسبب مت 23: 29-32. غير أنهم في تفسيرهم هذا يستبقون اللغة المسيحية التي ترى في القديسين أعضاء الجماعة. هذا التفسير الذي لا نجده في مت، يظهر في نصوص أخرى من العهد الجديد : أع 3: 14-21؛ 9: 13، 32؛ 26: 10؛ 1كور 1: 1؛ 8: 4؛ 9: 1، 12). هنا نتذكّر مت 10: 41 حيث ((الصدّيقون)) هم رسل الانجيل.
ما يبرهن على أن هذه الصورة لا تعتبر ((تاريخية))، هو تفصيل ((يدلّ)) على أن الموتى الذين عادوا إلى الحياة انتظروا بهدوء داخل قبورهم المفتوحة أن يأتي يسوع القائم من الموت ويخرجهم منها. غير أن المعنى واضح بالنسبة إلى القارئ المسيحيّ الذي يرى في هذا التأخّر اعلانًا عن حقيقة لاهوتيّة: لا تتمّ قيامة الصديقين إلاّ في ارتباط مع قيامة يسوع. وهذا الرباط بين العلة (قيامة يسوع) والنتيجة (قيامة الأبرار)، يعبّر عنه مت بطريقته الخاصّة. وسيكون جزءًا من المعتقدات المسيحيّة الجوهرية، قبل أن يعبّر عنه بولس الرسولي في 1كور 15: 22-23؛ رج روم 6: 5؛ كو 2: 12. كل هذا ارتبط بيقين يعلن أن قيامة يسوع تدشّن عهدًا جديدًا، تدشّن العهد النهائي.
أما هؤلاء الذين حصلوا على النعمة الفصحيّة،فما إن تجاوزوا عتبة قبورهم (خرجوا من القبور. ((دخلوا)) إلى المدينة المقدّسة. فالقبور هي خارج المدينة) حتى دخلوا إلى ((المدينة المقدسة)) (المدينة المقدسة، أي أورشليم، عبارة خاصة بمتّى 4: 5. في 5: 35 نقرأ: مدينة الملك العظيم). وهناك تراؤوا لأناس عديدين: إنهم شهود لقوّة الحياة التي منحها سر الفداء.
وسينضمّ إلى هؤلاء الشهود، قائد المئة وجنودُه. ولكن قبل ذلك، نقابل بين نصّ حز 37: 12-13 ومت 27: 52-54. إن القيامة في نظر حزقيال هي صورة عن نهضة وطنيّة. أما مت فيرى حزقيال يصوّر مسبقًا قيامة الموتى. إذ قرأ مت النصّ النبوي كما عبر الورق الشفّاف، دلّ على الطابع الاسكاتولوجي للوحة التي يقدّمها.
نشير هنا إلى مقطع من الترجوم الفلسطيني حول مقطع حزقيال هذا. طبّقه الكاتب على 30000 من قبيلة افرائيم، تركوا مصر قبل نهاية إقامة العبرانيين في تلك البلاد، فأبادهم الفلسطيون. ولكن الرب أقامهم. كما نشير إلى لوحة دورا اوروبوس التي تعود إلى القرن الثالث ب م وتقرأ في حز 37 قيامة الموتى. ويمكننا أن نقابل أيضًا نص مت مع دا 12: 2 حسب السبعينية: ((وكثيرون من الراقدين في مساحات الأرض يقومون)).
إن الأحداث المتسلسلة التي يوردها 27: 51-53، ترمز إلى نتائج موت المسيح وقيامته. وهي تدلّ على إيمان المسيحيّ بسرّ الفداء. فهذا السرّ يدشّن الحقبة الأخيرة التي تختتمها قيامة الموتى. بدأت السلسلة بانشقاق سافر لحجاب الهيكل الذي يرتبط بما يلي من أحداث. في مر برز ارتباطه بنهاية العبادة الذبائحية في العالم اليهودي. وقد حلّ محلّ هذه العبارة تقدمة يسوع على الصليب. وهذا ما نفهمه بشكل خاص عند مر، لأن هذه المعجزة هي النتيجة الوحيدة والمباشرة لموت يسوع. مع انشقاق الحجاب، نحن أمام علامة عن عبور إلى حقبة جديدة هي الأخيرة التي دشّنها يسوع بموته. أما في مت فالأمر أكثر وضوحًا، لأن الهيكل لم يكن موجودًا يوم دوّن متّى انجيله (22: 7: ((أنفذ جيوشه وأهلك أولئك القتلة))؛ 23: 38: ((هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا). فبعد اليوم، إن حضور يسوع وسط أخصّائه ومعهم (18: 20؛ 28: 20 ب) يستنفد كل وساطة بين الله والبشر.

و - قائد المئة وجنوده (آ 54)
إن الظواهر التي أحاطت بموت يسوع حرّكت اعتراف قائد المئة الوثنيّ. وانضم إليه أولئك الذين كان معه يحرسون يسوع وهم ذاتهم الذين قال عنهم متّى بأنهم كانوا يحرسون المصلوب (27: 36)، وهكذا هيّأ لنا الانجيلي تدخلهم القريب. إن هذه المجموعة الصغيرة تتعارض مع مجموعة الهازئين الذين توالوا فيما قبل إزاء الصليب. ما أعلنته الجوقة الأولى وهي ترفضه، اعترفت به الجوقة الثانية وهي عارفة بما تعمل، وذلك في فعل إيمان فريد.
حين فعل مت هذا، صحّح مرجعه واستخرج نتيجة هامة. في مر 15: 39، التفت الضابط الروماني إلى يسوع. فحرّك اعترافَه الطريقةُ التي بها مات يسوع. أما في مت، فلا نجد الالتفات نحو يسوع. وما شاهده الأشخاص لا يتعلّق بشخص يسوع بل بالمعجزات التي تلت موته، انطلاقًا من الزلزلة الأرضية. وحاول مت أيضًا أن يوضح النصّ ويجعله معقولاً. حين نقرأ مر نتساءل إلى مَ تلمّحُ الجملة ((حين رأى)) أنه هكذا ((أسلم الروح)). أشار مت أن ما حرّك اعتراف الوثنيين على الجلجلة، هو المعجزات التي سبق وصوّرها الانجيلي. واهتمّ بأن يُدرج فقط تلك التي يستطيع البشر أن يروها. ترك انشقاق حجاب الهيكل على جهة، وبدأ التذكير مع ((الزلزال)) (سائسموس) وامتدّ في عبارة غامضة (ما جرى، غينومانا) لا تجبر القارئ أن يخاطر في ما يقول، فما على القارئ إلاّ أن يتصوّر إذا أراد تشقّق الصخور وظهور بعض الموتى عند مدخل قبورهم.
هذه العلامات تثير مخافة عظيمة عند الحاضرين. لقد اجتاح العالم الالهي حياة البشر بشكل معجزات، فكانت النتيجة هذا الخوف. هنا جعل متّى نفسه في رسمة كلاسيكيّة (9: 8؛ ق مر 2: 12؛ 14: 26؛ ق مر 6: 49؛ 17: 6، 7؛ 28: 5، 8؛ ق مر 16: 6-8). هذه المخافة ترافق هنا الايمان (ولكن قد يكون الخوف علامة عدم إيمان، 10: 31؛ 14: 27، 30).
ما لا نشكّ فيه عند مر، لا نشكّ فيه أيضًا عند مت. حين هتف القائد وجنوده ((في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله))، استعاد في عبارات مماثلة تقريبًا اعتراف جوقة التلاميذ الذين سُحروا بمشية يسوع على المياه (14: 33)، واعتراف بطرس باسم المجموعة في قيصرية فيلبس (16: 16). وهكذا نجد في رمز جنود الجيش الروماني كنيسة الوثنيين. أي: هؤلاء الذين أعلن يسوع مجيئهم إلى مائدة الملكوت (8: 11)، والذين بعث إليهم مرسليه في العالم لكي يتلمذوه (28: 19).
إن موضوع الاعتراف هو ذاته كما في 14: 33 و16: 16: هو يسوع كما يعترف به الايمان المسيحي حين ينسب إليه لقب ابن الله. ففي نهاية خبر الحاش، يستعيد البشر لقبًا أعلنه يسوع أمام قضاته. ولقد مات لكي يكون أمينًا لهذا اللقب. وهذا ما يقوله أولئك الذين آمنوا به. ولكن في الوضع الحاضر، ليس الموت على الصليب في حدّ ذاته وفي عريه القاسي، هو الذي يحرّك الاعتراف الايماني. فهذا الاعتراف يرتبط بالمعجزات التي تلت هذا الموت.
من هذا القبيل وبالنظر إلى تقارب تحقّق مع اعتراف التلاميذ في 14: 33، ظلّت المفارقة خفيّة بعض الشيء، ولم يتجرّد الايمان كليًا عن كل استناد إلى عالم الخوارق. فمتّى ليس بولس، وهو لا يجعل من القائد ورجاله رمزًا إلى كل الذين يطلبون الآيات ويرفضون جنون الصليب (1كور 1: 22).

5 - النساء الشاهدات (27: 55-56)
هذا هو المشهد الأخير قبل الدفن، مشهد النساء التلميذات اللواتي ينظرن ((من بعيد)) إلى يسوع في اللحظات الأخيرة من حياته. استعاده مت، وأعاد صياغته بشكل متناسق ومتماسك. رتّب مر النسوة في مجموعتين. الأولى، نسوة ذُكرت أسماؤهن. والثانية، نسوة ذُكرت في عبارة اجماليّة ((غيرهنّ كثيرات)). وكان لكل مجموعة نشاط خاص بها. قد يتولّد من هذا التوزيع شعور خاطئ يعتبر أن المجموعة الثانية وحدها صعدت إلى أورشليم مع يسوع. أما المجموعة الأولى فاكتفت بأن تتبعه وتخدمه في الجليل. هذا مجرّد شعور.
لهذا حسّن مت مرجعه. فبعد تقديم عام للنسوة (27: 55أ؛ رج مر 15: 4أ)، قال إنهنّ تبعن يسوع ((من الجليل وكنّ يخدمنه)). نجد بين هؤلاء النساء مريم المجدلية وأخرى كثيرات ذُكرت أسماؤهن. حين ركّز مت كل شيء في منظار المسيرة إلى أورشليم انطلاقًا من الجليل، أزال كل التباس.
هؤلاء النساء اللواتي ينظرن إلى يسوع كنّ ((عديدات)) (رج مر 15: 31 ب). هنّ يقفن من بعيد (مر 25: 40 أ = أبو مكروتن). لا نعرف الموضوع المحدّد. ولكن مت يقول لنا: ((كنّ هناك)) (اكاي). في الحقيقة، تتوخّى هذه اللفظة أن تربط هذا الحدث بسابقه، فتدلّ على أن هؤلاء النسوة هنّ شاهدات حقيقيّات لموت يسوع وللظروف التي أحاطت بهذا الموت. ولكن إذ أشار مت (ومر) إلى ابتعادهن عن الجلجلة، شدّد أيضًا على غياب جميع التلاميذ قرب الصليب. وذكّرنا أن هنا ينطبق مز 38: 12 كما سبق وتطبّق فيما قبل بالنسبة إلى بطرس (26: 58).
إن الرباط الذي يجعله مت مع السياق السابق يتثبّت بفضل تجرّد ممّا يلي، إذا قابلنا نصّ مت مع نصّ مر. في الانجيل الثاني، تكرار الفعل ((نظر)) (تيوراين) في 15: 40أ، 47؛ 16: 24 يوحّد المشاهد الثلاثة التي تتوالى (مر 15: 40 ؛ 16: 8). أما غياب هذا الفعل من الانجيل الأول (لا نجده في 27: 61؛ ق مر 15: 4.ثم نجده في 28: 1؛ ق مر 15: 4)، فيخفّف من الرباط الأدبي. لهذا، لا نضمّ 27: 55-56 إلى مشهد الدفن (27: 57-61). فمع النسوة، نجد خاتمة الشهادة التي بدأت في 27: 54.
حين أعاد مت تأليف مر، ترك حانبًا جزءًا من التعليم الذي قدّمه سابقه. فقد غابت في هذه الصياغة الجديدة فكرةُ المسيرة إلى أورشليم الذي انضمّ إليها هؤلاء الأشخاص، وهي مسيرة لها رمزها العميق، كما يقول مت نفسه (20: 17-18 = مر 10: 32-33). لم يبقَ هنا إلاّم مسيرتهنّ في خطى يسوع و((الخدمة)) التي أدّينها له في طريقه.
إن لائحة النسوة تضمّ ((مريم المجدلية، ومريم يعقوب وأم يوسف (أو يوسى الذي هوتصغير يوسف) وأم ابني زبدى. في 27: 61 أحلّ مت ((مريم يوسى)) (رج مر 15: 40) محلّ ((مريم الأخرى)). وفي18: 1 ((مريم يعقوب وصالومة)) محلّ ((مريم الأخرى)) أيضًا. فاستنتج الشرّاح أنه يرى في ((مريم يعقوب)) و((أم يوسى)) شخصًا واحدًا. وهكذا تشمل اللائحة ثلاث نسوة لا أربعًا كما في مر. ولكن نحتفظ من التأكيد على تماهي الامرأتين لاجئين إلى مت 13: 55 حيث مريم التي هي أم يعقوب ويوسف(ثم سمعان ويودا أو يهوذا) هي أيضًا أم يسوع. من الواضح أن هذا الوضع لا ينطبق على مت 27: 56، 61؛ 28: 1. إن المضاف إليه ((يعقوب)) (تو يكوبو، زاد مت ال التعريف) هو ملتبس في حدّ ذاته، ولا نجد هنا العون الذي وجدناه في مر لندرك رباط الابن بأمه (مريم يعقوب أي مريم أم يعقوب). غير أن وجود واو العطف (كاي) بين يعقوب ويوسف يدلّ على أن يعقوب ويوسف هما ابنان لمريم الثانية.
إذا عدنا إلى مر 15: 40 نجد أربع نسوة: مريم يعقوب الصغير وأم يوسى (نجهل اسمها) إن عبارة ((مريم يعقوب)) هي ملتبسة. قد يكون يعقوب الأب، الابن، الزوج. ق مت 10: 3؛ لو 6: 5؛ يو 19: 23. ولكن في فكر مرقس، يعقوب هو ابن مريم الثانية. هذا إذا قابلنا العبارة المشابهة ((مريم يوسى)) (15: 47) مع ما في 15: 04 (مريم يوسى). كل هذه المسائل مع الاختلاف بين لائحة وأخرى (15: 47؛ 16: 1) لا تؤثّر في شكل من الأشكال على دور النسوة في منظار الانجيلي.
إذن، نلاحظ ثلاثة تبدّلات بين مت ومر. الأول: حذف لقب ((الصغير)) بعد يعقوب. يوسي صار يوسف. اختفى اسم صالومة وحل ّ محلّّه ((أم ابني زبدى)). هذه التبدلات لا تؤثّر في شيء على دور النسوة كشاهدات لموت يسوع. ولكن تلك هي طريقة متّى في ترتيب ما وصل إليه من مرقس أو من مرجع استقيا منه كلاهما.
لم يحتفظ مت، شأنه شأن لو 24: 10، بلقب ((الصغير)) ليعقوب، وذلك طلبًا لتبسيط وبحثًا عن رسمة مثالية نجدها في ثلاث لوائح للنسوة (27: 57، 61؛ 28: 1). وفي الخط عينه حلّ اسم يوسف محل مختصره ((يوسى)). وحين أحلّ محل صالومة ((أم ابني زبدى))، نفهم الوضع حين نبحث في نصّ مت نفسه. نلاحظ أولاً أن عبارة ((ام ابني زبدى)) لا نقرأها إلاّ في مت (في 26: 37: أم ابني زبدى؛ ق مر 10: 35: يعقوب ويوحنا). في 20: 20 تدخّلت هذه المرأة لتدفع عن ابنيها طموحًا (طالبا به) لا يليق باكرام أحاطت به الكنيسة هذين الرسولين. ثم إن مت اعتاد أن يحلّ اسمًا لا يجد له مقابلاً محلّ اسم آخر: أحلّ اسم متّى محل اسم لاوي (9: 9؛ 10: 3؛ ق مر 2: 14-15).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM