الفصل الثامن عشر: العشاء السرّي

الفصل الثامن عشر

العشاء السرّي
26: 17-35

إن يهوذا يسلم يسوع. بل إن يسوع يسلم ذاته حين يقدّم جسده ليُؤكل ودمه ليُشرب. فالجسد يدلّ على الشخص كله والدم على الحياة. وهكذا يقدّم يسوع ذاته، يقدم حياته في ذاك العشاء الذي يختلف عن كل عشاءاتنا، الذي هو النموذج لاحتفالاتنا في اليوم الأول من الاسبوع: نسمع الكلمة ونكسر الخبز كما فعل يسوع مع تلميذي عمّاوس فدلّ على حضوره. ولكن يسوع هو وحده المخلّص. لهذا سوف يتنكّر له بطرس ويتركه. بل يتشتّت كل تلاميذه. هذا ما يعرفه يسوع وينبئ به تلاميذه رغم احتجاجات بطرس. هو وحده يسير في المقدمة، يحمل صليبه... والبشر يحاولون السير وراءه. لا في الحال، بل بعد وقت قليل... بعد القيامة، سيفهم الرسل طريق الآلام الذي سار فيه يسوع. أما الآن، فيسوع يقدّم ذاته وهم سيهربون. هذا هو مخطّط الآب.
نقسم هذا النصّ قسمين. في الأول (26: 17-29) نتوقّف عند العشاء السري وما سبقه من تهيئة ومن حديث عن الخائن. وفي الثاني (26: 30-35) نسمع كلام يسوع عن بطرس وعن الرسل. واحد سيخون، والآخرون يهربون.

1 - العشاء السرّي (26: 17-29)

أ - نظرة عامة
أولاً: مقدّمة
نقرأ هنا ثلاث مقطوعات صغيرة.
بعد خبر خيانة يهوذا، جعلت الأناجيل الازائيّة الثلاثة خبر الاعداد لذبيحة الفصح. أمرَ المعلّم التلاميذ فذهبوا يعدّون ما يلزم. اذهبوا إلى المدينة. فيسوع قد سبق وأعدّ كل شيء واتّفق مع صاحب الدار.
ما هي الفكرة التي تسند هذا النص؟ تجاه استعدادات يوضاس، هناك استعدادات سريّة، الاستعدادات لعشاء الفصح، وسيكون فصحًا لم يعرفه اليهود ولن يعرفوه إلاّ إذا نزعوا البرقع عن عيونهم. فالذي يخونه تلميذه اليوم يُشرف بشكل سام جدًا على تسلسل الأحداث. وهو يعطي تعليماته لتلاميذه، والجميع يأخذون الاحتياطات اللازمة. ساعة كان يهوذا يطلب فرصة مؤاتية (14: 12-16؛ رج لو 22: 7-13) (اوكايريان آ 16)، أكّد يسوع أن زمانه (كايروس آ 18) قريب.
انطلق مت من نصّ مر ولكنه بسّطه بدرجة كبيرة، بحيث يصعب فهمه على من يجهل نصّ مر. بسّط مت لكي يُفرد المكان كله من أجل التعليم اللاهوتي الذي يريد أن يعطينا إياه، ولو نقص بعضُ المنطق على مستوى الخبر.
ثانيًا: يسوع يتحدّث عن الخائن (آ 20 - 25)
تحدّثنا في 26: 14-16 عن وجه يهوذا الخائن. وهذا الجزء الثاني في ((حلقة)) يهوذا نقرأه في الأناجيل الازائىة الثلاثة (مر 14: 17-21؛ لو 22: 14، 21-23). غير أن لو قد نقل المهمّ بعد خبر عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه (لو 22: 12-23). تبع مت عن قرب نصّ مر وما زاد عليه إلاّ تحويلاً هامًا واحدًا: حوار يسوع مع يهوذا في آ 25 (ألعلي أنا رابي - أنت قلت) التي ظلّت غامضة كما أرادها الانجيليّ. ونجد هذا الحدث عينه في يو 13: 21-30 بعد أن تحوّل تحوّلاً عميقًا. دلّ يسوع على الخائن بشكل أوضح، بل أمره بأن يقوم في الحال بعمله الشيطانيّ (ما أنت فاعله فافعله). وهكذا يكون الخبر قد تطوّر من مر إلى يو عبر مت، في خطّ مواجهة أقل التباسًا بين يهوذا ويسوع. ولكن يوضاس يُهاجم في أي وقت من الخبر. فنظرة الانجيليين إلى المسؤولية غير نظرتنا. فهُم في هذا الحدث كما على مدّ خبر الحاش لا يحاولون أن يفسّروا الوقائع ولا أن يشدّدوا على المسؤوليات الفردية. بل ينصبّ كل اهتمامهم على ذاك الذي يقود كل شيء إلى التتمّة التي اختيرت مسبقًا. على هذا الأساس نفهم آ 24 (ويل لذلك الانسان الذي يسلّم ابن البشر) التي تشكك نظرتنا اليوم إلى الأمور.
ثالثًا: عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه (آ 26-29)
هو عشاء الرب، والافخارستيا، والاحتفال بالقداس الذي يذكره أيضًا مر 14: 22-25 ولو 22: 15-20 و1كور 11: 23-35. وهنا نطرح ثلاثة أسئلة: الاول: هل نحن أمام عشاء فصحيّ فسّر خلاله يسوع لتلاميذه موته ومجيئه الآتي؟ الثاني: هل أتمّ يسوع عملاً فريدًا لا يتكرّر، أو نظّم احتفالاً مع أمر بتكراره كما نجد في 1كور 11: 23-35 (اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي)؟ الثالث: أي الأخبار أقرب إلى التاريخ؟ مر ومت أو لو الذي هو قريب من 1كور 11؟
تأتي هذه الأسئلة في الدرجة الثانية، أما هدفنا الاول فهو فهم نص مت مهما كانت قيمته الوثائقية من أجل معرفتنا لسيرة يسوع. مهما كانت نظرته اللاهوتيّة التي دوّنت خمسين سنة بعد الأحداث. فكما على مدّ خبر الحاش، تبع مت هنا نص مر عن قرب. أما التحويلات التي جعلها فهي بحسب خطّه العام. جعل الكلام أوضح وأقرب إلى الفهم؟ زاد ((يسوع)) و((كلوا)) في آ 26. حوّل خبر مر من صيغة الماضي إلى صيغة الأمر في آ 27 (شربوا كلهم. صارت: اشربوا كلكم). زاد عبارة: ((لغفران الخطايا)) التي توضح معنى عبارة مر ((من أجل كثيرين)).
روى مر آخر عشاء ليسوع. وحين رواه مت كشف معناه لسامعين مسيحيين اعتادوا أن يحتفلوا بالافخارستيا. في هذا المعنى نستطيع القول: نصّ مر اخباريّ في الدرجة الاولى. ونص مت ليتورجيّ، أو: يرتدي التعبير المتاوي لهجة ليتورجيّة موسّعة. ونلاحظ حالاً الطابع الأصيل لهذه الليتورجيا: فهي تقوم بأن تورد أقوال يسوع وأعماله خلال عشائه الأخير مع تلاميذه. هنا لا نعتبر، كما يحسب البعض، أن ما هو ليتورجيّ لا قيمة وثائقيّة له. بل يبدو أن أقوال يسوع التي جُعلت في عبارات عباديّة، قد حظيت بالحصّة الكبرى في التقليد الشفهي. وحين نتفحّص هذه الآيات، نتذكّر المحيطات الثلاثة التي ترتبط بها مبنى ومعنى. عيد الفصح اليهودي في وجهتيه الرئيسيتين من ذبيحة في الهيكل وعشاء عائلي في بداية الليل. ثم: الغداء المقدس لدى الاسيانيين. وأخيرًا: المحيط المسيحي الأولاني كما نكتشفه في مت وأعمال الرسل والرسائل ولاسيّما 1كور11.
ب - دراسة تفصيليّة
أولاً: البنية والمراجع
إن 26: 17-29 يتضمّن ثلاثة مشاهد: الاستعداد للفصح (آ 17-19)، الانباء بخيانة يهوذا (آ 20-25)، العشاء الأخير (آ 26-29). هذه المشاهد ارتبطت بموضوع واحد. يسوع هو حمل الفصح الأخير. وضمّت ذات الأشخاص: يسوع وتلاميذه. وشاركت في اللغة الواحدة: أكل (آ 17، 21، 26)، تلاميذ (آ 17، 18، 20، 26)، أقول لكم (آ 21، 29) . وأخيرًا تضمّن كل مشهد نبوءة من يسوع. في آ 18: اذهبوا إلى المدينة، إلى فلان... في آ 23-24: الذي غمس في الصحفة هو يسلمني. في آ 29: لن أشرب من عصير الكرمة...
أما المرجع الوحيد لما في مت 26: 17-29 فهو مر 14. فالاتفاقات مع مراجع أخرى ضد مر هي قليلة: 26: 18 = لو 22: 10 - مر 14: 13 (أما هو فقال)؛ 26: 23 = لو 22: 21 - مر 14: 20 (يده)؛ 26: 27 = لو 22: 20 - مر 14: 24 (قائلاً)؛ 26: 29 = لو 22: 18 - مر 14: 25 (ألغى آمين)؟ 26: 29 = لو 22: 18 - 14: 25 (زاد ((أبو)) اليونانيّة).
ويُطرح السؤال الأساسيّ: هل تبديل كلمات التأسيس في مت تعكس استعمالاً ليتورجيًا؟ أم هي أمور محض تدوينيّة (دوّنها متّى في خطّه)؟ معظم الشّراح يقولون إننا أمام استعمال ليتورجي. فحين وصل الانجيلي إلى عشاء الرب، وهو عمل ليتورجيّ معروف في جماعته، استعاد النسخة التي عرفتها كنيسته. ولكن يُطرح السؤال الذي يُطرح حول الصلاة الربية (6: 9-13). ولكن لا جواب.
إن خبر العشاء الأخير يستند إلى أولويّة مر، لا إلى أولويّة مت. وما يدلّ على ذلك هو إبراز التوازي بين الآيات كما في النصوص الليتورجيّة. وهكذا جاءت نسخة مت متأخّرة بالنسبة إلى نسخة مر. وضع مت 26: 28 ((لغفران الخطايا)) مع دم يسوع. فلماذا يلغي مر مثل هذه العبارة؟
ثانيًا: التأويل والتفسير (26: 17-29)
> الاستعداد للفصح (آ 17-19)
وضعُ هذا المقطع تجاه موافقة يهوذا (= يوضاس) على خيانة يسوع، يجعل تهيئة يسوع للفصح تجاه تهيئة يهوذا للخيانة. طلب الخائن فرصة سانحة للخيانة. وكذلك فعل ابن الانسان فدلّ على سلطانه السامي. أمر تلاميذه أن يذهبوا. علّمهم ماذا يقولون. دلّ على معرفته بالمستقبل. فعاد إلى نفسه كـ ((المعلّم)) (يقول المعلّم) الذي لا ينتظر دعوة، بل يعطي الأوامر لمضيفه: ((عندك أصنع الفصح مع تلاميذي)).
إن 26: 17-19 يحمل بنية بسيطة ذات دلالة لاهوتيّة. سؤال إلى التلاميذ (آ 17) يتبعه أمر يسوع (آ 8)، يليه تنفيذ ما أمر به يسوع (آ 19). قام مت ببعض التبديلات في نصّ مر. أهمّها التشديد على معرفة يسوع المسبقة، على خضوعه لزمانه (كايروس)، على طاعة التلاميذ له. ثم إنه أوجز مر، وعاد إلى التلاميذ بشكل عام لا إلى تلميذين: ترك عبارة ((رجل يحمل جرّة ماء)). وزاد: ((زماني قريب)) (آ 18 - مر 14: 14). حوّل سؤال يسوع إلى قول إيجابي (آ 18 - مر 14: 14)، وزاد تلميحًا إلى خر 12: 28 فجعلنا في خطّ خروج جديد.
السؤال في آ 17 يتعارض مع السؤال في آ 15: سأل يهوذا كيف يستطيع أن يخون يسوع. وسأل التلاميذ كيف يستطيعون أن يخدموا يسوع. اليوم الأول من الفطير ليس عيد الفصح، بل 15 نيسان (يوسيفوس، العاديات، 18: 29). ولكن الناس كانوا يخلطون بين الاثنين. أما بالنسبة إلى مت ومر فالمهمّ ربط موت يسوع بعيد الفصح.
((أين تريد...))؟ وأعطى أوامره (آ 18). هنا أوجز مت نص مر. ((فلان)) (رج 1صم 10: 1ي). المهمّ ليس الشخص وهويته، بل يسوع الذي يقيم الفصح. سيكون يسوع ((ربّ البيت)) لا ((فلان)). أطاع التلاميذ المعلّم، فصاروا مثال الجواب الصحيح (رج مثل الابنين): خدموا يسوع حين عملوا حسب ما قال لهم: نلاحظ التوازي بين آ 17 وآ 19.
آ 17 التلاميذ (قالوا لـ ) يسوع نعدّ الفصح
آ 19 التلاميذ (أمرهم) يسوع أعدّوا الفصح.
> الانباء بالخائن (26: 20-25)
الكلمة المفتاح في هذه المقطوعة هي ((باراديدومي)) (آ 21، 23، 24، 25): أسلم. في حقل التلاميذ الحنطة والزؤان، السمك الجيّد والسمك الرديء (ف 13). تركيز المشهد (آ 20-21أ) يقدّم حوارًا موازيًا:
النبوءة: أنبأ يسوع بالخائن (آ 21ب): ((واحد منكم سيسلمني)).
الجواب: سأل التلاميذ: ألعلّي أنا يا رب (آ 22)؟ أكيد، لست أنا!
التعرّف إلى الشخص: ((الذي غمس يده في الصحفة)) (آ 23).
النبوءة: أنبأ يسوع مرة أخرى بالخائن (آ 24): ((ويل لذاك الرجل)).
الجواب: سأل يهوذا: ((ألعلي أنا رابي)) (آ 25أ)؟
التعرّف إلى الشخص: ((أنت قلت)) (آ 25ب).
يبرز التوازي تطوّرًا يميّز يهوذا عن سائر التلاميذ. شدّدت آ 21-23 على التلاميذ (الذين سمّوا يسوع ((الرب))). أما التعرّف في آ 23 فقاد بصورة طبيعية إلى آ 24-25 الذي شدّد على الخائن (الذي دعا يسوع ((رابي))، مثل اليهود لا مثل المسيحيين الذين رأوا في يسوع ((الربّ). لهذا جاءت النبوءة الثانية (آ 24) مختلفة عن الأولى (آ 21). ثم صيغة مع ((الويل)) الموجّه إلى ذاك الرجل، إلى الخائن، إلى يهوذا (آ 24). ونلاحظ الكلام في شكل تصالب:
في آ 22 -23 يقول أجاب وقال
في آ 25 أجاب وقال فقال.
أجل، إن يهوذا يختلف عن الآخرين. وبدّل مت النص في ثلاثة أمور. (1) ألغى التلميح إلى مز 41: 9 (الذي يأكل معي). (2) أدخل لفظة ((الربّ)) في سؤال التلاميذ (آ 22- مر 14: 19. هذا ما يهيّئ استعمال ((رابي)) في فم يهوذا، آ 25). (3) زاد الحوار بين يسوع والخائن (آ 25). هذا التبديل الأخير أزال الالتباس عن التماهي بين يهوذا والخائن (رج يو 13: 26). هناك من ناقش تاريخيّة هذا الخبر. ولكن يبقى أن ارتباط حياة يسوع بالعشاء الأخير هو تقليديّ منذ كتب بولس 1كور.
في آ 20 نجد تركيز المشهد: يعيش يسوع عشاء الوداع. رج تك 27: 1-40؛ يوبيلات 22: 1-23: 1؛ 36: 17-19؛ وصيّة نفتالي 1: 1-4؛ 9: 2؛ يو 13: 1ي. نلاحظ هنا إشارة إلى وليمة العهد في خر 24: 3-6 حيث كانت القبائل الاثنتا عشر ممثّلة (خر 24: 4). قال يسوع إنه سيُسلم (آ 22)، ولكن لم يعتبر التلاميذ أن واحدًا منهم سيسلم الرب. هذا مستحيل! ((الذي غمس)) (آ 23). قد يعني يهوذا الذي يغمس يده في هذه اللحظة. قد يعني واحدًا من الاثني عشر، لأن الجميع غمسوا يدهم في الصحفة. عندئذ يكون التشديد على فظاعة العمل في خطّ المزمور (من أكل معي رفع عليّ عقبه).
إن آ 24 تكرّر ما في آ 21، ولكن محلّ ((واحد منكم)) نجد ((هذا الرجل)). ومحل ((أنا)) (سيسلمني أنا) نجد ((ابن الانسان)) (يسلم ابن الانسان). نلاحظ لفظة ((انسان)) (انتروبوس):
ابن الانسان ذاهب كما كُتب عنه
ولكن الويل لذلك الانسان الذي به
يُسلم ابن الانسان
كان خيرًا لذاك الانسان.
((ويل لذلك الرجل)) (آ 24). تتحدَّث الآية عمّا هو مكتوب. هي لا تعارض مسؤوليّة الانسان، ولكنها تدلّ على أن هذا العمل بما فيه من شرّ يدخل في حسابات الله، لا يأخذ الله على غفلة. حتى لو كان الانسان ((أداة)) في يد الله الذي يخرج من الشر خيرًا، فعمله يحسب له. هنا نتذكّر آ 20-24:
الويل لذلك الرجل (كلام يوجّه إلى يهوذا)
الذي به يسلم ابن الانسان (الجريمة)
كان خيرًا له لو لم يُولد (نبوءة عن العقاب).
> يسوع يأكل عشاء الفصح (آ 26-29)
هنا تفسَّر مأساة المقطوعة السابقة (آ 20-25) كمأساة فداء وخلاص. يسوع الذي خانوه وأسلموه صار ذبيحة يراق دمُها عن الكثيرين. في هذا الوقت، يدشّن عبد الله المتألّم، الذي يقدّم نفسه بإرادته، العهدَ الجديد من أجل الجماعة الجديدة.
إن نسخة مت عن العشاء الأخير قد اغتنت بارتباطها بنصوص أخرى. فإن آ 26أ و27أ تشيران إلى خبر تكثير الأرغفة في ف 14 وف 15. كانت هناك صورة مسبقة للعشاء الأخير في معجزتي تكثير الأرغفة. وارتبط هذا المقطع أيضًا بالخبز الذي نطلبه من الرب في صلاة ((الأبانا)). وعبارة دم العهد تعود إلى خر 24: 8 فتجعل عمل يسوع شبيهًا بعمل موسى. والعودة إلى ((العهد)) تذكّرنا بما في إر 31: 31. و((أفيض عن الكثيرين)) تعود إلى أش 53: 12، وتعني أن يسوع في موته هو عبد يهوه المتألم كما في أشعيا.
روى متّى حدثًا من الماضي هو عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه. ولكن قرّاء مت الأولين رأوا في العشاء الأخير تأسيس عشاء الربّ، الافخارستيا. إن آ 26-29 هي خبر يربطنا بأساس شعيرة من شعائر العبادة.
يستعيد مت خبر مر، ولكنه يتميّز عنه في ثلاثة أمور لها مدلولها. (1) شدّد مت على توازي الكلمات حول الخبز وحول الكأس (آ 27). (2) جاء كلام يسوع في صيغة الأمر حين أعطى تلاميذه الكأس ليشربوا: ((اشربوا من هذا كلكم)) (آ 27 - مر 14: 23). (3) لا نجد ((لغفران الخطايا)) إلاّ في مت (آ 28 - مر 14: 24).
إن تاريخ التقليد حول كلمات التأسيس هو متشعّب وغير أكيد. يتضمّن العهد الجديد أربعة نصوص: مت 26: 26-29؛ مر 14: 23-26؛ لو 22: 19-20 (نصّ لو الطويل هو النصّ الاصلي)؛ 1كور 11: 23-25. تحدّث يو 13: 1 عن العشاء الأخير، ولكنه لم يورد كلمات الربّ على الخبز وعلى الخمر (لكن رج يو 6: 51-58). إن خبر مت هو توسّع في خبر مر. وهكذا نبقى أمام مر، لو، 1كور. هناك توافق بين لو و1كور تجاه مت ومر، وهكذا نكون أمام المقابلة التالية:
مر + مت بولس + لو
أخذ خبزًا أخذ الخبز
بارك شكر
كسر كسر
قال قال
أخذ -
هذا هو جسدي هذا هو جسدي
- الذي يُبذل لأجلكم
- إصنعوا هذا لذكري
وأخذ الكأس وكذلك الكأس
- بعد العشاء
شكر -
هذا هو دمي هي الكأس
(دم) العهد العهد الجديد في دمي.
فسِّرت العلاقات بطرق مختلفة. (1) جمع لو تقليد بولس مع تقليد مر القديم. (2) احتفظ لو بتقليد قديم وتوسّع فيه في اتجاهين مختلفين، واحد مثّله مر والآخر لو (هناك من بنى في الأساس نصًا أراميًا). (3) خبر بولس هو الأقدم، وخبر لو أقدم من خبر مر. (4) الروايات الثلاث تحتفظ بتقليد قديم، وليس من رواية أقرب إلى الأصل من الرواية الاخرى. ماذا نقول بعد كل هذه الآراء؟ احتفظ مر بالشكل الأقدم لكلمة حول الخبز. ولو وبولس بالكلمة حول الكأس. وقد نستطيع أن نتصوّر المرحلة الأولى كما يلي:
- مقدّمة للكلمة حول الخبز
- هذا هو جسدي
- مقدّمة للكلمة حول الكأس
- هذه الكأس هي العهد (الجديد) في دمي
- أقول لكم: لن آكل من ثمر الكرمة حتى اليوم الذي أشربه جديدًا في ملكوت الله.
((وفيما هم يأكلون)) (آ 26). كما كان التقليد يفسّر معنى الخبز، كذلك فعل يسوع ولكن بطريقة جديدة كل الجدّة. لم يُذكر الحمل ولا الكاسات الأربع والخبز الفطير ولا التفسير التقليديّ للسرّ ولا تفاصيل أخرى حول الفصح. هكذا تميّز عشاء يسوع عن عشاء الفصح.
اختلفت آ 27 عن 1كور 11: 25، فلم تترك فسحة بين أكل الخبز وشرب الكأس. ولكن بما أن متّى يجعلنا في إطار الفصح، فنستطيع أن نفترض فسحة. ((أخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً)). ق مر؛ لو 22: 19؛ 1كور 11: 24. زاد مت ((الواو)) (كاي) و ((قائلاً)) (لاغون)، فصار الكلام في الخطبة المباشرة. وهكذا برز التوازي كما في النصوص الليتورجيّة.
آ 26 - آخذًا خبزًا و مباركًا أعطى تلاميذه قائلاً كلوا هذا هو جسدي
آ 27 - آخذًا كأسًا و شاكرًا أعطى هم قائلاً اشربوا هذا هو دمي.
إن دم يسوع الذي يُعطي لمغفرة الخطايا يتوافق مع الخلاص الذي هو عطيّة الله. ولكن يبدو أن النقطة الرئيسيّة هي أن ذبيحة يسوع هي أساس العهد الجديد. ((هذا هو دمي للعهد)) (آ 28). ق زك 9: 11 (لأجل عهدي المختوم يوم الضحايا)؛ لو 22: 2؛ 1كور 11: 25. جُعل الخمر مع الدم هنا كما في تك 49: 11 (دم العنب)؛ تث 32: 14؛ أش 63: 3، 6؛ سي 39: 26. هناك علاقة بين ما فعله يسوع وما فعله موسى. كما نحر موسى ذبيحة بحيث يستطيع شعبه أن يدخل في عهد مع الله، هكذا فعل يسوع المخلّص فدشّن عهدًا آخر حين قدّم دمه، قدّم حياته، لغفران الخطايا (لا 17: 14: ((حياة كل بشر هي دمه)) ).
((لغفران الخطايا)). لا نجد ما يوازي هذه العبارة في الروايات الموازية حول العشاء الأخير، وهي عبارة تشير إلى موت يسوع الفدائيّ، إلى موته لخلاص من عبوديّة الخطيئة، كما في روم 11: 26-27 وعب 10: 16-19؛ 11: 15؛ ارتبط العهد الجديد مع غفران الخطايا. والنتيجة هي تفسير 1: 21 (تسمّيه يسوع لأنه يخلّص): يسوع يخلّص شعبه من خطاياهم بموته لأجلهم. وبتأمين علاقة جديدة مع الله لهم.
وتأتي في آ 29 نبوءة يسوع حول الامتناع عن الشرب من عصير الكرمة. هي تتحدّث مسبقًا عن موته القريب وقيامته وانتصاره في نهاية الأزمنة. وهكذا لا يكون عشاء الرب تذكارًا فقط، بل نبوءة أيضًا. ((لن أشرب بعد)) (آ 29). ق 1كور 11: 25؛ انجيل العبرانيين الجزء 7 (في ايرونيموس، الرجال المشهورين 2): حلف يعقوب ((أنه لن يأكل منذ هذه الساعة التي فيها شرب كأس الربّ حتى يراه قائمًا من بين الراقدين)). وهناك صلاة الفصح لكي يتذكّر الربُّ مسيحه، ابن داود خادمه.
إن اعلان يسوع الاحتفالي بالامتناع عن الشراب، يربط العشاء الأخير بالوليمة الاسكاتولوجيّة (هذا اليوم = يوم الرب الاسكاتولوجيّ). ستتحوّل الجماعة إلى ما يسمّيه الوحي ((عشاء الزواج مع الحمل)). إذا تحطّمت الجماعة يُعاد بناؤها في تكوين جديد (مت 19: 28). هناك شرّاح عديدون تطلّعوا إلى جماعة ما بعد الفصح، إلى ظهورات يسوع بعد القيامة (أع 10: 41؛ انجيل العبرانيين حزء ،7 الذهبي الفم، في مت عظة 82: 2). ولكن لا ننسى أن الخمر وشرب الخمر هما رمز الدهر الآتي (تك 49: 11-12؛ أش 25: 6؛ يوء 2: 24؛ 3: 18؛ عا 9: 13؛ 1أخنوخ 10: 19؛ 2با 29: 5) وأن الملكوت يصوَّر في النهاية بشكل وليمة (مت 8: 11؛ 22: 1-14؛ 25: 10) في انجيل متى. وأن البعد الاسكاتولوجي في أفخارستية المسيحيين الأولين ظاهرة منذ رسائل بولس وتعليم الرسل (الديداكيه).

ج - قراءة لاهوتيّة وروحيّة
أولاً: في اليوم الأول من الفطير (آ 17-19)
جعل الازائيون الثلاثة حدث العشاء في اليوم الأول من الفطير. وحدّد مر ولو أنه كان يوم الذبيحة الفصحيّة. تجنّب مت هذا التفصيل الذي بدا حاملاً الصعوبات. وهكذا اقترب بعض الشيء من كرونولوجيّة يو. كان الفطير خبزًا مدوّرًا ومسطحًا، وقد طُبخ بدون خمير. كانوا يهيِّئونه حين يدهمهم الوقت (ضيف لم ينتظروه، وقت الحصاد). هذا الخبز الفطير (= بدون خمير) كان مفروضًا في جميع الذبائح التي يلعب فيها الخبز دورًا هامًا: خبز التقدمة. الخبز الذي يؤكل في سبعة أيام عيد الفطير (تث 16: 1-8).
في مساء الرابع عشر من نيزان يُبعد كلُّ خمير من البيوت. ولفظة ((فصح)) تعني أولاً اليوم الأول من عيد الفطير. وتعني أيضًا سبعة أيام العيد. كان حملُ الفصح يُذبح في 14 نيزان، ولكن لا يؤكل قبل غروب الشمس، أي في الساعات الأولى من 15 نيزان. كان عيد الفصح في الأصل عيدًا زراعيًا (عيد بواكير الشعير) فصار تذكارًا للخروج من مصر (خر 34: 18؛ 23: 15؛ تث 16: 3).
حسب يو 18: 28 و19: 14 وبعض تفاصيل الأخبار الإزائيّة، صُلب يسوع يوم ذبيحة الفصح. لهذا نظنّ أنه أكل عشاءه الأخير مع تلاميذه ليلة الفصح. هل نستنتج أن هذا العشاء لم يكن عشاء فصحيًا؟ أو هل كان عشاء فصح قبل عيد الفصح قد تمّ في الخفاء، بحيث لا يدري به أحد؟ هذه الفرضيّة تبدو معقولة. لن نتوقّف عند جدالات لا ترتبط بالتأويل في المعنى الحصري. نلاحظ أن هذا العشاء، في فكر مت، كان حقًا عشاء فصحيًا. وإذا كانت العبارة المتّاوية ((اليوم الأول من الفطير)) قد دلّت على يوم ذبيحة الفصح (أو اليوم التالي إذا سرنا بحسب التقليد، أي 15 نيزان)، تدلّ نهاية آ 17 أننا في الواقع في العشيّة، والعشيّة (منذ غياب الشمس) تخصّ يوم الاحتفال بالحمل الفصحيّ. كانوا يقولون: يُذبح الحمل بين الغروبين، أي بين غروب الشمس وغروب الضوء، قبل أن يحلّ الظلام.
أخذ المسيح القرارات المفيدة من أجل هذا العشاء. سأله تلاميذه، فما أرسل فقط اثنين (كما قال مر؛ قال لو: بطرس ويوحنا)، بل أرسل تلاميذه الذين يؤلّفون جماعة متماسكة في مت. وعبارة ((عند فلان)) عبارة خاصة بمتّى الذي يركّز على الأساس بحيث يصبح عدد من الأمور غامضًا. هنا نشير إلى أن زمان (كايروس) يسوع ليس زمان الطعام ولا زمان عودته، بل زمان موته (رج 8: 29؛ 13: 30؛ 24: 45). هذه اللفظة قريبة من((الساعة)) عند يوحنا، ساعة الابن (يو 2: 4؛ 13: 1).
ثانيًا: ولما كان المساء (آ 20-25)
وما إن اتكأ التلاميذ (آ 20) حتى بادر يسوع إلى الكلام. يتحدّث النصّ عن حضور الاثني عشر (مت: التلاميذ 12؛ مر: الاثنا عشر؛ لو: الرسل). ولكن على مدّ الخبر، لن يكونوا سوى شهود مدهوشين ومضطربين أمام ما يقوله يسوع. لسنا أمام غداء ((بسيط)) في إطار حميم من الحياة العائليّة. فيسوع وتلاميذه اتكأوا إلى المائدة (أناكايماي، 9: 10؛ 26: 7). لا شيء يدلّ حتى الآن أننا أمام عشاء فصحيّ (رج آ 17-19). ولكن لا شيء ينفي ذلك. ويعود فعل ((باراديدومي)) الذي يعني: أسلم، خان.
قال يسوع: واحد سيُسلمني. وسأل التلاميذ بعضهم بعضًا. في مت سألوا المعلّم. هذه الأسئلة المقلقة تقابل المناخ العام للخبر: تضايق الرسل لشعورهم بأن شرًا ما يتهيّأ. ما عادوا أكيدين من شيء. هم يخافون قوى الشرّ التي قد تنقضّ عليهم. وفعل ((إمباينو)) (حرفيًا: غرق. هنا فقط وفي مر 14: 20، غمس) يدلّ على ما تقوم به اليد لتأخذ شيئًا تأكله من الصفحة الوحيدة التي بين الجميع. ولفظة ((تروبليون)) لا تعني صحن شخص فرد، بل الصحفة حيث يأكل الجميع. لن نتوقّف على الصورة الخارجيّة، بل على المدلول الرمزيّ كما في يو 13: 26: هذا الذي يسلمني ينتمي إلى حلقة حميمة، حلقة الرسل. استقبلتُه اليوم، ولكنه خان أصول الضيافة. داس العلاقة التي تربط الضيف بمضيفه.
وتحدّث يسوع عن نفسه. سمّى نفسه ((ابن الانسان)) (آ 24). واستعاد اعلان 18: 9-7 حول الشكوك، وربطه بما يحدث للتلاميذ بمناسبة آلامه. أما ضرورة الشكوك فتصبح أمرًا ملموسًا في مخطّط الله المسجَّل في الكتب المقدّسة. فالنظرة إلى التاريخ هي هي: بما أن الله يُشرف على الأحداث، فالانجيليّ لا ينفي المسؤوليّة الشخصيّة. سيُسلم ابنُ الانسان بواسطة يهوذا الذي هو أداة الشيطان. بل في النهاية أداة في يد الله. ليس مسؤولاً في المعنى المطلق للكلمة، لأنه ليس الانسان هو الذي يصنع التاريخ، ولكنه يقوم بدوره على مستواه في التاريخ. لهذا عبّرت أداة ((الويل)) عن الحزن وعن اللعنة معًا (23: 26ي). ونحن نستطيع أن نفهم آ 25 في معنى جبانة من قبل يهوذا، لأنه يعرف أنه يسلم يسوع. أو نفهمها في معنى تأكيد سام (بفم المسيح) لمخطَّط غامض في فكر يهوذا. هذه النظرة الثانية توافق موافقة أفضل صورة يهوذا في مت.
ثالثًا: وفيما هم يأكلون (آ 26-29)
بدأت آ 26 بذات الكلمات التي بها بدأت آ 21: ((وفيما هم يأكلون)). هذا ما يدلّ على أن المقطوعتين (آ 20-25 وآ 26-29) كانتا مستقلّتين في الأصل. نظنّ أن الانجيليّ فكّر في وقت الطعام بالذات، أو أننا في القسم الثاني من الطعام الفصحيّ. في البداية، تُلفظ مباركتان للعيد والخمر على كأس أولى. ثم كانوا يغسلون اليد اليمنى ويأكلون مرّة أولى الأعشاب المرّة في صلصة مالحة. وكانوا يمضغونها على مهل ليتذكّروا مرارة سنوات العبوديّة. عندذاك يصلون إلى الجزء الرئيسيّ من الطعام.
وافقت فعلةُ يسوع كل الموافقة فعلة ربّ البيت في العشاء الفصحيّ اليهوديّ. ولكن هذا العيد كان يسبقه (1) تعليم طويل وجميل حول مدلول الخبز والحمل (خر12: 23؛ دم الحمل حمى العبرانيين من ضربات الملاك المهلك) والخمر.(2) وتلاوة القسم الأول من مزمور الهلل (113 أو 113-114)، وشرب الكأس الثانية من الخمر. نظنّ أن التقليد المسيحي لم يحتفظ بهذه العناصر التي لم تكن مفيدة له، أو أنّ يسوع لم يحتفل بعشاء الفصح بحذافيره. بل حوّل فيه ما شاء بسلطانه (كما حوّل شريعة السبت وشريعة الطهارة...). لا نختار بين الفرضيّتين.
في خبر الأناجيل، لا يطرح فعل ((كسر)) (الخبز) مشكلة. فهو يقابل فعلة ربّ البيت في العيلة اليهوديّة. ولكن ليس الأمر كذلك في أع أو في 1كور 11 حيث نفترض أنه لا يتعلّق فقط بعشاء المحبّة، بل بالطقس الافخارستي نفسه. نلاحظ هنا أن يسوع (في آ 26-29) لا يترأس فقط العشاء، كما كان يفعل رب العيلة، بل يعطيه معناه بما يقول وبما يفعل.
العنصر الجديد في هذه الآية، بالنسبة إلى عشاء الفصح لدى اليهود، يتكوّن بالكلمات الأخيرة: ((هذا هو جسدي)). إن السياق المباشر يحمل الملاحظات التالية.
الملاحظة الاولى: في السياق المباشر لهذه الفصول، قد تُفهم هذه العبارة كإعلان رمزيّ لموت يسوع القريب في فم يسوع. فكأني به يقول: كما كسرت هذا الخبز، كذلك سوف ((أكسر)) في جسدي وأوزَّع كما يوزَّع الخبز. عند ذاك ترتبط هذه العبارة بانباءات الحاش (= الآلام) التي تتوزّع على الإخبار المتّاويّ منذ ف 16 (16: 13-23؛ 17: 22-23...). موقف لا بأس به في معنى من المعاني، ولكنه لا يكفي بسبب الكلمات: خذوا، كلوا. وبسبب آ 27-28 أيضًا (على الكأس). هذا الموقف يشدّد على العنصر الحاسم في هذه ((الليتورجيا)) وهو: تجذّره في الواقع التاريخي لآلام يسوع الناصري وموته.
الملاحظة الثانية: في هذا التفسير الذي قدّمناه في الملاحظة الاولى، نرى أن الفعل الذي يقابل ((هو)) في العربية (هـ ي ا في العبرية، إيمي في اليوناني، وهنا استي في صيغة الغائب المفرد) يوجّه الفكر نحو نظرة إلى ((الكائن)) تكون ديناميكيّة، تاريخيّة، جامدة. هذا (توتو) الخبز هو ما هو (أي جسد المسيح) بسبب موت يسوع القريب من جهة. ومن جهة ثانية، لأن المسيح المتّاويّ يقرّب بين هذا الخبز وموته.
الملاحظة الثالثة: لا يتكلّم المسيح عن هذا الخبز في حدّ ذاته، بل عن خبز أعطاه لتلاميذه فأكلوه. فما هو معنى فعل ((أكل)) في هذا السياق؟ قد نفهمه في خطّين رئيسيّين. قد نتوقّف عند فكرة الطعام الروحيّ والغداء السريّ. وقد نعبّر بهذا الفعل عن مشاركة ليتورجيّة وجماعيّة في حدث الخلاص التاريخيّ. ما نعرفه من الاحتفال الفصحيّ اليهوديّ يجعلنا نأخذ بالخطّ الثاني. فيسوع لا يؤسّس فقط وليمة تكفي نفسها بنفسها. بل يؤسّس احتفالاً بموته ومجيئه. وكما كان اليهودُ يشركون في الخلاص من مصر حين كانوا يشاركون في حمل الفصح، كذلك يُشرك التلاميذ أي ينعمون بالعمل الذي سيتمّ على الصليب بمشاركتهم في هذا الخبز، في هذا الجسد. وواقعيّة فكر مت ترتبط بتحوّل الخبز إلى جسد الرب، كما ترتبط بحدث الصليب. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ترتبط بسلطان يسوع المتعالي الذي قدّم لتلاميذه طريقة اليهود التقليديّة ، كما قدّم طريقة غير متوقّعة فأشركهم في ما سوف يفعله لأجلهم، ((لأجل الجميع)) (آ 27).
الملاحظة الرابعة: وتأتي فكرة الذبيحة. من الواضح أن يسوع لا يؤسّس ذبيحة جديدة تحلّ محل ذبائح الهيكل. فهو لا يشير في هذا النصّ (ولا في 1كور 11: 23-25) إلى ما حمله التلاميذ أو قدّموه في هذا ((العشاء)). أما الفكر المتّاوي فيعتبر حقًا أن الجسد المكسور (في تلميح إلى موت يسوع القريب) هو كذلك في معنى الدم المراق والمقدّم عن الجميع، عن الكثيرين. وترتدي هذه الذبيحة أكثر من طابع خاص. نلاحظ فقط الآن، أنها تُذكر في ولْي النصّ كدم ((العهد)) لا كدم ((الفصح)) أو دم ((التكفير)). يبدو أن المسيح المتّاويّ يستعيد، عبر الطقس الفصحيّ، ما كان يشكّل جذوره التوراتيّة القديمة، عنيت بها عهد الربّ مع شعبه. في آ ،28 تتوضّح أيضًا فكرة العهد هذه في عبارة ((لغفران الخطايا)). هي ذبيحة تختم الغفران.
الملاحظة الخامسة: لا تتضمّن الأناجيل الإزائيّة الثلاثة (لو 22: 19ب-20 قد أضيف فيما بعد) أمرًا بإعادة عمل يسوع، عكس 1كور 11: 23-35 (إصنعوا هذا لذكري). غير أن هذه الآيات تحمل ضمنًا هذه الفكرة. أو أن المسيح المتّاويّ يكتفي بأن يجمع الاثني عشر في هذه الأمسية الفريدة على حساب موته القريب. لا شكّ في أن المسيح (في فكر متّى) أسّس هنا احتفالاً جديدًا سوف يتواصل بعد موته. هذا يعني أن الانجيليّ يفترض الخبرة الافخارستيّة في كنيسته. ولكن من المهمّ أن نلاحظ أن النصّ الانجيلي لا يقول شيئًا عن تواتر هذه الممارسة (كل أسبوع، كل يوم..). لا يتحدّث عن تفاصيل الاحتفال. يشدّد على أن الجميع يأكلون هذا الخبز ويشربون من هذه الكأس. وأن((الكثيرين)) الذين يراق عنهم الدم يشاركون في هذا العشاء.
ما قلناه في هذه الملاحظات الخمس، ينطبق أيضًا على آ 27-29. ولكننا نزيد بضع ملاحظات. في الأخبار الأربعة لهذا العشاء (مر، مر، لو، 1كور)، يرتبط خمر الكأس بالعهد: ((هذا هو دم العهد)) (مر، مت). أو: ((هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي)) (لو، 1كور). في العهد القديم، يرتبط دم الذبائح عادة بطقوس العهد (تك 15: 17؛ خر 24: 5، 8). إن عبارة ((دمي للعهد)) تعني أن موت يسوع يختم العهد القديم للرب مع شعبه. ولكن حسب العبارة اللوقاويّة والبولسيّة، يجب أن نفهم ((العهد)) في معنى العهد الجديد (تلميح إلى إر 31: 31-34). وكما أن الخلاص من مصر، يُعتبر في طقس الفصح اليهوديّ، الحدث الحاسم للعهد الذي قطعه الله (في السابق) مع شعبه، سيكون موت يسوع حدث العهد الجديد لله مع عدد كبير من الناس ومن أجلهم.
إن عبارة ((لغفران الخطايا)) تشكّل أصالة مت في هذه الآية. وقد تُفهم في معنى غفران صار ممكنًا بذبيحة (الانسان). أو في معنى غفران (سابق) خُتم في طقس دمويّ وقد أسّسه الله نفسه (أو: المسيح) الذي يجعلنا ندرك عمقه، وأوِّن (بعد أن ختم) في الاحتفال الافخارستي. إن الأفكار التوراتيّة عن العهد والذبيحة تدعونا إلى التفسير الثاني: الله يريد أن يغفر أو يخلّص. لهذا أسّس حدث الخلاص (الخروج من مصر، موت يسوع) كما أسّس في الوقت عينه الاحتفال بهذا الخلاص - الغفران (الفصح، العشاء السرّي). وهكذا يعلن النصّ أن كل مشاركة حقيقيّة في الخلاص التاريخيّ تتضمّن الاحتفال الكنسيّ الذي يصوّره متّى في هذه الآيات.
وتنتهي هذه المقطوعة مع قول يسوع يمتنع فيه عن شرب عصير الكرمة إلى يوم يشربه مع تلاميذه في ملكوت أبيه (آ 29). إن كلمات يسوع هذه التي كانت عند لو 22: 15-20 الاعلان الأول عن تأسيس الافخارستيا، نقرأها هي هي تقريبًا في مت وفي مر مع تحفّظ واحد هام وهو أن المسيح المتّاويّ زاد ((معكم)) على حديثه عن الوليمة التي سيُحتفل بها في ملكوت أبيه. هذه السمة تميّز الاتجاه الكنسيّ في الانجيل الأول. تحدّث يسوع عن خمر الكأس الافخارستي الذي لن يشرب منه، بسبب موته القريب، قبل أن يقوم نظام جديد للأشياء في ملكوت الله. إذن، هذا العشاء،الأخير لم يكن فقط احتفالاً بموت المسيح، بل احتفال الفرح بمجيئه القريب. على أساس هذه العودة المضاعفة إلى ماضي الصليب التاريخيّ، ومستقبل المجيء (باروسيا) الذي يتجاوز التاريخ، نتوقّف عند فكرة الحضور التي قال عنها الأب بنوا الدومنيكياني: حضور آني، حضور ملموس، حضور طبيعي، حضور حقيقيّ، حضور جماعيّ، حضور متواصل.

2 - يسوع يعلن إنكار بطرس (26: 30-35)
نربط هذه المقطوعة بالعشاء الأخير، لكي نتوقّف على مشهد نزاع يسوع في البستان، عالمين أننا ما زلنا في إطار العشاء السري. قبل العشاء أنبأ يسوع بخيانة يهوذا. وبعد العشاء أنبأ بأن بطرس سينكره والجميع يتشتّتون. ونبدأ بنظرة عامة إلى هذه الآيات.

أ - نظرة عامة
روى الانجيليون الاربعة هذا المشهد، غير أن لو 22: 31-34 ويو 13: 36-38 جعلاه في نهاية عشاء يسوع الأخير، وفي ألفاظ مختلفة بعض الشيء. هذه الفروق الجزئيّة هي بالأحرى ما يدلّ على صحّة الوثائق. فبما أننا نتكلّم عن ((حلقة)) أخبار يهوذا، يجب أن لا ننسى النصوص المتعلّقة ببطرس (4: 18-22؛ 14: 22-23؛ 16: 13-23؛ 18: 21-22؛ 26: 57-75 والذي نقرأه الآن 26: 30-35). فهنا كما في كل خبر الحاش، تبع مت خبر مر وأخذ منه الايراد الذي جاءه من زك 13: 7 (أضرب الراعي فتتبدّد خراف القطيع)، فحوّله بشكل له معناه.
الخطّ اللاهوتيّ الأساسيّ هو هو منذ بداية ف 26: فالمسيح المتّاويّ يبدو سيّد الموقف، مع أنه أسلم (10: 4؛ 17: 22؛ 26: 2). ولكننا لسنا أمام قبول بطولي لمصير لا يفهمه أحد. فمن جهة، يظلّ هذا القبول طاعة ناشطة (تتحرّك ولا تبقى جامدة). طاعة فيها الكثير من الألم ولكنها بنويّة (26: 39ب؛ ليس ما أريد أنا بل ما تريد أنت). ومن جهة أخرى، لا ينفصل المسيح المتألّم (في مت بشكل خاص) في وقت من الأوقات عن تلاميذه. يعود إليهم مرارًا. يتحدّث معهم. يهيّئهم، يحضّهم على فهم ما يحصل. يبيّن لهم أنه يتألّم من أجلهم ومن أجل خرافه (بويمين، آ 31، لفظة خاصة بمتّى).
هذه المقطوعة هي مناسبة متواترة لاعتبارات مخيّبة للآمال حول ما يسمّى ((حتميّة)) خبر الآلام: إذا كان المسيح عرف وأنبأ مسبقًا بانكار بطرس له، فأين هي حريّة الرسول؟ لا نريد أن ندخل في توسّعات يفرضها هذا الموضوع. ولكن نودّ أن نميّز بين حتميّة مت والحتميّة الاسيانيّة. ونلخّص مثالنا في ثلاث نقاط. الاولى: ليس الانسان حرًا في أن يتبع المسيح أو ينكره. فالآلام هي خاتمة تاريخ طويل يكشف العهدُ القديم أبعاده. لا يوبّخ المسيح مرّة واحدة تلاميذه أو أعداءه وكأنهم يستطيعون أن يخدموه أو يخونوه. بل يحاول أن يفهمهم ما حصل. الثانية: الحريّة الوحيدة هنا هي حريّة المسيح. ويرى النصّ أن المسيح يتألّم ويموت حرًا كالابن (26: 36-46).الثالثة: في خطى هذه الحريّة الفريدة، تظهر حريّة من نمط جديد تعلنها مثلاً آ 32. هنا نشير إلى أن كلام يسوع قد دوّن بهذا الوضوح على ضوء ما حصل لبطرس حين أنكر يسوع. وكذا نقول عن الانباءات التي تدلّ على معرفة يسوع السابقة. لا شكّ في أن يسوع عرف على المستوى البشري، بل على المستوى الالهي. ولكنه احترم الحريّات حتى النهاية. وما دوّنه مت فيما بعد أراد أن يرينا فيه مخطّط الله من خلال الكتاب المقدس، ومعرفة يسوع المسبقة التي تشرف على مسيرة الآلام منذ بداية ف 26.

ب - دراسة تفصيلية
أولاً: البنية والمراجع
بين تركيز المشهد (آ 30) والخاتمة (آ 35ب)، نجد حوارًا بين يسوع وبطرس:
تكلّم يسوع (آ 31-32)
تكلّم بطرس (آ 33)
تكلّم يسوع (آ 34)
تكلّم بطرس (آ 35أ).
تفوّه يسوع بنبوءتين. ردّد بطرس جزءًا منهما لكي يعارضهما.
آ 31، يسوع : كلكم ستشكّون بي
آ 33، بطرس : إن شك بك جمعيهم فأنا لا أشكّ أبدًا.
آ 34، يسوع : في هذه الليلة تنكرني
آ 35، بطرس : لن أنكرك.
نلاحظ أنه لم تكن ليسوع الكلمة الأخيرة، بل لبطرس. جاءت النهاية تورد كلمات فضفاضة قالها بطرس والتلاميذ، وترك يسوع برهانه للأحداث التي ستبيّن واقع الحال.
إن 26: 30-35 ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما في مر 14: 26-31. وهذا ما يجعلنا نتحدّث عن أولويّة مر. أما الاختلافات فتفسّر بخيارات أسلوبيّة أو لغويّة لدى متّى. في 26: 31، تنبّأ يسوع: ((ستشكّون بي كلكم في هذه الليلة)). ماذا نجد في مر 14: 27؟ ((كلكم ستشكون)). لا شكّ في أن مت توسّع في النبوءة لكي تتوافق مع خبر الآلام الذي سيروي انكار بطرس للرب في 26: 69-75.
ثانيًا: التأويل
إن 26: 30-35 هي نظرة نبويّة إلى أحداث قريبة. نعرف منها (1) ما يحدث للتلاميذ: سيسقطون ويتشتّتون، ولكنهم سيُجمعون في الجليل لكي يروا يسوع. (2) ما يحدث لبطرس : سينكر ربّه ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك. (3) ما يحدث ليسوع: سيُضرب (= سيُقتل، آ 35)، ولكنه سيقوم من بين الأموات. ورغم الوعد بالقيامة في آ 32، ظلّ الحزنُ الشعور المسيطر. حين ينظر يسوع إلى المستقبل فهو مثل إرميا: معرفته المسبقة تحمل الحزن والكآبة (هذا ما حدث له في الجسمانيّة).
يبدو أننا نجد من خلال مرجع مت(الذي هو مر 14: 26-31) نبوءتين. واحدة (قد تعود إلى الرب) تشير إلى سقوط التلاميذ. والثانية: إلى انكار بطرس للمسيح. يبدو أن يو 16: 1، 32 قد احتفظ بنسخة مستقلة عن النبوءة الأولى. أما لو 22: 31-33 ويو 13: 33، 36-38 فهما نسختان عن النبوءة الثانية. جاءت النبوءتان لتدخلا في خبر الآلام، وقد جُعلتا (كما نرى في يو ولو) في سياق العشاء الأخير. إن كان الأمر كذلك، فموقعهما بعد مر 14: 26، أي بين العشاء الأخير والجسمانيّة، يعود إلى مرحلة متأخّرة. وقد يكون مر هو الذي أورد الإشارة إلى زك 13: 7 والوعد بالقيامة.
هناك نسخة لاقانونيّة عن 26: 30-35 وز، قد ظهرت في القرن الثالث، في جزء من برديات الفيوم: ((وإذ أخذهم إلى الخارج قال: كلكم في هذه الليلة ستشكّون بي، كما هو مكتوب: أضرب الراعي فتتبدّد الخراف. عند ذاك قال بطرس: حتى إن (شكّ) كلهم، فأنا لا.قال يسوع: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني اليوم ثلاث مرات)). يبدو أن هذا النصّ يعود إلى انجيل منحول نجهله. عاد إلى مت (في هذه الليلة) وإلى مر (أما أنا فلا، مرتين).
ثالثًا: تفسير النص (26: 30-35)
إن آ 30 تختتم في الوقت عينه العشاء الأخير وتبدأ المقطوعة التي ندرس. لقد خرج يسوع. ما أراد أن يختبئ (هو يواجه الآن الموت). ((ثم سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون)). ق مر 14: 26. بما أن العشاء الأخير هو في مت عشاء فصحيّ، ظنّ كثيرون أن العادة كانت بأن يُنشد النصف الثاني من الهلل الكبير (مز 114/15-118). ولكن في القرن الأول، قد يكون مسيحيّون ظنوا أنهم أمام أناشيد مسيحيّة ينشدونها مع الافخارستيا أو بعدها.
على جبل الزيتون (رج 21: 1). نحن هنا أمام تلميح إلى 2صم 5: 30 حيث ترك داود أورشليم وصعد إلى جبل الزيتون بعد أن تآمر عليه احيتوفل مستشاره الأمين. هناك بكى الملك وصلّى من أجل الخلاص (رج الجسمانيّة). فكّر مت بالتوازي في 27: 3-10 فصوّر يهوذا مثل احيتوفل. وقد يكون من قبيل الصدف أن احيتوفل أراد أن يأخذ 12000 رجل ليلاحق داود في الليل فيضربه وهو متعب (2 صم 17: 1ي).
((حينئذ قال لهم يسوع)) (آ 31). نتساءل هنا: هل كان الحديث على جبل الزيتون أم على الطريق المؤدّية إليه؟ في أي حال، تجاوزت النبوءة خيانة يهوذا وأصابت جميع التلاميذ. سقط يهوذا أمام بريق المال كالحبّ بين الشوك (13: 22). أما التلاميذ فتراجعوا أمام أول علامة اضطهاد كالحبّ الذي وقع على أرض صخرية (13: 21). نبت بسرعة ويبس بسرعة.
((أضرب الراعي فتشتّتت خراف القطيع)). رج زك 13: 7 (ذكره مت في 21: 5). نلاحظ أن الايراد يعكس النص الماسوري (العبراني) (قال: اضرب الراعي فتشتت الخراف). ولكنه زاد ((القطيع)) بعد الخراف (خراف القطيع) وبدّل صيغة الفعل. يبدو أنه كان كتاب يرافق ((الواعظ)) وقد جُمعت فيه الأقوال التي تتعلّق بالمسيح، وقد أخذت من التوراة وقد يكون الجامع انطلق من العبريّة وتوسّع في النص فلم يكن الايراد كالعبريّ ولم يكن كالنصّ اليونانيّ الرسمي الذي هو السبعينيّة.
((ولكن متى قمت)) (آ 32). هنا وعد يسوع بإعادة الأمور: يمنح المغفرة مسبقًا، يجمع المشتّتين، ويُصلح عطبَ التلاميذ. ولكن بطرس تدخّل. سيكون أكثر تعلّقًا بالرب من سائر التلاميذ. لا يمكن أن يكون معهم (ومثلهم). قال عنه الذهبي الفم: ((وثق بنفسه بدلاً من أن يصلي ويقول ساعدنا لئلا نبتعد عنك)) (عظات حول مت 82: 3).
((لو الجميع ضعف أنا لن أضعف)). وردّ يسوع على بطرس (آ 34). بدا الرسول متعجرفًا مثل الديك بين الدجاج... سيخاف بطرس الموت الذي يتربّص بسيّده وقد يصيبه أيضًا. إذن،يجب على التلميذ أن يموت ((رمزيًا)) (10: 39؛ 16: 24-26؛ رج 2كور 7: 3؛ 2تم 2: 10). إن يسوع سيموت مع ((آخرين)) ولن يكون هؤلاء الآخرون بطرس والتلاميذ، بل لصين لا نعرف اسمهما (27: 38-44 مع حرف الجر ((مع)) سين في اليونانيّة). كان بطرس قد عارض آلام المعلّم (16: 21-23). وهنا يتراجع مع امكانيّة الخيانة والتخلّي... عندئذ تشجّع الآخرون وقالوا قول بطرس... ولكن بطرس سوف ينكر يسوع والتلاميذ يتفرّقون ويتركون يسوع وحده.
ج - قراءة لاهوتيّة وروحيّة
((عندئذ)) (توتي، يرد 90 مرة في مت) سبّحوا وخرجوا. هذا الظرف الزماني (توتي) يعلن الاوقات المهمّة في الخبر من وجهة الانجيلي (3: 13؛ 4: 1). كان المسيح المتّاوي واضحًا على المستوى اللاهوتي (أكثر ممّا في مر) فقال إن جميع التلاميذ سيتشككون. سيشكّون به. هنا نتذكّر تفكير مت في الشكوك (5: 29؛ 11: 6؛ 13: 2؛ 18: 6-9..). ستكون نتيجة آلام يسوع إسقاط التلاميذ: يرتابون بالرب، يبتعدون عنه، ينكرونه كما فعل بطرس. إن فكرة الشكّ في مت تتركّز على شخص المسيح من وجهتين. هو المسيح المتألّم الذي يجعل التلاميذ يسقطون وهذا السقوط يعني أن ينكروا يسوع. ويأتي الايراد الكتابي (صار في اليونانية: أضرب الرعاة وانتزع الخراف. كان في العبرية: أضرب الرعي فيتشتت الخراف) في صيغة المضارع: ((سأضرب)). الراعي هو يسوع المسيح. من سيضربه؟ الله (هو الذي سمح بموت ابنه). والتلاميذ يشكلّون قطيع الرب الذي يتحدّث عنه العهد القديم مرارًا. أما تشتّت القطيع الذي هو موضوع توراتيّ أيضًا(رج 12: 30)، فيصيب هنا مجموعة التلاميذ المحصورة. ولكن متّى ينظر أيضًا إلى الكنيسة التي شتّتها الاضطهاد في السنوات 80-85. وهكذا عاد الانجيلي إلى العهد القديم ليلقي الضوء على شخص يسوع، كما على شخص التلاميذ في سقوطهم.
ولكن السقوط ليس الكلمة الأخيرة. كما أن موت يسوع لم يكن النهاية. هو يقوم وهم يقومون ويعودون إليه ويجتمعون حوله في الجليل كما في الأيام الاولى. هنا نتذكّر الانباءات الثلاثة بالآلام (16: 21؛ 17: 23؛ 20: 19) التي أعلنت كلها القيامة بعد مسيرة الآلام. أما الحديث عن الجليل فيجعلنا في خطّ الظهورات الجليليّة التي هي في الواقع إطلاق الرسل من أجل عمل الرسالة.
هكذا بدا وجه التلاميذ: سيسقطون ويعثرون. يتخلّون عن الرب. ولكن بطرس رفض هذا الوضع. في رفضه إرادةُ تعلّق بيسوع. ولكنها إرادة ضعيفة. تحتاج إلى نعمة القيامة. الجماعة كلها ضعيفة. فإن انفصل بطرسُ عنها هل يصير أقوى؟ كلا. قال يسوع: حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم. وها بطرس يترك الجماعة. يريد أن يكون وحده في خطّ ((المدافعة)) عن يسوع. ولكنه سيسقط. كلنا يعرف حماس بطرس وتقلّبه. ثم هناك تشتّت القطيع. فجاء النكران. كان بإمكان بطرس أن يكون الشاهد الحقيقي، فصار الشاهد الكاذب: لا أعرفه. لا أعرف عمّن تتكلّمون. ستأتي ساعة يسقط فيها بطرس، شأنه شأن سائر التلاميذ. ولكنه سيقوم،ومتى قام سوف يثبّت إخوته.

خاتمة
نقدم هنا ملاحظتين حول العشاء الأخير أو الافخارستيا
1 - حين نقرأ 26: 26-29 على ضوء ممارسة الجماعة نجد ثلاثة أزمنة: يعود بنا إلى حدث التأسيس في الماضي، يفرض طقسًا نمارسه في الحاضر، وينبئ بالحدث المركزي، الذي هو المستقبل الاسكاتولوجي. إذا عدنا إلى الماضي، يقول لنا النصّ إن يسوع أقام عهدًا جديدًا بذبيحة دمه. وفي ما يتعلّق بالحاضر، يكون خبر العشاء الأخير في مت تعليمًا للكنيسة التي تواصل الاحتفال بعشاء الرب، بالافخارستيا. وهذا يعني أن المشاركة في الطقس هي مشاركة في نتائج ذبيحة يسوع. وفي ما يخصّ المستقبل، قد فسّرت الوليمة الاسكاتولوجيّة هنا كإعادة جماعة يسوع التي حطّمها موته إلى المائدة. والمائدة المشتركة مع المسيح القائم من الموت هي تذوّق مسبق لما سوف يتم. في نافور أداي وماري، وفي أناشيد الفطير لافرام السرياني، يقال إن الافخارستيا هي الاسكاتولوجيا وقد تحقّقت، وقد صارت أمرًا واقعًا.
2 - العشاء الأخير في مر ولو يبدو وكأنه طقس (ترتيب) فصحيّ (كما عند اليهود). ويو 6 ربط خبز الافخارستيا بالمن الذي أعطي لاسرائيل في الخروج (هنا نجد مت مع تكثير الأرغفة في ف 14)، وفي 1كور 10: 1ي، المشاركة في عشاء الرب هي كالشرب من الصخرة التي ترافق اسرائيل في الصحراء. واستعملت عب 9: 15-22 اللغة الافخارستية لكي تروي خبر ذبيحة العهد في موسى. وهكذا رأت الحلقات المسيحية الأولى في العشاء الأخير خروجًا جديدًا. لهذا لا ندهش إن كان مت الذي شدّد على خبرين بدا فيهما يسوع مثل موسى (14: 13-21؛ 15: 29-39)، قد أبرز هنا توازيات بين العشاء الأخير وخبر الخروج من مصر (خر 12: 24).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM