الفصل التاسع عشر: في بستان الزيتون

الفصل التاسع عشر

في بستان الزيتون
26: 36-46

جاءت ساعة المسيح وسوف يتركه تلاميذه فيذهب وحده إلى الصلب والموت. ولكن هل فُرض عليه هذا الوضع فرضًا؟ كلاّ ثم كلاّ. فهو الذي يذهب لملاقاة الموت. ليشرب هذه الكأس التي يقدّمها له أبوه. الموت هو من عمل البشر، والألم من صنع البشر. ولكن المسيح اعتبره هديّة من أبيه ولهذا تقبّله لكي يفتديه. قبلَ آلامنا فافتدانا فصارت أداة خلاص. قبل موتنا فحوّله إلى قيامة حياة. هذا هو معنى صلاة يسوع في البستان. هذا هو معنى نزاعه أو بالأحرى صراعه مع قوى الشرّ التي تريد أن تبعده عن الألم، كما في تجارب البريّة: الانسان يجوع، أما ((ابن الله)) فلا يجوع. ليحوّل هذا الحجر إلى خبز. الانسان يتألّم. أما ابن الله فيلقى المجد حين تحمله الملائكة من على شرفة الهيكل ليلقى الإكرام من البشر. رفض يسوع التجرية. أخذ طريق الطاعة التامة، وصلّى أمام التجربة، فكان لنا المثال في طاعته وفي صلاته التي كانت سجودًا عميقًا جعله ينطرح على الأرض حاملاً منذ الآن صلبه وموته من أجل خلاص البشر.
بعد النظرة العامة إلى يسوع في بستان الزيتون، نتوقّف عند التفاصيل ثم نكتشف المعنى اللاهوتي والروحي لهذا النصّ الذي يشكّل الخطوة الأولى لآلام يسوع التي تنتهي على الصليب وفي القبر.

1 - نظرة عامة
حين نتطلّع إلى مجموعة أحداث الآلام في مت، نجد أن الحدث الذي يكلّمنا عن نزاع يسوع في الجسمانيّة (26: 36-46 = مر 14: 32-42 = لو 22: 40-46) هوأطولها. ذكره الازائيون الثلاثة ولكن لوقا حوّله تحويلاً عميقًا. زاد 22: 43-44 (ظهر له ملاك. تصبّب عرقه قطرات دم)،وألغى ما قاله مر 38ب-42 الذي احتفظ به متّى وحوّله. في الخبر اليوحناويّ، نجد بعض الشيء عن هذا الخبر الذي نقرأه في الأناجيل الازائيّة (مت 26: 36؛ رج يو 18: 1؛ مت 26: 38؛ رج يو 12: 27؛ مت 26: 39؛ رج يو 18: 11؛ مت 26: 46؛ رج يو 14: 31).
حاول بعض الشّراح أن يعيدوا تكوين الخبر في تنسيق تتلاحق فيه بشكل منظّم الأقسام الإخباريّة وأقوال يسوع. تتضمّن الأخبار ثلاثة أمور والأقوال ثلاثة. قد تكون متطلّبات الفقاهة (= التعليم المسيحيّ) والذاكرة طبعت هذا الخبر وغيره (من التقليد) ببعض الايقاع. ولكن البرهان يبقى صعبًا، ولا سيّما إذا نسينا أن مر هو قبل مت وليس العكس. لهذا نأخذ برأي آخر يقول إن الأوساط المتّاويّة عرفت بخبر مر وأعادت صياغته من أجل تعليم المؤمنين، قبل أن يدوَّن بشكل نهائيّ في الانجيل الأول.
ونتوقّف في تفسيرنا لهذه المقطوعة عند أربع نقاط. الأولى: عرفت آ 36-46 وجودًا مستقلاً قبل أن تُقحم في خبر الحاش والآلام. وما يدلّ على ذلك اللحمات مع ما سبق وما لحق. الثانية: يرتبط نصّ مت بنصّ مر. بعد أن أزال بعض الغموض حين زاد عبارات (آ 40؛ إلى التلاميذ، آ 44) جعلت الخبر مقبولاً فأورده الأدب المسيحيّ اللاحق. الثالثة: في نصّ مر وبالتالي في نصّ مت، نستطيع أن نكتشف مرجعين يمتلك كل منهما مرمى خاصًا به. المرجع الأول (مر آ 32 = مت آ 36؛ مر آ 35 = مت آ 39؛ مر آ 40 = مت آ 43؛ مر آ 41 = مت آ 45) لا يتضمّن أمرًا بالسهر وجّهه يسوع إلى تلاميذه. بل تُشرف عليه فكرة ساعة ابن الانسان أي الوقت الذي فيه ستتمّ في شخص يسوع دينونةُ الله وخلاصه. نتذكّر أن موضوع ((الساعة)) يميّز الخبر اليوحناوي. أمّا هذا المرجع فيشدّد على شخص يسوع المسيح (هو كرستولوجيّ).والمرجع الثاني (مر آ 33 -34 = مت آ 37-38؛ مر آ 36-38 = مت آ 39ب، 40، 41) تشرف عليه فكرتا السهر والتجربة. إلى هذا المرجع ينتمي مر آ 38ب - مت آ 41ب (الروح نشيط أما الجسد فضعيف). وهو يشدّد على الوجهة الارشاديّة، وليس فقط على الوجهة الكرستولوجيّة. ولقد صارت صلاة يسوع مثلاً عمّا يجب أن يفعل التلاميذ أو المسيحيّون لئلا يسقطوا في التجربة.
يبدو أن المرجع الثاني هو الأقدم بالنظر إلى قرب مجيء الرب (السهر). أما نص لو فيقابل حقبة متأخّرة، حقبة ((مسيحيّة)) في التقليد. إن مجيء الرب يتأخّر، فيبقى أن نبني الكنيسة ((في العالم)). والنقطة الرابعة في هذه الدراسة دلّت على أن الانتروبولوجيا التي تعرضها آ 41 ب (الروح نشيط) قريبة ممّا نجد في قمران ولا سيّما وصيّات الآباء الاثني عشر.

2 - الدراسة التفصيليّة

أ - البنية والمراجع
بعد العرض (آ 36-38) نجد ثلاث صلوات ليسوع وثلاثة لقاءات بين يسوع وتلاميذه النيام.
صلّى يسوع (آ 39): يا أبتاه.
يسوع مع تلاميذه النيام (آ 40-41): جاء فوجدهم نائمين.
صلّى يسوع (آ 42): ثم مضى أيضًا وصلّى.
يسوع مع تلاميذه النيام(آ 43): ورجع فوجدهم أيضًا نائمين.
صلّى يسوع (آ 44): ومضى أيضًا وصلّى ثالثة.
يسوع مع تلاميذه النيام (آ ،45 46): ناموا الآن واستريحوا.
ونجد توازيًا بين الصلوات الثلاث
آ 39 آ 42 آ 44
أيضًا أيضًا
ثانية ثالثة
تقدّم مضى مضى
صلّى صلّى صلّى
قائلاً قائلاً قائلاً
يا أبت يا أبت
إن أمكن إن كان لا يمكن
فلتجُز أن تجوز
الكأس الكأس
هذه هذه
ما تريد أنت إرادتك.
والمقاطع التي فيها يتكلّم يسوع مع تلاميذه تشبه بعضها بعضًا. فهناك ألفاظ وجمل مشتركة:
حينئذ (آ 36، 38، 45)
قال (آ 36، 38، 40، 45)
مضى،جاء (آ 36، 40، 43، 45)
سهر (آ 38، 40)
وجد (آ 40، 43)
نيام (آ 40، 43، 45)
جاء إلى التلاميذ (آ 40، 45).
ما يُشرف على آ 36-46 هو كلام يسوع. تكلّم إلى تلاميذه أربع مرات، وصلّى ثلاث مرات.
آ 36: وقال لتلاميذه
آ 38: عندئذ قال لهم
آ 40: وقال لبطرس
آ 45: عندئذ جاء إلى التلاميذ وقال لهم.
آ 39: مصلّىًا وقائلاً
آ 42: صلّى قائلاً
آ 45: صلّى قائلاً
إن الصلوات الثلاث الموازية تدلّ على تقنيّة أدبيّة نجدها في مواضع أخرى. ذُكرت الصلاة الأولى والصلاة الثانية، أما الصلاة الثالثة فبدت موجزة (قائلاً الكلمات عينها). الصلاة الثانية أقصر من الاولى، كما أن الحديث مع التلاميذ النائمين في المرة الثانية أقصر مما كان عليه في المرة الأولى. هذا ما يذكّرنا بما في 20: 1-16 حيث نسمع التعليمات التي أعطيت لعمّال الساعة الأولى والساعة الثالثة. ثم لا نسمع شيئًا في ما يتعلّق بعمّال الساعة السادسة والساعة التاسعة. قيل فقط من أجل هؤلاء: ((وصنع كذلك)) (آ 5). ونرى الشيء عينه في 27: 39-44 الذي يورد هزء مجموعتين، ولكنه يقول عن المجموعة الثالثة: ((وبذلك أيضًا كانا (اللصان) يعيّرانه)) (آ 44). نجد ما يوازي هذه الطريقة مثلاً في يش 6: 12-14.
المرجع الوحيد الذي أخذ منه مت 26: 36-46 هو مر 14: 32-42. أما التوافقات بين مت ولو 22: 40 فتكاد لا تُذكر كما لا نجد أثرًا لتقليد شفهي لا يرتبط بمرقس.

ب - التأويل
لقد ((دنت)) الساعة (آ 15) التي فيها يشرب يسوع ((هذه الكأس)) (آ 39؛ رج 20: 22) أي يقدّم حياته فدية عن الكثيرين (20: 28؛ رج 1: 21). حين نأخذ بعين الاعتبار معرفة يسوع المسبقة وإنباءاته المتواترة عن الآلام، نتساءل: لماذا حزنُه ولماذا ((احتجاجه)) الظاهر؟ ولكنه لا يصارع الله بقدر ما يصارع نفسه. هو لا يجعل أبدًا على المحكّ إرادة الله (آ 39، 42). بل هو طائع خاضع.
أدخل مت تبديلات على نصّ مر 14: 32-42. (1) جعل يسوعَ فاعل الجملة الأولى (جاء يسوع معهم). (2) أقحم موضوع المعيّة: يسوع معهم (ماتا) في آ 36 - مر 14: 32؛ في آ 38 (اسهروا معي) - مر 14: 34 (اسهروا)؛ آ 40 (أن تسهروا معي) - مر 14: 37. (3) زاد تلميحًا ظاهرًا إلى ذبيحة اسحاق (آ 36؛ تك 22: 5). (4) خفّف صراع يسوع الباطنيّ (آ 37، 39). (5) مزج صلاة مر 14: 35 (خطبة غير مباشرة) و14: 36 (خطبة مباشرة) في صلاة واحدة هي مت آ 39. (6) خلق متتالية من ثلاث صلوات (هذا ضمنيّ فقط عند مرقس)، وجاء بكلمات أخذها من أجل الصلاة الثانية (لا توجد في مر). (7) أبرز التوازي بين المشاهد المتقابلة (رج البنية). (8) حوَّل عبارة مر 14: 36 (كل شيء ممكن) إلى ((إن أمكن)) (آ 39). (10) شدّد على التوازي بين مشهد النزاع ومشهد التجلّي ولا سيّما في آ 37.
أمّا في ما يتعلّق بتاريخ التقليد، فقد اعتُبر مر 14: 32-42 (الذي هو في أساس مت 26: 36-46) مزيجًا من خبرين سابقين لمرقس. كما اعتُبر لو 22: 46 نصًا مستقلاً عن مر. وهكذا نكون أمام ثلاثة تقاليد مختلفة (هناك أيضًا من اعتبر أن لو مزج نص مر مع مرجع آخر). ثم إن عب 5: 7-18 (قد تكون جزءًا من نشيد قديم) قد عرفت صلاة يسوع أمام الموت. أما يو فهو تقليد مستقلّ يلتقي، كما سبق وقلنا، مع بعض آيات مر. ومهما كانت التقاليد التي استطعنا أن نكتشفها، فهي تعود إلى تذكّر تاريخيّ عاشه التلاميذ مع يسوع قبل آلامه وموته. في مر 14: 32-42 ليس يسوع بطلاً (شهيدًا) لا يتأثّر بالألم. يدهشنا ألمه أمام الموت واضطرابه، وهكذا يبدو موقفه مختلفًا كل الاختلاف عن موقف شهداء يهود ومسيحيّين، وموافقًا مع ما نعرفه عن يسوع في الأناجيل الإزائيّة. لهذا، نرى من المعقول جدًا أن يكون يسوع قد صلّى قبل القبض عليه بالنسبة إلى كأس الموت التي تقدّم له. تلك يجب أن تكون صلاة الكنيسة وصلاة كل واحد منا.

ج - تفسير الآيات (26: 36-46)
أولاً: تركيز المشهد (آ 36-46)
مع آ 36 يتركّز المشهد. المكان: جتسيماني. إلى هنا جاء يسوع ليصلّي. وضع مت كعادته ((توتي)) (عندئذ). ونقل الفعل من صيغة الغائب الجمع (انتهوا) إلى الغائب المفرد (هو مع تلاميذه). وهذا ما يتوافق مع فعل ((قال)). وزاد أيضًا ((يسوع)) (جاء يسوع). ((ج ت. ش م ن ي)): معصرة الزيت. استعمل مت ومر وحدهما هذا الاسم. تحدّث لو عن جبل الزيتون. ويو 18: 1 عن بستان قريب من وادي قدرون.
((وقال لتلاميذه)). أو: للتلاميذ: ((إجلسوا هنا)). هكذا فعل ابراهيم حين ذهب يذبح ابنه. قال لعبديه: ((أمكثا ههنا)) (تك 22: 5). وذهب مع ابنه اسحاق. هناك مقابلة بين ايمان ابراهيم وإيمان يسوع. بين ذبيحة اسحاق وذبيحة يسوع. انفصل ابراهيم واسحاق من أجل العبادة والصلاة، على الجبل، وكانت تلك محنة (تك 22: 1: امتحن، جرّب، رج التجربة في مت 26: 41).
وانفصل يسوع عن سائر التلاميذ (آ 31) مع بطرس ويعقوب ويوحنا. ق 17: 1؛ يو 12: 27؛ عب 5: 7 (يحزن، يكتئب). ما قال مت: ((يعقوب ويوحنا))، بل ((ابني زبدى)). لوبايستاي = إكتأب. ((اديموناين)): حزن. هناك اثنان: بطرس وابنا زبدى. وهناك فعلان. أخذ وبدأ، حزن واكتأب.
إن حضور بطرس مع ابني زبدى يذكّرنا بما في 4: 18-22 (الدعوة)؛ 17: 1-8 (التجلّي). في 20: 20-28 يسأل ابنا زبدى إن كانا يشربان الكأس التي يشربها يسوع. بيّنا هنا مع بطرس (الذي قال إنه مستعدّ في آ 33) أنهم لا يستطيعون. ونجد أيضًا في خبر النزاع ما يقابل خبر التجلي (17: 1ي).
17: 1 : أخذ يسوع (هو الفاعل) بطرس ويعقوب ويوحنا
26: 37 : أخذ معه (هو الفاعل) بطرس وابني زبدى
17: 1 : إلى جبل
26: 30 : جبل (الزيتون)
17: 2 : أضاء وجه يسوع كالشمس
26: 39 : سقط يسوع (ساجدًا) على الأرض
17: 3 : تكلّم يسوع مع موسى وايليا
20: 39ي : تكلّم يسوع مع الله
17: 4 : وجّه بطرس كلامه إلى يسوع
26: 40 : وجّه يسوع كلامه إلى بطرس
17: 5 : وإذ هو يتكلّم بعد
26: 47 : وإذ هو يتكلّم بعد
17: 5 : يسوع هو ابن الله
26: 39، 42 : سمّى يسوع الله أباه
17: 6 : سقطوا على وجوههم (ساجدين)
26: 39 : سقط على وجهه
17: 7 : انهضوا
26: 26 : انهضوا (قوموا).
نلاحظ أن 26: 39؛ 26: 47؛ 26: 39؛ 26: 46 تقدّم توازيات (أو تعارضًا) خاصّة بمتّى. هذا التوازي يربط التلاميذ بوجهي يسوع: ساعة يمجَّد وساعة يحزن ويتألّم
ثانيًا: صلاة يسوع الأولى (آ 38-41)
قال يسوع ما في قلبه لأخصّائه. هنا نتذكّر مزامير التوسّل التي تلعب وظيفة خطوط كبرى توجّه مسيرة المشهد. ((عندئذ)) (توتي). بدأ مر مع حرف العطف (الواو). ((نفسي حزينة حتى الموت)). ق يو 12: 27؛ عب 5: 7-8. توافق مت مع نص مر. أما لو فألغى هذا. إن الكلمات التي تصوّر حزن يسوع هي من القوّة بحيث تبدو قاتلة. رج مز 42: 5 (أتذكّر فتذوب نفسي بي)؛ يون 4: 9 (أغضب حتى الموت). ((أقيموا ههنا واسهروا معي)). زاد مت ((معي)) (آ 40 - مر 14: 37). لا يريد أن يكون وحده، ومع ذلك فالتلاميذ نيام. إن لكلمة ((اسهروا)) معنيين. على المستوى الجسديّ، يسهرون مع المسيح. وعلى المستوى الروحيّ، يسهرون لئلاّ يقعوا في التجربة.
تطلّع يسوع إلى امكانيّة عدم شرب الكأس. ولكنه جعل مشيئته جانبًا. هذا لا يعني أنه من جماعة الرواقيين الذي يسيطرون على الألم بإرادتهم. بل يسوع تألّم، وبحبّه حوّل الألم إلى خلاص. ((تقدّم قليلاً وسقط على وجهه)) (آ 39). رج 14: 23 (صعد إلى الجبل يصلّي منفردًا)؛ تك 22: 5؛ خر 33: 7ي؛ مر 1: 35؛ لو 6: 12. ((يا أبتاه)). ق آ 42؛ في مغارة قمران الرابعة (372/1: 6) ينادي يوسف الله: أبي. في مر 14: 36: أبّا، أبي؛ رج روم 8: 15؛ غل 4: 6. هنا نتذكّر الصلاة الربيّة (أبانا، لتكن مشيئتك). في عب 5: 7-8، يسوع هو ((الابن)). هذا يعني أنه يتوجّّه في صلاته إلى ((الآب)). هنا نتذكّر كلام يرمياس أن العالم اليهودي الفلسطيني لم يستعمل أبدًا لفظة ((أبي)) لكي يوجّه صلاة شخصيّة إلى الله.
((أبعد عني هذه الكأس)) (بوتيريون). ما معنى ((الكأس))؟ في وصيّة ابراهيم 16: 11 سمّى ملاك الموت ((الكأس)) كأس الموت المرّ. ولكن في الأدب اللابيبلي والجلياني، تدلّ الكأس على الألم ولا سيّما ذاك الذي يرتبط بغضب الله ودينونته.. رج مت 20: 22؛ إر 25: 15-29. أما هنا فالكأس تدلّ على الصلب والموت. ونشير إلى أن العالم اليهوديّ اعتبر أن الله يغيّر رأيه جوابًا على صلاة أو توبة. رج قض 2: 1-3؛ 1صم 12: 27-36؛ 2مل 20: 1-6؛ إر 18: 5-11؛ يون 3: 4-10. ونقرأ في مت 24: 2، أن الرب يقصّر زمن الضيق الاسكاتولوجيّ من أجل الأبرار.
((ولكن لا ما أريد أنا. بل ما تريد أنت)). ق مز 40: 8-9: ((ها أنا آت لأعمل ما يرضيك يا أبي))؛ 143: 10: ((علّمني فأعمل بما يرضيك، لأنك أنت إلهي)). رج 1مك 3: 58-60. لاحظ اللاهوت المسيحيّ كيف صارع المسيح نفسه لأن فيه الطبيعة الالهيّة والطبيعة البشريّة. قال يوحنا الدمشقي (الايمان الارثوذكسي 24): إن كلام يسوع يدلّ في الحقيقة أن عنده أرادتين تقابل طبيعتيه (رج أيضًا اوريجانس، ضد قلسيوس 20: 25؛ مكسيموس المعترف، 6؛ غريغوريوس النازيانزي، في الصلاة 4: 12).
الجواب الوحيد لصلاة يسوع هو جواب الأحداث القاسي. وهو أيضًا جواب تلاميذ غير طائعين. وعدوا بالكثير (آ 33-36) وها هم ينامون فيزيدون جرحًا على جرح يسبّبه الأعداء. ((ثم جاء إلى التلاميذ)) (آ 40). زاد مت لفظة ((التلاميذ)). هنا نتذكّر كلام بسكال، المفكّر الفرنسي: ((طلب يسوع تعزية من أعز أصدقائه، ولكنهم ناموا. طلب منهم أن يحملوا معه، ولكنهم تركوه في لامبالاتهم وببعض شفقة لم تستطع أن تجعلهم يسهرون دقيقة واحدة. وهكذا كان يسوع متروكًا)).
((إسهروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة)) (آ 41). هنا نتذكّر أيضًا الصلاة الربيّة. هي المحنة الحاضرة، وهي المحنة الأخيرة، محنة الموت. ((الروح نشيط، الجسد ضعيف)). ق مز 51: 12؛ روم 6: 19 (ضعف الجسد)؛ رؤيا يعقوب 32: 19-20.
ثالثًا: صلاة يسوع الثانية وصلاته الثالثة (آ 43-46)
وصلّى يسوع أيضًا. ولكنه كما في الماضي ربط حياته بمشيئة الله. ((ثم مضى أيضًا وصلّى قائلاً)). زاد مت: للمرّة الثانية، لأن هناك صلاة ثالثة. ((إن كان لا يمكن)). رج أش 51: 17-23 (حيث يبعد الله كأس الغضب عن اسرائيل)؛ عد 10: 9. الصلاة الثانية تشبه الصلاة الأولى. لسنا هنا أمام تطوّر في موقف يسوع. فهو منذ البداية مسلَّم إلى إرادة أبيه. ورجع يسوع إلى التلاميذ فوجدهم نيامًا (آ 43). عيونهم ثقيلة. ق تك 48: 10 (حسب السبعينية). وابتعد يسوع للمرّة الثالثة. لم يذكر مر صلاة ثالثة (ذكرها مت في خط التوازي، ثلاث صلوات وثلاثة تدخّلات لدى تلاميذه). ولكن حين قال مر في 14: 41 ((جاء ثالثة))، دلّ ضمنًا على صلاة يسوع الثالثة.
في 2كور 12: 8 قال بولس إنه طلب ثلاث مرات من الله أن تفارق تلك الشوكة جسده. ونجد أيضًا ثلاث طلبات في 2مل 1: 9-16؛ مز 55: 17 (ثلاث صلوات يوميّة)؛ رج دا 6: 10؛ الديداكيه 8: ،3 تلمود بابل يوما 87أ (من يطلب غفران جاره لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث مرات). الصلاة على ثلاث مرات تدلّ على الثبات في الطلب. رج عد 24: 10؛ عظات يوحنا فم الذهب حول مت 83: 1: كتب: ((يدلّ الثاني والثالث في الكتاب المقدس على الحقيقة)).
((حينئذ جاء إلى التلاميذ)) (آ 45). ق مر 14: 41: ((جاء للمرة الثالثة)). ولكنه ما استطاع أن يقنع تلاميذه بأن يسهروا. فقال لهم: ((ناموا واستريحوا. ها قد دنت الساعة)). ق يو 5: 25؛ 12: 23؛ 17: 1؛ 2با 36: 9؛ وصيّة ابراهيم 20: 2 (موت البار له ساعته المناسبة). هنا نقرأ التوازي بين آ 45 وآ 46: ((ها قد دنت الساعة)). ((ها قد دنا مسلّمي)) (ذاك الذي يسلمني). اعتبر مت أن الساعة قريبة. أما مر فاعتبرها قد أتت. للساعة أكثر من معنى حرفيّ. فهي تدلّ على الجزء الأخير من رسالة يسوع، حين يبذل نفسه من أجل الكثيرين. ((يُسلم)). صيغة المجهول الالهي. أي إن الله هو الذي يُسلم يسوع إلى الموت بصورة غير مباشرة. قد يسلمه اليهود أو يسلمه الوثنيّون. في أي حال، هم الخطأة. هذا يعني أنه بريء. وأن مصيره هو نتيجة خطيئة البشر.
ورأى يسوع يهوذا، فذهب إلى لقائه. ما اختفى ولا هرب. فهو، من خلال عمل يهوذا الاثيم، يسمع نداء الآب. ((قوموا، هيّا)) (مر 14: 42؛ ق يو 14: 30-31). قد نكون أمام اسلوب ((حربيّ)). العدو يهجم (يهوذا ومن وراءه) وأنا ذاهب للقائه. الصورة الأخيرة في هذا النصّ هي صورة ذاك الذي يسلّم يسوع، صورة الخائن (باراديدوس).
3 - قراءة لاهوتيّة وروحيّة
جتسيماني هو معصرة الزيتون. سمّاه يو 18: 1 ((البستان)) (كيبوس) ودلّ على أن يسوع كان يتردّد إليه (18: 2: كان يسوع يختلف إليه كثيرًا مع تلاميذه). ربّما كان يخصّ أحد التلاميذ أو أحد الأصدقاء. أما لفظة ((جلس)) فتعني ((مكث، لبث)). كما في آ 38. إذا عدنا إلى ما قلناه في النظرة العامّة نعتبر أن آ 37-38 هي من مرجع آخر نقرأ فيه آ 36. غير أن المرجعين يذكران صلاة يسوع، التي بدت مقتضبة في المرجع الأول، ودراماتيكيّة في المرجع الثاني وفي لوقا (أكثر دراماتيكيّة). ولكن في الحالات الثلاث نحن أمام صراع في الصلاة، أي في الثقة والطاعة البنويّة.
إذن، لسنا أمام صلاة تحمل ((البطولة))، فيها يجمع الانسان آخر ما عنده من قوى لكي يقوم بالمجهود الأخير. ولسنا أمام صلاة متصوّفة ومستيكيّة ترفع الانسان فوق ضعفه وصعوباته (وكأنها زالت). بل أمام صلاة انسانيّة وبنويّة. يصلّيها إنسان من الناس مع في طبيعته البشريّة من ضعف. ويصليها ابن الله. هي صلاة الانسان الإله. صلاة انسانيّة لأنه بحسب الانتروبولوجيا في الانجيل، يقوم جوهر الانسان في أنه يُمتحن، يجرَّب (وقد يقع في هذه التجربة). وصلاة بنويّة لأن يسوع وحده (في نظر مت) يواجه هذه المحنة الأخيرة في حريّة ابن يريد ويستطيع أن يكون طائعًا حتى الموت والموت على الصليب.
نستطيع القول إن يسوع في هذه الآيات كما في 4: 1-11 (التجارب) يردّ للمرَّة الأخيرة التجربة التي ينادي بها الغيورون والتي تطلب منه أن يخلّص شعبه بالقدرة السياسيّة. وحزنُ (ليبايستاي؛ 14: 9؛ 17: 23؛ 19: 22) يسوع واكتئابه (اديموناين فقط هنا وفي فل 2: 26 في كل العهد الجديد)، لا يدّلان على الشكّ والارتياب، ولا على القلق على مستوى كيانه وكأنه ما عاد يثق بأبيه. حاشا، بل هما يدلاّن على طاعة عبد الله المتألم مع ما في هذه الطاعة من ألم. وما يُسند هذا التفسير التلميح إلى مز 42: هي صرخة انسان يتألّم ولكنه ما زال يثق بالله ويمدحه. ((لماذا تكتئبين يا نفسي، وتقلقين فيّ؟ ارتجي الله، فأني سأمدحه بعد فهو خالقي ومخلّصي)). وهذا الحزن هو من العمق، بحيث لا يستطيع أن يعطي لذاته تعزية تقنعه أنه لا يفهم. فيسوع يعرف، وهذا ما يزيد ألمه ألمـًا.
إذا كان هذا الكلام صحيحًا فإن آ 39ب (إن أمكن) لا تصوِّر في درجتين (آ 39ج: تبعد عنّي هذه الكأس؛ آ 39د: لا مشيئتي بل مشيئتك) مسيرةَ يسوع: بدأ فرفض أن يطيع، ثم تراجع عن رفضه وقبلَ في النهاية الألم المقدّم له. كلا. بل نحن أمام طاعة أساسيّة، وأمام خوف تجاه طاعة خاصة هي طاعة الصليب الذي ترمز إليه هذه الكأس. وبعبارة أخرى: يريد يسوع أن يطيع، ولكنه لا يريد أن تكون طاعته طاعة الانصياع والخنوع، طاعة من لا يستطيع أن يفعل شيئًا آخر، بل طاعة الابن الذي يدخل في عمق سرّ الألم لكي يحوّله من الداخل. يدخل في عمق الموت ليجعل منه ينبوع الحياة. أما هذا الذي حصل على الصليب؟
وتأتي الدعوة إلى السهر في آ 40-41، فتصوّر لنا يسوع ذاك المثال الذي يقول ويفعل: يصلّي ويسهر، ويدعونا إلى أن نسهر ونصلّي لئلاّ نقع في التجربة. وهذا السهر (24: 42-43؛ 25: 13؛ كو 4: 2) يقوم هنا بأن نتمسّك بالطاعة الخاصّة التي يريدها الله. لهذا تلعب فيه الصلاة دورًا كبيرًا جدًا. إذن، لسنا أمام وقفة تجاه خطر داخلي يجعلنا ننتظر ولا نفعل شيئًا. فسهر يسوع كان سهرًا ناشطًا. سهرَ كلُّه نفسًا وجسدًا. ركع وسلّم ذاته بكليّتها إلى الآب. ولسنا أمام أمانة لبرنامج فرديّ وضعناه نصب عيوننا، بل أمام جهوزيّة واستعداد. ها أنا آت لأصنع مشيئتك يا الله. وهذا الاستعداد هو الآن استعداد لقبول الألم والموت.
نحن لا نفهم آ 41 ب (الروح نشيط) في معنى ثنائيّة بولسيّة حيث يتعارض الانسان الطبيعي مع روح الله أو المسيح. ولا نفهمها في معنى الثنائيّة حيث يعارض الانسانُ المادي الجسدي النفسَ الخالدة. بل نفهمها في إطار ثنائيّة انتروبولوجيّة ترتكز على نصوص العهد القديم وتعلّم أن الله وضع في الانسان روحًا يتوجّه نحو الخير أو ((روح الحقّ)). هذا الروح ((يقيم)) في جسد الانسان. في لحمه ودمه. وهكذا نكون أمام صراع حقيقيّ على ما نعرف من عالم قمران. أما رقاد التلاميذ فيدلّ على عماهم الروحيّ. سيطر الحزن عليهم، فما عادوا يفهمون شيئًا ممّا يحدث أمامهم.
وتأتي الصلاة الثانية والصلاة الثالثة فتعبّران عن هذه الطاعة عينها لقصد الله. بما أن الآب يريد ذلك، فالابن سيشرب الكأس التي تقدَّم له. أجل، إن يسوع لا ينتقل من اللاطاعة إلى الطاعة، بل من طاعة تكون فقط مجيدة فتنسي يسوع أنه انسان كسائر البشر وأنه يمرّ في الألم والموت لكي يصل إلى القيامة، إلى طاعة تعرف الصليب على ما قال يسوع لتلميذي عماوس: ((كان على ابن الانسان أن يمرّ في هذه الآلام قبل أن يدخل مجده)).
في كل هذا ((النزاع)) والصراع كان يسوع وحده. حاول أكثر من مرّة أن يجعل التلاميذ ((معه))، ولكن عبثًا. بل هم ليسوا ((مع نفوسهم)). ليسوا من الساهرين كما طلب منهم يسوع في تعليمه مرارًا. ولهذا، بما أنه لم تكن فائدة من الكلام معهم، وبما أن يوضاس جاء مع الفرقة، تركهم يسوع ينامون ويستريحون. وهكذا لن يظهروا بعد ذلك في خبر الآلام. وحده بطرس سيظهر ويا ليته لم يظهر. سيظهر لينكر معلّمه (آ 57-75). والآن، قد جاءت ساعة الظلمة على المستوى الماديّ والمستوى الروحي، جاءت ساعة الشرّ، ويسوع سيُسلم إلى أيدي الخطأة. لهذا تقدّم هو نفسه إلى الذين جاؤوا إليه. لقد دنت ساعة الموت، ولكنها تفتح الطريق أمام ساعة القيامة.

خاتمة
1 - قد يتقبّل الانسان الموت لأنه يراه عذبًا، على مثال سقراط. وقد يقاوم الموت لأنه يظنّ أنه شرّ كما تقول الأخبار حول موسى (ترجوم يوناتان المزعوم حول تث 32) وابراهيم (وصيّة ابراهيم 16: 1ي). لم يكن يسوع مثل سقراط ولا مثل ابراهيم وموسى. ومع أنه تراجع أمام الموت أو أقلّه أمام الصلب، فحياته تحدّدها مشيئة الله وهو يسيرها مهما كان معتقده أو شعوره تجاه الموت، بحيث لم يكن هناك مقاومة حقيقيّة. الهدف في نظر يسوع ليس الموت، بل الخضوع لمشيئة الله. ((لتكن مشيئتك)).
2 - هناك عدد من الألفاظ المفاتيح في 26: 36-46، تحمل معنى اسكاتولوجيًا. ((إسهروا)) تعود بنا إلى 24: 32-43؛ 25: 13، وهي آيات تحدّثنا عن مجيء ابن الانسان. في شرح 20: 22-23 عن الكأس شدّدنا على ارتباط هذا بالدينونة وهذا يعني أن خبر الحاش (= الآلام) في مت هو اسكاتولوجيّ. قد يحمل الويل ولكنه يحمل الخلاص.
3 - هناك ثلاثة ينابيع للشفقة في 26: 36-46. (1) براءة الذي يتألّم، مثل أيوب الذي لم يكن مذنبًا. (2) يسوع حين يبدو أنه يعمل عكس ما قال في الانجيل. مثلاً: حين أنبأ مرارًا بالصلب نفسه. بل وبّخ بطرس لأنه عرض عليه مسيرة أخرى. ها هو الآن يتطلّع إلى طريق تدور به حول الآلام. قال إن التلميذ يتبعه وها هو يطلب منهم أن يكونوا معه. هو يبدو في حرب مع نفسه. (3) عزلة يسوع. هو وحده. مع أنه جاء مع تلاميذه، إنفصل عنهم ولصق وجهه بالأرض. فالظرف الطبيعي له رمزه: يسوع هو وحده. ورغم وجود لفظة ((مع)) ثلاث مرات لكي تربطه بالآخرين، فتلاميذه كانوا لامبالين. تركوه وناموا، بل ما طلبه يسوع منهم لم يسمعوه، فهل ستسمع له السماء (في لو 22: 43-44، أرسل الله ملاكه)؟ فكأن صلاة يسوع لم تُسمع. لم تستجب. وهكذا صار يسوع كما في 17: 17 (الجيل الغير المؤمن) وكأنه وحده وليس أحد معه. وكانت النتيجة الطبيعيّة: ((تركه التلاميذ كلهم وهربوا)) (26: 56).
قال باسكال: ((إن يسوع ينازع حتى نهاية العالم. فيجب أن لا ننام في ذلك الوقت)). هذا التفسير يتوافق مع الخبر المتّاويّ. فنداء يسوع إلى اليقظة والسهر أمر يتوجّه إلينا جميعًا. في هذا الخط، يبدو تصرّف يسوع مثاليًا (عب 5: 7-8). هو مثال للتلميذ الأمين. سهر يسوع وصلّى إلى الله الآب وخضع لإرادة الله. فيبقى على التلميذ أن يسير في خطى معلّمه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM