الحكم على يسوع

الحكم على يسوع
19: 1- 16

"هوذا ملككم"! صاحوا: "إرفعه، إصلبه"!
إن مرور يسوع لدى قيافا بدا موجزاً مقتضباً. أشار الكاتب إلى ذهابه من عند قيافا في الصباح، أي حوالي الساعة السادسة. ولم يزد شيئاً على ذلك. فاهتمامه كلّه يتركّز على اللقاء بين يسوع وبيلاطس، وهو لقاء يكون محور خبر الآلام، ويتضمّن آخر "خطبة" وحي في فم يسوع.
يجري المشهد في دار الولاية، وهو موضع إقامة بيلاطس، الوالي الروماني. نحن نراه هنا للمرة الأولى في إنجيل يوحنا، ولا نجد أي تحديد عن هويته. كان حاكماً لليهودية منذ سنة 26 إلى سنة 36. وقد اكتشفت حديثاً مدوّنة في قيصرية البحرية وهي تورد إسمه فتؤكّد ما قاله الإنجيل عنه. واتفق فيلون (المفكّر اليهودي العائش في الإسكندرية) وفلافيوس يوسيفوس (مؤرّخ الحرب اليهودية الرومانية) وتاقيطس (المؤرّخ الروماني) على تصويره كشخص قاسٍ لا ضمير له. عامل اليهود بفظاظة واحتقار. عزله فيتاليوس، حاكم سورية، بسبب وحشيته. أما يوحنا فانطلق من وجهه التاريخي ليجعل منه صورة الملك الأرضي تجاه يسوع الملك الحقيقي.
كان الوالي الروماني يقيم عادة في قيصرية (أع 23: 33). وبمناسبة الأعياد الكبرى أو في أوقات القلاقل، كان يصعد إلى أورشليم. أين كان يقيم في أورشليم؟ هنا يختلف الشرّاح: منهم من قال في القلعة التي بناها هيرودس غربيّ المدينة. ومنهم من قال في قلعة أنطونيا الواقعة شمالي الهيكل، حيث جعل التقليدُ (يعود إلى القرن الثاني عشر) يسوعَ يلتقي ببيلاطس. نلاحظ أن الإنجيلي لم يعطِ المسائل الجغرافية أهميتها، بل اهتمّ بإبراز اللقاء بين بيلاطس ويسوع، وكأنه مجابهة بين قوتين. وقد عرض هذه "المجابهة في سبعة مشاهد بناها بناء بارعاً".
* المشهد الأول (في الخارج): بيلاطس واليهود. المحاورة الأولى (18: 28- 32). يبدأ النص بهذه العبارة: "فخرج بيلاطس إليهم".
* المشهد الثاني (في الداخل): بيلاطس وشموع. مملكة يسوع (18: 33- 38). يبدأ هذا المشهد بالعبارة: "فدخل بيلاطس".
* المشهد الثالث (في الخارج): بيلاطس واليهود: برأبا (18: 38- 40). نقرأ في آ 38: "وخرج أيضاً إلى اليهود".
* المشهد الرابع (في الداخل): إكليل الشوك (19: 1- 3). هذه هي قمة المشهد وهي تدلّ على أن يسوع هو ملك (هناك تدرّج صاعد: أ، ب،، د، ثم نازل: ج، ب، أ).
* المشهد الخامس (في الخارج): بيلاطس واليهود: هوذا الرجل (19: 4- 7). يبدأ بهذه العبارة: "وخرج بيلاطس أيضاً".
* المشهد السادس (في الداخل): بيلاطس ويسوع: سلطان بيلاطس (19: 8- 12). نقرأ في آ 8: "ودخل أيضاً دار الولاية".
* المشهد السابع (في الخارج): بيلاطس واليهود: هوذا ملككم (19: 13- 16).
نلاحظ توالي المشاهد في الخارج وفي الداخل. وفي الوسط نجد مشهداً منعزلاً: تتويج يسوع بالشوك. لا نجد عند متى ومرقس سوى ثلاثة مشاهد (بيلاطس يستجوب يسوع، محاولة بيلاطس الفاشلة في أن يطلق يسوع، تسليم يسوع إلى اليهود). أما يوحنا فبنى سلسلة من المشاهد الدراماتيكية لكي يثبت حقيقة مملكة يسوع.
المشهد الرابع: الجنود الرومان يجلدون يسوع ويهزأون به (آ 1- 3).
يختلف الإنجيليون في تحديد موقع هذه الأحداث. حسب مرقس ومتى، يجلد يسوع ويهزأ به في نهاية المحاكمة: أرسل بيلاطس يسوع ليجلد ويصلب. أما الجنود الرومان فأخذوه إلى الدار ليهزأوا به. والكلمة حول جلد يسوع (مر 15: 15) تعود إلى مرقس أو المرجع الأول لخبر الآلام كما استقى منه. ونقول الشيء عينه عن مشهد الهزء (مر 15: 16- 20). هل نحن أمام حدثين منفصلين؟ لا، بل عملان يصوّران معاً. وهذا ما نجده عند لوقا (23: 11) حيث الهزء بيسوع يقف في وسط محاكمة يسوع ويكون عملَ هيرودس وجنوده معاً. فبعد أن عاد يسوع من عند هيرودس، قال بيلاطس مرتين (لو 23: 16، 22) إنه سيجلد يسوع ويطلقه، ولكن النصّ لا يقول لنا إنه فعل. عند لوقا، العمل الوحيد الذي قام به الجنود الرومان ضدّ يسوع كان هزءهم منه حين كان يحمل صليبه (لو 23: 36- 37). أما يوحنا، شأنه شأن مرقس ومتى، فقد تحدّث عن جلد الجنود الرومان وهزئهم بيسوع. ولكنه تبع لوقا حين جعل الجلد في وسط المحاكمة.
كيف جرى مشهد الهزء بالتفصيل؟ يبدو خبر لوقا مستقلاً عن خبر سائر الأناجيل. ولا يبدو خبر يوحنا قريباً منه. ثم هناك اختلافات بين متى ومرقس، وإن كان الخبران متشابهين. نشير هنا إلى أن متى جعل مشاهد العنف بعد مشاهد اللاعنف.
يقول مت 27: 29: ضفروا إكليلاً من شوك وجعلوه على رأسه. وهذا ما يقوله يوحنا (آ 2). يجعل متى الإكليل بعد اللباس، ويوحنا قبل اللباس الأرجواني. واقترب يوحنا من مرقس وإن لم يكن كل الإقتراب حيث تحدّث عن الجنود والفرقة كلها، عن اجتذاب يسوع إلى داخل الدار، عن وضع إكليل الشوك على الرأس، عن اللباس الأرجواني وعن تحية يسوع بملك اليهود. كل هذا يعني ارتباط يوحنا بمرقس ومراجعه، مع الإفادة من خبر متى.
كان الجلد والهزء في نظر متى ومرقس جزءاً من الصلب. في نظر لوقا، كان الهزء تعبيراً عن احتقار هيرودس ليسوع. وأثار يوحنا مسألة تعتبر أن الجلد والهزء كانا جزءاً من مخطّط بيلاطس لكي يطلق يسوع. فقبل هذا الحدث وبعده، أكّد بيلاطس أن يسوع بريء. لهذا نستطيع أن نفترض أن بيلاطس أراد تهدئة "اليهود" ليقنعهم بأن يسوع أضعف من أن يحمل أي تهديد.
حين هزىء الجنود من يسوع وسخروا منه كملك، قاموا "بطقس" معروف في أوساط الجنود. فإن فيلون يصوّر لنا رجلاً يلبسونه ثوباً ملوكياً، ويضعون على رأسه "تاجاً" وفي يده عصا كأنها "صولجان". ثم يركعون أمامه ويحيّونه كأنه ملك. قد يكون الجنود صنعوا الشيء عينه مع يسوع.
أي دور يلعبه هذا الحدث في توسّع يوحنا في خبر محاكمة يسوع؟ فشل بيلاطس في إطلاق يسوع (المشهد الثالث)، فقام بعمل ما. كانت نواياه صالحة، ولكن حسّ العدالة بدأ ينحرف شيئاً فشيئاً عن الخطّ المستقيم. في المشهد السابق فشل في إطلاق يسوع مع أنه وجده بريئاً. والآن ها هو يأمر بجلد يسوع البريء. وبدا ضعف بيلاطس وروح المساومة واضحاً أمام أعداء يسوع في المشهد التالي. على المستوى اللاهوتي، جعل خبر الهزء (بما فيه من إيجاز) موضوع مملكة يسوع أكثر مركزيّة مما عند الإزائيين. في المشهد الثالث، تحدّث بيلاطس هازئاً عن "ملك اليهود". والآن، ها هم الجنود الرومان يقومون بهذا العمل: أعلن يسوع ملكاً، فعليهم أن "يتوّجوه". يا لسخرية الحياة! إنهم قد قالوا الحقيقة دون أن يعلموا. وهكذا نستطيع أن نرى كيف أن الأمم الوثنية اعترفت بملكية يسوع.
المشهد الخامس: قدّم بيلاطس يسوع لشعبه. فصرخ اليهود: "ليُصلَب" (آ 4- 8).
لا شكّ في أن هناك تواصلاً بين الهزء بيسوع وتقديمه لشعبه. ولكننا نعتقد أن الإنجيلي يبدأ مشهداً جديداً في آ 4 (خرج بيلاطس أيضاً وقال لهم). وهكذا تكون بداية المشهد الخامس مثل بداية المشهد الثالث (18: 3: "خرج بيلاطس إلى اليهود وقال لهم". ثم إن كلمات بيلاطس هي هي في الحدثين: "لم أجد عليه علّة". وهكذا يضيع التوازي إن لم نجعل من آ 1- 3 مشهداً منعزلاً. فهي الذروة في قلب المحاكمة. إنتهى المشهد الثالث مع شرح الإنجيلي حول برأبا (كان برأبا لصّاً)، وانتهى المشهد الخامس مع شرح حول بيلاطس (إزداد خوفاً). وإذا كانت آ 9 هي بداية المشهد السادس، يكون هناك موازاة بين المشهد الثاني (18: 33) والمشهد السادس (19: 9).
الميزة المشتركة بين هذا المشهد وخبر الأناجيل الإزائية عن المحاكمة الرومانية، هو الصيحة بأن يُصلب يسوع. غير أن هناك تشابهاً بين لوقا ويوحنا. جاء بيلاطس بيسوع إلى "اليهود" وقال إنه لا يجد علّة عليه. هذا ما يشبه ما نقرأ في لو 23: 13- 26 حيث أُعيد يسوع من عند هيرودس، فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والأقطاب والشعب وقال لهم إنه لم يجد جرماً على هذا الرجل. وكِلا الحدثين يتبعان مشهد الهزء بيسوع على يدي الجنود.
في يوحنا، يتوسّع هذا المشهد بموضوع ملك يسوع. أقرّ بيلاطس أنه "ملك اليهود" (المشهد الثالث)، "توجّه" الجنود وأعطوه "الصولجان". وها نحن ندخل في احتفالا آخر في طقس التتويج. ألبس الأرجوان وقدّم إلى شعبه لكي يعلنه شعبه. إن يوحنا يرى كيف أن انتظار اليهود الطويل لملكه المسيحاني انتهى في السخرية.
إن المشهد الدراماتيكي لتقديم يسوع إلى "اليهود" هو خاصّ بيوحنا. ولكن يبدو أنه وجد ما كتبه في التقليد. كان على بيلاطس أن يقول: "هوذا الملك" كما فعل في آ 14. فإذا هو يقول: "هوذا الرجل". قد تدلّ هذه العبارة على لقب مسيحاني، ولكنها تبقى ملتبسة. ولهذا اعتبر الشرّاح أننا أمام عبارة هزء أعاد يوحنا تفسيرها بشكل لقب مجيد.
مهما تكن نيّة بيلاطس في تسمية يسوع، فقد فشلت خدعته في تقديمه إلى "اليهود". شعروا بضعف بيلاطس في هذه المحاولة الثانية من أجل التسوية، فاستقبلوا ملكهم بهتاف غريب: "أصلبه". صرخوا، هتفوا. وهكذا نعود إلى الوراء حيث هتف الجمع أمام يسوع قبل خمسة أيام: "هوشعنا... مبارك ملك إسرائيل" (12: 13). نحن أمام رفض يسوع، بل رفض لحيلة بيلاطس.
إغتاظ بيلاطس من هذا الجواب: "خذوه أنتم واصلبوه". هذا ما دفع "اليهود" إلى حرب سيكولوجية ضدّه. فإن لم يلبّ رغبتهم كما عبّروا عنها، سيدلّ على أنه عدوّ رومة. لم تقل الأناجيل الإزائية لماذا لبّى بيلاطس رغبة الشعب "المزعجة". قال مر 15: 15 إن بيلاطس رغب في أن يرضي الشعب. وقال مت 27: 24 إن بيلاطس لم يستفد شيئاً، بل ازداد الشعب هياجاً. وأشار لو 23: 23 إلى إلحاحهم الطالب بأن يُصلب يسوع. ولكننا نعرف من المؤرخ يوسيفوس أن بيلاطس كان عنيداً مع اليهود. غير أن ما يؤثّر عليه هو ما يُقال عنه في رومة. هو يعارض عوائد اليهود. فإن أرسلوا إلى الإمبراطور طيباريوس وفداً، فقد يعرض هذا الوفد أيضاً كل سلوك بيلاطس كوالٍ في اليهودية. وهكذا بدا بيلاطس ضعيفاً، سريع العطب، ساعة كان يسوع أمامه.
رأى بيلاطس أن يسوع هو بريء ورفض أن يواصل المحاكمة. ولكن ملفّ عوائد اليهود قد فتح. فسواء كان يسوع داعياً إلى الثورة أم لا، فهو قد تجاوز الشرائع الدينية لدى اليهود. إن ممثّل رومة العظمى وصل إلى وضع من الخوف أنبأ به قيافا رئيس المجلس (11: 47- 53). يرى يوحنا أن ليس من قائد ديني أو دنيوي يستطيع أن يقاوم قدرة يسوع. حاول بيلاطس أن يكون حيادياً بالنسبة إلى الحقيقة التي تحرّر (8: 32). ولكنه الآن عبداً لخوفه.
إن لهذه الأسطر الأخيرة في هذا المشهد أهمية لاهوتية وسياسية لكي نفهم الخبر. السبب الحقيقي الذي دفع اليهود إلى قتل يسوع، هو أنه جعل نفسه ابن الله. ولكنه لم يجعل نفسه ابن الله. هو ابن الله. وامتزج السبب الديني مع السبب السياسي من أجل التأثير على بيلاطس. ثم إن يوحنا قرأ هذا التعارض بين يسوع واليهود وكأنه تعارض بين الكنيسة (المسيحية) والمجمع (اليهود) في عصره. نحن نرى في بداية خدمة يسوع (1: 35- 51) أنه أُعطيت له ألقاب مثل ابن الله وملك إسرائيل وابن الإنسان. وفي بداية حياته ستكون هذه الألقاب موضوع هزء: هو "ملك اليهود" (18: 39). هو "الرجل" (19: 5). هو "ابن الله" (19: 7).
المشهد السادس: حديث بين بيلاطس ويسوع حول السلطان (آ 9- 11).
يوازي هذا المشهدُ المشهد الثاني: فكلاهما يرياننا بيلاطس عائداً إلى الداخل لكي يسأل يسوع حول ما يتهمونه به في المجال السياسي والديني. وهذان المشهدان هما الوحيدان اللذان فيهما يتكلّم يسوع. في كلّ منهما، نقرأ سؤالاً أول يتبعه سؤال ثانٍ يتبعه شرح من يسوع. والشرح في كل قول يبدو بشكل تعليم إحتفالي، ويبرز إهتمام يسوع بالسماء وعدم اهتمامه بهذا العالم. يكون سؤال بيلاطس على مستوى وجواب يسوع على مستوى آخر. هذا ما نسميه تقنية "عدم الفهم" (رج مثلاً ما في حدث السامرية). مشهدان موسّعان وواضحان. ويلتقي المشهد السادس مع الأناجيل الإزائية في موضوع صمت يسوع الذي لا يعني في يوحنا ما يعنيه في متى ومرقس ولوقا: حين يحرّك الصمت السؤال التالي، فهو يواصل الحوار وكأننا أمام جواب.
إن الإستجواب الذي يخضع له بيلاطسُ يسوع هو محاولة يائسة لإطلاق يسوع. ولكن نوايا بيلاطس ليست شفّافة. نحسّ بغيظه، وبأنه لا يعرف كيف يتصرّف وبما يبدأ. فهو الآن أمام اتهام ديني يتجاوز فهمه. فالخوف يدفعه إلى التحدّث عن سلطانه. ومن الواضح أن بيلاطس عيل صبره من عدم تعاون هذا الرجل الذي يحاول أن يحميه. فمجهود بيلاطس في أن يجد طريقاً تتوسّط ذراعه بين الحقيقة والعالم، قد أحبط بسبب تصلّب العالم. والآن يجد أن الحقيقة ترفض المساومة. هو يكلّم يسوع يصدّه بعض الإنفتاح والصداقة والموافقة، حيث لا يكون كل هذا مضمّخاً بالإيمان (2: 23- 25؛ 3: 2- 3؛ 4: 45- 48).
إن لبّ الوجود هو قول يسوع حول القدرة أو السلطان. تحدّث بيلاطس عن قدرته المادية على يسوع: هو يستطيع أن يحرم يسوع الحياة. أما يسوع فكلّمه على مستوى آخر، مستوى الحقيقة والسلطة "الأصيلة". أي سلطة أصيلة وعلوية يمتلكها بيلاطس على يسوع؟ لن نفهم كلام يسوع على ضوء روم 13: 1 (لا سلطان إلاّ من الله)، بل على ضوء يو 10: 17- 18: أنا أبذل حياتي. لا يستطيع أحد أن ينتزعها مني. لي سلطان أن أبذلها. وساعته يحدّدها الآب وحده (12: 27). وفي سياق "الساعة" سمح الآب للبشر بأن يكون لهم سلطان على حياة يسوع. وقدرة بيلاطس لا تأتيه من جنوده. بل لأنّ الله سلّمه دوراً في هذه الساعة. أعلن يوحنا أن قيافا تحدّث عن موت يسوع من أجل الأمة، لأنه كان عظيم الكهنة "في تلك السنة". وبيلاطس أيضاً له سلطان على يسوع، لأنه والي يهودا "في تلك السنة".
حاول بيلاطس أن يمارس سلطته على يسوع لكي يطلقه. ولكنه لم ينجح لأنه لم يسلّم نفسه كلياً للحقيقة وحاول أن يكون حيادياً ولكن عبثاً. هو لا يبغض الحقيقة من طبعه. لهذا بدت خطيئته أقلّ خطورة من خطيئة قيافا و"اليهود" الذين أرادوا أن يقتلوا يسوع. لم يهتمّ يوحنا بالقول إن خطيئة بيلاطس هي أقلّ من خطيئة اليهود. بل باتهام الذين هم المسؤولون الحقيقيون. وهكذا نلتقي مع مشهد غسل الأيدي كما صوّره مت 27: 24- 25، فنفهم أن بيلاطس بريء من دم يسوع.
المشهد السابع: إستسلم بيلاطس لليهود الذين طالبوا بصلب يسوع (آ 12- 16).
توازى خبر يوحنا مع خبر الإزائيين في تكرار الصياح "ليُصلَب" وفي تسليم يسوع للصلب. فخبر محاكمة يسوع في يوحنا هو أكثر تفصيلاً، هو دراماتيكي ولاهوتي. وموقع هذا الحدث على "البلاط الحجري" ساعة الظهر، لا يدلّ فقط على لمسة دراماتيكية بل يشير أيضاً إلى اهتمام الكاتب بذروة المحاكمة. لا رمزية واضحة لاسم المكان. فقد يكون تاريخياً. أما الوقت فيبقى مسألة صعبة. صُلب يسوع في الساعة السادسة (أي الظهر). وقد حاول المخطوط السينائي التوفيق فقال الساعة الثالثة (9 ق. ظ). لم يهتمّ الإنجيلي بقرار بيلاطس وما يرتبط فيه بالسياسة. فاهتمامه لاهوتي: لقد تحوّل القرار إلى مأساة الشعب اليهودي الذي رفض العهد الداودي في يسوع المسيح.
حين بدأ المشهد، ظنّ بيلاطس أن يسوع أساء استعمال القدرة التي أعطاه إياها الله. فحاول مرة أخرى أن يطلقه. فسارع "اليهود" وجدّدوا تهديدهم باتهامه لدى رومة. في المشهد الخامس رأينا بيلاطس يرتعد لأنه اتهم بأنه لا يحترم عادات اليهود. والآن صار صدقه تجاه الإمبراطور موضع تساؤل. يبدو أن بيلاطس امتلك لقب "صديق قيصر". وقد يخسره الآن. ويعاقب عقاباً قاسياً، لأن الإمبراطور لم يكن سهلاً مع خيانة الذين أغدق عليهم الإنعامات.
ظلّ بيلاطس متأكداً أن لا ذنب على يسوع، ولكن اليهود أكرهوه على تسليمه. فإن قيل عنه انه أفلت ملكاً قد يخون الإمبراطور، يفتح ملفّه كله. فخسران الحظوة ثمن باهظ للدفاع عن الحقيقة. ثم قدّم "ملك" اليهود محاولاً أن يستجلب الرأفة. ولكنهم ظلّوا يطالبون بصلبه. حينئذٍ إنتقم منهم بيلاطس وأذلّهم في روحهم الوطنية. حين طالبوا بالحكم على يسرع، دلّوا على ولائهم للإمبراطور. هل نسوا رجاءهم بملك منتظر؟ نحن مستعدّون أن ندفع أي ثمن في حربنا ضدّ الحقّ. ولهذا قالوا: "لا ملك لنا إلاّ قيصر"! المحاكمة الحقيقية قد انتهت. فاليهود حكموا على نفوسهم بحضرة يسوع. وهم أصدروا الحكم بحقّ أنفسهم.
أعلن إسرائيل أن الرب هو ملكه (قض 8: 23؛ 1 صم 8: 7). ومنذ وعد ناتان لداود (2 صم 7: 11- 16)، وحسب لاهوت أورشليم، صارت ملكية الله منظورة في قيادة الملك الداودي الذي جعله الله ابنه (مز 2: 7). وفي زمن ما بعد المنفى، نمت روحانية حول المسيح الوحيد، الملك الآتي من بيت داود، حول المسيح المقبل الذي سيأتي ليقيم حكم الله على الأرض. فالذي يقيمه الله سيكون وحده ملك شعب الله. لن يكون من فارس ولا من أنطاكية ولا من رومة بجيشها الذي يدوس البلاد. "أيها الرب، قد استولى علينا سادة سواك، ولكننا لا نتعرّف إلا إلى اسمك" (أش 26: 13). ولكن مرّت مئات السنين على هذا الإنتظار. وها هم يفضّلون طيباريوس قيصر، ويهتفون: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25). نحن هنا أيضاً في إطار الصراع بين الكنيسة والمجمع في السنوات 80- 90.
إن الوقت الذي فيه تخلّى اليهود عن ملكهم كان وقت ذبح الحملان من أجل عيد الفصح. هذه هي "سخرية" يوحنا تجاه اليهود الذين تركوا العهد ساعة يستعدّ الكهنة لعيد يذكّر الشعب بخلاصه من عبودية مصر. وقتُ ذبح الحملان هو وقت دينونة الله للعالم. وفي هذا العيد حكموا على أنفسهم حين حكموا على الذي أرسله الله إلى العالم لا ليدينه، بل ليخلّصه (3: 17).
في بداية الإنجيل، دلّ المعمدان على يسوع بأنه حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (1: 29). والآن قد تمّت هذه النبوءة. فحين تذبح حملان الفصح تنتهي محاكمة يسوع، فينطلق إلى الجلجلة ليسفك دمه الذي ينقّي البشر من خطيئتهم. حقاً، إنّ الله قد خطّط بكل عناية لهذه "الساعة".
إن هذه المتتالية بين بيلاطس واليهود تكشف في الوقت عينه عن براءة يسوع وشّر اليهود: من جهة، أعلن بيلاطس براءة يسوع. ومن جهة ثانية، فضّل اليهود برأبا "اللصّ" على يسوع البريء، فدلّ أن سبب الحكم على يسوع هو غير ما يقولون. لقد سلّموا يسوع كمجرم حقيقي. واختار بيلاطس العالم وسرابه وترك الحقيقة التي قدّمها له يسوع.
وتمّ الجلد والتكليل بالشوك في الداخل بين خروجين لبيلاطس (18: 38؛ 19: 4). ليس الجلد عند يوحنا بداية العقاب الذي يجد ذروته في الصليب، ولا محنة جسدية تتوخّى أضعاف المحكوم عليه أو إجباره على الإقرار. بل في تجعل يسوع شبيهاً بعبد الله المتألم "الذي سلّم ظهره للذين يضربونه" (أش 50: 6). مشهد التكليل هو مهزلة في نظر الجنود، ولكنها تعبّر في نظر القارىء المؤمن عن حقيقة حول يسوع الملك المُهان والسافك دمه. كما يشكّل المشهد أيضاً مواجهة بين الملك المشوّه والشعب اليهودي.
ويخرج بيلاطس مرّة ثالثة فيعلن أيضاً براءة يسوع المرتدي الشارات الملوكية (التاج، اللباس الأرجواني)، قال: هوذا الرجل. عبارة تدلّ على الهزء من قبل بيلاطس واليهود. أما القارىء المسيحي فهو يعرف أن هذا الإعلان حقيقي بحقيقة تتجاوز بيلاطس واليهود. لقد وصل الإنتظار المسيحاني الطويل إلى نهايته. فالإنسان (أو: الرجل) وابن الإنسان هو هنا. هو ملك يُهزأ به. غير أنه يُتمّ في مسيرته الذليلة الطريق المجيد الذي يقود إلى الوحي الكامل.
وهكذا بدت الهوّة الكرستولوجية واضحة بين اليهود والمسيحيين. فما يعتبره اليهود تجديفاً (يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله) يعبّر عن إيمان حقيقي لدى المسيحيين الذين يعترفون بيسوع أنه ابن الله.
بدا بيلاطس، ممثل السلطة الرومانية، خائفاً، مرتعداً. فسؤاله "من أين أنت" يستعيد موضوعاً متواتراً عند يوحنا حول أصل يسوع السرّي. وصمتُ يسوع يدلّ على الهوّة السحيقة بينه وبين بيلاطس الذي لا يستطيع تقبّل سرّ الله في يسوع. فسلطان بيلاطس (بأن يطلق أو يصلب يسوع) هو سلطان ظاهري. لا الواقع، يسوع الذي مملكته ليست من هذا العالم، يأتي من أعلى، من هذا الموضع السرّي والإلهي. لا شكّ في أن مسؤولية بيلاطس ليست على قدر مسؤولية "اليهود". ولكن الحياد غير ممكن أمام يسوع، وقد حُكم على بيلاطس لأنه فضّل العالم على تقبّل الوحي في يسوع.
وهكذا وصلت المحاكمة إلى النهاية. فهم بيلاطس أن يسوع لا يشكّل خطراً على المستوى السياسي. ونقرأ عبارة يوحنا في ترجمتين مختلفتين: أجلس بيلاطس يسوع. أو: جلس بيلاطس على منصّة القضاء. قد يكون بيلاطس أراد أن يهزأ بيسوع على أنه الديّان والقاضي، كما هزىء منه الجنود على أنه ملك.
وسقطت الأقنعة: إذا أطلقتَه فلستَ صديق قيصر. لوحة غريبة يرفض فيها الرومان أن يعذّبوا "ملك اليهود" البريء في عيونهم، بينما ينكر اليهود ملكهم من أجل سلطة غريبة: لا ملك لنا إلاّ قيصر. كيف نفهم أن يتخلّى اليهود المؤمنون بشكل نهائي عن انتظار مسيح لكي يوالوا السلطة الرومانية. نحن نعلم أن اليهود ظلّوا ينتظرون المسيح حتى نهاية القرن الأول المسيحي كما تقول الصلاة: "أملك علينا أنت وحدك".
وبدأت الساعة السادسة، الساعة التي فيها تتوقّف الأشغال للدخول في احتفال الفصح. في هذه الساعة أعلن بيلاطس باحتفالٍ ملكيةَ يسوع أمام اليهود. ولكن اليهود تخلّوا في تلك الساعة وبشكل نهائي عن كل مسيحانية لكي يتعلّقوا بسلطة قيصر. أما الذين تقبّلوا يسوع (القرُّاء المسيحيون) فقد حلّت ساعة الخلاص. ومملكة يسوع هي حقيقية، وهم يقبلونها بملء حياتهم لأنها تعلن أن المسيح توّج ملكاً على الصليب ومن خلال الأحداث الذي قادته إلى الجلجلة.
وانتقل يسوع منذ توقيفه من يد إلى يدء قال بيلاطس: "خذوه" (18: 31). وأخذه بيلاطس (19: 1). وأخذوا يسوع (19: 16). ولكن رغم الظواهر، لا يستطيع أحد أن "يمسك" يسوع. فهو يقيم مملكته على طريق الآلام ويدعو الذين "أخذوا" بكلمته إلى أن يرافقوه حتى الصليب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM