الفصل الرابع والعشرون: ثمن الجريمةوالكتاب المقدس

الفصل الرابع والعشرون

ثمن الجريمة والكتاب المقدّس
27: 3-10

أدرج مت هذا المقطع في السياق المرقسي، فكان خاصًا به. وهو يبدو بشكل جسم غريب في رواية الحاش. ولكن هذا الشعور يخفّ حين ندرك الهدف الذي توخّاه الكاتب حين دوّنه.وهذا لا ندركه إلاّ على ضوء الايراد الكتابي الذي يختتم المقطوعة ويقدّم لنا المفتاح للولوج إليها.
نجد في هذا التأليف قسمين جوهريين: الخبر والايراد الكتابي. ونميّز في الخبر توالي ((الممثّلين)) الرئيسيين: يوضاس (آ 3-5). عظماء الكهنة (آ 6-8).

1 - الخبر (27: 3-5)
هذا هو القسم الأول من المقطوعة. وهو يحدّثنا عن مسعى يوضاس (= يهوذا) وانتحاره. نلاحظ فيه طريقة متّى في الكتابة مع أداة الوصل ((توتي)) (حينئذ). وسنلاحظ طريقته في المقطوعة كلها.
ظلّ يوضاس في الحاش المتّاوي بلا اسم حتى مشهد القبض على يسوع. واختفى من الخبر بعد مشهد القبض هذا. وها هو يظهر هنا من جديد مع وصْف وُصف به مرات عديدة: ((الذي أسلمه))، الذي أسلم يسوع (10: 4؛ 26: 25، 46، 48). سبق وتحدّثنا عن فعل ((باراديدوناي)) في العهد الجديد. في 27: 3 نتبع الفاتيكاني (صيغة الماضي) لا السينائي (صيغة الحاضر) فنفهم أن العمل قد تمّ، أن يوضاس قد أسلم يسوع.
ولكن فعل ((أسلم)) هو ذاته الذي يعبّر عمّا فعله أهلُ المجلس حين أسلموا يسوع إلى بيلاطس (27: 2). لسنا هنا على مستوى الصدفة أو أمام لفظة رابطة، بل أمام تماسك وثيق بين عملين: بما أن يوضاس أسلمه إلى السلطات، أسلمته هذه السلطات بدورها إلى الذي يُميته. لقد انتهى كل شيء ووعى يوضاس ما فعل. واسم الفاعل (إذ رأى أنه حُكم عليه، إيدون) لا يتضمّن أن يوضاس حضر مشهدًا ما. مثلاً مشهد نقل يسوع من قصر عظيم الكهنة إلى قصر بيلاطس. ففعل ((رأى)) يدلّ أيضًا على المعرفة والوعي لما سوف يحصل (2: 16؛ 27: 24 مع ((هوتي)) أنّ؛ رج 9: 2، 4؛ 27: 54).
كيف عرف وبأية وسيلة. هذا ما لا يتوقّف عنده متّى. لقد لاحظ يوضاس أنه قد قُضي على يسوع، وأن عظماء الكهنة وصلوا إلى أهدافهم. إن المؤامرة التي بدأت منذ يومين (26: 4) وقدّم لها يوضاس عونًا هامًا (26: 14)، قد نالت نتيجتها. فيسوع قد أوثق وحُكم عليه، وأسلم إلى بيلاطس. والقارئ يعرف مسبقًا ماذا سوف يعمل بيلاطس بيسوع.
ويوضاس يعرف هو أيضًا. وهذا ما أثار عنده عاطفة الندم. يشدّد الشرّاح على الاختلاف بين فعل ((ميتامالستاي)) المستعمل هنا (رج 21: 30؛ 27: 3؛ 2كور 7: 8؛ عب 7: 21؛ ق مز 110: 4. لا يرد في سائر الأناجيل) والأفعال التي تدلّ في العهد الجديد على فكرة ((التوبة)) و((الارتداد)) (ميتانواين، ابسترافاين). تجنَّب مت هذين الفعلين هنا وفي 21: 29، 32 (نجد عبارة مماثلة في المقاطع الثلاثة. ندم الابنين) حيث العاطفة لم تصل إلى المسعى الديني، لم تنفّذ شيئًا، بل ظلّت مجرّد عاطفة تجاه جريمة تمّت. وإن يوضاس لا يعود إلى الله، بل إلى عظماء الكهنة والشيوخ ((ليردّ)) ثمن الخيانة.
يرد الفعل ((ميتامالستاي)) مرارًا في السبعينيّة (ن ح م في العبرية، خر 13: 17؛ 1صم 15: 35؛ 1أخ 21: 15...). نلاحظ وجوده في زك 11: ،5 لأننا نجد تلامسًا بين هذه المتتالية النبويّة والمقطع الذي ندرس. غير أن هذا التقارب الأول يبقى على المستوى المادي، لأن الندم في زكريا غير موجود عند المذنبين (عكس ما عند يوضاس). ولكن الاتصال التالي هو أهم: يشير إلى ((ثلاثين قطعة من الفضّة)) وهي ثمن هزيل قدّمته السلطات إلى يوضاس في مشهد سابق (26: 15). أعاد مت صياغة مر، وتأثّر تأثّرًا واضحًا بنص زك 11: 12-13 الذي أورده في المقطوعة فجعله يلعب دورًا جوهريًا في تأليف الخبر.
نلاحظ أن الاتصالات بين مت وزك لا تتوقّف عند المقطع الذي ندرس. رج 21: 5 (زك 9: 9)؛ 26: 15(زك 11: 12)؛ 26: 31 (زك 13: 7)؛ 27: 3، 5، 7، 10 (زك 11: 12-13).
إن اسم الجمع ((ارغيوريا)) الذي نقرأه هنا وفي 25: 27؛ 26: 15؛ 27: 5، 6، 9؛ 28: 13، 15، لا يظهر أبدًا في سائر العهد الجديد ولا في السبعينيّة. إنه مزيج بين الحياد المفرد ((ارغيريون)) (مر 14: 11) والجمع المذكر (ارغيروس)) (زك 11: 12 حسب السبعينيّة) الذي نجده في سياق آخر: أع 19: 24؛ 2تم 2: 20؛ رؤ 9: 20 (ونجده في السبعينيّة). نشير هنا إلى أن 30 من الفضة هي ثمن العبد حسب خر 21: 32.
يحبّ متى أن يجعل في أخباره الخطبة المباشرة (15: 5؛ ق مر 7: 17؛ 15: 22، 25؛ ق مر 7: 26؛ 16: 22؛ 17: 9...). وهنا جعل حوارًا بين يوضاس ورؤساء الأمّة. يُبرز هذا الحوارُ التعارضَ بين الدراما الداخليّة التي يعيشها التلميذ المذنب واللامبالاة المطلقة التي يدلّ عليها مشاركوه في الجريمة. وجاء التعبير عن الاقرار في ألفاظ دينيّة جُمعت من الكتاب المقدّس. فالاعلان ((أخطأ)) تشير إلى اعتراف علني بالخطايا تقوم به الجماعة أو الفرد باسم الجماعة (هيمارتون، يش 7: 20؛ 2صم 19: 20؛ 24: 10، يعبّر عن العلاقة بالله في شكل أو آخر). ثم طبّق على يسوع لفظة ((الدم الزكي)) (هناك مخطوطات تتحدّث عن الدم البار، رج مت 23: 25) كما نجدها مرارًا في العهد القديم (تث 27: 25؛ 1صم 19: 5؛ 25: 26، 31؛ 2مل 21: 16...)، فدلّ على أن حياة هذا البار والبريء مهدّدة بالخطر، بل دُمّرت. إن الدم يرمز إلى الحياة (تك 9: 4). ((أسلم الدم الزكي)) يعني: أسلم حياة بريئة وبارة، أسلم صاحبها إلى الموت (1صم 19: 5؛ مز 94: 21).
مثل هذا الاقرار الموجّه إلى الذين حكموا الآن على يسوع،لا يحرّك عندهم إلاّ لامبالاة وبرودة. وهذا ما يدلّ عليه جوابهم الذي جاء في عبارتين قصيرتين. في 27: 24 سيعيد بيلاطس العبارة الثانية إلى السلطات عبر الجمع الذي تحرّكه هذه السلطات. كل هذا يدلّ على رفض تام، ولن يأمل يوضاس أن يحرّك أولئك الذين خدم مقصدهم أفضل خدمة. رفضوا أن يتأثروا ببراءة أراد يوضاس أن يقنعهم بها مقرًا بذنبه.
((ماذا لنا، ماذا يهمنا)) ((تي بروس هيماس)). نجدها في يو 21: 22، 23. تعني: تدبّر أمرك. أو كما يقال في الدارجة: ((إنضرب)) أنت وخطيئتك وندمك. لا ننسب إلى الانجيلي فكرة تقول إن مسعى يوضاس يشكّل آخر محاولة من قبل يوضاس لكي يتجنّب عظماء الكهنة والشيوخ أن يسفكوا الدم الزكي: فحسب 27: 2، قد أسلم يسوعُ إلى يدي بيلاطس ولا يمكن استعادته. فالامكانية الوحيدة للسلطات في هذا المجال هو أن تتبع يوضاس في إقراره، وتعترف هي أيضًا بأنها ((أسلمت الدم الزكي)).
ولكن السلطات لن تتراجع، وقد سنحت لها الفرصة، بل هي ستتابع مخطّطها حتى النهاية. وستعمل ما في وسعها لتحصل من بيلاطس على ما أرادت. هذا الجواب (إلى يوضاس) هو إذن حجر آخر في حقل الكرّامين الذين قتلوا ((الابن)) (21: ،37 39) بعد كل ((الدم الزكي)) الذي سُفك عبر الأجيال واستحقّ للمذنبين عقاب الله (23: 35، 36).
إن فعلة يوضاس (يهوذا) الذي تخلّص من ثمن الجريمة (آ 5، هنا أعاد السينائي لفظة ((ثلاثين)) كما في آ 3) ورماه في الهيكل، تودّ أن تملأ فجوة في الخبر، وتفترض أن عظماء الكهنة والشيوخ رفضوا أن يأخذوا الفضة المعادة. فذاك كان هدف يوضاس حين جاء إليهم (آ 3).
إن لفظة ((ناوس)) تدلّ دومًا في مت (23: 16، 17، 21، 35؛ 26: 61؛ 27: 5، 40، 41) على هيكل أورشليم. وكثرت النظريات التي تريد أن تحدّد موضع الهيكل الذي يشير إليه النصّ. وأراد الشرّاح أن يكونوا قريبين من ((التاريخ))، فتساءلوا كيف دخل يوضاس إلى ((ناوس))، إلى الهيكل، إلى القسم المحفوظ للكهنة. في الواقع، قد يضمّ ((ناوس)) كل ملحقات المعبد فيصبح مرادفًا لـ ((هيارون)).
ولكننا لسنا هنا فقط أمام تصوير ملموس. فهذه الحاشية تستلهم في الواقع مقطع زك 11: 13 الذي نجده في نهاية المقطوعة: طرح الراعي أجره الهزيل ((في بيت الرب)) (حسب السبعينيّة). لسنا أمام تذكّر حرفي، ولكننا نكتشف مع ذلك تأثير النصّ النبوي مرة أخرى (رج آ 3) على صياغة الخبر.
غير أن هناك تأثيرًا آخر، وهذا ما يدلّ عليه ما تبقّى من الدراما. بعد أن تخلّص يوضاس من فضّته، ((إنصرف، مضى، خنق نفسه)). إن فعل ((خنق)) (ابانخوماي) لا يرد إلاّ هنا في كل العهد الجديد. وتورده السبعينيّة لتروي انتحار أحيتوفل الذي شارك في ثورة أبشالوم وخانه حوشاي. ((مضى أحيتوفل إلى بيته، خنق نفسه ومات)) (2 صم 17: 23).
لا يُصدَر حكم على هذا الانتحار، بل يشار إليه بدون أي تفسير. أما شجب الانتحار الارادي فسيظهر فيما بعد في العالم اليهودي. أما في التوراة، فالخوف من الموت لم يشجّع هذه الممارسة التي ظلّت محدودة في أوضاع يائسة ذات طابع سياسي وحربي (قض 9: 54؛ 1صم 31: 4؛ 2صم 17: 23؛ 1مل 16: 18)، ولاسيّما في الاطار المكابي وجماعة الغيورين (1مك 6: 42-46؛ 2مك 14: 41-46): انتحار لا نقابله بانتحار يوضاس. ولكن هذا لا يعني هلاك يوضاس الأبدي. هناك من قال: هكذا تتحقّق نبوءة يسوع في مت 26: 24: ((ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الانسان. فلقد كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد)). هذه الجملة تدلّ على عقاب الله الذي يدرك الخائن (كما يدرك الاشرار). ولكن لا رباط بينها وبين الانتحار.
ويبقى أن العمل الذي به أنهى يوضاس حياته، هو مثَل لا يبني الجماعة. ولكن بطرس الذي ندم بعد خطيئته (26: 75ج) رسم للمسيحيين السلوك الواجب اتّخاذه، حتى لو أخطأوا مثل هذا وذاك.

2 - الايراد الكتابي (27: 6-8)
في القسم الأول، توقّفنا عند شخص يوضاس (= يهوذا) وكيف انتهى أمره. هنا نتوقّف عند عظماء الكهنة وفضّة الاثم. كل هذا يجد معناه في الايراد الكتابي: ((أخذوا الثلاثين من الفضة، ثمن المثمّن...)).
هكذا نعود إلى السلطات اليهودية التي صارت هنا ((عظماء الكهنة)). سنجد الشيوخ في 27: 12، 20؛ 28: 12. وستكون المجموعات الثلاث (عظماء الكهنة، الكتبة، الشيوخ) حاضرة على الجلجلة لتهزأ من يسوع (27: 41). بما أننا في الهيكل، اكتفى مت هنا بذكر عظماء الكهنة وحدهم. ويكون قد تأثّر بما في مر حيث يُشرف عظماء الكهنة اشرافًا واسعًا على خبر الحاش (الآلام).
اذن، استعاد عظماء الكهنة الفضّة التي تخلّى عنها يوضاس. فالعبارة ((إذ أخذوا (اسم الفاعل) الفضة)) (ارغيريا)، هي متّاوية ونجدها حرفيًا في 28: 15 وفي سياق آخر. غير أنها تعلن الايراد المقبل الذي تبدأه ذاتُ الألفاظ. فمصير الفضة المردودة هو موضوع تشاور لدى أهل المجلس، وقد طُرح عليهم الآن سؤال يوقف مسيرة الخبر: ماذا نفعل بهذه الفضة؟
هذه الفضّة هي ((ثمن الدم))، ولهذا لا يمكن أن توضع في خزانة الهيكل. والسبب المقدّم يعلن الايراد الكتابي الذي يلي والذي لاحظنا تأثيره على الخبر. هناك فعل ((ألقى، طرح)) (بالاين، زك 11: 13د) . لفظة ((ثمن)) (تيمي). لا يتفرّع رفض الكهنة من منع (تث 23: 19) استعمال أجر الزناة لاداء نذر في الهيكل (لفظة مختلفة في السبعينيّة لـ((ثمن))). وليس تطبيقًا لقواعد ستدوَّن فيما بعد في التلمود حول ((خيرات اقتُنيت بطريقة غير شرعية أو لا تخصّ أحدًا)) (مثلاً، شيء مسروق لم نعد نعرف صاحبه). بما أنه لا يمكن أن تُلقى هذه الفضّة في خزانة الهيكل، فهي تُستعمل للمصلحة العامة.
في الواقع، وبمعزل عن الشرائع والقواعد المعمول بها في اسرائيل، يجب أن نبحث عن أصل هذه الحاشية في السياق القريب. ((ثمن الدم)) هذا، هو نتيجة تجميع قدّم السياق أجزاءه. فإن ((ثمن)) (تيمي) يعود إلى زك 11: 13 كما في مت 27: 9. ((الدم)) يستعيد ((الدم الزكي)) في اعتراف يوضاس، ويعلن في الوقت عينه ((حقل الدم)) الذي دُفع ثمنه ((بثمن الدم)) (آ 8).
ولكن حين رفض عظماء الكهنة أن يلقوا في الخزانة الفضّة المعادة، أقرّوا أن هذا مال اقتني بالسرقة، وهو لا يستحقّ أن يُدفع في سبيل رفيع. يا لسخرية القدر! إنهم أقرّوا بشكل ضمني بخطيئتهم في هذه القضيّة.
وكان تشاور جديد، شبيه بذاك الذي رتّب قبل ذلك موتَ يسوع (26: 1). فالاتصال بين الاثنين واضح. فالذين سبق وتشاوروا من أجل هذا الهدف، ها هم يتشاورون الآن ليجدوا مخرجًا للمال الذي صرفوه في ذات الهدف. هو مال ((نجس))، لأنه ((ثمن دم)) البريء الذي أسلموه بأنفسهم إلى الموت. وهكذا شجب التشاورُ الثاني ما عمله التشاورُ الأول.
إن الثلاثين من الفضة التي لعبت دورًا كبيرًا في هذا الخبر بسبب نصّ زك الذي سيرد، ستُستعمل لشراء ((حقل الفخاري كمقبرة للغرباء)). إن المصلحة العامة ترتبط بالسلطة الرسمية، والخبر في هذا المجال منطقيّ ومتماسك.
غير أن مهمّة المفسّر لم تنته بمجرد أن يعرف النصّ الكتابي الذي عاد إليه الانجيليّ. هناك نصوص متعدّدة، واختلافات في النسخات، وترجمات متنوّعة. ونزيد حريّة الانجيلي في عودته إلى الكتب المقدّسة. هناك آراء عديدة. ونحاول أن نقدّم نظرة شاملة.
إن الاشارة إلى شراء ((حقل)) وتسمية ((حقل الدم)) هما العنصران المشتركان بين خبر مت وخبر أع 1: 18. نحن هنا أمام إرث آخر من التقليد. ولكن لا يقال شيء في أع عن ((حقل الفخاري)) الذي هو موضوع الشراء الذي قام به عظماء الكهنة في مت 27: 7. غير أننا نجد ((حقل الفخاري)) عينه في مت 27: 10، في الايراد الكتابي المأخوذ من زك 11: 13: ((وأعطيتهم لحقل الفخاريّ)) (آ 10أ). إن النص النبوي (كما هو في مت 27: 10)، لا يقابل السبعينية بل النصّ العبري كما رتّبه الماسوريون (أهل التقليد هو النصّ الرسمي). في السبعينيّة، أمر الله النبيّ حول الثلاثين من الفضّة: ((ألقها في مصبّ المعادن)). ويتابع النصّ: ((فأخذت الثلاثين من الفضّة والقيتها في بيت الرب، في مصبّ المعادن)). في العبرية، نجد ((ي ص ر)) مقابلاً للفظة ((مصبّ المعادن)) ومعناه المعروف: الفخاريّ.
غير أن هناك مقطعين في العهد القديم (1مل 7: 15 و2مل 12: 11) حيث يعني فعل ((ي ص ر)) صبّ المعدن. ويصوّر النصّ الثاني (2 مل 12: 11) عملية الصبّ... ولكن الواقع هو أننا أمام فعل ((صرّ))، ووضع في الصرة. لهذا نقرأ 2 مل أن كاتب الملك ورئيس الكهنة كانا ((يصرّان المال ويحسبانه)). من هنا ((أ و ص ر)) الخزنة والخزانة.
مهما يكن من أمر، أصبحنا أمام ((حقل الفخاريّ)). هنا نتذكّر إر 32 (39 في السبعينيّة): 6-7 الذي تحدّث عن شراء إرميا لحقل في عناتوت بأمر من الله. ونتذكّر إر 18-19 وزيارات النبي إلى الفخّارين في أورشليم. والايراد في الانجيل يشير إلى إرميا النبي.
ما كانت غاية هذه الفضّة التي رُفضت؟ تهيئة موضع ((لدفن الغرباء)). هنا نعود إلى ارميا. أمر الله النبي بأن يأخذ جرّة من عند الفخاريّ، ويخرج إلى وادي ابن هنوم الذي عند مدخل باب الفخّار (في السبعينيّة: تخرج إلى مقبرة أبناء أولادهم، التي هي عند باب ((خرسيت))، كما في العبرية). ثم يعلن لملوك يهوذا وسكان أورشليم: ((سأجلب على هذا الموضع شرًا. كل من سمع به تطنّ أذناه...)) (إر 19: 1ي).
إن إر 19 يعطينا فكرة عن عمل الراوي. قد كان في تصرّفه تقليد شعبي يدلّ عليه أع 1: 19: ربط ((حقل الدم)) القريب من أورشليم بموت يوضاس. إتصل هذا التقليد بنصّ زك 11: 3، المستعمل ليثمّن أجر الخيانة. هذا ما سبّب اعادة الثلاثين من الفضة إلى خزانة الهيكل وموضوع الفخاري. وكانت نتيجة توارد الأفكار أن ((حقل الدم)) في الخبر صار ((حقل الفخاريّ)). وانضمّت نصوص أخرى ذات مواضيع قريبة فجعلت من هذا الحقل مقبرة. لا يتحدّث العهد القديم عن((مقبرة الغرباء)). ولكن هذه الإشارة الأخيرة توافق متطلّبات الخبر. ولهذا أفاد منها الكاتب.
((كسانوس)): معنى متبدّل. هنا: يهود ليسوا من أورشليم وتوفّوا في المدينة المقدّسة. ويختلف الأمر إذا رأينا في الثلاثين من الفضة (حسب زك) أجرة زهيدة، لا تكاد تكفي لشراء حقل لا قيمة له، لا سيّما وأن ما دُفع هو ((ثمن دم)) بريء: لن نستطيع أن نقدّمه كمقبرة إلاّ للغرباء؟
في العهد الجديد ((كسانوس)) (صفة أو موصوف): الغريب عن البلد، الغريب عن الدين (25: 35، 38، 43، 44؛ أع 17: 18، 21؛ أف 2: 19؛ عب 11: 13؛ 13: 9؛ 3 يو 5). ويعني ((الضيف)) (روم 6: 22). كما يعني الأمر الغريب وغير العادي (1بط 4: 12). في السبعبنية ترد اللفظة قليلاً (8 مرات) فتترجم في 5 مرات ((ن ك ر ي: الغريب)). 3 مرات ذاك الذي ليس من بني اسرائيل (را 2: 10؛ 2صم 15: 19؛ مر 1 5: 2). أما ما يقابل ((ن ك ر ي)) العبرية عادة في اليونانية، فهو ((الوتريوس)).
وينتهي الخبر بهذه العبارة: ((لذلك سُمّي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم)). لقد قلب الراوي ما حدث في الواقع. فالاسم (حقل الدم) هو الأول وهو يتجذّر في تقليد يشارك فيه مت أع. فهناك في حاشية أخرى عن موت يوضاس نعرف أن الحقل الذي مات فيه سُمّي في لغتهم ((حقل الدم)) (أع 1: 19). إن الصيغة المتّاوية تستعيد عبارة بيبليّة مقولبة استُعملت لتعليل هذه التسمية (تك 26: 33؛ 35: 4، 20؛ عد 22: 30؛ تث 11: 4؛ يش 4: 9؛ 12: 19؛ 13: 13...). ولكننا نفكّر أيضًا بما في ار 19: 6 مع النبوءة حول ((الأيام الذي فيه لا يسمّى هذا الموضع توفت بل وادي ابن هنوم، وادي القتل))، بسبب الدم البريء الذي سُفك فيه. المناخ الاتيولوجي (الاسبابي، بحث عن السبب) الذي فيه يقوم مت 27: 8، يتناسق مع مواضيع وعبارات العهد القديم التي تداخلت مع عناصر النصّ.

3 - قول إرميا النبي (27: 9-10)
إن العبارة التي تبدأ القول النبوي وتربطه بالخبر السابق هي تلك التي يستعملها مت للنصوص التي يقدّمها وحده حين يلاحق أحد أهدافه الجوهري: أن يبرهن على تحقيق النبوءات في حياة يسوع، وبالتالي أن يدلّ على أن يسوع هو المسيح بحسب مخطّط الله، وهو مخطّط لم يُرسم إلاّ في الكتب المقدّسة. والألفاظ هنا تلتقي مع ألفاظ العبارات القريبة (1: 22؛ 2: 5، 17، 23؛4: 14؛8: 17؛ 12: 17؛ 13: 13، 35؛ 21: 4؛ 26: 56). ولكن هنا اتصالاً وثيقًا مع مقدمة القول حول مقتل أطفال بين لحم الابرياء (2: 17). نجد في الحالتين لفظة ((توتي)) (عندئذ)، ونصّ إرميا
تنطبق النبوءة في كلا الحالين على أعمال قام بها أعداء يسوع. أما سائر الايرادات، فتُشير إلى أعمال يسوع أو عائلته. حينئذ نجد ((هينا)) (لكي) (1: 22؛ 2: 15؛ 4: 14؛ 12: 17؛ 21: 4؛ 26: 56) أو ((هوبوس)) (2: 23؛ 8: 17؛ 13: 35: ليتمّ ما قيل). وهكذا يذكّرنا الانجيلي أن الأحداث المذكورة هنا هي تنفيذ مخطّط ايجابي من عند الله. أما مع ((توتي)) (عندئذ تمّ، كمل) فنحن أمام اعلان وإنباء (إلهيّ ولا شكّ). ولكننا لا ننسب إلى الله سببيّة مباشرة بالنسبة إلى الشرّ. إنه يبقى عمل فساد الانسان.
والخاصية الثانية التي تقرب آ 9-10 من 2: ،17 نسبة هذا النصّ إلى إر. يُذكر هذا النبيّ ثلاث مرات في مت: في 2: 17؛ 27: 19 (حينئذ تم). وفي 16: 14 في لائحة الأشخاص التي فيها يشبّه الشعبُ يسوعَ بهم (إنه إرميا أو أحد الأنبياء). تفرّد مت فذكر إرميا. في 16: 14 زاد ((إرميا)) على مر 8: 28 (إنك واحد من الأنبياء). فلماذا زاد الانجيليّ إرميا؟ ثم إن 27: 9أ يختلف عن 2: 17 حيث نحن أمام نصّ ار 13 (السبعينيّة 38) : 15. أما نص 27: 9ب-10 فقد أخذ في جوهره من زك 11: 12-13. أحسّ النسّاخ بالصعوبة، فأحلّوا زك محل إر، أو حتى أش محل إر. وهناك من ألغى الاسم كليًا. هذا ما فعله أيضًا ابن شفروط (القرن الرابع عشر) حين ترجم مت: جعل زكريا محل إرميا.
وكانت محاولات جواب منذ عهد الآباء. أوريجانس: كان في يد متى مجموعة من أقوال إر المنحولة. ولكن الايراد موجود في زك. ايرونيموس: خطأ من قبل الناسخ. ولكن لا شيء يسند هذا البرهان. رأي ثالث: كان إرميا أول الأنبياء في اللائحة حسب التلمود البابلي وفي لائحة يونانية قديمة تعود إلى القرن الأول. لهذا ذُكر اسمه هنا. هذا صحيح بالنسبة إلى 16: 14، ولكنه لا يبرّر نسبة الايراد إلى إر لا إلى زك. رأي رابع: حين ينسب الانجيليّ نصًا إلى إر أو أش، فهو لا يهتمّ في أصل النصّ بالتعليم العام للنبيّ (بل للكتاب المقدّس). وكذا نقول حين يعود مت إلى أش في معرض الحديث عن الخلاص الذي يكرز به يسوع (4: 14؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35). ولكننا نجد العكس في إرميا: فالأقوال التي تُنسب إليه تدلّ على المعارضة (مباشرة أو غير مباشرة) التي يلاقيها يسوع من قبل سلطات شعبه. لهذا عاد مت إلى إر بسبب مناخ الدينونة والحكم الذي نجده في كتابه. أو لأنه النبي المتألّم بفعل السلطة والشهيد بحسب التقاليد. إن هذا النوع من التفسير بما فيه من دوران، لا يجد ما يوازيه من ممارسة قديمة لدى العالم اليهودي ولا لدى العالم المسيحي.
ماذا نقول في هذه الآراء؟ إنها تعزل حالة 27: 9 عن انجيل متى. ولكن هناك حالات مماثلة. في 13: 25 يُنسب قولُ مز 78 (77 في السبعينية): 2 إلى أشعيا. وهناك مواضع يبدو الاستشهاد غامضًا. في أربعة منها (1: 22، 23؛2: 15، 23؛ 21: 4، 5) نجد ((النبي)) أو((الأنبياء)) في معرض الحديث عن التتمة... هذا يعني أن مت لا يتقيّد كثيرًا بهذه الأمور. وهناك استشهاد لا يرتبط باسم في 1: 22؛ 2: 15، 23. إنه يدلّ على أن الانجيلي لا يعرف من أين يأتي ((القولُ النبوي)). في 13: 35، قد يكون عرف مت أن النص يعود إلى مز، أو إلى نبي لا يعرف اسمه. في 21: 4 - 5 و27: 9 أورد مت كلام النبي في النصّ الأول لم يذكر اسمه (قال النبي). وفي الثاني نسبه إلى إرميا. فجماعة متى التي انفصلت عن العالم اليهودي لم تكن تملك اللفائف الكتابية ولا سيّما نص إرميا والأنبياء الاثني عشر. وكما قلنا: المهم هو أن الكتاب يتمّ هنا. وبالتالي تتمّ إرادة الله كما هي في الكتاب المقدّس.

خاتمة
إن الحدث الذي درسناه (سُميّ ((موت)) أو((انتحار يوضاس))، يهوذا)، يتوخّى أكثر من رواية نهاية التلميذ الخائن والجشع. يتوخّى إعطاء مادة تفكير للمسيحي المهدّد في أمانته ليسوع، المهدّد بالجحود. نجد المعنى في الايراد الكتابي الذي يعطي الراوي جزءًا كبيرًا من العناصر في متتالية تبدأ في 26: 14-16 وتنتهي هنا. فإن ((الثلاثين من الفضّة)) التي هي ثمن الخيانة قد جاءت مباشرة من زك 11: 12-13. وكذا نقول عن قبولها من لدن عظماء الكهنة.
إن هذا النصّ يعطي وجهاء اليهود (وعملهم) أهمية كبرى. وهكذا يبدو دور يوضاس ثانويًا ومساعدًا لاكتشاف شيء آخر. اعترف يوضاس بخطأه. ولكن اعترافه جاء يخدم مرمى الخبر الأساسي: اقتنعت السلطات بجريمتها. وتأكّدت من فم يوضاس أن يسوع بريء. ومع ذلك ما زالت في محاولتها المشؤومة. والعمل الذي فيه أقرّت بهذه البراءة والذي به دلّ الرؤساء على خطأهم، هو موضوع نبوءة. نجد هنا سخرية القدر. ونجد أيضًا اللاهوت والابولوجيا: فحياة يسوع (ولا سيّما الحاش وأسباب الحاش) توافق إرادة الله كما عبّرت عنها الكتب.
وهناك أخيرًا ملاحظة أخلاقيّة وارشاديّة: التعارض بين بطرس ويوضاس (يهوذا)، بين ندامة الأول ويأس الثاني. نحن هنا أمام درس من أجل المؤمنين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM