المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الثامن والثلاثون: شفاء وقيامة

الفصل الثامن والثلاثون
شفاء وقيامة
9: 18- 26

نقرأ هنا خبر معجزتين: شفاء النازفة وقيامة الصبيّة. ونجد في هذا النصّ شيئاً خاصاً بالنسبة إلى مجمل التقليد الإزائي حول المعجزات: يتحدّد موقع شفاء النازفة بين تدخّل الأب من أجل ابنته وقيامة الابنة. أما في سائر الأماكن، فتُعالج كلُّ معجزة بمفردها كوحدة مستقلّة. ويرى معظم الشّراح أن هذا التداخل يعود إلى تذكّر تاريخي. غير أن بعضهم يعتبر أن الفروقات اللغويّة واللاهوتيّة بين الخبرين تدلّ على أنهما كانا في الأصل مستقلّين (ما يجمع الخبرين هو الرقم 12 الذي هو عمر الصبيّة وسنوات مرض النازفة). نحن هنا أمام مسألة تاريخيّة لا نستطيع أن نقدّم لها حلاً. ثم إن هذا الوضع لا يؤثر في شيء على مدلول الخبرين. إذن، نستطيع أن ندرسهما كلاً على حدة.
أورد الإزائيون الثلاثة هذين الحدثين (9: 18- 26= مر 5: 21- 43= لو 8: 40- 50). حين نقابل النصوص نجد أن مت أكثر إيجازاً من مر ولو. غير أننا لا نستطيع أن نكتشف مدلوله اللاهوتيّ إن لم نقابله مع التقليدين الآخرين. فهذا الخبر يبيّن كيف أن الحدث الواحد من حياة يسوع يستطيع أن يتقبّل إضاءات مختلفة.
لا يقدّم مت الحدث في السياق الذي فيه قدّمه مر ولو. فهو يرد عندهما ساعة يعود يسوع من الضفّة المقابلة للبحيرة حيث شفى مجنون الجراسيين. أما في مت، فيسوع هو في بيت متّى الذي دعاه (9: 9- 10): في ذلك الوقت جاء إليه يائيرس (آ 18- 19). كيف نستطيع أن نفسّر الترتيب الجديد لمتّى؟ إما لأنه أراد أن يهيِّىء الطريق للخطبة الرسوليّة حيث نال الاثنا عشر سلطاناً يقيمون به الموتى (10- 8). وإما لأنه أراد أن يبيّن، بهذه القيامة، الجديد الجذريّ في الأزمنة المسيحانيّة تجاه العالم اليهودي مع الفريسيين الذين ترمز إليهم الثياب البالية والزقاق المنشقة.

1- شفاء نازفة
أ- مرقس: مسيح مجهول
من الضروريّ أن نبدأ دراسة هذه المعجزة مع نصّ مرقس. فمرقس يقدّم حول ظروف هذا الشفاء عدداً من التفاصيل يبقى بدونها خبر مت غير مفهوم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إن المدلول اللاهوتيّ الذي يعطيه مرقس لهذه المعجزة، يتيح لنا أن ندرك إدراكاً أفضل التفسير الجديد الذي نالته في إنجيل متّى.
نجد في مر خبراً طويلاً يتألّف من عشر آيات. أما في مت فيمتدّ فقط على ثلاث آيات. مشهد حيّ، مليء بالتفاصيل والصور. أدخلنا مرقس في عواطف الحاضرين لكي نعيش الحدث. نحن هنا في خضمّ الجموع الفلسطينيّة بضجيجها وصراخها، وقد أثارها فضول يدفعها إلى مشاهدة معجزة جديدة، شفاء ابنة يائيرس. وسار يسوع في الوسط يحيط به تلاميذه وتزحمه الجموع من كل جهة.
وتميّز مرقس وسط هذه الجموع امرأة اقتربت من وراء مجترح المعجزات. اقتربت بخفر وخفاء، واقتربت أيضاً بجرأة وتهوّر. وصوّر لنا الانجيل مرضها الطويل الذي جعلها نجسة بحسب الشريعة، فمنعها من كل اتصال بالبشر (لا 15: 25). وأورد ما قالته من كلام قاسٍ في الأطباء، وثقتها بالقدرة السحريّة التي تصدر عن شخص هذا الذي يجترح العجائب، والقرار الذي اتخذته، والشعور الحاليّ بالشفاء. لم يحسّ أحد بما فعلت.
وتوقّف يسوع فجأة وسأل: "من لمسني"؟ سؤال في غير محلّه وسط هذه الجلبة. هذا ما قاله التلاميذ. أما يسوع فنظر حوله وهو يحاول أن يتميّز تلك التي لمسته. وقد يكون رأى تلك التي لمسته وعرفها. وتقدّمت امرأة خائفة ومرتعدة وارتمت عند قدميه ارتماء السجود وروت كل ما حدث لها. اختفت الجموع والتلاميذ، فلم يبقَ على "المسرح" إلا المرأة ويسوع.
هو موقف دينيّ دفع هذه المريضة لأن تفعل ما فعلت. وكلامها يفهمنا أنها اعتبرت مجترح العجائب موضعاً لقِوى خيرّة، وقد صار في متناول المحتاجين، وهو يفعل بشكل آلي (اوتوماتيكي): نحن هنا أمام نظرة قريبة من السحر، وهي تشوّه تشويهاً كاملاً طبيعة المعجزات التي صنعها يسوع.
لا شكّ في أن الأناجيل تتحدّث وفي ظروف عديدة، عن هذه القوّة التي تصدر عن يسوع (لو 5: 17. قدرة الرب تجري على يده الأشفية؛ 6: 19: كان الجميع يطلبون أن يلمسوه، لأن قوّة كانت تنبعث منه وتبرىء الجميع) وتعطى للإثني عشر (لو 9: 1. قلّدهم قدرة... على شفاء الأمراض). ويلاحظ الإنجيليون بمناسبة الأشفية الجماعيّة (14: 36؛ مر 6: 56) أن المرضى كانوا يتوسّلون إلى يسوع أن يتركهم يلمسون طرف ثوبه، فكان كل من يلمسه يشفى، يخلص. وفي سفر الأعمال، كان ظلّ بطرس يشفي المرضى (5: 15). وكذلك كانت تفعل المناديل والمآزر التي لامست جسم بولس (أع 19: 12). هذا لا يعني أن لكل هذه الظواهر القيمة الدينية عينها لأنها وردت في الكتب المقدّسة. فيسوع ظلّ طوال حياته، متحفّظاً بالنسبة إلى المعجزات، بسبب الانحرافات التي يقود إليها طلبُ كل ما هو مدهش وعجيب.
فالمعجزة في نظر يسوع هي علامة تدخّل الله في العالم عبر شخصه. فالذي يقترب منه ليطلب معجزة، عليه قبل كل شيء أن "يمتلك" الايمان. ليست المعجزة هي التي تعطي الإيمان، بل هو الإيمان الذي يكتشف في المعجزة حضور الله الفاعل. لم ينتظر يسوع الإيمان كنتيجة لمعجزة قبل أن يجترحها. بل بالأحرى طلب هذا الإيمان كشرط سابق لهذه المعجزة. وهكذا يكون موضوع الايمان شخص يسوع بالذات قبل أن يكون الواقع العجائبي. المهمّ هو قدرة الخلاص التي أراد يسوع أن يحملها إلى البشر من قبل الآب.
ويعرف الإيمان درجات. ويسوع لم يجد الإيمان عينه لدى الجميع. أما هنا، فإيمان هذه المرأة التي تأمل أن تنتزع الشفاء بصورة خفيّة، لا يبدو متوجّهاً إلى شخص يسوع، بل إلى هذه القوّة التي تنبثق منه.
تجاه هذا اللافهم الغليظ، بدا يسوع في وضع مأساوي، وضع المسيح المجهول. فالشعب يتزاحم حتى يسحقه، ولكن إيمانه لا يتعدّى العطش إلى أمور غريبة عجيبة، ورضى الحاجات المباشرة من طعام وشراب وصحّة ورخاء. وتلاميذه نفسهم يردّون عليه بقساوة. به تظهر قدرة الله، ولكن البشر لا يفهمون من هو الذي يزورهم. لا شك في أن المسيح ظهر انساناً كاملاً وسط جمهور معاصريه، إلى درجة جعلته يجهل من لمسه، ساعة خرجت منه قوّة تجترح المعجزات.
ما أراد مر أن يخفّف الطابع "المعتم" لهذا الخبر الذي يدلّ على وضع دراماتيكي في حياة يسوع. إلا أنه أراد أن يلطّف الطابع الملتبس للمعجزة بلقاء المرأة مع يسوع، وخصوصاً لإعلان يسوع الأخير: "يا اينة، ايمانك خلّصك. إذهبي بسلام وكوني معافاة من دائك" (مر 5: 34). وهكذا كشف يسوع في ما عملته المرأة، إيماناً بشخصه ألهم مسعاها. قد يكون هذا الإيمان غامضاً، ولكنه كان ضرورياً. لهذا كان حاضراً في ما فعلته المرأة التي لمسته وهي مقتنعة أنها ستُشفى. وشُفيت.
ولكننا نلاحظ طريقة مرقس في إيراد الخبر: كان قد أشار في ما سبق إلى شفاء المرأة. ما أن لمست الرداء حتى "أحسّت في جسمها أنها برئت من دائها" (مر 5: 29). فلماذا يكرّر القول الآن؟ إن نهاية إعلان يسوع "كوني معافاة من دائك"، تثبت الشفاء الذي نالته هذه المرأة. ثم تبرز تعليماً يتوجّه إلى جميع المسيحيين عبر مسعى المرأة بما فيه من التباس: ما يُعطي الشفاء والخلاص ليس قوّة سّرية، بل كلمةُ يسوع والإيمان به.
ب- لوقا: إعلان خلاص
عرف لوقا طريقة مرض في الإخبار، فحاول أن يخفف بعض الشيء مما حسبه تنافر. ولكنه ظلّ قريباً من نموذجه. وجاءت هذه التحويلات التي قام بها تلقي ضوءاً جديداً على المشهد يوافق نظرة الإنجيليّ الدينيّة.
اهتمّ لوقا بتعظيم شخص المعلّم. فأفهمنا حالاً أن يسوع عرف من لمسه. وهو لا يحتاج أن يلتفت ليكتشف المريضة. ويعلن هو بنفسه أنه أحسّ أن قوّة خرجت منه. سمّاه بطرس بكل احترام: يا معلّم. ولم تكن عبارته قاسية مثل عبارة التلاميذ كما وردت في مر (ترى الجميع يزحمونك). اقتربت المرأة مرتجفة، ولكنها لم توجّه كلامها إلى يسوع، لأنه يعرف كل شيء. لقد جاء كلامها شهادة عن يسوع.
لقد أعلنت أمام الشعب كله الخير الذي غمرها به يسوع. ويجد خبر المعجزة ذروته في هذا الاعتراف العلنيّ بحنان المعلّم الذي أتاح لامرأة عانت من مرضها أن تحصل على الشفاء بشكل لم يدركه أحد. هنّأها يسوع من أجل إيمانها، وهو إيمان لا يقتصر على قوة تخرج من ثيابه (ترك لوقا ملاحظة المرأة: "إن انا لمست ولو ثيابه، برئتُ"، مر 5: 29)، بل يتوجّه بشكل مباشر إلى شخص المخلّص.
ج- متّى: فقاهة وتعليم مسيحيّ
اكتفى متّى بثلاث آيات ليروي المعجزة. امرأة مريضة منذ 12 سنة. اقتربت من يسوع ولمست طرف ردائه. التفت يسوع وأعلن الكلمات التي تُتمّ الشفاء. تجاه خبر مر الطويل، قدّم مت رسمة قصيرة. لم يصوّر المرض مع ملاحظة المرأة عن الأطباء. تجاهل وجود الجمع (هكذا يكون يسوع وحده مع هذه المرأة، راجع أيضاً وجوده عند حماة بطرس) مع أن العبارة "دنت من ورائه" تفترض أن الناس يتزاحمون حول يسوع. ولا يقول مت إن يسوع أحسّ أن قوّة خرجت منه. كما لا يذكر جدال يسوع مع التلاميذ. كل هذا لا معنى له في السياق الذي أورد فيه مت خبره.
افترض نصّ مت تقليد مر. ولكنه ليس ملخَّصاً له، بل نحن أمام تفسير جديد للحدث. كان مر ولو قد أشارا إلى شفاء المرأة حالما لمست رداء يسوع. أما في نظر متّى، فالشفاء تمّ بعد إعلان يسوع في النهاية: "ثقي يا ابنتي، إيمانك خلّصك". وبرئت المرأة في تلك الساعة (9: 22).
هذا التبديل قد يبدو بلا أهمية للوهلة الأولى، ولكنه في الواقع يحدّد موقع تعليم الخبر في مستوى آخر، في مستوى الفقاهة والتعليم. فليس لمس رداء يسوع هو الذي يمنح الشفاء. أغفل مت الحديث عن هذه القدرة السّرية التي تنبعث من صانع المعجزات، فألغى كل وساطة بين المريض ويسوع. وهكذا وجدت المرأة نفسها وجهاً إلى وجه مع مخلّصها. ولم يعد فعلها تعبيراً عن أمل بأنها تنتزع الشفاء خفية، بل صار علامة منظورة لإيمانها بذلك الذي يستطيع وحده أن يمنح الخلاص. لقد صار مسعى هذه المرأة صلاة. فأجابها يسوع: "إيمانك خلّصك". طلب الإيمانُ الخلاص. فتجاوبت مع هذا الإيمان كلمةُ يسوع القديرة التي تمنح الخلاص.
يرد فعل "خلّص" (سوزو) ثلاث مرات في هذه الآيات الثلاث. قالت المرأة: "لو لمست رداءه، خلصت" (شفيت) (آ 21). قال لها يسوع: "إيمانك خلّصك" (آ 22). وخلُصت المرأة (برئت) (آ 22). نحن هنا أمام أكثر من شفاء جسديّ. فهذا الشفاء الذي طلبته المرأة يمثّل ملء الخلاص الذي يطلبه المؤمن من المسيح. وهكذا تمثّل هذه المرأة التعيسة التي غرقت في المرض منذ 12 عاماً، جميع الخطأة الذين تمنحهم كلمة الله المقبولة بالإيمان، تحريراً من خطاياهم. لقد أوضح خبر مت النقطة الأساسيّة في الفقاهة المسيحيّة. ترك كل التفاصيل التي لا فائدة منها ليحفر في ذاكرة وقلب كل معمّد جديد هذا المسعى النموذجيّ الذي قامت به مريضة اقتربت من المسيح بإيمان. أجل، ما يفسّر ايجاز مت هو حاجات الفقاهة في كنيسته.

2- قيامة ابنة يائيرس
أ- مرقس: قدرة ابن الإنسان
ونجد هنا أيضاً خبراً طويلاً في مر مع تفاصيل عديدة. أما مت فاحتفظ بالعناصر الأساسيّة. لهذا نبدأ بدراسة نصّ مرقس.
أولاً: تفسير الخبر
ذهب يائيرس إلى يسوع يطلب منه شفاء ابنته. سأله أن يأتي ويضع يديه عليها. هذه فعلة تعرفها أيضاً أخبار الأشفية في العالم الوثني. وقد أمل بها نعمان السوري حيث ذهب إلى النبيّ اليشاع: يضع يده على المكان المريض (2 مل 5: 11). ويسوع نفسه وضع يديه مراراً على المرضى (مر: 5؛ 7: 22؛ 8: 23، 25).
آمن يائيرس بقدرة يسوع: مثل هذا المسعى من قبل وجيه في الجماعة اليهوديّة، يدلّ على إيمانه بأن يسوع وحده يستطيع أن يمنح ابنته الشفاء. غير أن مر لا يريد أن يشدّد على استعدادات الوالد. وحين أخبره خدّامه بموت ابنته، وطلبوا منه أن لا يزعج المعلّم بعد، لم تكن دعوة يسوع إليه بأن لا يخاف، بل بأن يؤمن فقط. لم تكن الدعوة شرطاً سابقاً لقيامة ابنته. فوراء طلب الخدّام، ندرك أن انتظار قيامة الفتاة كان أمراً مستبعداً (لم يقل مرقس شيئاً عن إيمان يائيرس في هذا المجال). كل ما طُلب منه هو أن لا يخاف، بل أن يؤمن أيضاً، أي أن يسلم ذاته إلى مبادرة يسوع.
حين وصل يسوع إلى البيت، أطلق الجمع وما ترك أحداً يرافقه سوى بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين كانوا شهود تجلّيه وسيكونون شهود نزاعه. واختيار هؤلاء التلاميذ الثلاثة يجعلنا ندرك أهمّية المعجزة التي ستتمّ. ونندهش حين نسمع كلام يسوع للبكائين الذين سبقوه واجتمعوا حول بيت الميتة: إن بكاءكم في غير محلّه. فالابنة لم تمت، بل هي نائمة. ما أراده يسوع هو أن يخفّف من عظمة المعجزة التي ستتمّ. لسنا أمام الموت ولا أمام المرض، بل أمام نومٍ عاديّ. فهزىء الحاضرون من كلامه، لا سيما وأنه لم يرَ الفتاة بعد. طرد الجمع فلم يبقَ في الغرفة التي ترقد فيها الصبية إلاّ والداها والتلاميذ الثلاثة. في العهد القديم حين شفى كل من إيليا واليشاع ميتاً، لم يسمحا لأحد بأن يشهد الحدث (مل 17: 19؛ 2 مل 4: 33).
والكلمة التي تلفّظ بها يسوع فاحتفظ لنا بها مرقس في اللغة الأراميّة، هي بسيطة جداً. وكذا نقول عن "صورة" القيامة نفسها: قامت الفتاة، وأخذت تمشي، فأمر يسوع بأن تُعطى طعاماً. يجب أن نرى في أمر يسوع هذا اللطف والحنان، لا البرهان على واقع القيامة. وهكذا أعاد يسوع الفتاة إلى الحياة اليوميّة.
وجاءت الخاتمة موافقة لمرقس: من جهة، دهش الجموع. ومن جهة أخرى، أمرهم يسوع بأن لا يخبروا أحداً. وهل يحتاج الناس إلى خبر بعد أن تيقّن البكاؤون من واقع الموت؟
ثانياً: مدلول الخبر
إن كلام الخدّام وصراخ البكّائين أكّد واقع الموت. ووجّه حضورُ التلاميذ الثلاثة وإبعاد سائر الشهود، تدوينَ النصّ فصار خبر قيامة. ولكن إعلان يسوع الذي لم يرَ في حال الصبية إلا نوماً ورقاداً، وبساطة كلماته حين ناداها، والأمر بالصمت، كل هذا بدا وكأنه يريد أن يخفي الطبيعة الحقيقيّة للحدث. فإن قرأنا فقط نصّ مر، ولم نوضحه بنصّ مت ولو اللذين شدّدا على واقع الموت، نبقى في الشكّ حول الطبيعة الحقيقيّة للمعجزة: قيامة أم شفاء من رقاد نواميّ؟ ما هو أكيد هو أن مر أراد أن يروي لنا خبر قيامة، ولكنه أراد أن يظلّ في الالتباس. يجب أن نحسب حساب هذا الطابع لكي ندرك حقّ الإدراك مدلول الخبر.
هناك تعارض بين موقف الخدّام والبكّائين من جهة، وموقف يسوع من جهة ثانية. يرى الأولون أن كل شيء قد انتهى، فلماذا إزعاج المعلّم بعد؟ لم يبق لنا إلا البكاء والولولة. وكلمات يسوع التي تحاول أن تنعش الرجاء، تحرّك هزء الذين لا يؤمنون، ولكن في نظر يسوع وتلاميذه، لا يمكن أن يكون الموت أمراً نهائياً.
من يسمّي الموت رقاداً (نوماً)، يخفّف من خطورته. ولكن في نظر المسيحيّين، الموت هو حقاً رقاد يوقظنا منه المسيح. لقد رقدوا في المسيح (1 كور 15: 18؛ 1 تس 4: 14) الذي سيقيمهم. قال يسوع (يو 11: 11): "صديقنا لعازر نائم، وأنا ذاهب لكي أوقظه". بالمعموديّة يقوم المسيحيّ من رقاد الموت الذي انحدر إليه، ويؤمن أن روح الربّ يعيد الحياة إلى جسده المائت في اليوم الأخير. وموضوع الموت الذي اعتبر رقاداً، نجده في نشيد مسيحيّ قديم استعمل في ليتورجية المعموديّة: "استيقظ أيها النائم، وقُم من بين الأموات، والمسيح يضيء لك" (أف 5: 14).
في هذه الآية البولسيّة، نجد لفظتين نجدهما في الخبر الذي ندرس: استيقظ (اغايراين)، قام (انستناي). اسُتعمل الأول أيضاً في الأناجيل ليدلّ على الشفاء (مت 8: 15: نهضت وقامت تخدمهم)، لأنهم رأوا في هذا الشفاء استباقاً لقيامة المسيحيّ، كما رأوا فيه القيامة نفسها. نقرأ في 10: 8 وصايا يسوع لتلاميذه: "إشفوا المرضى، أقيموا الموتى". وفي 11: 5 ما قاله يسوع لتلميذي يوحنا حول مسيحانيّته: "العمي يُبصرون... والموتى يقومون". رج 14: 2؛ 17: 9؛ 27: 64؛ مر 6: 14؛ 12: 26؛ 16: 4. والفعل الثاني (قام) يدلّ على قيامة لعازر مثلاً (يو 11: 23- 24) أو قيامة يسوع (17: 9، 23؛ مر 9: 9، 31؛ لو 9: 22؛ 18: 33؛ 24: 7؛ يو 20: 9).
هاتان اللفظتان النموذجيتان اللتان بهما تعبرّ الفقاهة المسيحيّة عن قيامة المسيح، وقيامة المسيحيّ في العماد، تقدّمان لنا مدلول معجزة الربّ هذه. فالمعجزة تدلّ على قدرة ابن الإنسان على الموت، وتعلن انتصاره النهائي عليه. وفعلة يسوع (أخذ يد الصبيّة) تدلّ على أكثر من لمس به اعتاد يسوع أن يشفي المرضى. أنه يشير إلى تدخّل يد الله القديرة في عمل الخلاص. هنا نقرأ أش 41: 13: "فأنا الربّ إلهك أمسكك بيدك اليمنى وأقول لك: لا تخف فأنا آتٍ لمساعدتك".
أجل، لا يملك الموت بعد اليوم على الإنسان بطريقة لا رحمة فيها. إنه رقاد فيه تتجلّى قدرة يسوع فتنتزع الإنسان منه وتعيده إلى الحياة.
إن قيامة الموتى جزء لا يتجزّأ من الآمال المسيحانيّة (أش 26: 19؛ دا 12: 2). ولكن هذا اليقين لم يتركز بعد بشكل ثابت في مجمل الجماعة اليهوديّة في زمن يسوع: أخذ به الفريسيّون. أما الصادوقيون فرفضوه وهم الذين "يقولون بعدم القيامة" (أع 22: 8). هذه العقيدة هي أحد العناصر الرئيسية في كرازة يسوع الذي سيورد لتلاميذ يوحنا المعمدان قيامة الموتى بين الآيات التي تدلّ على مجيء الأزمنة المسيحانيّة (11: 4- 5؛ لو 7: 22). والانتصار التام على الموت الذي هو آخر عدوّ يدمّر (1 كور 15: 26) يدلّ على إقامة الملكوت في ملئه.
وتشكّل قيامة ابنة يائيرس باكورة هذا الانتصار. بعد اليوم حلّ الخلاص للبشر في شخص يسوع. وحضور التلاميذ الثلاثة الذين سيكونون الشهود الرئيسيين لقيامة المسيح، في هذا الحدث، وكعواميد في الكنيسة، يدلّ على قيمة هذه المعجزة ومدلولها.
فقيامة الموتى، شأنها شأن الحرب على الشياطين وشفاء المرضى، هي منذ الآن علامة حضور العمل الإلهيّ الذي يفعل بواسطة يسوع فيعطي الخلاص للبشر. ولكن قيامة يسوع وحدها تستطيع أن تنير بنورها هذه المعجزة: فأي معنى لقيامة تكون موقتة لو لم يكن للمسيحيين رجاء بالقيامة النهائية؟
إن الطابع الملتبس لهذه المعجزة، كما "سبّبه" إعلان يسوع، يُفهم على ضوء موقفه خلال حياته: أراد في الوقت عينه أن يظهر على أنه المسيح، وأن يخفي كرامته المسيحانيّة. وما كان للحدث أن يظهر في طبيعته، منذ ذلك الوقت، على أنه قيامة بالمعنى الذي يعطيه المسيحيّون لهذه الكلمة. فالذين هزئوا من يسوع لن يستطيعوا يوماً أن يؤمنوا بقيامة الموتى إن لم يؤمنوا بقيامته.
أما بالنسبة إلى بطرس ويعقوب ويوحنا الذين سيكونون الشهود الرئيسيّين لقيامة يسوع، فسيدلّ هذا الحدث على انتصار يسوم على الموت. كانوا منذ ذلك الوقت شهوداً مميّزين لهذا الانتصار الأول للمسيح، واستطاعوا أن يقرأو في قيامة ابنة يائيرس، إعلاناً لقيامة جميع المسيحيين في المسيح. ولكن حتى يوم الفصح والقيامة، لن يظهر عمل ابن الإنسان وشخصه في ملء نوره. لهذا، لا بدّ من الانتظار.
ب- لوقا: حنان المخلّص
في نصّ لو الذي هو قريب بعض الشيء من نصّ مر، نجد خبراً واضحاً عن القيامة. لقد فهم يسوع ما جاء الخدّام يُعلمون به سيّدهم. وإن هزىء الناس به، فلأنهم تأكّدوا أن الصبية ماتت حقاً. وحين قال يسوع: "يا صبيّة قومي"! رجعت روحها إليها. أخذت هذه العبارة الأخير، من خبر قيامة ابن ارملة صرّفت صيدا بيد إيليا (1 مل 17: 22).
وشدّد لو على الحدث حين قال إن الصبيّة كانت وحيدة لوالديها، فحرّك شعورنا. وهكذا دلّت المعجزة، مرّة أخرى، على حنان المخلّص من أجل أب تعيس، وعلى قدرته لكي يقيم الموتى.
ج- متّى: قوة الإيمان
ونكتشف هنا أيضاً أهميّة الفقاهة عند مت. ففي خبر مر، احتلّ سرّ شخص يسوع المستوى الأول من وجهتَي القدرة والخفاء. أما مت فأبرز صورة الأب.
هذا الرجل الذي جاء إلى يسوع، لم يطلب منه أن يشفي له ابنته بل أن يقيمها: صلاة لم يُسمع بها أبداً. إن ابنته قد ماتت حقاً. ولا يوجز الإنجيلي النصّ اطلاقاً فيلغي التفاصيل كما فعل في شفاء النازفة لكي لا يشتّت انتباه القارىء عن المعجزة نفسها. بل لقد أراد أن يشدّد في الحدث نفسه على درس آخر يتركّز على الحياة المسيحيّة.
منذ بداية الخبر، أوضح مت إيضاحاً تاماً إيمان هذا الرجل الذي جاء يطلب من يسوع أن يقيم له ابنته. لا حاجة إلى ذكر هذا الايمان، لأنه جليّ واضح. وهو يتفوّق على إيمان قائد المئة الذي جاء يتوسّل من أجل شفاء خادمه، والذي نال جواباً من يسوع: "الحق أقول لكم، لم أجد هذا الإيمان عند أحد في إسرائيل" (8: 10).
حين طلب الأب، لم يجب يسوع بكلمة. فلا شيء يحوّل أنظارنا عن هذا اللقاء بين المؤمن وذلك الذي سجد أمامه المؤمن. في خبر شفاء عبد قائد المئة، أورد مت أيضاً حواراً مباشراً بين الضابط ويسوع. أما في لو 7: 1- 10، فالضابط يطلب الشفاء بواسطة شيوخ اليهود ويعلن إيمانه بواسطة أصدقائه. في هذا السياق نفهم (كما في مت) عمل الأب الرائع أمام يسوع كفعل سجود. تجاه هذا الإيمان منح يسوع الخلاص وأقام الميتة.
إذا قابلنا خبر مت مع خبر مرقس، نحسّ وكأننا أمام رسمة سريعة. فهذه الوحيدة ظلّت بلا اسم. وعمر البنيّة لم يُوضح. والتلاميذ لا يحضرون المشهد، لا هم ولا الوالدان. وفي تحقيق المعجزة لا نسمع كلمة من يسوع. وأخيراً لا يطلب يسوع أن تعطى الصبية التي قالت طعاماً. ولكن بدلاً من أن يفرض يسوع الصمت، ترك الخبر ينتشر: "فذاع هذا الخبر في تلك المنطقة كلها".
فالجزاء المعطى لذلك الإيمان لا يمكن أن يبقى خفياً. فالإيمان يستطيع أن يحرّك الجبال (17: 20). وهو يتيح لمن يؤمن أن ينتصر على الموت بقدرة يسوع. في هذا المعنى اتجه خبر مت. وإذ نزع كل صفة شخصيّة عن الحدث، وإذ جرّده من كل الصور، أعطى "روايته" قوّة لا نجدها إلا في استنتاج عام يتوجّه إلى جميع المسيحيين: الإيمان بالمسيح يجعلنا نعبر من الموت إلى الحياة. الموت هو رقاد ينتزعنا منه المسيح. وهذا الخبر، شأنه شأن الخبر السابق، قد بُني بحسب رسمة خاصة لكي يتجاوب مع حاجات الفقاهة في الكنيسة التي عرفها متّى.
يُطرح هنا سؤال حول واقع هذه القيامة. لقد شدّد مت ولو على واقع الموت، وهذا ما لم يفعله مر. كلاهما عرفا تقليد مر وقدّماه بطريقتهما الخاصة. لهذا نعود إلى مر. فخبر الحدث يرتكز على تذكّر محدّد احتفظت به الجماعة كما احتفظت باسم والد الصبيّة. ويرافق شفاء المريضة قيامة الصبيّة. هذا ما نجده أيضاً في التقليد. فلماذا "أخفي" تقليد مت، بعد أن روى بوضوح قيامةً، بحيث تولّد شكّ حول طبيعة المعجزة؟
قدّم مر المعجزة على ضوء الفصح، ولكن بدون تضخيم، وبدون أن يخفف السمات التي تقود إلى "ليتارجيا" إلى نوم طويل قد يدلّ على الموت. فقد أعلن يسوع أن الصبيّة لم تمت، ولكنها نائمة. حين تلفّظ يسوع بهذه الكلمة، لم يكن بعد قد رأى الفتاة، وهو ما أراد أن يفعل كالطبيب فيشخّص المرض. حينئذٍ نستطيع أن نقول إن يسوع تحدّث عن نوم عميق أو موت حقيقيّ. ولكننا لا نستطيع أبداً أن نعرف بماذا كان يسوع يفكّر. أما رفعنا بالأحرى على مستوى الإيمان فأفهمنا أن الموت هو رقاد. على كل حال، هكذا فهمته الكنيسة الأولى وكنيسة متّى أيضاً. فكانت قيامة الصبية صورة مسبقة عن قيامة كل مؤمن في المسيح.
ونفهم مرة أخرى أن منظار الكتاب المقدّس هو منظار دينيّ في جوهره، وهو يتوجّه نحو تعليم الإيمان. لم تطرح الكنيسة الأولى سؤالاً حول ما حصل بالضبط في ذلك الوقت. كل هذا يدلّ على فضوليّة مريضة. فلماذا نحاول نحن اليوم أن نجد جواباً غير جواب الإيمان أمام عظمة كلام يسوع الذي يشفي المرضى ويقيم الموتى فيدلّ لا على أنه المسيح المنتظر وحسب، بل على أنه الابن الذي يفعل مثل الآب فيقيم الموتى ويحييهم.

خاتمة
لقد دلّت دراسة هاتين المعجزتين كيف أن حدثاً من أحداث حياة يسوع قد تلقّى ضوءاً جديداً عند كل من الإنجيليين الثلاثة. اختلفت وجهاتهم بالنظر إلى الكنيسة التي كانوا فيها واليها توجّهوا، بالنظر إلى روحانيّة كل واحد منهم. بالنظر إلى الهدف الذي وضعوه أمامهم، لا سيّما مت الذي أراد أن يقدّم تعليماً لأعضاء الكنيسة حول قيامة الموتى كما أعلنها الفريسيون ورفضها الصادوقيون. "ثلاثة" أخبار، ولكن الروح الواحد هو الذي ينيرهم فيعطي كل واحد بأن يدرك وجهة من حياة يسوع، وهكذا ينكشف سرّ المسيح في ملئه للكنيسة من خلال صور ثلاث أو بالأحرى صور أربع هي أناجيلنا الأربعة، إنجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM