إستجواب يسوع وإنكار بطرس له

إستجواب يسوع وإنكار بطرس له
18: 12- 27

إن تكلّمت بسوء، فبيّن أين هو السوء. وإن بصواب فلم تضربني؟
لقد مارس حنّان، عظيم الكهنة، سلطته منذ السنة 6. وحُطّ من وظيفته في السنة 15. ولكن ظلّ تأثيره قوياً مدّة طويلة (كان عدد من أبنائه عظماء كهنة). ولكن كيف يسمّيه الإنجيل "عظيم الكهنة" بعد عزله بخمسة عشر عاماً؟ إن التلمود والمؤرخ فلافيوس يوسيفوس يحافظان على لقب عظيم الكهنة لأشخاص مارسوا هذه الوظيفة في الماضي. وجمع لوقا ويوحنا قيافا إلى حنّان، وتفرّد يوحنا بذكر القرابة بينهما: "حنّان هو حموقيافا". وتفرّد يوحنا أيضاً فأعطى لحنّان دوراً في استجواب يسوع. أورد الإنجيل مراراً لفظة "عظيم الكهنة" (آ 15، 16، 19، 22)، وذكّرنا في آ 14 بما قاله فيافا (مصلحتكم تقتضي بأن يموت رجل واحد عن الشعب، رج 11: 49- 52) فأيقظ عند القرّاء تذكراً لهذه النبوءة التي قالها قيافا بدون علمه، والتي أعلنت المعنى الذبائحي لموت يسوع.
هنا ترد خيانة بطرس الأولى (آ 15- 18).
أوردت الأناجيل الأربعة إنكار بطرس المثلّث ليسوع. إختلف الإنجيليون الثلاثة عن لوقا (الذي احتفظ بخبر متواصل) فوزّعوا "الخيانات" الثلاث في متتاليتين أو ثلاث من محاكمة يسوع. أما يوحنا فجعل في إطار مثول يسوع أمام حنان، المشهدين المخصّصين لبطرس. إذ كان يسوع يُستجوب عن تلاميذه (آ 19)، ظلّ يدافع عنهم بكلمته المعلنة على العالم. أما بطرس فسُئل عن معلّمه فأنكره.
في إنجيل يوحنا، يرافق بطرسَ شخصٌ سري يسمّى "التلميذ الآخر". وقد اعتبر التقليد أن التلميذ الآخر هو التلميذ الذي كان يسوع يحبّه. فالواحد يشبه الآخر. وكلاهما كانا مع بطرس (13: 23- 26؛ 20: 2- 10؛ 21: 7،20- 23). فالتلميذ الذي كان يسوع يحبّه قد تبع يسوع حتى الصليب: هذا يعني أنه رافقه في مسيرة الآلام. ودخوله إلى بيت عظيم الكهنة يدلّ على أمانته لمعلّمه.
وقدّم الشرّاح فرضية نوردها ولا نتوقف عندها: قد يكون هذا التلميذ نيقوديمس أو وجيهاً من الوجهاء (فهو يعرف عظيم الكهنة). لا يعتبر الإنجيل أنه قال كل شيء. ورغم فضولنا وروح الحشرية عندنا، يجب بالأحرى أن نهتمّ بدور الشخص وبعلاقته مع بطرس، لا بهويته ولا بما يساعدنا النصّ على الخيال. هنا يضع الإنجيلي التلميذ بجانب بطرس: فالأول هو وسيط بين بطرس ويسوع، كما هو الحال مراراً في الإنجيل. التلميذ صامت وهو جاهز ليدلّ على أمانته ساعة تدقّ الساعة، عند الصليب. وواجه بطرس المحنة وحده. ففي الليل البارد، فضّل ذاك الذي اعتبر بأنه يبذل حياته من أجل يسوع (13: 37)، دفء الموقد (وربّما رفقة أناس جالسين حول النار، بما في هذه الجلسة من راحة) على رفقة المعلّم بما فيها من عزلة ومخاطرة. إن هذا المشهد يلتقي في بعض وجهاته بتخلّي التلاميذ عن يسوع خلال النزاع الذي كان بطرس فيه حاضراً (كما يقول الإزائيون). ولكن الخبر يبقى مركَّزاً على يسوع: إن إنكارات بطرس ليست متدرّجة صعداً كما في الإزائيين. وصياح الديك ليس العلامة التي تحرّك توبة بطرس (كما عند الإزائيين) بل تثبيتاً لكلمة الرب الذي أنبأ بخيانة بطرس: "قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرّات" (13: 38).
ويصل يسوع أمام حنّان (آ 19- 24).
لا يبدو يسوع في هذا المشهد على أنه معلّم باطني يحتفظ بوحيه لبعض المتدرّجين، بل كنبي يتكلّم علانية وأمام الجميع. بل هو سيطلب من حنّان أن يستمع إلى التلاميذ، أن يستمع إلى "الذين سمعوا": ولكنه دفع ثمن هذه الشجاعة لطمة من قبل خادم. هذا هو "الإذلال" الوحيد الذي يذكره إنجيل يوحنا خلال محاكمة يسوع. حين قبل اللطمة صار شبيهاً بعبد الله المتألم (أش 50: 6). ولكن يسوع الذي ظلّ صامتاً تجاه الإهانة في سائر الأناجيل، تصرّف هنا بكرامة الربّ الذي يطلب تفسيراً من الذين ضربوه.
جاء يسوع مقيّداً وذهب مقيّداً. عومل كشخص خطر. في الظاهر هو ضعيفٌ كل الضعف وعاجزٌ كل العجز. إنه بين يدي البشر ولا يستطيع أن يفعل شيئاً. ولكن يوحنا يرى في الواقع، أن يسوع هو الذي يقود الأحداث.
نتوقّف هنا عند شخص عظيم الكهنة. حين عاد اليهود من المنفى البابلي سنة 538، وأعادوا بناء البلاد والهيكل، لم يعد لهم ملك على رأسهم كما كان الأمر قبل سقوط أورشليم سنة 587. حينئذ لعب الكهنة دوراً حاسماً في حياة الشعب. فهم لا يهتمّون فقط بتنظيم الإحتفالات في الهيكل، بل يعتبرون مفسرّي الشريعة ومعلّمي المؤمنين إرادة الله. وهذه المسؤولية أعطتهم سلطة حقيقية لم يعرفها الملك نفسه.
هم لا يصيرون كهنة بفضل اختيار خاص. إنهم كهنة لأنهم ينتمون إلى بعض العائلات: عائلات قبيلة لاوي المتحدّرة من هارون، شقيق موسى. وكانت مجموعتهم كبيرة جداً: 7000 شخص. ولكنهم ليسوا كلهم على المستوى الواحد. ففي أسفل السلّم نجد الكهنة "العاديين" الذين يصعدون كل بدوره إلى الهيكل ليؤمّن خدمته، ثم يعود إلى بيته.
وفي القمة هناك أعضاء العائلات الكهنوتية الكبرى، هناك "رؤساء (عظماء) الكهنة وعلى رأسهم الكاهن الأعظم". إنه الشخص الأهم في الأمّة اليهودية. وتتميّز بداية وظيفته باحتفال يتقبّل فيه لباساً خاصاً يرتديه في أيام العيد، فيدلّ على أنه الوسيط بين الله وشعبه. وحين يتمّ بدقّة الطقوس المفروضة، يتيح للشعب أن يتنقّى من خطاياه ويجدّد العهد مع الله. والكاهن الأعظم يستطيع وحده أن يدخل إلى أقدس موضع في الهيكل، إلى "قدس الأقداس" مرّة واحدة في السنة في عيد التكفير والغفران (يوم كيبور). وهو يرأس جلسات المجلس الأعلى الذي يملك السلطة في المجال الإداري والقضائي والديني في ظلّ الحكم الروماني.
وإذا أردنا أن نعطي فكرة دقيقة عن سلطة عظيم الكهنة، وجب علينا أيضاً أن نذكر كل ما يحدث في الهيكل: تقدمة الذبائح، دفع الضريبة التي يجب أن يدفعها كل مؤمن. هذا يعني نشاطاً تجارياً ومصرفياً. ثم إن القيام بالإصلاحات اللازمة وبالوظائف العادية، يتطلّب عدداً من الموظفين، ولا سيّما مع أعمال البناء الكبرى التي يقوم بها هيرودس في الهيكل. وكانت الأعياد الكبرى مناسبة وصول مدّ كثيف من الحجّاج إلى أورشليم. إذن، الهيكل هو مشروع كبير ومركز إقتصادي هام تمرّ فيه كميات كبيرة من المال. كل هذا يدلّ على أهمية الشخص الذي هو "على رأس" الهيكل.
وتطلب السلطة الرومانية أن تستند إلى شخص له مثل هذا التأثير. لهذا، احتفظ الولاة بحق تعيين رئيس الكهنة وعزله، مع أن هذه الوظيفة ترافق صاحبها حتى الممات. غير أن رجلين عرفا كيف يطيلان عمرهما في هذه المسؤولية: حنان من سنة 6 حتى سنة 15. صهره قيافا من سنة 18 حتى سنة 37. وسيلعبان كلاهما دوراً هاماً في توقيف يسوع والحكم عليه بالموت.
وإذ أراد الرومان أن يبرزوا تبعية رئيس الكهنة لسلطتهما، فقد كانوا يحتفظون بملابس الإحتفال في قلعة أنطونيا. وكان على اليهود أن يطلبوا هذه الثياب قبل كل عيد. أمر مُذلّ بالنسبة إليهم. وكم قاموا بمحاولات لاستعادة هذه الملابس، ولكن عبثاً.
واقتيد يسوع إلى بيت حنّان. هو سجين وموقوف. قيّدوه بالسلاسل، وأحاط به رجال مسلّحون. قال لنا يوحنا إنهم اقتادوا يسوع إلى بيت حنّان، مع أن الأناجيل الأخرى قالت انه اقتيد لدى قيافا. لن نتوقّف عند الفرضيات المختلفة التي تحاول أن تفسرّ هذا الإختلاف. ولكنّنا نتوقّف لحظة عند شخصية حنّان.
في ذلك الوقت كان قيافا (صهر حنّان) عظيم الكهنة. أما حنّان الذي تسلّم هذه الوظيفة سنة 6 ب. م. فقد عزل سنة 15 على يد السلطات الرومانية. غير أن هذا لم يمنعه من الإحتفاظ بتأثير كبير على سير الأمور في العالم اليهودي. لقد كان شخصية كبيرة، وربما رئيس الصادوقيين. لقد كان في الواقع الرئيس الديني والسياسي لليهود في ذلك الزمان. وقد خلفه في رئاسة الكهنوت أبناؤه وصهره. وهذا ما يجعلنا نظن أنه لعب الدور الأوّل في التآمر على يسوع، وأن يسوع اقتيد إلى داره حالاً بعد توقيفه خلال الليل.
لا شكّ في أن الإنجيل الرابع يعطي حنّان لقب عظيم الكهنة، شأنه شأن أع 4: 5. ولكن جرت العادة أن يحتفظ رئيس الكهنة مدى الحياة بهذا اللقب التكريمي.
لسنا عند حنّان أمام استجواب رسمي، لأن محاكمة حب القاعدة لا يمكن أن تتمّ في الليل. كل ما في الأمر هو أن حنان أراد أن يرى يسوع (شأنه شأن هيرودس، رج لو 23: 8) عن قرب، أراد أن يرى هذا الرجل الذي يهدّد النظم والأفكار اليهودية، كما يهدّد مصالح الذين يدافعون عنها، وعلى رأسهم عظيم الكهنة. نندهش حين نرى هذا الشخص الذي جعل "كل أورشليم" تتحدّث عنه، فيسأل عنه حنّان كما يسأل عنه هيرودس.
نشير هنا إلى أن يوحنا قد ذكّرنا بجلسة المجلس في 11: 46- 54. ففي هذه الجلسة لُفظ الحكم على يسوع بالموت. فمنذ إقامة لعازر والكلمة "الملهمة" التي تلفّظ بها قيافا، رئيس الكهنة في تلك السنة، فهمنا بُعد موت يسوع: "يموت إنسان واحد عن الشعب كله".
ويبدأ الإستجواب.
يختلف مضمون الإستجواب هنا عمّا نجد عند بيلاطس أو أمام السنهدرين (المجلس الأعلى). فهو يتناول تعليم يسوع وتلاميذه. نلاحظ تكرار ألفاظ مثل: تلاميذ، تعليم، تكلّم، علّم، قال. هذا ما يهمّ حنّان. لا شكّ في ذلك. غير أن يوحنا ذهب أبعد من المعنى "البوليسي" لهذا الكلام: فأجوبة يسوع تقدّم لنا تعليماً جوهرياً عن رسالته: إنه كلمة الله (1: 1، 9، 14). وحامل وحي الآب الآتي إلى العالم ومن أجل العالم. إنه نور البشر (8: 12). والحياة التي يعطيها هي نور (1: 4). والحقيقة التي يمنحها تمرّ في الحق (8: 31- 32).
لا وحيَ خاصاً يقوله يسوع لحنّان. هو لن يقول شيئاً. لقد كلّم جهاراً شعب الله من قبل الله، كما فعل موسى من قبل. غير أن الرؤساء رفضوا أن يسمعوا. ونحن نجد في الإنجيل الرابع كيف علّم يسوع مراراً في المجامع (6: 26- 59) وفي الهيكل ساعة تجمع الأعياد عدداً كبيراً من الناس جاؤوا من العالم كله: عيد المظال في بداية الخريف (7: 24، 28؛ 8: 20). عيد التجديد في الشتاء (10: 23). عيد العنصرة أو عيد الفصح (5: 1- 47).
وعبّر يسوع عن فكره. إما في حوارات رتّبها الإنجيلي أفضل ترتيب، مع أشخاص بدوا كنموذج أو مثال: نيقوديمس (ف 3، العالم اليهودي الرسمي). السامرية (ف 4، العالم اليهودي المنشق)، المقعد (ف 5)، الأعمى منذ مولده (ف 9، مسيرة الإيمان)، شقيقتا لعازر (ف 11)، مريم المجدلية (ف 20). وإمّا في أماكن رسمية يجتمع فيها اليهود ليمارسوا ديانتهم. وهكذا اختلف يوحنا عن سائر الإنجيليين. ولا ننسَ العدد الكبير الذي تضمّه أورشليم في الأعياد الكبرى. سكّانها كانوا 55.000. أمّا الحجّاج فكانوا: 125.000. ويعطينا أع 2: 9- 11 فكرة عن تنوّع البلدان التي جاء منها هؤلاء الحجّاج.
تكلّم يسوع جهراً وعلّم دائماً (آ 20). كان قد قال في عيد المظال: "ما سمعته من أبي أقوله للعالم" (8: 26). تكلّم يسوع جهراً في العالم، هذا يعني أنه ما أراد أن يكون تعليمه لنخبة من الناس، لفئة مميّزة. وإذا كان عدد التلاميذ قليلاً، فهذا يعود الآن إلى أن كثيراً رفضوه وما أرادوا أن يتابعوا المسيرة معه. وفي زمن تدوين الإنجيل الرابع، كان التيار الغنوصي (يشدّد على المعرفة التي تخلّص، لا الصليب) يعتبر الوحي محصوراً بفئة صغيرة من المتدرّجين. هم يتناقلونه بشكل سرّي، من الفم إلى الأذن. أما الباقون فيُعتبرون جهّالاً ومساكين. أما يسوع فهو عكس ذلك. إنه "نور العالم" (8: 12).
لم يجُب يسوع على أسئلة حنّان. ما أراد أن يدخل في "لعبته". لقد أعطى تعليمه في موضع آخر، في موضع يجتمع فيه كل اليهود، ولا حاجة إلى تكراره الآن أمام فئة صغيرة تريد أن تدين يسوع لا أن تستنير بكلامه. هذا ما أزعج رئيس الكهنة. ولهذا كانت اللطمة مع ما فيها من سخرية. من يُلطم يكون عادة في موقف ضعف وهزء. أما هنا فبدا يسوع قوياً مهيباً ومنطقياً مع نفسه. أما ذاك الذي ضربه فبدا ضعيفاً ومضحكاً. ونجد المفارقة عينها حين نرى يسوع خارجاً وهو يحمل قيوده. ففي كل عمل يقوم به، يدلّ على أن خصومه لا يستطيعون شيئاً ضدّه.
وخان بطرس معلّمه، لا مرّة واحدة، بل ثلاث مرّات. يسوع في الداخل. ولكن ماذا يحدث في الخارج؟ بطرس يصطلي مع خصوم يسوع. لم يعرف أن الخطر هو هنا. أما كان يجب عليه أن يهرب "لئلا يقع في التجربة"؟ تابع يسوع مسيرته إلى الصليب، فظلّ أميناً تجاه أبيه وأميناً لنفسه. أما بطرس فما استطاع أن يتبع يسوع الآن. لهذا سقط فأنكر معلّمه.
"وللوقت صاح الديك". إعتقد الأقدمون بقوى شريرة ترودُ حول البشر خلال الليل، واعتبروا هذه الصياح الخارج من صمت الليل صراخ الشيطان. أما بالنسبة إلى بطرس، فبدا هذا الصياح تذكيراً بتنبيه يسوع (13: 38). وسوف ننتظر 21: 15- 20 حيث يتقوّى بطرس بالروح الذي ناله بعد القيامة، فيتثبّت في النداء إلى اتباع يسوع وخدمة إخوته حتى شهادة الدمّ.
إختلف يوحنا عن الأناجيل الإزائية التي أبرزت نتيجة صياح الديك على بطرس (بكى وهرب)، فروى ببعض البرودة خبر الخيانة التي سبق يسوع وأعلن عنها (13: 38). ما أنبأ به الربّ، سيّد الأحداث، يتمّ حتماً. في النهاية (بعد القيامة) سيلاقي بطرس نظرة الحقيقة وغفران الرب. في النهاية سيدلّ على أنه يحب الربّ وأنه مستعد للتضحية بذاته من أجل الخراف التي أوكلت إلى عنايته.
بطرس هو صورة عن التلاميذ، صورة عن الكنيسة، صورة عن كل واحد منا. فهل نعترف بأننا خطأة وبأننا نحتاج قدرة يسوع ونعمة روحه القدوس؟ بهذا الشرط فقط نستطيع أن نتبع يسوع

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM