الفصل الخامس والعشرون: يسوع أمام بيلاطس

الفصل الخامس والعشرون

يسوع أمام بيلاطس
27: 11-26

إن ادراج الحدث السابق (موت يوضاس) في نسيج مر بعد خبر نقل يسوع إلى محكمة بيلاطس (مت 27: 2 = مر 15: 1 ب)، تنتج عنه مقدمةٌ جديدة للمحاكمة الرومانية (27: 11أ: أما يسوع فحضر قدّام الوالي).وهكذا ترتبط هذه الحاشية مع الموضوع الذي تركناه في 27: 3. أما باقي النصّ فينقسم قسمين محدّدين تحديدًا كافيًا. الأول (27: 11-14) يورد استجوابًا يحضره بيلاطس ويسوع والسلطات اليهودية، ويغيب عنه الجمع. الثاني (27: 15-26) يدور حول الشخص الذي يختاره الجمع: بيلاطس أم برأبا. هنا تدخّل الجمع في القضية، وتراجع عظماء الكهنة ليعملوا في الخفاء على تحريك الجموع للسير في مخطّطهم الذي هو قتل يسوع.

1 - الاستجواب (27: 11-14)
بعد المقدمة التي تحدثنا عنها (آ 11أ)، أعاد مت كتابة مر 15: 2-5. حسّن الحوار في تعاقب مثلّث بين سؤال واتهام بشكل جواب. أما المجموعة فتذكّرنا بالمحاكمة اليهودية.
تدلّ المقدمة (آ 11أ) على الطابع المتّاوي الحاسم: ذُكر اسمُ يسوع ((هو دي ياسو)). بانت احتفاليةُ المشهد. وَقف يسوع أمام قاضيه الذي هو الوالي (هو هيغامون). لقد جاء الوقت الذي فيه يرسم لتلاميذه (مع تبدّل الأحوال) السلوك الواجب اتخاذه حين ((يمثلون أمام الحكّام والملوك من أجلي)) (10: 18).
ومع هذه الوجهة النموذجيّة (يسوع هو النموذج والمثال)، هناك مواضيع أخرى نصل إليها بشكل مباشر مع سؤال بيلاطس. جاء السؤال فجأة دون أي شكوى تحرّكه. وجّه بيلاطس كلامه إلى يسوع: ((أأنت ملك اليهود)) (آ 11ب)؟ هذا ما نقرأ في مر 15: 2ب. وهو يقابل ما يعني في مت هذا اللقب المُعطى ليسوع. لقب محفوظ لمتكلّمين غير يهود. ظهر أولاً في سؤال المجوس (2: 2). أورده مرقس 5 مرات (15: 2، 9، 12، 18، 26). احتفظ منها مت بثلاث. إن اللون السياسي يتغلّب هنا (آ 11ب) على اللون الديني. هذا ما يُسنده سياق الموضعين الذي يُستعمل فيه هذا اللقبُ عند مت. إن يسوع يواجه قوّة دنيويّة وسلطة سياسيّة. سواء أمام هيرودس الذي غار من مُطالب محتمَل بالعرش. أو أمام بيلاطس الذي يقدّم إليه شخصٌ ((يطالب)) بالمُلك ويتمرّد على أمبراطوريّة يجسّدها الوالي في أورشليم. ولكن من الواضح أيضًا في نظر متّى أن ملك اليهود هذا هو مسيح اسرائيل. وأن الدراما التي تجري في هذه اللحظة تتجاوز خبر ممالك هذا العالم، لترتفع إلى مستوى مخطط الله، إلى ما يحقّقه الله رغم مقاومات البشر.
جاء جواب يسوع (شأنه شأن سؤال بيلاطس) في مت كما في مر. أمّا فيما يخصّ مت، فمعنى هذا الجواب هو ايجابي (نعم، أنا ملك) كما في 26: 25 (هل أنا يا معلم؟ نعم أنت هو) و26: 64 (هل أنت المسيح؟ أنت قلت. نعم أنا هو). لا نبحث من خلال الجواب على نيّة يسوع الذي يقول لبيلاطس بأنه يفهم اللقب غير ما يفهمه الوالي. هو لا يفهمه في معنى السياسة والثورة.
وما اكتشفنا من ((سخرية القدر)) في الحوار مع قيافا، نجده هنا مع بيلاطس حيث يطرح سؤالاً يعرف القارئ جوابه. أما يسوع فيكتفي بأن يؤكّد المضمون: أنت قلت. وفي نظر مت، لقد تولّى يسوع صفة ((ملك اليهود)) ووظيفته. هو لم ينسبها إلى نفسه بشكل واضح، ولكنه يجد فيها تعبيرًا شرعيًا عن مسيحانيّته.
ويتواصل الحوار. يتدخّل ((ثالث)) ليس بشخص فرد. إنه جماعة: ((عظماء الكهنة والشيوخ)) (في مر 15: 3: عظماء الكهنة وحدهم). هو السنهدرين، المجلس الأعلى، الذي جاء بكامل أعضائه ليحضر محاكمة يسوع أمام بيلاطس. والهدف واضح: حضرت السلطات اليهودية كلها لكي ((تشتكي)) على يسوع. كنا نفضّل أن نقرأ هذه الشكوى في بداية الحدث فيتقدّم يسوع إلى محكمة بيلاطس. ولكن السؤال الأول، مهما كان فجائيًا، توخّى منذ البداية تحديد هدف الجلسة. من الواضح، في نظر مت، أن الشكاوى لم تنتظر الوقت الذي فيه بدأ بيلاطس استجوابه: فقد دوّت قبل ذلك.
اشتكى الرؤساء. كان جواب يسوع الصمت (في مر 15: 4 ج نفترض الصمت). ولكن هذا الصمت لم يوقف المحاكمة، بل دفع الحوار من جديد مع قلق الوالي ودهشته. تلك هي لطيفة السؤال الثاني (آ 13 ب التي هي إعادة صياغة مر 15: 4 ب ج). إستند هذا السؤال إلى شكوى السلطات، وهيّأ ردّة فعل جديدة عند يسوع(الصمت) ثم دهشة بيلاطس: ((تعجّب الوالي جدًا)).
إن التعبير عن هذا الصمت (إذا قابلناه مع الكلمتين الأخيرتين في آ 12، ومع مر 15: 15 أ) في آ 14أ يبدو في تصاعد متدرّج: تجاه الشكايات التي جمعها عظماء الكهنة والشيوخ، وهي شكايات عديدة وثقيلة (بوسا تدلّ على الدرجة وعلى الكميّة)، أشار إليها بيلاطس، لم يدافع يسوع عن نفسه إلاّ بالصمت.
وانتهت المحطة الأولى من المحاكمة في دهشة بيلاطس وتعجّبه. زاد مت على مر 15: 5 ب لفظة ((ليان)) (جدًا) فجاءت في موضعها في ذروة هذا القسم من المحاكمة. واختلف مت عن مر 15: ،44 فلم تتجدّد دهشة الوالي. وقد سبقها سلسلة أمثلة حيث دهشة (تومازاين) الحاضرين جعلت منهم شهودًا معجبين بشخصيّة يسوع الخارقة (8: 27 = لو 8: 25 - مر 4: 41؛ 9: 32؛ 15: 21 - مر 7: 37. بُعد إيجابي. وهناك بُعد سلبي في 22: 22 = مر 12: 17). هذا هو الوضع بالنسبة إلى بيلاطس الذي تأثّر بهذا المتهم الغريب الذي يهمل الدفاع عن نفسه، فيبدو سيّد نفسه وسيّد الوضع. من قرأ الآيات الأولى في خبر الحاش (26: 1-2) يعرف الواقع ويقاسم الوالي الروماني عواطفه. وإن كان عارفًا بالعهد القديم، فهو يستطيع أن يتذكّر أن موقف بيلاطس (الذي هو وثنيّ) يُتمّ نبوءة أش 52: 15 (حسب السبعينيّة): ((تعجب منه أمم كثيرة، ويسدّ الملوك أفواههم في حضرته، لأنهم يرون غير ما أخبروا به، ويشاهدون غير ما سمعوه)).

2 - بيلاطس، الجمع، برأبا (27: 15-26)
إن قابلنا بنية الجزء الثاني من المحاكمة الرومانية مع مر 15: 6-15، وجدنا اختلافات هامة. فبين المقدمة (27: 15-16) والخاتمة (27: 26)، يرتدي الحوار بين بيلاطس والجمع شكلاً جديدًا لم نعتد عليه.
في مر 15: 18 نجد ثلاثة أسئلة - أجوبة، مع معترضة دخلت بين عنصري الزوج الأول. غير أننا نلاحظ أن هذه الرسمة التي فيها يطرح بيلاطس الاسئلة، قد تعطّلت بعض الشيء لأن المقدمة تنتهي فتدلنا على الجمع الذي يسبق بيلاطس ويقدّم طلب العفو فتكون له مبادرة الحوار.
أما في مت، فالعرض يختلف عمّا في مر. لا تطلب الجموع شيئًا قبل أن يبدأ بيلاطس الحوار معها (27: 17). ثم إن مت زاد زوجين من الاسئلة الأجوبة على ثلاثة أزواج مر، مكرّرًا الزوج الثاني في مر 15: 12-13 (رج مت 27: 21-22)، ومدخلاً حدثًا خاصًا: احتجاج براءة من قبل بيلاطس، ترافقه فعلة رمزية، وهذا ما يحرّك الشعب ليقول الكلمة الأخيرة (47: 24-25).
أخيرًا إن المعترضة في مر 15: 10، قد بقيت في مت 27: ،28 وتبعها عنصر جديد: تدخّل امرأة بيلاطس (27: 19). وهكذا أعاد مت صياغة هذه القطعة الجوهريّة صياغة عميقة، فأعطاها سمات خاصة به.

أ - المقدمة
تعرض المقدمة الوضع الذي فيه تتولّد المواجهة بين بيلاطس والجموع. بيلاطس هو ((الوالي))، وهو يُشرف على المشهد منذ البداية. ويحدّد مت أن العفو عن أسير يرتبط بتنازل اعتادت عليه السلطة الرومانيّة. وهذا التنازل يُمنح للشعب. قال مت: ((الأسير الذي يشاؤون)) (هم يختارونه). هناك اختيار وقرار سيفرضان نفسيهما. وسيتّخذهما الشعب بناء على طلب الوالي.
ألغى مت هنا تفاصيل جعلها مر، واكتفى بكلمتين في تقديم برأبا: ((أسير شهير)) (آ 16 رج مر 15: 7). وهكذا لم يعد يسوع تجاه قاتل خطير كما في مر ولو. بهذا أشار مت مسبقًا إلى أن موضوع براءة يسوع الذي يبرز عند مر ولو، لا يشكّل محور اهتمامته.

ب - الحوار بين بيلاطس والجموع (آ 17-25)

أولاً عرض بيلاطس (آ 17)
اعتاد مت أن يُتبع اسم الفاعل (لاغومانوس: 13 مرة عنده، مرة واحدة عند مر، 2 عند لو) باسم العلم بعد أن يصف الشخص الذي يذكر. ((قائلاً لهم بيلاطس)).
هنا نقف أمام مسألة نصوصية. هناك مخطوطات (خرجت من قيصرية البحرية في فلسطين) وترجمات نجد فيها في آ 17: ((يسوع برأبا)). هذه الاختلافة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. هي ما زيدت في النصوص، بل ألغيت من المخطوطات بسبب عاطفة تقوية. كيف نجمع ((يسوع)) و((برأبا))؟ إننا نجد هذه الاختلافة في مخطوطات تعود إلى القرن الثالث، وعند أعظم شهود النسخة القيصرانية، وسنجدها في تفسير أوريجانس. كما سنجدها في بعض المخطوطات المحليّة الآتيّة من فلسطين وسورية.
ولكن من أين جاء مت (وهو الذي يتبع مر) باسم يسوع، وجعله مع اسم برأبا؟ هناك إمكانيّة أولى: هي معطية تاريخيّة وصلت إليه عبر تقليد فلسطيني. وإمكانية ثانية: هناك مقابلة بين ((يسوع برأبا)) و((يسوع الذي يُدعى المسيح)). لا ننسَ أن اسم يسوع كان منتشرًا جدًا في فلسطين، وهو يقابل ((يشوع بن نون)) الذي أدخل الشعب إلى أرض الموعد.
أهمل مت أن يقول إن الجموع صعدت إلى بيلاطس أو طلبت منه أي شيء (ق مر 15: 8). هناك الضميران: من تريدون (أنتم)أن أطلق لكم (أنتم). لا شكّ في أنهما يعودان إلى ((أوخلوي)) الجمموع. وبيلاطس يستعدّ ليطرح سؤالاً على هذه الجموع. ولكن يبقى بعض الالتباس، وكأن الذين يكلّمهم بيلاطس يمكن أن يكونوا أيضًا ((السلطات اليهوديّة)). ها قد بدأت عملية الدمج بين الجموع والرؤساء. وهذا ما نراه في آ 18.
رغم أن الجموع لا تطلب شيئًا، فإن سبب وجودها أمام بيلاطس معروف. فإن أداة ((اون)) (إذن) تؤمّن الرباط مع ما سبق: هدف التجمّع (شبه رسمي) الذي تمّ في هدوء على ما يبدو، هو تحرير برأبا. ولكن ها إن بيلاطس الذي رأيناه في الخطوط الأمامية في آ 15 يفتح النقاش ويقدّم حلاً في خيارين (في مر، طلب الوالي اطلاق يسوع). فعلى الجموع أن تتّخذ موقفًا: ((من تريدون أن أطلق لكم، أبرأبا أم يسوع الذي يُدعى المسيح))؟
إرتبط السؤال بما نقرأ في آ 15. وعبارة ((من تريدون)) (تينا تالاتي) تقابل ((من أرادوا، من شاؤوا)) (آ ،15 هون اتالون). ولكن يبدو السؤال غريبًا للوهلة الأولى، والعرض مفخّخًا. حسب آ 15-16 جاءت الجموع من أجل برأبا ((الاسير الشهير))،وهو الرجل الذي ((تريده)). والعادة تفرض على بيلاطس (آ 15) أن يحرّر الأسير التي تدلّ عليه الارادة الشعبيّة. فالتوتّر واضح هنا، ومخطط الانجيلي أيضًا.
وهكذا نرى كيف أن الحوار يدلّ على الاتجاه الذي يريد أن يطبعه في هذا المشهد الحاسم. برأبا هو ((تفزيعة)) يتيح للشعب أن يطالب بالعفو عن يسوع. لهذا، أعطيت له فرصة منذ البداية بأن يختار هذا أو ذاك.
((الآخر)) هو ((يسوع الذي يُدعى المسيح)). في مر، عرض بيلاطس أولاً إطلاق ((ملك اليهود)) (15: 9)، دون أن نعلم إذا كانت الجموع أدركت من يعني. ولكن يتبدّل الوضع في مت. كانت الجموع قد هتفت ليسوع حين دخوله الاحتفالي إلى أورشليم. هي لم تعطه لقب ((المسيح))، ولكنها سمّته ((ابن داود)) (21: 9، 15)، وكأنها تسمّيه المسيح. ولكننا لا نستطيع أن نوضح العلاقة إلاّ بتحفّظ. فبين المشهد والمشهد، رأت جموع أورشليم في يسوع النبيّ فقط (21: 46). ولكن مهما يكن اعتقاد الجموع السابق بيسوع حسب مت، فالانجيلي الأول يريد من هذا المشهد أن ينتهي حين يرفض الشعب يسوع كـ ((المسيح)). قد أعطاه بيلاطس المناسبة. ولكنه لا يريد أن يتعرّف إلى ((يسوع الذي يُدعى المسيح)).
إن عبارة ((يسوع الذي يُدعى المسيح)) تُقرأ في نهاية نسب يسوع (1: 16). أما ((هو لاغومانوس)) (المدعو) فيدخل اسم العلم. وهنا ((المدعو كرستوس)). في 27: 22 نجد العبارة عينها. وإذا قبلنا بالفرضية التي تقول ((يسوع برأبا))، يكون ((كرستوس)) مقابلاً لبرأبا الذي هو اسم الأسير الواقف تجاه المسيح.
تبدو هذه التسمية (يسوع الذي يُدعى المسيح) غريبة على شفتي بيلاطس (الوثني) حين يتوجّه إلى الجموع اليهودية باستعداداتها السيّئة ضدّ يسوع وقبْل مطالبتها بصلبه. ولكن من هو ذاك الذي ((يدعو)) يسوع ((المسيح))؟ إذا عدنا إلى الأناجيل، وخصوصًا مت، نعرف أن التلاميذ وحدهم اعترفوا بيسوع على أنه ((المسيح)) (16: 16). نحن إذن أمام لقب أعطاه المسيحيون وحدهم ليسوع. وهكذا يكون المشهد انتقل من دار الولاية إلى موضوع يتجادل فيه المسيحيون مع اليهود في نهاية القرن الأول. وهكذا قرأ متى واقع كنيسته من خلال استجواب بيلاطس ليسوع.
طرح بيلاطس السؤال على اليهود بشكل يستبق ردّة فعلهم، بشكل يحرّك رفضهم لما سيقوله بطرس يوم العنصرة: ((إن يسوع هذا الذي صلبتموه، قد جعله الله ربًا ومسيحيًا)) (أع 2: 36).
ثانيًا: معترضة أولى (آ 18)
وجاءت معترضة أولى فقطعت الحوار: فصلت سؤالَ بيلاطس عن جواب محادثيه (آ 20). أخذ مت النص من مر 15: 10 وقام ببعض التصحيحات. ومنها: لم يذكر ((عظماء الكهنة)). لذلك فالذين أسلموا يسوع إلى بيلاطس ((حسدًا))، صاروا بدون اسم. نقرأ ((أسلموه)). من هم الذين أسلموه؟
كنا ننتظر من قبل مت أن يقول بالأحرى ((عظماء الكهنة وشيوخ الشعب)) كما في آ 1-2. ولكن يوجّهه هنا منطقٌ آخر ذو علاقات مباشرة. فالذين اجتمعوا أمام محكمة الوالي (كما تقول آ 17) غير محدًّدين. لا شكّ في أنهم أهل المجلس وعلى رأسهم عظماء الكهنة. هم الذين أسلموا يسوع، لا الجموع. غير أن الجموع (أي الشعب، آ 25) تستعد لتتصرَّف تصرّفًا يجعلها تشارك ملء المشاركة في محاولة الرؤساء القاتلة. لم يعد هناك من تمييز بين الفئتين (الرؤساء، الشعب). وها هو القارئ يستعدّ للتعرّف إلى مسيرة المحاكمة كما تُروى بعد آ 20.
ثالثًا: معترضة ثانية (آ 19)
هذه المعترضة خاصة بانجيل متّى. إنها تُدخل في قلب المحاكمة امرأة بيلاطس. المشهد مطبوع بالطابع الاحتفالي. ومع أن القارئ يعلم، إلاّ أن مت يهتمّ بتذكيره بأن الوالي يجلس الآن على كرسي القضاء. إذن، هناك سبب خطير دفع امرأته إلى أن تقطع ممارسته لوظائفه وتبعث برسول يحذّره. السبب هو أن الزوجة حلمت حلمًا أوجعها كثيرًا. حلمت ((اليوم))، أي في الليلة التي انتهت (يبدأ النهار عند غياب الشمس. وقد تكون نامت قليلاً فحلمت). حلمت حلمًا يخصّ يسوع.
إن موضوع الاحلام يميّز الانجيل الأول، كوسيلة وحي علويّ. هذا الموضوع النادر في العهد الجديد، نجده فقط في مت وفي أع. تفرَّد مت فاستعمل لفظة ((في حلم)) (كات اونار) هنا وفي خمس مرات في أخبار طفولة يسوع. بما أن حلم زوجة بيلاطس لم يصوّر، فنحن نجهل الضرورة التي دفعت المرأة إلى أن تتدخّل لدى زوجها. غير أننا نستشفّ أن هذا الحلم لا يبشّر بالخير لبيلاطس: فيه التنبيه وفيه التحذير في حال حكمَ الوالي على يسوع. ((ما الذي بينك وبين هذا الصدّيق)) (حرفيًا: لا شيء لك ولهذا الصديق) (عبارة سامية نجدها في مت 8: 29 وز؛ مر 1: 14؛ يو 2: 4؛ رج يش 22: 24؛ قض 11: 12؛ 1مل 17: 18: في ماذا تتدخل؟ ما دخلك؟ لمَ تتدخّل؟ بمعنى: لا تتدخّل). ما أرادت الزوجة أن تقوله لبيلاطس: ((لا تحشر نفسك في هذه المحاكمة. دعه وشأنه)).
إن تسمية يسوع بـ ((الصديق)) ترد في أشكال مختلفة في نصوص العهد الجديد: لو 23: 47 (قائد المئة)؛ أع 3: 14؛ 7: 52؛ 22: 14؛ 2تم 4: 8؛ 1بط 3: 18؛ 1يو 2: 1، 29؛ 3: 7.
إذا بقينا على مستوى مت، نذكر جواب يسوع إلى يوحنا المعمدان: ((يجب أن نتمّ كل برّ))، كل صدق (3: 15). إن يسوع هو مثال البرّ كما يوصي به تلاميذه. ونتذكّر أيضًا اعتراف يوضاس بأنه ((أسلم دمًا بريئًا)) (27: 4. هناك اختلافة ((ديكايوس)) التي تعني الصديق والبار). أما السلطات اليهودية، فلم تهتمّ لكلام يوضاس فـ ((أسلمت)) بدورها يسوع إلى بيلاطس (27: 2). إن هؤلاء الرؤساء هم خلفاء أولئك الذين على مرّ العصور أراقوا ((الدم الزكي)). ((منذ دم هابيل الصدّيق، حتى دم زكريا بن برخيا)) (23: 35).
أتت امرأة وثنية،جاءها الالهام الالهي، فاعترفت ببراءة يسوع ودافعت عنه(هي عكس هيرودية بدورها السلبي. طلبت موت يوحنا المعمدان، 14: 3-12). أما عظماء الكهنة فاندفعوا، وقد دفعهم الحسد، فدفعوا الجموع لتطالب باطلاق برأبا وصلب يسوع. إن هذه الدراما التي تجري هنا،لا تعفي بيلاطس من المسؤوليّة، وتتهم اليهود اتهامًا خطيرًا.
رابعًا: وعاد الحوار (آ 20-23)
بعد الفاصل الذي شكّله تدخّلُ امرأة بيلاطس، عاد مت إلى مر 15: 11 (زاد الشيوخ على عظماء الكهنة) الذي يرينا السلطات اليهودية يحرّكون الجموع لتدفع بيلاطس لكي يختار. ما يريدونه هو واضح. لم نعد: أو برأبا، أو يسوع. ولم تتوقّف الجموع عند المطالبة ببرأبا. بل دلّت على إرادتها في مقتل يسوع.
إن فعل ((أوليناي)) الذي يدلّ هنا على تعارض عنيف (أهلك. تجاه أطلق) هو صدى لمقاطع أخرى في الانجيل. إن هيرودس ((يطلب الصبي ليهلكه)) (2: 13) . بعد ذلك نرى الفريسيين يتآمرون على يسوع ((لكي يهلكوه)) (12: 14). في الماضي، كان الفشل نصيب هذه الملاحقة. أما الآن، فقد وصلت إلى نهايتها.
وتبدأ استعادة حوار بيلاطس مع الجموع (آ 21) بملخّص للسؤال الجوهري الذي طُرح سابقًا (آ 17 ب). إن السؤال الذي يطرحه الوالي على الجموع، يدلّ على أن مسعى عظماء الكهنة بلغ إلى غايته: اطلاق برأبا. ولكنه يبقى سؤالاً ضمنيًا (هذا في مر 15: 11، 12ب). أما مت فملأ هذه الفجوة بسؤال آخر طرحه الوالي وجاء بعده جواب. وهكذا أتاح للجموع أن تختار بوضوح. أما اختيارها فهو برأبا.
نجد نفوسنا أمام مقدّمة جديدة (آ 22أ؛ رج مر 15: 12أ). طالبوا ببرأبا بوضوح. يبقى أن يعرف الوالي: ماذا يجب أن يصنع ((بيسوع الذي يُدعى المسيح)). هدف الكاتب واضح، وهو أن يجعل الجموع تطالب بقتل يسوع. وتصرّف مت هنا كما في آ 17ب. لم يقل: ((ذاك الذي تدعونه (تقولونه) ملك اليهود)) (مر 15: 12ب). بل ((يسوع المدعو المسيح)). إنه مسيح المسيحيين الذي يرفضونه كمسيح. فاليهود يطالبون الآن بصلبه.
في مر ((صاحت)) (اكركسان) الجموع. في مت: ((قالوا كلهم)). هكذا نكون في تدرّج نصل إلى ذروته في تدخّل الجموع المقبل (آ 23ج: ازدادوا في الصياح). قال مر 15: 13ب: ((أصلبه)). أما مت فجعل المجهول: ((ليُصلب)) (ستاوروساتو. اعتاد مت أن يستعمل هذا الفعل في المجهول). لم نعد أمام اندفاع جامح كموج البحر، بل أمام مطالبة بحكم يصدره الوالي.
وطُرج سؤال أخير ليعطي الجموع الفرصة الأخيرة للتأكيد على إرادتها بأن تقضي على يسوع: ((إذن، أي شرّ فعل))؟ يستعيد السؤال مر 15: 14 ب مع عودة إلى أش 53: 9. وهكذا اعترف بيلاطس بشكل غير مباشر ببراءة يسوع. غير أن هذا السؤال سبّب عنفًا في طلب الجموع التي صاحت وتمادت في المطالبة: ((ليُصلب)).
خامسًا: غسل الأيدي (آ 24-25أ)
يتوقّف الحوار هنا في مر. أما لو فأدرج مشهدًا جديدًا (آ 24-25، لا نقرأه في أي مكان آخر)،كان امتدادًا للحوار ونهاية للدراما اللاهوتيّة التي تجري في محكمة الوالي الروماني.
يُروى هذا الحدثُ في محطتين متميّزتين. في الأولى، بيلاطس هو ((الممثِّل)) الرئيسيّ، والجموع هي المشاهدة (آ 24). في الثانية (25) تصبح الجموع ((الشعب كله)) وتبقى وحدها على مسرح الأحداث. أما الرباط بين المحطتين فهو أن بيلاطس حرّك ردّة الفعل عند الشعب. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أكّد موضوع ((الدم)) الذي نجده في قسمي المقطع، تماسك النصّ.
في البداية، هناك وعي عند بيلاطس: إن الجدال السابق انتهى بالفشل. بل ولّد جلبة (توريبوس) متنامية. فـ ((الجلبة)) في الشعب التي خافت منها السلطات اليهودية أكثر ما خافت (26: 5)، هي التي يسبّبها الآن الشعب لكي يصل إلى أهدافه.
وصار الوضع خطيرًا بحيث أجبر بيلاطس على اتّخاذ القرار. إنه مقتنع كل الاقتناع ببراءة يسوع. ومحاولة امرأته حذّرته من الحكم عليه بالاعدام. لهذا، سيقف خارج القضيّة ويعمل حرفيًا بنصيحة امرأته.
ولكي يتخلّص من كل مسؤولية، قام بفعلة فسّرتها حالاً كلمةٌ من الكتاب. يبدو أن بيلاطس عرف التوراة، لأن كل هذا يستلهم بشكل رئيسي تدبيرًا نجده في تث 21: 1-9، وهو يتعلّق بقاتل مجهول. فشيوخ المدينة القريبة من الموضع الذي وُجدت فيه الجثة، يغسلون أيديهم دالين على براءتهم. يغسلونها فوق عجلة ذُبحت في ساقية. ثم يعلنون: ((ما أراقت أيدينا هذا الدم، وعيوننا ما رأت شيئًا. فاغفر يا رب لشعبك اسرائيل الذي افتديته، ولا تترك الدم الزكي في وسط شعبك اسرائيل)). ويتابع النصّ: ((وهكذا يكفّر هذا الدمُ عنهم. بذلك تزيل من وسطك الدم الزكي فتفعل ما هو قويم أمام الرب)).
هذا هو المرجع الأساسي لغسل الأيدي دلالة على براءة الشخص. وهناك نصوص أخرى نجدها في مز 26: 6؛ 73: 13. إذا قابلنا مت 27: 24 مع سبعينية هذين النصين، وجدنا تشابهًا لافتًا على مستوى الألفاظ.
((أنا بريء من هذا الدم)). هناك اختلافة تقول: ((من دم هذا الصدّيق)). ولكنها غائبة من أعظم الشهود (الاسكندراني، القيصراني، الغربي) وكلمة ((ديكايوس)) (الصدّيق، البار) يتبدّل موضعها. ثم إن النسّاخ تأثّروا بكلمة زوجة بيلاطس. ولكن مضمون كلمة بيلاطس يدلّ على براءة يسوع. ((دم هذا (الرجل))). أفضل من ((هذا الدم)).
في تث 21 كانت فعلة تبعتها كلمة أعطتها معناها. وهذا ما حدث بالنسبة إلى بيلاطس: فعلة ثم كلمة. قال: ((أنا بريء من دم هذا ! تدبّروا أموركم. أنظروا ما يجب أن تعملوا))! استعاد ذات العبارة التي استعملها الرؤساء اليهود (27: 4) مع يوضاس. ترك بيلاطس محاوريه يأخذون مسؤوليتهم. أما هو فما أراد أن يضع نفسه في هذا ((المغطس)).
العبارة الأولى في هذا القول، قد تلفّظ بها بيلاطس ((أمام الجموع)) (بمشهد من الجمع) التي رأت الفعلة. عبارة لا تتوجّه إليها. بل هي احتجاج ((أمام الله)). هذا ما نجده في 2 صم 3: 28 حيث يلهم داود (دون أن يغسل يديه) بيلاطس نوع الكلام الذي يتلفّظ به في هذا الظرف. هناك تبرّأ داود من مقتل أبنير على يد يوآب: ((يشهد الرب أني ومملكتي بريئان من دم ابنير بن نير)) (هذا ما ردّده بيلاطس).
وولْي هذا النصّ التوراتي يُبقينا في اتصال وثيق مع نص مت. وتابع داود كلامه: ((ليكن دمه على رأس يوآب وعلى جميع بيت أبيه)) (2 صم 3: 39).
بمثل هذه الكلمات كانت ردّة فعل الجموع على فعلة بيلاطس وكلامه. هنا لا يعود مت 27: 25 يتحدّث عن ((جموع))، بل عن ((الشعب كلّه)) (باس هو لاوس). عبارة احتفاليّة هيّأت لها الطريق لفظةُ ((كل)) في آ 22 ج (قالوا كلّّهم)، فجعلت الأمّة الاسرائيليّة كلها معنيّة بهذا القتل. وهذا ما نستنتجه من تبدّل اللفظة من ((الجموع)) (أوخلوس) إلى ((الشعب)) (لاوس). ترد لفظة ((لاوس)) 14 مرة عند مت، 2 أو 3 عند مر، 84 مرة في لو وأع.
هنا يبرز الجدال حول لفظة ((الشعب)) (لاوس). هناك من يقول: لا تختلف عن ((اوخلوس)) الجمع. ولفظة ((رؤساء الشعب)) هي عبارة احتفاليّة. نحسّ بالنزعة التخفيفيّة للفظة. وهناك من قال: في مت، ((لاوس)) هو الشعب الذي قُدّم إليه الخلاص، فردّ بقساوة القلب. وقالت فئة ثالثة: لاوس هو دومًا في مت شعب العهد القديم الذي يتميّز عن ((إتنوس)) (الأمّة) التي جعلها وسط أمم العالم. ماذا نقول؟
هناك مرات يستعمل فيها مت ((لاوس)) بدون مضاف إليه، فيمكن أن يعني ((الشعب)) أو ((الجمع)) (4: 23؛ 26: 5؛ 27: 64). ولكن حتى في هذه الآيات يبقى ارتياب في المعنى. في 26: 5 و27: ،64 نحن في قلب الحاش. نجد ((لاوس)) الذي يجسّد بوضوح الشعب اليهودي في حدّ ذاته، لا الجمع الحاضر هنا. في 4: ،23 ((لاوس)) الذي يجترح يسوع في وسطه المعجزات (عبارة خاصة بمتّى) ليس نتيجة عادة أدبية. فعبارة ((إن تو لاووي)) (في الشعب) لا ترد إلاّ هنا ومرة أخرى في مت (26: 5). ثم إن هذا ((الشعب)) هو ذاته الذي يرسل إليه يسوع تلاميذه ليجترحوا المعجزات عينها، إنه ((الخراف الضالة من بيت اسرائيل)) (10: 6). أخيرًا إن 4: 23 تتذكّر تث 7: 15 التي تعود إلى شعب اسرائيل.
أما ((الكتبة)) و((شيوخ الشعب)) (2: 4؛ 21: 23؛ 26: ،3 47؛ 27: 1)، حيث المضاف إليه ((تو لاوو)) يدلّ بالتأكيد على اسرائيل، فليستا عبارتين احتفاليتين. وعبارة ((شيوخ الشعب)) تدلّ على مسؤولية الرؤساء، في الحاش. وهناك الاعلان الاحتفالي الذي أطلقه ((الشعب كله)) أمام منبر بيلاطس. هي الأمّة كلها حاضرة ومتضامنة في اعلانها: ليُصلب. دمه علينا وعلى أولادنا.
سادسًا: دمه علينا (آ 25ب)
إن ردّ الشعب على اعلان بيلاطس (تدبّروا أموركم، آ 24) لا يطرح مسائل تفسيرية إذا عدنا إلى العبارات البيبلية التي يرجع إليها. نحن هنا أمام جمل قانونيّة نعطي أمثلة عنها. يلعن ابنٌ أباه أو أمه: ((دمه على رأسه)) (إن مات فهو مسؤول. أو ليسقط دمه على رأسه). أعلن داود لقاتل شاول: ((دمك على رأسك (تستحق الموت) لأن فمك شهد عليك حيث قلت: قتلت من مسحه الربّ)) (2صم 1: 16). وحين نفّذ سليمان حكم الاعدام بيوآب علّل عمله فقال: ((يردّ الرب دمه على رأسه، لأنه بطش برجلين بريئين (بارين) أفضل منه... ترتدّ دماؤهما على رأس يوآب وعلى رأس ذرّيته إلى الأبد)) (1مل 2: 32-33).
في كل هذه المقاطع، تعني العبارة أن الشخص المعني يتحمّل مسؤولية عمل سيِّىء، كما يتحمّل العقاب الذي يجرّه هذا العمل، وهو الموت.
ونجد نصًا قريبًا جدًا من مت 27: 25ب هو نصّ يش 2: 19: التزم الجاسوسان بأن يحافظا على حياة بيت راحاب شرط أن تبقى في البيت. ((فكل من يخرج منه (= من البيت) يكون دمه على رأسه ونحن بريئان. وكل من يبقى معك (يا راحاب) في المنزل يكون دمه على رأسنا إذا أصابه مكروه)). لقد التزم الجاسوسان بالمسؤولية. إن قُتل أحد من بيت راحاب تحمّلا هما عقابَ القتل.
والوضع هو كذلك على شفاه الشعب المجتمع أمام بيلاطس والقائل: ((دمه علينا وعلى أولادنا)). ليكن دمه علينا وعلى أولادنا. هذا يعني أنهم مستعدّون لتحمّل مسؤولية موت يسوع الذي به يطالبون. هذا يعني أنهم مقتنعون بأن ما فعلوه هو الصواب وأن يسوع هو المخطئ. هم لا يريدون أن يتحمّلوا الجريمة، بل أن يكونوا متضامنين في عقاب ذاك الذي اعتبروه مجرمًا: ((إنه دم مجرم ولا خطر إن نحن أرقناه)). ولكن في الواقع، هذا الشعب قد أعماه ((قوّاده العميان)) (15: 14؛ 23: 16، 17، 19، 24، 26)، ففسد حين أطاع إيحاءاتهم. لهذا حوّل الرب وجهه عنهم وأعطى الملكوت لـ ((شعب)) (إتنوس) آخر قد جمعه من كل الأمم (بنتا تا اتني) (21: 43؛ 28: 19).
حين تحمّل الشعب مسؤولية موت يسوع، وقبل نتائج هذا الموت، جعل ((أولاده)) داخلين معه في عمله. من هم هؤلاء الاولاد؟ هل هم الذرّية المباشرة (التي ستعرف دمار أورشليم على يد الرومان)، أو هم الأجيال الآتية؟ إذا عدنا إلى التوراة نفهم أن ((الأولاد)) هم أسرة الشخص وخدمه (خر 17: 3: أنا وأبنائي ومواشي؛ عد 16: 27؛ تث 29: 9، 11؛ دا 6: 25؛ 1مك 2: 28؛ 3: 20؛ 5: 23، 45). في تك 31: 16 حيث العبارة قريبة من تلك التي نقرأ في مت 27: 25ب، يوجّهنا السياق في هذا المعنى. أعلنت راحيل وليئة ليعقوب قبل أن ترافقاه في هربه: ((كل الثروة التي أخذها الله من أبينا وأعطاك إياها هي لنا ولبنينا)). هؤلاء ((الأولاد)) هم كما في ولْي الحدث (31: 17-43) الاولاد الذين ولدتهم امرأتا يعقوب له.
مقابل هذا نقرأ تنبيهًا اشتراعيًا في 1مل 9: 6-9، فينفتح أمامنا منظار واسع: ((إذا حدتَ (يا سليمان) عني أنت وبنوك، ولم تتمسّكوا بوصاياي وفرائضي... فإني أبيد اسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتها له)). من الواضح، أن هذا التنبيه يعني الشعب الحاضر والشعب الآتي. ولفظة ((أولاد)) تعني ذرية غير محدّدة، ذريّة أولئك الذين يوجّه الله إليهم كلامه.
ونقول الشيء عينه عن ثلاثة مقاطع في العهد الجديد حيث ((الاولاد)) لا يدلّون على الذريّة المباشرة وحدها. ففي خطبة بطرس في العنصرة، يتبع التحريض إلى التوبة تذكيرٌ بوعد الله ((لكم ولأبنائكم ولكل البعيدين بقدر ما يدعو الله منهم)) (أع 2: 39). النظرة هي مقبلة، والنصّ يتطلّع إلى المستقبل بالنسبة إلى اليهود الحاضرين كما إلى الوثنيين الذين ينضمّون إليهم. هي نظرة لا حدود لها.
ونعطي أيضًا معنى ((ذريّة)) للفظة ((أولاد)) في عظة بولس في مجمع أنطاكية بسيدية. الموضوع: ((الوعد المعطى للآباء والذي أتمّه الله من أجل الأبناء)) (أع 13: 33). أخيرًا نعود إلى مت 2: 18 الذي أورد نص إر 31: 15 في معرض حديثه عن أطفال بيت لحم، قال: ((راحيل تبكي بنيها)). من الواضح أن النصّ لا يدلّ على أولاد راحيل بشكل مباشر. ذاك كان المعنى عند النبي، وذاك هو عند مت: ذرية كبيرة تمتدّ إلى البعيد.
انطلاقًا من هذه الأمثلة، لا نستطيع أن نستبعد في مت 27: 25ب التزامًا يضمّ الأجيال اليهوديّة المقبلة. هذا هو المعنى الأفضل في سياق نرى فيه الأمّة كلها معنيّة بما يحصل. هنا نستطيع القول إن نهاية العالم الحاضر في مت، لا تتحدّد بعد عدد غيرمحدود من الأجيال. كما نقول إن اقتراب هذه النهاية أو تأخّرها كانا بالنسبة إليه أمرًا ثانويًا. ما يهمّه هو أن يبقى المسيحيون ((ساهرين)) و((مستعدين)) لأنهم ((أمناء)) فيستقبلون المعلم في الساعة التي يجيء فيها. ولكن مهما كان الزمان الذي نتوقّعه، فقد التزم اليهود في مسؤولية اتخذوها بشكل احتفاليّ أمام الله وأمام محكمة بيلاطس.
ولكن لا ننسَ أننا لسنا أمام لعنة يتلفّظ بها الشعب على نفسه ويفرضها على ذريّته. فالنصوص لا تسمح بهذا التفسير.

3 - خاتمة المحاكمة (27: 26)
وتأتي المحاكمة (مع توتي، عندئذ) كنتيجة لما قيل حتى الآن. فالسبب الايجابي الذي لأجله قرّر بيلاطس أن يلبّي رغبة الشعب (حسب مر 5: 15-16) لا يهمّ مت. فالشعب أخذ على عاتقه مسؤوليّة موت المسيح وفضّل عليه برأبا. لقد اختار من شاء. واكتفى بيلاطس بأن يوافق على ذلك وهو الذي بدا هامشُ التحرّك عنده ضيّقًا. امّحى من أجل محادثيه. في الواقع، هم الذين قرّروا الحكم ولفظوه.
في ذلك الوقت تهرّب بيلاطس. فاكتفى بأن يسلم إليهم يسوع ليفعلوا به ما يريدون. موقف غير مجيد. لا يجعل من بيلاطس مرافعًا عن يسوع. ثمّ إن الجلد الذي سيسومه به فيما بعد (27: 27-31) وهزء الجنود ليسا علامة عن اكرام بيلاطس ليسوع. إذن، لسنا أمام دفاع مسيحي عن بيلاطس تجاه الامبراطورية. ولكن مثل هذا الكلام يدلّ على أن اليهود هم الذين قتلوا يسوع.

خاتمة
استعاد مت نص مر. أوجزه، وحسّن بنية الحوار فيه، وزاد مقطعًا جديدًا جاء تتويجًا للمشهد (آ 24-25). جلسة اتخذت طابعًا رسميًا، تصرّف فيها ((الشعب كله)) بوعي تام ليختار بين برأبا ويسوع. يسوع ليس هنا فقط ((ملك اليهود)). إنه أيضًا بل في الدرجة الأولى ((المسيح)) كما يعترف به إيمان المسيحيين. إنه المسيح الذي يطالب الشعب اليهودي بصلبه.
جاء إلى بيلاطس ((بلاغ)) من السماء، ولكنه تنازل عن مسؤوليته كلها. كان دوره ثانويًا، فتوخّى أن يبرز التزام الشعب الذي كان القاضي الحقيقي في هذه المناسبة. فهو الذي أعلن مع بيلاطس حكم الاعدام. وخطيئته التي هي ثمرة عماه، ينقلها إلى ذريته، إلى ((أولاده))، إلى أولئك الذين تصادم معهم الانجيلي في نهاية القرن الأول فأثّر هذا التصادم على خبره. فاليهود الذين يراهم ليسوا أفضل من آبائهم الذين قتلوا المسيح. لقد طُويت صفحة. وانتهى دورُ اسرائيل كشعب في مخطّط الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM