االفصل العشرون: القبض على يسوع

الفصل العشرون

القبض على يسوع
26: 47-56

إذا قابلنا مشهد القبض على يسوع في مت مع مر 14: 43-،50 فهو يبدو مختلفًا بعض الاختلاف. أولاً: جعل ضربة السيف حصّة أحد رفاق يسوع، وهذا ما دلّ على أن التلاميذ كانوا حاضرين بشكل ضمني قبل النهاية. فيسلّمهم دورًا بنيويًا في سلسلة من ثلاث حلقات تتضمن: يهوذا (يوضاس)، أحد التلاميذ، الجمع. فلكل من هؤلاء الأشخاص أو المجموعة يوجّه يسوع كلمة. والعنصر الاخباريّ الذي يجعلهم ((على المسرح)) يتوخّى تحريك هذه الكلمة. فالخطبة هي التي تشرف هنا، وهذا ما لا يدهشنا عند مت الذي يستفيد مرة أخرى من الظرف ليعلّم القارئ. وفي الوقت عينه يبرز شخص يسوع أكثر مما عند مرقس. فيسوع يفرض نفسه في كلامه ويدلّ هنا حقًا أنه هو الذي يوجّه الأشخاص: هذه ميزة أخرى لهذا الانجيل ولا سيّما في خبر الحاش (الآلام).
إذن، نستطيع أن نوزّع هذا المشهد على ثلاث محطات، وذلك حسب الكلمات الثلاث التي تفوّه بها يسوع ووجّهها إلى ثلاثة ((أشخاص)) (أو: مجموعات). وجّه يسوع على التوالي كلمة ليهوذا (آ 47-50). كلمة لأحد التلاميذ (آ 51-54). كلمة للجمع (آ 55-56 أ). وينتهي كل شيء بالاشارة إلى هرب التلاميذ (آ 56 ب). هذه الخاتمة هي مهمّة لأن سياق الانجيل السابق يتطلّبها.

1 - يسوع ويهوذا (26: 47-50)
يتضمّن وصول يسوع مع الفرقة (آ 47) بعض ((التصحيحات)) بالنسبة إلى مر 14: 43. هناك أمور على مستوى الانشاء والأسلوب، وأمور على مستوى المعنى. حين جعل الانجيلي قبل الفعل اسم يهوذا وأسبقه بلفظة ((ادو)) (وها) الخاصة بمتّى، أعطى نبرة احتفاليّة للحظة وللمحاولة التي تتمّ فيها بالنظر إلى اعلان يسوع الاحتفالي الذي نقرأه في آ 45ب: ((ها الساعة قربت، حيث يسلّم ابن الانسان إلى أيدي الخطأة)).
إن الفعل الذي به يحدَّد الحاش في الأناجيل، يبدأ وكأن لا رجوع عنه. ثم إن هناك رباطًا مع الآية السابقة بحيث إن الإنباء (ها إن ذاك الذي يسلّمني قريب) يقابل الجملة التالية: ((ها إن يهوذا يأتي)). فإذا لم نفصل هذا المقطع عن انباءات يسوع في مت 26: 2، 21، 25، لن نفسّر حينذاك الاتصال (بين المقطع والانباءات) وكأن يسوع أبصر عبر العتمة وأغصان أشجار البستان، تحرّك الفرقة باتجاهه. فهذه المرة أيضًا أبرز متّى معرفة يسوع السابقة، وهي معرفة علوية لا تخطئ.
اقتدى متى بمرقس ولوقا، فشدّد على ما في العمليّة (الحربيّة!) من عار. فذكّرنا أن يهوذا هو ((أحد الاثني عشر)). مع أنه أغفل هذا التفصيل حين الانباء بالخيانة (26: 23: إن الذي غمس يده في الصحفة هو الذي يسلمني، ق مر 14: 20: هو واحد من الاثني عشر).
إن استعمال فعل ((جاء)) (التان) بدل ((فاجأ، وصل)) (باراغيناتاي) في مر 14: 43، لا يوافق الاستعمال المتّاوي، لأن الفعل الثاني يُقرأ ثلاث مرات في متّى (2: 1؛ 3: 1، 13). بينما يستعمله مرقس مرة واحدة (14: 43). ولكن متّى قام بترتيب أفعال الحركة في هذا المقطع. فمرقس أشار إلى ((مجيئين)) ليهوذا. واحد في 14: 43 مع ((باراغيناتاي)) (جاء يهوذا في جمع) وآخر في 14: 45 مع ((التون)) (ولما جاء تقدّم إلى يسوع). ألغى متى هذا الفعل الثاني واعتبره تكرارًا، واكتفى بأن يشير مرة واحدة إلى مجيء أو وصول يهوذا فاستعمل الفعل الذي وجده في مر 14: 45.
نتوقّف هنا عند أمور انشائيّة. لفظة ((اوتيوس)) (في الحال) التي يستعملها مر 41 مرة. لم يحتفظ مت من هذا الاستعمال سوى 7 مرات في النصوص الموازية. ونجد لفظة ((ادو)) (ها إن، هنه في العبرية) 62 مرة (ومنها 3 من العهد القديم) في مت. 8 في مر. وعبارة ((كاي ادو)) (وإذا) 17 مرة في مت مقابل لا شيء في مر. تُستعمل ((إدو)) لتدلّ على حدث جديد، أو تشير إلى أهميّة الحدث الذي نرى. وارتبط فعل ((باراديدوناي)) بحاش يسوع في الأناجيل، بل في اللغة المسيحيّة الأولى بتأثير من أش 53: 6، 12 (حسب السبعينية، يرد الفعل هنا ثلاث مرات) ومن القديس بولس (روم 8: 32؛ غل 2: 20).
اعتاد مت أن يخفّف عبارات مر فيتحاشى الجملة المزدوجة. ففي هذا المقطع قال مرة واحدة إن ((يهوذا جاء)). فانتماء يهوذا (كمشارك في العشاء) إلى حلقة الاثني عشر جاء واضحًا في 26: 20. والعبارة التي ألغاها متى في 26: 23 نقرأها في 26: 14 (إنطلق أحد الاثني عشر).
وجاء الجمع المسلّح (السيوف، العصي كما في مر) برفقة الخائن الذي يقود ((الحملة)). زاد مت لفظة ((كثير)) (جمع كثير) كعادته في الحديث عن الجموع (4: 2؛ 6: 1؛ 13: 2؛ 15: 30؛ 19: 2). مقابل هذا، لم يذكر إلاّ فئتين من فئات السنهدرين الثلاث التي يذكرها مر 14: 43: ((عظماء الكهنة وشيوخ الشعب)). ألغى ذكر الكتبة، وهذا ما يدهشنا، لأن متى في إنجيله لا ((يراعي)) هذه الفئة التي نالت الشجب واللوم من قبل يسوع (5: 20؛ 23: 2، 13، 14، 15). ومع ذلك، لا نجدها مع أولئك الذين يوجّهون الحملة للقبض عليه. هذا مع العلم أن إنباءات يسوع جعلتهم بين العاملين في مسيرة الآلام (16: 21: الشيوخ، رؤساء الكهنة، الكتبة؛ 20: 18)، وأننا سوف نجدهم فيما بعد خلال الآلام كأعضاء في المجلس الأعلى (26: 57؛ 27: 41).
إن عبارة ((شيوخ الشعب)) خاصة بمتّى في الأناجيل. ترد ثلاث مرات في خبر الحاش (26: 3، 47؛ 27: 1) ومرة واحدة قبل ذلك (21: 23) في عبارة واحدة هي ((عظماء الكهنة وشيوخ الشعب)) (رج مر 14: 1: عظماء الكهنة والكتبة؛ 14: 43: يزاد الشيوخ؛ في 15: 1: عظماء الكهنة مع الشيوخ والكتبة؛ رج 11: 27). لا يهتمّ مت كثيرًا في تمييز الفئات التي تخاصم يسوع. فإذا وضعنا جانبًا خبر الحاش، وإذا اعتبرنا أنه يميّز ((الكتبة والفريسيين)) الذي يعلّمون الشعب، ((فهو يضمّ في مسعى واحد فئات مختلفة، بل متعارضة، مثل الفريسيين والصادوقيين (3: 7؛ 11: 1، 6، 11، 12). وفي الحاش، ومع أنه لا يهمل كليًا الكتبة (26: 57؛ 27: 41) والفريسيين (27: 62)، فهو ينسب مسؤولية المحاكمة وموت يسوع بشكل رئيسيّ إلى عظماء الكهنة، كما فعل مر، وكما ينبغي أن يقال لأننا في أورشليم (حيث يقيم الكهنة). ويضمّ إلى عظماء الكهنة، ((شيوخ الشعب)) ليدلّ على تضامن بين اسرائيل ورؤسائه في حاش يسوع.
حين أورد مت التعليمات التي أعطاها يوضاس (يهوذا) للفرقة، قام ببعض التصحيحات الطفيفة (استعمل سامايون كما اعتاد في 12: 38، 39؛ 16: 1، 3، 4؛ 24: 3، 24، 30، بدّل موضع الضمير ((اوتويس)) في أعطاهم فتجنّب الالتباس، رج مر 14: 44أ)، وظلّ يبرز يوضاس وعمله حين جعل الفاعل في بداية الجملة. ((ذاك الذي يسلمه)). لسنا هنا أمام معترضة كما في مر. فإن مت يرى أن هذه التعليمات أعطيت ساعة الوصول إلى الموضع للقبض على يسوع. وإذ ألغى الانجيليّ توصية يوضاس الأخيرة (رج مر 14: 44: قودوه في احتياط)، خفّف الخبر كما اعتاد أن يفعل ورتّبه. فهناك التوقيف (كراتاين، آ 48-50) والفعل الذي به ((اقتادت)) (اباغاين، آ 57) الفرقة يسوع. إذن، هناك مدى ظاهر (آ 51-56) فيه تتمُّ أمور وتقال أقوال.
تحدّث مت عن قبلة يهوذا (آ 49أ) بطريقة تختلف عما في مر 14: 5ب أ. قام ببعض اللمسات. ألغى فعل ((التون))، جاء. جعل لفظة ((يسوع)) محلّ الضمير. ((دنا إلى يسوع)). اعتاد مر أن يستعمل صيغة الضمير. أما مت فيوضح الشخص الذي يشير إليه. ويحبّ بشكل خاصّ أن يسمّي يسوع باسمه. وهذا ما نجده هنا حيث نقرأ اسم يسوع ست مرات (26: 49، 50 مرتين، 51، 52، 55) مع مرة واحدة موازية لمرقس (26: 55؛ ق مر 14: 48). مقابل هذا، احتفظ باسم الفاعل ((بروسلتون)) الذي يستعمله مت (51 مرة. مقابل 5 مرات في مر، 10 في لو. ((بروسارخاتاي))) ليبرز كرامة يسوع.
ترد قبلة يهوذا والكلمة التي ترافقها كما في مر مع شواذ واحد: أسبق يوضاس بلفظة ((رابي)) السلام ((اليوناني)) ((خايري)). هنا تصل الشناعة إلى الذروة فتدعو بركة الله على الذي نحيّيه ! أكمل مت ما قاله مر، وأبرز رياء فعْلة يجتمع فيها الاحترام والرضى. وسترد التحيّة مرة ثانية في 27: 29 (كما في مر 15: 18) وسط كلمات هزء الجنود بشكل إكرام ملوكي ساخر. قد يكون مت وضع رباطًا بين مقطع وآخر، فحدّد موقع يهوذا على مستوى أحقر الجلاّدين وأبشعهم.
وكانت أولى كلمات يسوع في هذا المقطع جوابًا على تحيّة يوضاس (آ 50، هوس دي ياسوس، طريقة متّاوية، أما يسوع). بدأ فوجّه إليه كلمة تبدأ بلفظة ((هاتايروس)) (صديق، صاحب) التي يستعملها مت وحده في العهد الجديد (11: 16؛ 20: 13؛ 22: 12). في 11: 16 نقرأ: ((يصيحون بأصحابهم، لا بالآخرين (((هاتاريوس))). هذه الكلمة تعني ((واحدًا مع آخر))، الصديق، الرفيق، الصاحب، العزيز. في مت 11: 16 نأخذ بالاختلافة لا بالنص الرسمي. في 20: 13: يا صاحبي،ما ظلمتك. في مت 22: 12 يستطيع الملك أن يقول للمدعو إلى العرس مع بعض التنازل: ((يا صديقي)). ولكن قد يُستعمل الاسم لشخص نجهل اسمه فنضع مسافة بيننا وبينه. أيكون هذا هو المعنى في مت لا سيّما إذا قابلناه مع لو 22: 48 حيث يسمّى يوضاس باسمه قبل لوم مليء بحنان خفي؟
ثم، ما هو معنى العبارة ((إف هو باراي))؟ ((لشيء أنت هنا، لشيء يحصل لك)). وجاءت التفاسير العديدة: السريانية العتيقة: ((لماذا))، لأي هدف أنت هنا))؟ لماذا جئت يا صديقي؟ اعتراض: لم يوجد هذا الاستفهام قبل القرن الثالث ب.م. تفسير ثان: هل لهذا؟ أفي هذا الهدف أنت هنا؟ ولكن السؤال يطلب جوابًا. تفسير ثالث يفترض نقصًا: ألهذا أنت هنا؟ أو: إفعل ما أنت لأجله هنا. أو: ليحصل ما أنت لأجله هنا. تفسير رابع يربط الموصول بلفظة ((قبَّله)). ألهذا جئت؟ ألهذه القبلة جئت؟ وهكذا نكون في استياء حزين نجده في لو 22: 48. ولكن كيف نفصل الموصول عمّا يرتبط به؟
ماذا نقول؟ نجد هذه العبارة في مت وفي أماكن أخرى. ثم، نحن أمام عبارة شعبية، نجد مثلها في المدوّنات (اوفراينو اف هو باراي: لماذا أنت هنا. عيّد). وهكذا نقول: يا صديق، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ نحن لا ننتظر جوابًا، بل نعبّر عن توبيخ مليء بالحزن يعبّر عنه يسوع أمام حضور يعرف هدفه. وهكذا لا يختلف موقف يسوع هنا عمّا في لو 22: 48: ((أبقبلة تسلّم ابن البشر))؟
وانتهت المحطّة الأولى بالقبض على يسوع (آ 50): إن العمل الذي قام به يسوع والفرقة التي يقودها، قد بلغ إلى هدفه. قام مت ببعض التصحيحات فظلّ أمينًا لنفسه. أحلّ اسم ((يسوع)) محل الضمير. ((ألقوا أيديهم على يسوع)). ((تقدّموا)). إذن، كانوا على مسافة محترمة من يسوع. ونقرأ ((توتي))، حينئذ. أراد مت أن يبيّن أن يسوع هو سيّد مصيره. في مر، كانت قبلة يوضاس المحرّك المباشر للتوقيف. في مت، انتظرت الفرقة أن ينهي يسوع كلامه. ((عندئذ)). تقدّموا ليقبضوا عليه (هذا يدلّ عند مت على أننا أمام خبر متواصل).
2 - يسوع وأخصَّاؤه (26: 51-54)
إن مشهد ضربة السيف في مت هي قبل كل شيء مناسبة لخطبة صغيرة ليسوع خاصة بالانجيل الأول. هي درس في اللاعنف بعد عمل من العنف لامهم يسوع عليه لومًا يرافقه تبرير.
استعاد مت المشهد من مر بعد أن أبرز الفاعل (واحدًا من) (آ 51 أ)، فأبرزه في جملتين متوازيتين تتضمّن كل واحدة اسم الفاعل ثم صيغة الماضي. ((مدّ يده)) (رج مت 8: 3؛ 12: ،13 49؛ 14: 31). هي عبارة مأخوذة من العهد القديم (ترد 75 مرة في السبعينيّة) وترافق السلاح (قض 3: 21؛ 15: 15؛ حز 25: 13؛ 30: 25). واستلّ سيفه (26: 31؛ رج زك 13: 17). يرد هذا الفعل 450 مرة في التوراة. رج عد 21: 24؛ تث 30: 13؛ 2 صم 15: 14؛ 2مل 19: 37؛ أش 37: 38؛ إر 26 (في اليونانيّة 33): 23.
نُسبت ضربة السيف إلى ((أحد الذين كانوا مع يسوع)). لا نجد عبارة ((هوي ماتا ياسو)) إلاّ هنا في مت. نحن أمام أحد التلاميذ الحاضرين مع يسوع في جتسيماني. فالمجموعة تضمّ الثلاثة المميّزين (بطرس، يعقوب، يوحنا) ثم الباقين مع عدا يوضاس (26: 20). فليس من أحد آخر ((مع يسوع)) في تلك اللحظة.
إختار مت هذه العبارة (الذين مع يسوع) بدل ((التلاميذ)) عن قصد واضح. ونقتنع من الأمر حين نلاحظ في الكلمات التي يوجّهها يسوع إلى تلاميذه خلال الصلاة في جتسيمانيّ، أن مت زاد مرتين ((مات إمو)) (معي) على نصّ مر (26: 38، 40؛ ق مر 14: 34، 37). ولكنه مقابل هذا ألغى هذه العبارة حين الحديث عن يوضاس (26: 21. ق مر 14: 18). وهكذا نكتشف لطيفة خاصة تدلّ على التعلّق بيسوع والأمانة له. من أجل هذه العواطف، ظنّ التلميذ أنه يفعل حسنًا حين يدافع عن معلّمه.
أن يكون ((عبدُ عظيم الكهنة))، ضحيّة ضرْب السيف لا يدلّ عند مت على اللهجة الساخرة التي نجدها عند مر. ما يتوقّف عنده مت هو فعلة العنف نفسها. وأن يكون هذا العنف قد قام به أحد رفاق يسوع. هذا ما نستنتجه من الكلمات التي أثارتها هذه الفعلة عند يسوع، والتي يتفرّد مت فينسبها إليه.
بعد المقدمة (آ 52أ) تتوسّع هذه الخطبة القصيرة في أربع محطات: بعد الأمر بردّ السيف إلى غمده (آ 52 ب)، يأتي تبرير مثلّث. تأكيد بشكل قول مأثور يبدأ مع ((غار)) لأن (آ 52 ج). ثم نجد استفهامين. الأول يقدّم الخيار الثاني بالنسبة إلى ما سبق (آ 53). والثاني (مع ((أون)) إذن، الوصل) يعطي المفتاح لنفهم كل ما قيل الآن (آ 54). يتوجّه كل هذا إلى صاحب ضربة السيف وهذا ما يدلّ عليه الضمير. ((اوتوي)) (له) والفعل ((دوكاي)) تظن، وكلاهما في المفرد.
إن المقدمة المطبوعة بطابع مت (توتي) يليهما أمر يسوع: ((ردّ سيفك إلى موضعه)) (آ 52ب). فالفعل ((أبوستربسن)) هو عكس الذي صوّر فعلة ذلك الذي لم يكن بارعًا في دفاعه عن معلّمه. وقد جاءت كلمة يسوع بشكل استنكار قاطع. يجب أن يبقى السيف في غمده ولا يخرج من هناك. والفعل الذي قام به هذا التلميذ يُشجب. لماذا؟
السبب الأول الذي يعطيه يسوع يبدو في شكل متوازن وصورة دائرية (يعود إلى النقطة التي انطلق منها): ((لأن جميع الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون)) (آ 52 ج).الأخذ بالسيف والهلاك بالسيف يتقابلان تقابل العلة والنتيجة. كلام يوجّه إلى ((الجميع))، والانسان المشار إليه يدخل في هذا ((الجميع)) (12 مرة في مت نجد ((جميع)) في قول ذي طابع خلقي).
لا يُقرأ هذا المثل كما هو إلاّ هنا. وقد يبدو قريبًا من رؤ 13: 10 الذي يستلهم إر 15: 2. نصّ غير أكيد، ولكنه في إحدى اختلافاته قريب من مت 26: 52 ب. ونقرأ النسختين في ترجمة حرفيّة. الأولى: ((من هو للسبي يذهب إلى السبي، ومن وجب أن يُقتل بالسيف، بالسيف يُقتل)). ولكن يبدو أن هذه الاختلافة تأثّرت بما في مت. أما في شكلها الذي لا جدال كثيرًا فيه، فتتوجّه الكلمة بالأحرى إلى المضطهدين الذين يُعلن عقابُهم تشجيعًا للذين يلقون الاضطهاد. وهكذا نكون بعيدين عن نظرة يسوع من خلال كلامه في جتسيماني.
السبب الثاني. إن عظة الجبل تفرض على المسيحيين سلوكًا يتميّز جذريًا باللاعنف. تمنعهم من الرد على العداوة ((الجسديّة)) بالوسائل عينها. هذا ما نفهم بالتوصية: ((لا تقاوموا الشرّير)) (5: 39أ) التي تلي سلسلة من الأمثال تبرز في الصورة أو الاستعارة. ويذهب النصّ أبعد من ذلك فيدعو إلى محبّة الأعداء، يدعو إلى محبّة مضطهدي المسيحيين بسبب انتمائهم الديني (5: 43-44). فالعلاقة واضحة بين هذا التعليم وكلمة يسوع التي تمنع كل مقاومة كما قيلت في جتسيماني.
غير أنه يجب أن نلاحظ في هذه الحالة الأخيرة، أن يسوع يتحدّث بشكل سلبي دون مقابل إيجابيّ، عن محبة تعمل الخير جوابًا على العداوة كما في عظة الجبل. ثم إذا قابلنا السبب المعطى هنا وذلك المعطى في 5: 45-48، نرى فرقًا واختلافًا. من جهة، يجب أن نقتدي بسلوك الله حين يمنح عطاياه للأشرار والأخيار. وهكذا يرتفع فوق تصرّفات البشر وما فيها من حسابات. ومن جهة ثانية، نتسلّم من يسوع أيضًا تحذيرًا فيه بعض المنفعة. يقول: إحذروا من الردّ على العنف بالعنف، لأن هذا سينقلب عليكم وفي النهاية تخسرون!
تخفُّ دهشتنا من هذا التعارض إذا قرأنا في مت توصيات أخرى مطبوعة بذات الفطنة البشريّة والتي تبدو في الظاهر معرّاة من كل اعتبار لاهوتيّ. ولكن من السهل أن نفترض فيها أكثر من ذلك. نبدأ فنقرأ 5: 25-26. حين نتطلع إلى السياق (5: 22) واللهجة الاحتفاليّة (الحق أقول لكم)، لا نشكّ في أن العقاب الذي نعتبره خارجيًا محاكمة عادية، هو في الواقع عقاب جهنّم. وهذا ما يدعونا إلى أن نرى في مت 26: 52ب أكثر من درس عادي يوافق حكمة الشعوب.
ولكي نُثبت هذا الحدس الأول، نعود إلى الكتاب المقدس حيث ((السيف)) (ماخايرا) هو وسيلة عقاب الله: أش 3: 25؛ 10: 34؛ 13: 15؛ 37: 7؛ إر 9: 15؛ 16: 4... ومع ((رمفايا)) (اسم آخر للسيف): إر 5: 17، 42 (49 في اليونانيّة): 16 - 17؛ حز 5: 10؛ 6: 3؛عا 9: 1، 14، 17؛ مي 6: 14. نا 3: 15؛ زك 13: 7... وفي بعض الظـروف يدلّ السيف على سلاح الله الشخصي. إر 12: 12؛ 46 (26 في اليونانيّة): 10؛47 (في اليونانيّة 29): 6 (ماخايرا تو كيريو: سيف الربّ)؛ 49: 37 (في اليونانيّة 25: 16) (تان ماخايران مو: سيفي). ومع ((رمفايا)): أش 66: 16؛ حز 30: 24-25؛ 32: 10. على هذه الخلفيّة، وبالنظر إلى لغة الاستعارة المستعملة في مت 5: 25-26، نجد هنا (في 26: 52) تهديدًا يتجاوز حرفيّة النصّ ويوجّه القارئ إلى عقاب لا يأتي من البشر.
هذا لا ينطبق على القول حول خسارة النفس (10: 39؛ 16: 5)، أي الحياة. ثم نقول: تحدّث يسوع في جتسيماني عن دفاع نستعمل فيه العنف الجسدي. أما في 10: 39 فيجب أن نحتفظ من جحود إيماننا.
الدفاع عن يسوع كما فعل ((صاحب السيف)) أمر مستنكر. لا مفيد. ويحمل على السخرية (سيف واحد ضد فرقة). فيسوع يستطيع كل الاستطاعة أن يؤمّن حمايته الخاصة وبوسائل أكثر فاعليّة. هذا ما وجب على ((التلميذ)) أن يعرفه. ولكنه جهلَه، فتصرّف بهذا الشكل. من هنا نطرح السؤال: ((أو تظن))؟ (فعل دوكاين يرد 9 مرات في مت، ومنها ست في سؤال شبيه بما في هذه الآية). هي طريقة فيها يدعو المحاور لكي يفهم أن يسوع ((يستطيع)) بالنظر إلى كرامته الالهية، أن يحلّ الازمة. إن مت أبرز في مواضع أخرى سلطة (دونستاي) يسوع: في اعتراف الأبرص (8: 2؛ رج مر 1: 40). على شفتي يسوع طالبًا من الأعميين فعل إيمان (9: 28). ومرتين في خبر الحاش (26: 61؛ 27: 42).
أما السلطة هنا فهي حقّ يرتبط بشخصيّة يسوع بأن ((يسأل)) أباه تدخّلاً وهو متأكّد أنه يحصل في الحال على ما يطلب (ارتي. نجده فقط عند مت، لا عند مر ولا لو: 3: 15؛ 9: 18؛ 26: 53. ثم ((أب أرتي)) في 23: 39؛ 26: 29، 64. وأخيرًا، هيوس ارتي 11: 12). من قرأ مت كله يرَ هنا أحد مواضيعه الثابتة: إن العلاقة الحميمة الي تربط يسوع ((بأبيه)) لا تتوقّف ساعة ينصبّ الضيق عليه. رج 7: 21؛ 10: 32-33؛ 12: 50؛ 15: 13؛ 16: 17؛ 18: 10، 14، 19، 35؛ 20: 23؛ 25: 34، 41؛ 26: 29، 39، 42. كل هذه الاسئلة مع عودة الضمير إلى يسوع، هي خاصة بمتّى.
إن العون الذي يستطيع يسوع أن ينتظره هو فعل من الله يجعل في تصرّفه ((اثنتي عشرة كتيبة من الملائكة)) لكي يسحقوا أعداءه. لا يُستعمل فعل ((بارستاناي)) (أقام، وضع في تصرّف) في خبر الآلام إلاّ في مت وهنا فقط. ولكنه يرد في أع 23: 24؛ روم 6: 13، 16. أما الحديث عن جيش الملائكة فتقليدي في التوراة والعالم اليهودي. تك 32: 2-3؛ قض 5: 13-17، 20؛ 2مل 6: 17؛ المغارة الاولى في قمران. أخنوخ. أما لفظة ((كتيبة)) فهي نادرة (مدراش مز 5: 7؛ رج مر 5: 9؛ لو 8: 30).
ما يمكن أن يحصل عليه يسوع كثير جدًا. فالكتيبة الرومانية تعدّ 200 رجل على الأقلّ. ولكن لا ننسى ((الجمع الكثير الذي يأتي بسيوف وعصي)) (آ 47)، ليقبض على يسوع. هو كثير خصوصًا بالنسبة إلى ((المدافع)) الوحيد الذي دلّ على عجزه فما استطاع إلاّ أن يقطع ((أذن)) غلام رئيس الكهنة.
استعارة مضخمّة. ولكن هذا يوافق الدور الذي يسلّمه مت بشكل خاص إلى الملائكة، حين يتحدّث عن يسوع. جاؤوا يعينونه في نهاية التجارب في البريّة (4: 11؛ رج مر 1: 13). واتفق مت 4: 6 مع لو 4: 10-11 ليورد مز 91: 11-12 حيث يطبّق الشيطان على يسوع الاهتمامات التي بها يحيط الملائكةُ الرجلَ البار. في ذاك الظرف، رفض يسوع مساعدتهم في ردّ التجربة الشيطانية. وفي أماكن أخرى، دلّ الانجيلي على سلطة حقيقيّة ليسوع على الملائكة في الدينونة الأخيرة (13: 41؛ 16: 27؛ 24: 31؛ 25: 31) .
وفي جتسيماني، لم يحن الوقت بعد ليلجأ يسوع إلى الملائكة. ولو فعل، لكان خضع للتجربة الشيطانية في البرية، التي كان بطرس صدى لها في حياة يسوع العلنيّة (16: 22-23). أما الآن فامكانيّة تدخّل الجيوش السماويّة ليست إلاّ فرضيّة. ويسوع يبعدها، كما سبق له وقدّم فرضيّة أخرى في صلاته: ((يا أبت، إن كان مستطاع)) (26: 19). وفي النهاية وصل إلى قبول تام: ((إذا كان لا يستطاع.... لتكن مشيئتك)) (26: 42).
هذه المشيئة لم تصل إليه بشكل مباشر وعبر وحي حميم. بل عبّرت عنها الكتبُ المقدّسة (هاي غرافاي، رج 21: 42؛ 22: 29). هذا ما يقول في المحطة الثالثة والأخير من البرهنة (آ 54) بشكل استفهام: ((إذن، كيف تتمّ الكتب (القائلة) أنه يجب أن يكون هكذا))؟
هذه الضرورة المؤسّسة تأسيسًا إلهيًا، تعبّر عنها الأناجيل مرارًا بفعل ((داي)) (ينبغي). يرتدي هذا الفعل لطائف عديدة، يجب أن نميّزها. إن البعد الاسكاتولوجي الذي يرتديه 24: 6 (= مر 13: 7) في عبارة ((يجب أن يحصل هذا)) (داي غانستاي) التي أخذت من دا 2: 28، لا يمكن أن يطبّق على العبارة عينها (26: 54) لكي نرى في حاش يسوع إحدى العلامات السابقة للمجيء، أو أقله سلسلة أحداث ذات طابع اسكاتولوجيّ واضح. فإن افترضنا أن مت أخذ هنا مر 13: 7، تكون العبارة قريبة على مستوى المعنى من الانباء الأول بالحاش (16: 21 =مر 8: 31). حين كتب مت: ((يجب أن يتألّم كثيرًا))، لم يكن له فكرة أخرى إلاّ الضرورة الموحاة في الكتب. وهي ضرورة تعطي في الوقت عينه مفتاح هذا العار القاسي. هذا ما نقول أيضًا عن المقطع الذي ندرس، وهذا ما سيثبّته السياق.

3 - يسوع والجموع (26: 55-56أ)
نجد عبارة متّاوية معهودة ((في تلك الساعة)) وهي ترسم خطًا يفصل هذا الجزء من الخبر عن سابقه (رج 10: 19؛ 18: 1). هكذا أعاد مت صياغة مر 14: 48. ثم ألغى ((أجاب)).
هنا توقّف يسوع عن توجيه الكلام إلى المدافع عنه، ومن خلاله، إلى التلاميذ. فالضمير ((لهم)) الذي يدلّ في مر 14: 48 على ذات المجموعة التي انفصل عنها صاحب السيف، قد حلّ محله ((الجموع)) في مت. لا مجال للخطأ. هذه الجموع هي المذكورة في بداية الحدث (آ 47)، وقد جاءت مع يوضاس لكي تُوقف يسوع. إن مت يقول: ((الجمع)) أو((الجموع)) ولا فرق بين اللفظتين. وكلمات يسوع التي ستلي تدلّ على ترادفهما. غير أننا نجد هنا هذه المجموعة المتحرّكة في مر وغير المحدّدة، نجدها تنقلب وتأخذ وجهًا أجمل. لنقابل هذا المقطع مع 21: 46. هناك نعرف أن الرؤساء حاولوا أن يقبضوا على يسوع، ولكنهم توقّفوا عن قصدهم خوفًا من ((الجموع)). في جتسيماني، جاءت هذه ((الجموع)) عينها لتقبض (كراتاين، في الحالين) على يسوع. ولكن الدهشة تتواصل: في 26: 25 لامهم يسوع لأنهم لم ((يقبضوا)) عليه ساعة كان يعلّم في الهيكل: نحن هنا أمام عودة إلى سلسلة جدالات يسوع مع السلطات اليهودية امتدت من 21: 23 إلى 22: 46 وحيث بدت هذه السلطات متعارضة عمدًا مع ((الجموع)) الموافقة ليسوع (21: 46؛ 22: 33).
إذن، لا نستطيع أن نميّز بين جموع الهيكل وجموع جتسيماني. كما لا نستطيع أن نميّز بين موقف الجموع خلال الحاش والآلام والموقف الذي تبنّته هذه الجموع فيما سبق. فإذا كانت الجموع إما حياديّة وإما موافقة ليسوع في الجزء السابق من الانجيل، هناك شواذ في 21: 31 حيث تمنع الجموع الأعميين من تسمية يسوع ((ابن داود)) و((الربّ)) (وهذا ما يتعارض مع موقف هذه الجموع نفسها حين الدخول إلى أورشليم))، 2: 9). أما في الحاش، وفي حدث برأبا، فـ((الجموع)) التي اعتاد بيلاطس (27: 54) أن يمنحها العفو عن سجين، هي صورة حيادية قبل أن يحرّكها عظماء الكهنة.
إذن، تلعب الجموع في مت دورًا مشابهًا لما في مر. وحين ينسب إليها الانجيل الأول مواقف متعارضة، فهو يدلّ أن دورها لا ينحصر في تجسيد مجموعة واحدة أو تصرّف خاص (مثلاً، المقاومة اليهودية أو المسيحيون الكافرون). حين لا تكون في الخبر صورة تدلّ على دور يسوع وتأثيره في الناس، فهي تمثّل شخص يسوع وعمله في حلقة أبعد من حلقة أصدقائه. الجموع تساعد القارئ على فهم يسوع.
واللوم الذي وجّهه يسوع يأتي في ذات عبارات مر 14: 49: عودة إلى وضع الهيكل (مت 21: 23-24) حيث كان يسوع يستطيع أن يعلّم بكل حريّة. ولكن هناك اختلافًا بين نسخة مت ونسخة مر.كتب مت: ((كنت جالسًا أعلّم)). وقفته هي وقفة المعلّم. هكذا يصوّر لنا مت يسوع(5: 1؛ 13: 1، 2؛ 24: 3؛ رج 15: 25). ويجعله أمام الناس كـ ((رابي)) أمام تلاميذه (23: 2). أشار مر إلى هذا التعليم في الهيكل (مر 11: 35؛ رج 11: 17؛ 12: 14)، وشدّد عليه مت (21: 23: وهو يعلّم).
يلوم يسوع الجمع هنا على تقلّبه. هؤلاء الناس الذين دلّوا على تعاطفهم تجاه يسوع، بل حماسهم ضد موقف السلطات، قد اتّفقوا مع هذه السلطات في ملاحقة مشروع قتل. لا شكّ في أن هذا هو طابع كل الجموع. ولكن الراوي لا ينسى أنه يقدّم تعليمًا. إن كان يسوع ضحية تقلّب البشر، فهو في الواقع يطيع طاعة حرّة قرارًا اتخذه الله في شأنه: ((حصل كل هذا لكي تتمّ كتب الأنبياء)) (آ 56أ).
هل نحن أمام قول تفوّه به يسوع، أو أمام تفسير قدّمه الانجيليّ؟ هنا تتباين الآراء. إن الجملة مطبوعة بأسلوب متَّى الذي قد يكون جعل الكلام في فم يسوع. ولكن ما يلفت نظر القارئ هو أن يسوع قال الشيء عينه في آ 54. وهكذا نكون أمام خاتمة وقّعها الانجيلي بعد كل الذي أورده. إذن، تمّت الكتب!
يتميّز نص مت (رج مر 14: 49 ب) ببداية نقرأها في أخبار الطفولة (1: 2). ((كل هذا حصل (كان) ليتم)). ولكن ارتبط بلاغ الملاك ليوسف بالنبوءة حول عمانوئيل التي وردت حرفيًا (1: 23). أما أحداث وأقوال جتسيمانيّ، فلا يسندها نصّ محدّد: نحن أمام إمالة اجماليّة إلى ((كتب الأنبياء)).
كتب مر 14: 49ب: ((الكتب)). وزاد مت: ((الأنبياء))، فكان أمينًا لنفسه ولا سيّما في طريقته في بداية استشهاده بالعهد القديم (1: 22؛ 2: 5، 15، 17، 23: الأنبياء؛ 3: 3؛ 4: 14؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35؛ 21: 4؛ 27: 9) والذي أخذ كله من الأنبياء. ولكن لماذا لم يذكر هنا نصًا محدّدًا؟ لم يجده عند مر، فاكتفى بالاشارة إلى الكتب ليبرّر مرة أخرى ما حصل، وليقول لقرّائه بأن هذا يتسجّل في مخطط الله كما رسمته الأسفار المقدسة. يرى مت أن هذه الأسفار هي في جوهرها ((نبويّة)) وتعني يسوع كـ ((المسيح)).

4 - خاتمة: هرب التلاميذ (26: 56ب)
أنهى مت حدث القبض على يسوع وقدّم للقارى المفتاح اللاهوتي (آ 56أ). فلم يبق له إلاّ أن يذكر تفرّق التلاميذ وهربهم كما فعل مر 14: 50 (اختلف لو عنهما). بل شدّد على ما في هربهم من شكوك. نقرأ في مر: ((تركه الجميع وهربوا)). من هم الذين هربوا؟ لهذا سيقول مت بعبارة واضحة: ((تركه جميع التلاميذ وهربوا)).
هذه هي طريقته في التوضيح. ثم إنه يلتقي بنبوءة أخرى ليست في ((التوراة)). ففي الطريق الذي يقود من العليّة إلى جبل الزيتون، أعلن يسوع للذين يرافقونه: ((أنتم كلكم تسقطون بسببي في هذه الليلة)) (26: 31). زاد مت على مر: أنتم، بسببي، في هذه الليلة. احتجَّ بطرس أولاً (آ 33). وتبعه ((جميع التلاميذ)) (آ 35ج). في هذا المقطع الأخير كمّل مت مر كما في 26: 56 ب، فزاد ((هوي متيتاي))، التلاميذ.
من مقطع إلى آخر نجد حكمًا قاسيًا على أولئك الذين اعتدّوا بنفوسهم، فكذّب الواقعُ اعتدادهم. إن أولئك الذي عرفوا في القارب يسوع على أنه ((ابن الله)) (14: 33). والذين بصوت بطرس أعلنوه ((المسيح ابن الله الحيّ)) (16: 16). والذين احتجّوا ليدلّوا على أمانتهم تجاهه مهما سيحصل. هؤلاء تركوه في وقت صار فيه ضحيّة أعدائه. وهؤلاء التلاميذ هم الذين سيتركون الشكّ يدخل فيهم أو بينهم (28: 17) مع أن الخطر قد عبر.
قد لا نستطيع أن نماهي بين ((تلاميذ)) مت والمسيحيين. وقد لا يدعو مت المسيحيين إلى التماهي معهم بكل بساطة. ولكن نبقى أمام نموذج ومثال. هناك ((شفافية)) في هؤلاء الرجال (الذين من الماضي) وفي ((خبر)) يسوع، تجعل القارئ المسيحيّ قديرًا لأن يعود إلى الأصول فيعبّر عن تعلّقه بيسوع، ويحترز من خيانات ممكنة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM