الفصل السابع عشر: خيانة يهوذا ومسح يسوع بالطيب

الفصل السابع عشر

خيانة يهوذا ومسح يسوع بالطيب
26: 1-16

أنهى يسوع خطبه الخمس كلها (16: 1) وأخذ يستعد للمواجهة. تحدّث عن الفصح الذي صار قريبًا، فما عاد يعتزل وما عاد يخاف التهديد كما فعل مثلاً في 12: 15 بعد أن تآمر عليه الفريسيون ليهلكوه. وها هو قد بدأ يعيش آلامه مع حدثين نرى فيهما التلميذ الذي يخون معلّمه وامرأة تدلّ على تعلّقها به. هي تطلّعت إلى آلامه وموته ودفنه، فمسحته بالطيب وكأنها عرفت أنه سيموت قتلاً وقد لا يكون هناك وقت لتطييب جسده. أما الحديث عن ((المقايضة)) بين يهوذا ورؤساء الكهنة، فيجعلنا في إطار الموت الذي ينتظر يسوع.
من أجل دراسة هذا النص نقسمه ثلاثة أقسام: الأول، المؤامرة على يسوع (آ 1-5): أراد الرؤساء أن يلقوا القبض على يسوع ويقتلوه. الثاني، المسح بالطيب في بيت عنيا (آ 6-13). قال يسوع: ((أفاضت هذا الطيب على جسدي من أجل دفني)). والقسم الثالث خيانة يهوذا (= يوضاس) (آ 14-16): ((ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه لكم)). بين عبادة الرب والمال، اختار يوضاس المال وباع معلّمه بيع العبيد: بثلاثين من الفضّة.

1- المؤامرة على يسوع (26: 1-5)

أ- نظرة عامة
مع هذه المقطوعة ندخل في خبر مت عن الحاش (= آلام يسوع) والقيامة. ونسوق الملاحظات التالية:
الملاحظة الاولى: في البنية العامة للانجيل الاول، التي كانت في خمسة أقسام (حول خمسة خطب) تشكّل ف 26-28 الجواب العمليّ لما قاله يسوع في الخطبة الاسكاتولوجيّة (ف 24-25). إن المسيح المتّآويّ فد أنبأ بآلامه وموته وقيامته، وذلك منذ ف 16 (16: 13-23). لا بل منذ صفحات الانجيل الأولى، وفي معرض الحديث عن مولد يسوع، جعلنا مت نستشفّ معارضة تلاقي يسوع فتقوده إلى الموت (1: 18-25؛ 2: 13-23. إن مت 1-2 قد دوِّنا على ضوء موت المسيح وقيامته، لهذا كنا أمام قراءة لاهوتيّة لا سيرويّة فقط). ونتذكّر أيضًا أن القسم الثالث من انجيل متّى المكرّس ((لأسرار الملكوت)) (13: 1-52) قد تحدّث بطريقته عن آلام ابن الانسان. وشدّدنا في الفصل السابق على التلاقي بين ف 24-25 وف 26-28. كل هذا يدلّ على أننا لسنا أمام جزء محض إخباريّ حول موت يسوع. بل نحن أمام خاتمة الفقاهة المسيحيّة كلها.
الملاحظة الثانية: إن خبر الحاش في مت يتبع بأمانة مجمل خبر مر، وهذا ما لا نجده في سائر أقسام الانجيل. فالتشابهات بين الخبرين تبدو قريبة جدًا فنظنّ أن الواحد نقل عن الآخر. والمقابلة بين لو ويو تعطينا الشعور نفسه. فكل من الخبر اللوقاوي والخبر اليوحناويّ يشاركان في نقاط عديدة بحيث نفترض لهما مرجعًا مشتركًا. لهذا، نظنّ أن مت تبع مر، كما تبع يو نصّ لو. هناك من يتحدّث عن ينبوع مشترك، هو مر الأول أو شكل أرامي لانجيل متّى. وهناك من رأى مت يسير في خطّه مستقلاً. أما نحن فنقول إن المرجع الأساسي لإنجيل متّى هو إنجيل مرقس.
الملاحظة الثالثة: ولكن هذه الفرضيّة الأساسيّة لا تحلّ كل المشاكل. فيجب أن نكمّلها بملاحظة تقول إن الخبر المتّاوي الذي يرتبط بالخبر المرقسيّ، يحافظ مع ذلك على سمات خاصّة به. مثلاً، هو يجعلنا في مناخ يهوديّ وفلسطينيّ لا نجده بهذا القدر في مر. ولا يفسَّر مناخُ الحاش المتّاوي إلاّ بفرضيّة المراجع الخاصّة: محيط مت الكنسي. موقعه الجغرافي. التقاليد الشفهيّة التي وصلت إليه. شعائر العبادة والكرازة والفقاهة في عالم سورية وفلسطين حيث دُوّن. فإذا تفحّصنا العناصر الخاصة بمتّى في ف 26-،28 نرى أنه عاد إلى تقاليد حيّة عرفها محيطه الاورشليمي (رج 27: 3-10، 51-54) بما فيها من قدم، كما عاد إلى محيطه الكنسي (نقرأ في مر 14: 23: شربوا منها كلهم. أما في مت 26: 27: اشربوا منها كلكم. هذا ما كان يحدث في الليتورجيا). مثل هذه الملاحظات تفهمنا أن مر لم يُستعمل فقط في مت بشكل فردي، بل عُرف واستعمل أيضًا في المحيط الكنسي المتاويّ نفسه. إذن، نجد في مت صدى أدبيًا لصياغة جماعيّة وُجدت قبل أن يوجد مت.
الملاحظة الرابعة: على أساس هذه الملاحظات التي ترد على المستوى الادبي، نستطيع أن نتميّز لاهوت خبر الحاش المتّاوي: هو يبرز مدلول الحاش (= الآلام) بالنسبة إلى الكنيسة، ولا سيّما في علاقتها مع المجمع اليهوديّ. فالذي يسير وحده نحو الصليب ليس فقط رجل العذاب، كما في مر، بل ابن الله، الذي يواجه بإرادته احتقار شعبه الثائر وعنفه، وهذا بالتوافق مع الكتب المقدسة (أسفار العهد القديم). وهكذا يشدّد مت على مسؤوليّة اليهود في آلام المخلّص (27: 24-25: دمه علينا وعلى أولادنا، هذا خاص بمتّى). لقد ظلّ الانجيليّ في هذه النقطة أمينًا لموضوع توسّع فيه في موضع آخر ولا سيّما في الأمثال (21: 28؛ 22: 14)، وفي الهجوم القاسي على الفريسيين. هذا الموضوع يتلخّص في 21: 43 (ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى إلى أمّة تستثمره، خاص بمتّى) حيث الشعب الآخر الذي يسلّم إليه الملكوت الآن هو كنيسة المسيح، وخصوصًا الكنيسة المتّاويّة. هذه الكنيسة نستشفّ واقعها العباديّ حين نسمع مت يروي لنا خبر عشاء يسوع الأخير (26: 17-19، 26-29). هذه الكنيسة التي تجعلنا نعيش حاش يسوع حين نحتفل به كالحدث الحاسم في التاريخ. هذه الكنيسة التي ليست متعلّقة تعلّقًا ((أعمى)) بالشعائر اليهوديّة، التي لا تنغلق على نفسها. وهي في عدد من التفاصيل تنبّهنا إلى البعد الشامل والرسوليّ لهذا الموت الذي يبدو في ظاهره مطبوعًا بالسخريّة والازدراء (27: 51-54). هذه الكنيسة تعرف منذ الآن أنها مسؤولة عن مواعيد العهد القديم من أجل الأمم (28: 19-20).

ب - دراسة تفصيليّة
أولاً: البنية والمراجع
نقرأ هنا مقدّمة لخبر الآلام. وهذه المقدمة تتضمّن مشهدين قصيرين، يتوازيان في البنية ويتعارضان في المضمون. في المشهد الأول، يسوع هو الفاعل وهو يتحدّث كما في نبوءة عن المستقبل القاتم: ((ابن البشر يُسلم للصلب)). في المشهد الثاني، الفاعل هو رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. هم يتآمرون على يسوع. في المشهدين نقرأ كلامًا عن الظروف (آ 1، 3-4) يتبعه كلام في خطبة مباشرة (آ 2، 5).
هذا على مستوى البنية. وعلى مستوى المراجع، 26: 1-5 هو توسّع متاويّ لما في مر 14: 1-2. فاهتمام متّى التدويني يكفي ليشرح عددًا من التبديلات. وقد نكتشف في حالة أو حالتين أثر التقليد الشفهي في خبر الآلام. الأول، اسم ((قيافا)) الذي لا يظهر في مر، ولا في لو. وهكذا يكون جزءًا من تقليد الجماعة المتّاويّة، كما كان جزءًا من التقليد اليوحناويّ. الثاني، اختلف مت 26: 3-5 عن مر ولو، ورافق يو 11: 47-53، فتحدّث عن اجتماع للسنهدرين: تقرّر أن يُقبض على يسوع ويُقتل. إن هذا الاتفاق مع يو يجعلنا يعيدين عن تقليد مرقسيّ في هذه النقطة بالذات.
ثانيًا: التأويل والتفسير (26: 1-5)
بعد أن تحدّث يسوع مطوّلاً عن الأشياء الأخيرة (الاسكاتولوجيا)، بقي عليه أن يراها تبدأ عبر موته وقيامته.
> ولما فرغ يسوع من هذا الكلام (آ 1-2)
وعاد مت إلى نص مر مع عبارة انتقالية. ((وحصل أنه)). هذا قرار باسلوب ساميّ. رج 7: 28؛ 11: 1؛ 13: 53؛ 19: 1. هكذا انتهت خطب مت الخمس. هنا نتذكّر تث 3: ،1 24؛ 32: 45، مع شخص موسى. إن لفظة ((كل)) (لا توجد في نهاية الخطب الاربع السابقة) تدلّ على أن تعليم يسوع قد انتهى. وأنه قال ما كان يريد أن يقوله. لا تعود هذه اللفظة فقط إلى ف 24-25، بل إلى الانجيل كله.
((قال يسوع لتلاميذه)). ق 16: 24 - مر 8: 34؛ 19: 23 - 10: 23. تعود هذه الكلمات إلى 24: 3.
وبدأ الحاش مع كلمة من يسوع الذي دفع مسيرة الآلام إلى الأمام بكلامه. هو ((القائد)) الذي يطلق ((المعركة)). وهو يحدّد توقيتها. فهو حرّ من أي قيد أو رباط. وبما أن ((نبوءته)) استبقت خبر ((مؤامرة خصومه)) (آ 3-5)، فهذا يدلّ على أنه عارف بكل شيء، وأنه ذاهب إلى الآلام والموت بملء إرادته. هو المسؤول الاول، ومسؤوليّته تسبق مسؤوليّتهم.
((تعلمون أنه بعد يومين يأتي الفصح)) (آ 2). رج مر 14: 1: ((وكان الفصح والفطير بعد يومين)). بدا يسوع وكأنه يتكلّم في اليوم الثالث عشر من نيسان عن اليوم الخامس عشر. لقد تكلّم يسوع بما فيه الكفاية عن آلامه القريبة بحيث ((علم)) تلاميذه ماذا سوف يحصل في الفصح. ربط يسوع موته الخلاصي مع الفصح، فجعلنا في خروج جديد، في زمن نداء جديد على مثال الفداء من مصر. وفعل مت كما فعل بولس ويوحنا: إن مدلول ذبيحة يسوع يشبه مدلول الفصح.
((بعد يومين)) (رج هو 6: 2). قد نكون هنا قريبين من تقليد اسحاق. فإن تك 22: 4 جعل ذبيحة إسحاق في اليوم الثالث. هذا ما تذكره اليوبيلات 18: 3 ويوسيفوس في العاديات (1: 26). بالاضافة إلى ذلك، في اليوبيلات جُعلت ((عقدة)) (اسحاق) خلال الفصح (17: 15؛ 18: 3). وفي ((العاديات البيبلية)) (32: 1-4)، قدّم اسحاق نفسه بإرادته كذبيحة (32: 3؛ رج 4 مك 16: 20؛ يوسيفوس، العاديات 1: 232). هذا التوازي بين يسوع واسحاق واضح في رسالة برنابا (7: 2) وضمنيّ في روم 8: 32. وقد يكون مت لمحّ إلى تك 22: 2-5 حين ذكر اليومين.
((ابن الانسان يُسلم للصلب)). نتذكّر هنا الانباءات بالآلام. إن هذه النبوءة التي تتضمّن موضوع ف 26-27، تعود إلى 10: 18-19 (ابن الانسان، يُسلم، يُصلب). نجد حرف العطف (كاي). أي تعلمون أن الفصح بعد يومين وأن ابن الانسان يُسلم ليصلب. هذا ما يعرفونه. ولكن قد لا تكون ((كاي)) مرتبطة بـ ((تعلمون)). حينئذ نكون أمام جديد يقدّمه يسوع. وهكذا يأتي إعلان يسوع في مناخ دراماتيكي. هو وحده يعرف وقت الآلام، وكلامه هو الذي يجعل هذه الآلام ((تبدأ)).
> اجتمع رؤساء الكهنة (آ 3-5)
تجاه يسوع وهدفه، يظهر الأعداء مع هدفهم (هنا نتذكّر مز 2: 2، تآمر). ((حينئذ اجتمع)). ق يو 18: 14. إن خط مت يرتبط بما في مر 14: 1 (رؤساء الكهنة والكتبة). إن لفظة ((توتي)) (حينئذ) و((سيناغو)) (اجتمع) (رج 2: 4؛ 26: 57؛ 28: 12) هما خاصتان بمتّى. أما عبارة ((رؤساء الشعب)) فتظهر أربع مرات في مت، ولا تظهر أبدًا في مر وفي لو. نلاحظ أن الرؤساء يرتبطون بعظماء الكهنة في 16: 21؛ 21: 23؛ 26: 47؛ 27: 1، 3، 12، 20، 21. إن غياب الفريسيين الذين لم يلعبوا دورًا في هذا الخبر يُدهشنا. فقد لا تكون المراجع المتّاوية حول الآلام قد ذكرتهم. على المستوى التاريخيّ، لا شكّ في أن معارضي يسوع في النهاية كانوا ارستوقراطيّة الهيكل. والواقع نفسه يفسّر إغفال الكتبة الذين يظهرون فقط مرتين (26: 57؛ 27: 41).
((في دار رئيس الكهنة المدعو قيافا)). لا شيء يوازي هذا في مر. قد تكون هذه العناصر جاءت من الخبر اللاحق. من آ 58 (دار رئيس الكهنة) ومن آ 57 (قيافا رئيس الكهنة). لا يُذكر قيافا في خبر الحاش عند مر ولا لو. ذكره يو أكثر من مرّة: 11: 49؛ 18: 13-14 (حيث هو صهر حنان)، 24، 28 (رج لو 3: 2؛ أع 4: 6). وقد عرفه يوسيفوس (العاديات 18: ،35 يوسف الذي يُدعى أيضًا قيافا). نشير إلى أن حفريان تمت سنة 1990 في ((أبو الطور)) مع كتابة ((يوسف بر قيافا)) (ليوسف الذي من عائلة قيافا؟).
يحتفل اليهود بعيد الحرية (عيد الفصح). وها هم يعودون إلى العبوديّة فيقتلون ذاك الذي يعطيهم الحريّة الحقيقيّة. هم لا يعلمون ما يعملون (آ 4). ((إئتمروا أن يلقوا القبض على يسوع)) (آ 4). ق خر 21: 14 حسب السبعينيّة (يقتل بالحيلة)؛ يوسيفوس، العاديات 10: 164؛ مر 14: 1 (ويلتمسون حيلة ليقبضوا على يسوع). ما أراد أن يعمله الرؤساء قد توقّعه يسوع. أرادوا أن يقتلوه، وتحدّث هو عن صلبه. أما عنصر الحيلة فنجده مع مؤامرة هيرودس الكبير (2: 7).
((كانوا يقولون: لا في العيد)). رج مر 14: 2. لا في وقت العيد، بل قبل العيد. ولكن الحجّاج يتوافدون قبل العيد بيومين، وهكذا يكون خطر البلبلة كبيرًا. ولكن يبدو أن مت يتبع نصّ مر حيث أوقف يسوعُ في اليوم الأول من العيد في اتّفاق مع خبر يو.
((لئلا يقع بلبال في الشعب)). ق 27: 24، مع بيلاطس. هذا يعني أن عمل الرؤساء لا يرضي الشعب.
ج - قراءة لاهوتيّة وروحيّة
للمرّة الأخيرة استعمل مت عبارة اعتاد على استعمالها لينقل قرّاءه من الأقسام التعليميّة في انجيله (الخطبة الخامسة) إلى الأقسام الاخباريّة (ولما فرغ يسوع من هذا الكلام كله). إذن، قدّم الانجيليّ خبر موت يسوع كتأكيد لما علّمه في ف 24-25. غير أنه بعد هذه التعليمات، لم يبدّل يسوع موضعه، بل أعلن للمرّة الأخيرة موته (دون ذكر القيامة). إن الازائيين الثلاثة (مت 26: 1-5؛ مر 14: 1-2؛ لو 22: 1-2) (رج يو 11: 47-53) ربطوا موت يسوع بعيد الفصح. ولكن تفرّد مت فقدّم كلامًا واضحًا تفوّه به يسوع (تعلمون، بعد يومين). فما كان صدفة لها معناها في مر ولو، صار عند مت تنبيهًا موجَّهًا (رج 7: 11؛ 9: 6؛ 20: 22؛ 22: 16). إذن، ترتدي ((كاي)) (واو العطف) وجهًا خاصًا: سيُحتفل بالفصح وبالتالي ابن الانسان سيُسلم. إن صيغة الحاضر تدلّ على أن الحدث القريب قد تسجّل منذ الآن في مخطّط الله قبل أن يتشاور عظماء الكهنة ورؤساء الشعب. لقد أخذ المسيح المتاوي قيادة الدراما قبل أن تحدث. هو يُشرف على الوضع دون أن تخسر آلامُه واقعَها البشري. هو المسيح يسوع الذي يتألّم.
وعارض مت معارضة قويّة بين إرادة يسوع الواضحة بأن يتألم (آ 1-2) وبين الفوضى المليئة بالخوف لدى رؤساء الشعب في مؤامرتهم على يسوع. لم يضمّ مت الكتبة إلى عظماء الكهنة (كما فعل مر ولو) بل شيوخ الشعب أي عنصر العوام (العلمانيين) في السنهدرين، وقد كانوا من الاتجاه الفريسي. هل رفض مت عمدًا أن لا يذكر الفريسيين بإيضاح فاكتفى بعبارة تعني في الواقع الفريسيين ليبقى الباب مفتوحًا؟ ربّما.

2 - المسح بالطيب في بيت عنيا (26: 6-13)

أ - نظرة عامة
نستطيع القول (رغم لو 7: 36-50) إن الأخبار الانجيليّة الاربعة حول عمل هذه المرأة التي دهنت يسوع بالطيب، تجعلنا أمام معطية أدبيّة متشعّبة. ونستطيع أن نقدّم الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: جعل مر ومت هذا الحدث في بداية الحاش، فتشابه نصّاهما تشابهًا كبيرًا. وما نلاحظه هو اختلافات ثانويّة حيث بسّط مت الخبر (ألغى اسم الطيب وكسر الأناء) وحدّد هويّة المتدخّلين: هم التلاميذ (قال مر: بعضهم) الذين احتجّوا على ما فعلته هذه المرأة.
الملاحظة الثانية: جعل يو الحدث قبل دخول يسوع إلى أورشليم. كانت الوليمة عند لعازر وأختيه مرتا ومريم. مريم هي التي مسحت يسوع بالطيب. وبدت صورة يهوذا بوضوح: هو يحتجّ على هذه الخسارة الكبيرة. تذرّع بالفقراء ولكنه في الواقع كان سارقًا.
الملاحظة الثالثة: إن خبر لو 7: 36-50 يجعلنا في سياق مختلف كل الاختلاف. هو جزء من قسم يمتدّ من 6: 20 حتى 8: 3 (الذي لا يجد ما يوازيه في مر). ويتوجّّه مرمى الخبر إلى الفريسيين. المرأة هي زانية معروفة في المدينة ويسوع يحبّها أكثر مما يحبّ سمعان الفريسي الذي طرح على الرب سؤالاً فأجابه يسوع بمثل المديونين (سمعان والمرأة) وأكّد أن الاتحاد الحقيقيّ بالله ينبوعه فرح الغفران. ومهما كان تأثير خبر لو على الأخبار الثلاثة الأخرى (وخصوصًا يو)، فمن الواضح أن الخبر اللوقاويّ توخّى أن يروي ويعلّم شيئًا آخر غير ما رواه مر ولو ويو.
الملاحظة الرابعة تدور حول مرمى الخبر في مر وفي مت. هناك أكثر من موقف. الأول: فعل محبّة من امرأة إلى يسوع. الثاني: صورة حسيّة تعلن الحاش والموت: قد لا يُمسح جسد يسوع بالطيب وهو الذي سيموت قتلاً. الثالث: صورة عن مسحة مسيحانيّة مُنحت ليسوع على عتبة آلامه، وهي مسحة نالها لا كملك، بل كعبد الله المتألّم. الرابع: دفاع عن العبادة الواجبة ليسوع ولو على ((حساب)) الصدقة التي مارستها أوساط متهوّدة. الخامس: صورة عن الصراع بين محبّتنا ليسوع ومحبّتنا للفقراء. حبّ يسوع هو الأول. وحبّنا للفقراء ينبع من حبّنا ليسوع، كما قلنا في السابق.

ب - دراسة تفصيليّة
أولاً: البنية والمراجع
إن 26: 6-13 هو خبر اعتراض يعجّ بالحياة مع شكل خاص به:
العرض (الموقف): العمل الرئيسيّ (آ 6-7)
الاعتراض: انتقاد العمل الرئيسي (آ 8-9)
الحلّ: يسوع يدافع عن العمل الرئيسيّ (آ 10-13).
ق 9: 1-2 (مغفورة خطاياك) + 3 (هذا يجدّف) + 4-7 (جواب يسوع)؛ 12: 1 (التلاميذ اقتلعوا السنابل) + 2 (ها إن تلاميذك يفعلون) + 3-8 (جواب يسوع: ما فعل داود)؛ 12: 22-23 (شفاء أعمى وأخرس) + 24 (برئيس الشياطين) + 25-29 (جواب يسوع)... إن ثقل المقطوعة يكون في القسم الثالث: إن كلام يسوع يغطّي نصف المقطوعة (آ 6-10أ: 50 كلمة، آ 10ب- 13: 59 كلمة). تتألّف الخطبة نفسها من خمس جمل: سؤال اخباريّ تليه ثلاثة أقوال رئيسيّة وكل قول يبدأ بالأداة ((غار)) (حرف الفاء): فقد أحسنت (آ 10). فالفقراء عندكم (آ 11). فإذا أفاضت هذا الطيب (آ 12). ويأتي بعد ذلك إعلان يشكّل الذروة في الخبر وهو يبدأ بشكل احتفاليّ: ((الحقّ أقول لكم)).
عاد مت 26: 6-13 إلى مر 14: 3-9. هناك عدد من التفاصيل في مر لا نجدها في مت. ونحن نتصوّر أن حذفها كما فعل مت، أكثر معقوليّة من إضافتها كما فعل مر. نحن نعرف اهتمام مر بالتفاصيل. واهتمام مت بالايجاز لكي يصل بسرعة إلى هدفه وهو أن يُرينا عملاً من أعمال يسوع أو يُسمعنا قولاً من أقواله.
ثانيًا: التأويل
هذه المقطوعة تبدو في تواصل مع آ 1-5 وفي تعارض. أما على مستوى التواصل مع آ 1-2، فإن موت يسوع يُذكَر فيدلّ على معرفة يسوع المسبقة كما في آ 12: ((فعلته لأجل دفني)). وعلى مستوى التعارض مع آ 3-5، إن المرأة لم تناقض يسوع(وتأتمر عليه لقتله) بل تخدمه. وهكذا يعارض عملُها عملَ رؤساء اليهود.
أما الاختلاف الأهمّ بين مت 26: 6-13 ومر 14: 3-9، فهو أن مت يتضمّن 109 كلمات ومر 134 كلمة (إن مت أوجز نص مر). ترك مت ((الناردين الخالص)) (مر 14: 3) و((كسرت القارورة)) (مر 14: 3). ((وزجروها)) (مر 14: 5). ((دعوها)) (مر 14: 6). ((في وسعكم أن تحسنوا إليهم)) (مر 14: 7). ((فعلت ما في إمكانها)) (مر 14: 8). ومن خلال هذا الايجاز على مستوى الكلمات، حدّد مت ما لم يكن محدّدًا في مر 14: 4 الذي كتب: ((فاستاء بعضهم)) (تيناس). أما مت فكتب: ((فلما أبصر التلاميذ غضبوا)). وقال مر 14: 4 محدّدًا: 300 دينار. أما مت فكتب: ((بكثير)) (بثمن كبير). ثم إن مت زاد من عنصر التوازي ولا سيّما في آ 10 (لمَ تزعجون، صنعت)، 11 (المرأة عندكم... أما أنا)، 12 (على جسدي لدفني)، 13 (حيث كُرز يُخبر).
بالاضافة إلى مر 14: 3-9، هناك توازيات بين لو 7: 36-50 (رسالة يسوع الجليليّة) ويو 12: 1-12 (قبل دخول يسوع إلى أورشليم). توسّع لو في مر، وعاد يو إلى مر ولو. ولكن يمكن أن خبر المرأة التي دهنت المسيح بالطيب قد يكون ورد في أكثر من شكل. فمع أن لو قد تأثّر بما في مر، فقد يكون أنه أخذ اللوقاويات. ويمكن أن يكون يو مستقلاً عن الأناجيل الإزائيّة. وبعبارة أخرى، قد نكون أمام ثلاث نسخ للخبر عينه. مت مر + لو + يو. أما التقليد الاولاني فيمكن أن يكون كالآتي: جاء يسوع إلى بيت عنيا، إلى بيت سمعان الابرص (وصنع له عشاء). حملت امرأة قارورة من الطيب ودهنت رجلي يسوع ومسحتهما بشعرها (في مر ومت، دُهن رأس يسوع. في لو ويو، رجلاه). استاء رجال فقالوا: لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاثمئة دينار ويُعطى الثمن للمساكين. ولكن يسوع قال: ((اتركوها. الفقراء معكم كل حين وأنا لست معكم)). هذا البناء جعل مر 14: 8، 9 كآيتين ثانويتين. وحافظ على الواقع لا على الاصطلاحي: نستطيع أن نعتقد أن يسوع ذهب إلى بيت عنيا، إلى بيت سمعان الأبرص، وكانت هناك امرأة دهنت رجليه فاعترض أحدهم على هذا التبذير، فأجاب يسوع مدافعًا عن عمل المرأة مع عودة إلى تث 15: 11 (لن تعدموا فقراء في الأرض). وقد نجد اعتبارات حول اهتمام يسوع بالآخرين.
ثالثًا: تفسير الآيات (26: 6-13)
> عرض الوضع (آ 6-7)
نحن أمام المشهد. انتقلنا من دار رئيس الكهنة حيث تمّت المؤامرة إلى بيت سمعان الأبرص حيث اللطافة تعبّر عن نفسها. ((وفيما كان يسوع في بيت عنيا)) (آ 6). ق مر 9: 33 (ولما صار في البيت)؛ 14: 3. ((في بيت سمعان الأبرص)). رج مر 14: 3. هو وضع اجتماعيّ مع صداقة. هذه الصفة (الأبرص) تساعدنا على تمييز سمعان هذا من أربعة أسماء سمعان أخرى (4: 18؛ 10: 2، 4؛ 13: 55؛ 16: 16، 17؛ 17: 25؛ 27: 32). ولكن سمعان هذا لا يلعب أي دور في النص. وطُرحت أسئلة: هل سمعان هذا هو والد مرتا ومريم؟ من شفاه؟ يقول الآباء: يسوع.
((دنت إليه امرأة)) (آ 7). لماذا دنت؟ هذا ما لا يقال. قامت بعمل كبير جدًا يدلّ على وضع يسوع المسيحاني: مسحته بالطيب. لا نعرف عن هذه المرأة سوى فعلتها. ولكنَّ ما عملته واحتجاج التلاميذ سيفهماننا أن هذه المرأة ستتبع يسوع إلى الصليب والقبر (27: 55-56؛ 61: 28-1) ساعة هرب التلاميذ (26: 56). ((وأفاضت على رأسه...)). ق اغناطيوس الانطاكي في الرسالة إلى أفسس: ((نال الرب مسحة على رأسه فحلّ اللافساد على كنيسته)). في الأصل، هو عمل استقبال لضيف كبير مثل يسوع. ولكن يسوع هو الذي ربط هذا العمل بدفنه (وقد يكون في ما قال دعوة إلى المرأة لكي تتبعه حتى النهاية).
> اعتراض التلاميذ (آ 8-9)
واعترض التلاميذ بشكل سلبي. لا على العمل. بل على التبذير. هم لا يصيبون أحدًا، لا المرأة ولا يسوع. بل يحتجّون على الواقع. ولكنهم في الواقع ابتعدوا عن يسوع وعن نظرته. تركوه وحده، بانتظار أن يتركوه كلهم ويهربوا (26: 56). قال مر: بعضهم. أما مت فقال: التلاميذ. أجل، ليسوا هذا المثالَ الكبير. أرادوا أن يدلّوا على أنهم فهموا 25: 31-46، وأن ما عملته هذه المرأة لا يدلّ على التقوى الحقيقيّة. ق بابل تعنيت 20 ب (يوزِّع هذا على الفقراء). توسّع مر هنا. أما مت فأوجز الخبر وألغى كل إشارة لا يعتبرها ضروريّة ليصل إلى الجوهريّ. ونشير هنا بشكل عابر إلى أن الخبر يسبقه الحديث عن الفصح. والفصح هو زمن خاص لممارسة المحبّة الاخويّة، ولا سيّما مع الفقراء (يو 13: 29؛ مشناة فصح 9: 11؛ 10: 1).
> دفاع يسوع عن عمل المرأة (آ 19-13)
ظلّ يسوع حتى الآن صامتًا ساكنًا. فجاء جوابه ردًا قاسيًا على اعتراض التلاميذ: ((لمَ تزعجون هذه المرأة)) (آ 10؛ ق لو 11: 7؛ غل 6: 17)؟ ترك مت مقدمة مر (دعوها وشأنها).((عملت لي عملاً حسنًا)). هنا نلاحظ التوازي:
التلاميذ : قالوا
التلاميذ : لم هذا الاتلاف؟
التلاميذ : هذا الطيب.
يسوع : قال
يسوع : لماذا تزعجون هذه المرأة؟
يسوع : بسبب ما عملت.
إن عمل المرأة العظيم مع اتجاهه الكرستولوجي يتجاوز عمل إحسان. هنا محبّة شخصيّة لشخص يسوع. وهناك عطاء لاشخصيّ لمجموعة من الفقراء في الحاجة. نتذكّر هنا دفن الموتى الذي هو من أعمال الرحمة في العالم اليهوديّ. بل هو أهم من الصدقة وأعمال المحبّة.
وكما في 9: 14-17 (جدال حول الصوم)، ميّز يسوع بين حقبتين: قبل الفصح وبعد الفصح. الزمن بعد الفصحي هو الوقت المناسب لما فعلته هذه المرأة.((الفقراء عندكم كل حين)) (آ 11). هنا نجد التوازي أيضًا في مت:
لأن دائمًا عندكم فقراء معكم
أما أنا دائمًا فلا أكون معكم.
وفسّر يسوع عمل المرأة على أنه فعلة نبويّة (تدلّ على أبعد من العمل الماديّ، تشير إلى مخطّط الله). ((أفاضت هذا الطيب)) (آ 12). من أجل الدفن. رج تك 50: 2 حسب السبعينية؛ وصية يهوذا 26: 3؛ يو 19: 40. هكذا كانوا يفعلون في الأجساد من أجل دفنها. إن مت (عكس مر 16: 1؛ يو 19: 39) لم يتحدّث عن دهن جسد يسوع بالطيب بعد موته.
حين أعلن يسوع أن هذه المرأة ستكرَّم في العالم كله، كان إعلانه لومًا لتلاميذه. في المسكونة كلها امتُدح هذا العمل. وأهل بيته (تلاميذه) شجبوه!

ج - قراءة لاهوتيّة وروحيّة
حدّد مت ومر ويو موقع الحدث في بيت عنيا على المنحدر الشرقي لجبل الزيتون، قرب الطريق التي تقود من أورشليم إلى أريحا (هي غير بيت عنيا أو بيت حبرا حيث كان يوحنا يعمّد بحسب بعض التقاليد، يو 1: 28). جعل يو المشهد عند لعازر ((الذي أقامه يسوع من الموت)) (12: 1).ولو عند فريسيّ سيوجّه إليه كلامه (7: 36، 40، اسمه سمعان). مت ومر: عند سمعان الأبرص الذي لا يلعب أي دور في الخبر. ولكن التلاميذ سوف يتدخّلون.
كان تدخّل يسوع في مت كما في مر. وقد توخّى أن يدافع عن هذه المرأة ضد انتقادات التلاميذ القاسية. ثم إن المسيح في مت ميّز تمييزًا ملحوظًا بين العمل الصالح بشكل عام الذي يجد نموذجه في الصدقة، والعمل الذي نتمّمه إكرامًا لشخصه: هو لا يعارض في المبدأ بين هذين النوعين من العمل ليجعل العمل الثاني فوق العمل الأول. ولا يقول كما في 25: 31-46 إن كل عمل محبّة نقوم به لأجل إخوته إنما نقوم به لأجله. فالمعارضة بين هذين العملين ليست على مستوى المبدأ بل على المستوى الزمني: فما دام المسيح حاضرًًا هنا، المسيح المتألم، فكل عمل محبّة وسجود (مسيحاني) تجاهه هو أكثر إلحاحًا من الصدقة إلى الفقراء. إذن، نستطيع أن نقرّب هذا الخبر من خبر مرتا ومريم في لو 10: 38-43: بما أن المسيح هو هنا، يجب على الاهتمامات والأعمال الشرعيّة، أن تترك مكانها لعلامات الاكرام والحب الواجبة له. يبقى السؤال: هل نحن هنا فقط أمام حضور تاريخيّ ليسوع الناصري وسط البشر؟ أو حضور روحيّ للمسيح في كنيسته؟ يبدو واضحًا أن يسوع لا يميل هنا إلى جانب الشقاء (25: 31-46). فخدمة المسيح وخدمة الفقراء لا تتضاربان. بل هما في نظر مت ترتبطان ارتباطًا حميمًا.

3 - خيانة يهوذا (26: 14-16)

أ - نظرة عامة
بعد خبر المسح بالطيب في بيت عنيا، حيث أخذ لو طريقًا غير طريق مت ومر، عاد الازائيون الثلاثة والتقوا ليروا خيانة يهوذا (مر 14: 10-11؛ لو 22: 3-6). وسوف يرون أيضًا دور يهوذا في القبض على يسوع في جتسيماني (26: 47-56 وز)، كما رووا ((تعيين)) الخائن بيد يسوع (26: 20-25). ولكن مت 72: 3-10 (رج أع 1: 16-20) سيكون وحده بين الأناجيل فيروي نهاية يهوذا. إذن، نستطيع القول إن الحصة المكرسة ليهوذا في خبر الحاش المتاويّ هي كبيرة بالنسبة إلى سائر الأحداث.
الألفاظ المستعملة للحديث عمّا فعله يهوذا هي هي في الأناجيل الازائيّة الثلاثة، على مدّ النقاط الرئيسيّة في الخبر: يقدَّم يهوذا بشكل صريح على أنه أحد الاثني عشر (لو: ((كان من عداد الاثني عشر))). إن فعل ((باراديدوناي)) (رج 10: 4، خان، سلّم) يرد مرّتين في كل خبر: أوجز مت خبر مر فألغى فرح عظماء الكهنة.ولكنه فعل ما يفعله عادة، فأضاف إيرادًا من العهد القديم (زك 11: 12). إن صووة يهوذا في الإنجيل كانت موضوع عدّة نظريات تاريخيّة ولاهوتيّة. ولكل مدرسة نظرتها الخاصة إلى الواقع الذي يمكن أن يفسّر هذا الدافع. اعتُبرت هذه الدوافع سيكولوجيّة (مرارة أو حسد تجاه سائر الرسل)، ماليّة (بخل، طمع). مسيحانيّة (خاب أمله حين رأى يسوع يتخلّى عن عمل سياسيّ يحرّر شعبه).
أما اليوم فيهتمّ الشّراح بالإشارة إلى الفكر اللاهوتي الذي يلهم مجموعة الأخبار هذه. عندئذ لا يكون يهوذا إلاّ منفّذ ((ما تقرّر في مجلس الله)) (رج مر 14: 10). وجاء من ينكر صحّة الأخبار حول يهوذا. وعودة مت إلى العهد القديم، والتضارب بين خبَري موت يهوذا (27: 3-10) جعلا الشّراح يرون هنا ((أسطورة)) دون أن يقولوا كيف وُلدت ونمت هذه الأسطورة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن الاختلافات الجزئية بين النصوص هي علامة على صحّتها. إن خبر يهوذا كان في المسيحيّة الأولى الشكّ الأعظم، وما رُوي في الأناجيل إلاّ لأنه كانت أسباب متينة دفعتهم إلى أن يروا في هذا الخبر حقيقة.

ب - دراسة تفصيلية
أولاً: البنية والمراجع
بعد مقدمة تذكر الظروف (آ 14)، سأل يهوذا السلطات حول المال الذي يناله لقاء ((الصفقة)) (آ 15أ). وتمّ الاتفاق على كميّة من الفضّة (آ 15ب). وذكرت آ 16 ما بعد ذلك: عندئذ أخذ يهوذا يطلب فرصة سانحة لكي يسلم يسوع.
إن 26: 14-16 (مثل لو 22: 3-6) هو نسخة تدوينيّة لما في مر 14: 10-11. أما تحديد المبلغ (آ 15ب) فيرتبط بتقليد يقف وراء مت 27: 3-10.
ثانيًا: التأويل والتفسير
تجاه المرأة التي دهنت يسوع بالطيب، كان يهوذا واحدًا من الاثني عشر، وقد تصرّف بالكذب والخداع. ساعة أعطت المرأة كل مالها ليسوع ولم تفكّر في نفسها، بحث يهوذا عن ربحه الخاص. كانت تضحيتها ثمينة، أما يهوذا فقام بصفقة لقاء كميّة صغيرة من المال.
حوَّل مت نص مر في أربعة أمور. (1) سأل يهوذا عن المال في مت لا في مر (ماذا تريدون أن تعطوني). (2) وحده مت أشار إلى الكمية من المال: ثلاثين من الفضة. (3) أدخل مت لغة زك 11: 11-12 (رج آ 15). (4) في مر ولو وعدت السلطات بأن تدفع ليهوذا (بعد أن يكون قام بالعمل). أما مت فقال إنهم دفعوا له في الحال. هذا ما يهيِّيء الطريق للندامة في 27: 3-10. يجب أن يُدفع المال ليهوذا ليستطيع إعادته.
((عندئذ انطلق أحد الاثني عشر)) (آ 14). عاد الراوي إلى آ 5، وسوف يعود خبر يهوذا في 27: 3-10. ق يو 6: 71. ((إلى رؤساء الكهنة وقال لهم)). زاد مت الفعل ثم الخطبة المباشرة. لم يذهب يهوذا إلى الرومان، بل إلى السلطات اليهوديّة، لأن هذه السلطات هي التي تأخذ القرار مع أو ضدّ يسوع الذي قام برسالة في اسرائيل.
((ماذا تريدون أن تعطوني)) (آ 15). رج مر 14: 10: ((إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم)). غابت الخطبة المباشرة. في مت، برزت فكرة المال بتأثير من زك 11: 12-13 (((فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضّة))). لقد شارك يهوذا أعداء يسوع. وقايض يسوع ببعض المال: لماذا فعل يهوذا ما فعل؟ إن لو ويو ربطا يهوذا بالشيطان، وهناك تقليد قبطي يقول إن ما دفعه إلى عمله هو امرأته (انجيل برتلماوس).
إذا كانت الأمور التاريخيّة غامضة، ففي مت صارت واضحة: القضيّة قضيّة مال. ما يريده يهوذا يعارض كل المعارضة تعليم يسوع: يطلب الفضة (1تم 6: 10، المال أصل كل الشرور). ولكن يهوذا سوف يردّ المال، بحيث لا يمكن الحديث عن جشعه. غير أن مت لا يقدّم لنا شرحًا. وهكذا يبقى خبر الحاش والآلام مغلّفًا بالسرّ.
((جعلوا له ثلاثين من الفضّة)). ق مر 14: 11: ((فلما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضّة)). إن مت الذي يستبق 27: 9 قد تأثّر بما في زك 11: 12: ووزنوا له بالمثقال... هذه العودة إلى العهد القديم تدلّ على أن الخيانة تتوافق مع ما رآه الله مسبقًا. لهذا فانتصار الشرّ الظاهر هو بشكل سريّ عمل الله أيضًا. هذا ما نقرأ في تك 50: 20: ((أنتم نويتم بي شرًا والله نوى بي خيرًا)) (قال يوسف لاخوته).
من أي نوع كانت هذه الثلاثين من الفضة؟ الشاقل الصوري المتعامل به في الهيكل والمذكور في زك 11: 11-12. هذا يعني أن يهوذا ربح ما يساوي أربعة أشهر من العمل بأقلّ تقدير. نتذكّر أن يوسف قد باعه إخوته بعشرين من الفضّة (تك 37: 28). أما وصيّة جاد (2: 3) فتقول إن المال المعطى كان ثلاثين من الفضة. وإن هذا البيع قام به يهوذا وجاد العضوين في مجموعة الاثني عشر. قد نكون هنا أمام نصّ حُرّف في خطّ مسيحيّ. هنا تلاعب على الكلمات بين يهوذا أحد الاثني عشر ويهوذا الخائن أي يوضاس. وهناك نصوص تحوّلت أيضًا في ما يخصّ يوسف بن يعقوب الذي بيع بثلاثين من الفضة: هي نصوص مرّت عليها يد مسيحيّة.
في 10: 9 طلب يسوع من تلاميذه أن لا يأخذوا فضة. أراد يهوذا أن يأخذ الفضة، فدلّ على أنه ليس من تبّاع يسوع: بعد ذلك صار عمله مثل عمل الحرس على القبر الذين قادهم خوفهم إلى الكذب. هم أيضًا أخذوا الفضة من السلطات اليهوديّة (28: 11-15).
((ومنذئذ كان يطلب فرصة)) (آ 16). زاد مت ((منذئذ))، وحوّل العبارة ليشدّد على الفرصة السانحة، على الزمان المناسب والمكان اللذين يكون فيهما يسوع بعيدًا عن الشعب. من أجل هذا، مارس يهوذا صبره.
خاتمة
نسوق ملاحظة ختامية حول كل مقطوعة:
1 - ظهر خبر الحاش (= الآلام) في مت مع وجهين رئيسيين: الأول هو يسوع والثاني هو الجماعة المؤلَّفة من رؤساء اليهود في أورشليم. وظهر الاثنان هنا حيث لعب كل واحد دوره. أما دور ابن الانسان فالطاعة لإرادة الآب وبالتالي التألّم من الخيانة حتى الصلب. ودور أعدائه أن يتآمروا ويخطّطوا من أجل الهدف عينه. في معنى من المعاني، هدف الفئتين هدف واحد. والهدفان يقودان إلى الصليب. ولكن في معنى أهم، هذان الهدفات يتناقضان. ما يتوق إليه يسوع هو ما حدّدته مشيئة الله. وموضوع القوّاد اليهود في نظر مت قد وُلد من خطيئة البشر.
2 - كانت آ 3-5 جوابًا على رسالة يسوع، كانت مقاومة من قبل الرؤساء، وستتواصل هذه المقاومة في آ 14-16. أما آ 6-13 فتصوّر جوابين مختلفين. الخدمة لدى امرأة لم يذكر اسمها، عدم الفهم لدى التلاميذ. وفكرة المسح بالطيب (أو بالزيت) كما كان يُصنع للملوك والكهنة، هي أيضًا عمل من أجل الموتى. هذا يعني أن يسوع هو الملك المسيحاني الذي عرشه هو الصليب (والمرأة تدلّ على أورشليم). والمسح بالطيب هو أيضًا عمل محبّة. وهو يأتي بشكل أفضل بعد 25: 31-46 الذي يعطي المعنى العميق لأقلّ عمل من أعمال الرحمة. وما قامت به هذه المرأة من أجل دفن يسوع هو عمل رحمة، لا تجاه صورة يسوع على الأرض،، بل تجاه يسوع بالذات، لهذا ستُذكر في العالم كله.
3 - حين بدأ يهوذا ببحث عن الفرصة السانحة لكي يسلم يسوع، خسر حرّيته على مستوى الكلام والعمل. صار دمية بين يدي الرؤساء. أما بالنسبة إلى يسوع، فيرينا الخبر حرّيته الأخيرة. وهكذا تأخذ أعماله وأعمال الذين حوله مدلولاً كبيرًا جدًا. لم يعد من أمر صغير في خبر الآلام. فالشرّ يصير شرًا كبيرًا، والخير خيرًا أكبر. وهكذا تصبح خطيئة يهوذا أكبر شكّ لدى الجماعة المسيحيّة الأولى.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM