المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل السابع والثلاثون: الجديد والقديم

الفصل السابع والثلاثون
الجديد والقديم  9: 14- 17

موضوع الجديد والقديم أو الجدال حول الصوم نجده في الأناجيل الإزائية الثلاثية (9: 14- 17؛ مر 2: 18- 22؛ لو 5: 33- 39). إن هذا الحدث هو جزء من خمس مجادلات جليليّة: شفاء مخلّع كفرناحوم، طعام مع العشّارين، جدال حول الصوم نقرأه الآن، السنابل المقطوفة يوم السبت، شفاء الرجل اليابس اليد (مر 2: 1- 3: 6 وز). تحدّدت هذه المجادلات في بداية رسالة يسوع العلنيّة، فقابلتها مجادلات أخرى حصلت في نهاية رسالة يسوع، في أورشليم (مر 11: 27- 12: 40 وز): سؤال حول سلطة يسوع، الجزية الواجبة لقيصر، قيامة الموتى، الوصيّة العظمى، أصل المسيح. في الحالتين، في مجادلات الجليل وفي مجادلات أورشليم، نحن أمام أخبار "دوّنت" (خطياً أو شفهياً) قبل أن تدخل في التقليد الإزائيّ. فمن الغريب أن نلاحظ وجود الهيرودسيين في هاتين المناسبتين (مر 3: 6؛ 12: 13= مت 22: 16).
نجد هذه المجادلات الجليليّة الخمس في الأناجيل الإزائية الثلاثة وقد وُضعت في الترتيب عينه. غير أن مت جعل الثلاث الأولى في ف 9 (شفاء المخلع، دعوة متى، جدال حول الصوم) والمجادلة الرابعة والمجادلة الخامسة في ف 12 (آ 1- 14: السنابل، صاحب اليد اليابسة).
نتوقّف هنا عند الجدال حول الصوم الذي يتبعه كلام يسوع حول اختطاف العريس. على المستوى التعليميّ، نعرف أن يسوع هو المسيح المتسامي. وهو يُدعى في الوقت عينه ليحقّق شكلاً من المسيحانيّة، هو شكل التواضع، كما تنشده قصائد عبد الله المتألّم. وُلد هذا "الحدث" في قلب الكنيسة فتكوّن من مواد وُعظت قبل أن تدوّن. من هذا القبيل نعرف أن أقوال الرب وأعماله قد تكيّفت وحاجات الجماعة أو استعملت لتحلّ مسائل مطروحة على المسيحيّين.
نبدأ بدراسة المسائل الأدبيّة، ثم نعود إلى تفسير النقاط الهامة، وننهي مع الناحية التاريخيّة.

1- المسائل الأدبيّة
لن نفصل المقطع عن الصوم (142- 15) عن مثليَ الثوب العتيق والزقاق البالية (آ 16- 17). فالازائيون الثلاثة قد اتفقوا على جمع هذين المقطعين. ونبدأ دراسة المسائل الأدبيّة بالتوقّف عند خصائص كل من مت ومر ولو. ثم عند العلاقات المشتركة بين النصوص الثلاثة.
أ- خصائص النصّ المثلث
يبدو نص مرقس (2: 18- 22) أطول من نص مت ولو. يبدأ بعبارة: كانوا يصومون (لا نجدها في مت ولو). قد يكون أن تلاميذ يوحنا والفريسيّين كانوا في ذلك اليوم صائمين من أجل ظرف خاص (ربما تذكّر موت يوحنا المعمدان). وقد يكون أنهم اعتادوا أن يصوموا. في نهاية آ 19 نقرأ شيئاً خاصاً بمرقس: "ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا". هذه العبارة هي تكرار لما قيل قبل ذلك. وفي آ 22 هناك إمكانيتان. إما: "تُتلف الخمر والزقاق". وإما: "يراق الخمر وتتلف الزقاق" وهكذا يكون نصّ مر مثل نص مت ولو.
استعمل مت 9: 14 الأداة: "توتي" (حينئذ)، لكي يربط حدث الصوم بالوليمة عند لاوي. فالعشّارون المحتقرون لدى الفريسيين فرشوا موائدهم ساعة كان الناس صائمين. وقال آخرون إن الاداة "توتي" هي عبارة عن أسلوب أدبيّ عند مت (ترد 92 مرة عنده، 6 مرات عند مر، 15 عند لو). لا نطلب من هذه الأداة رباطاً كرونولوجياً بل رباطاً أدبياً. ومن هم الذين سألوا يسوع؟ تلاميذ يوحنا. في آ 15، لا يقول يسوع إن رفاق العريس لا يستطيعون أن يصوموا، بل يجب أن لا يحدّوا (يلبسون الحداد) (بانتاين) ما دام العريس معهم.
وكان لو أوضح من مت فربط حدث الصوم بالوليمة عند لاوي (5: 33). لام الفريسيون والكتبة تلاميذَ يسوع، لأنهم يأكلون مع العشارين والخطأة، فأجابهم يسوع: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الصدّيقين بل الخطأة إلى التوبة" (5: 31- 32). وهكذا ندخل في السؤال حول الصوم، ويبدو أن الجدال امتدّ بدون انقطاع. إذن، فالذين سألوا يسوع هم الفريسيون والكتبة. وتحدّثوا لا عن صوم تلاميذ يوحنا الآن (كما فعل مر)، بل عن أصوامهم المتواترة (نقرأ في بعض المخطوطات: يصومون كثيراً). وزادوا شيئاً غير متوقّع (وهو خاص بلوقا): "ويواظبون على الصلاة".
وفي آ 33، بدا الشكل الذي اتخذه جواب المسيح، كانتقاد مباشر للفريسيين الذين يظنون أنهم يستطيعون أن ينظموا كل شيء. قال: "هل تستطيعون أن تجعلوا رفاق العريس يصومون"؟ ولم يقل: "هل يستطيع رفاق العريس أن يصوموا" (كما في مر)؟ ويقدّم لو مثل اللباس في شكل غريب: يفترض مت ومر أنه قد استعملت قطعة قماش جديدة (لم تُغسل، لم تبحَّر) لترقيع ثوب ممزّق، وذلك بدون انتباه. وهذا ما يحصل في الحياة العادية. أما لو فافترض أننا نمزّق ثوباً جديداً لنرقع ثوباً عتيقاً، وهذا ليس بمعقول.
ب- العلاقات المشتركة
أولاً: بين مرقس ولوقا
من الواضح أن نصّ الانجيل الثالث قد حوّل نصّ مر. وبناء مر 2: 18 يجعلنا نتساءل: هل نحن أمام عادة الصوم، أم أمام صوم في ظرف معيّن؟ تحدّث لو عن عادة الصوم فقدّم الحلّ. في الانجيل الثاني، لا نجد رباطاً كرونولوجياً وجغرافياً. فجعله لو في بيت لاوي وجعله في مناسبة الوليمة الكبرى التي قدّمها هذا العشار ليسوع (5: 29). وهكذا لا يتناسق "في ذلك اليوم" (بداية مر 2: 20) مع "تأتي أيام" (نهاية الآية). أما لو فألغى هذا اللاتناسق وجعل الجمع فقال: "في تلك الأيام يصومون". في الانجيل الثاني، زيد المثلان عن الثوب والزقاق، على الجدال حول الصوم. أما لو فلحمهما مع الجدال بهذه الكلمات: "وقال لهم أيضاً مثلاً آخر"، وكأنه نسي أن ما سبق كان مثلاً.
إذا كان لو قد بدّل معطيات مثَل الثوب (نمزّق ثوباً جديداً لنرقع العتيق)، فلأنه أراد أن يُبرز الرباط مع السياق السابق والسياق اللاحق؛ استعملت قطعة القماش الجديدة (في مر ومت) لترقع الثوب العتيق، وهذا أمر قليل الأهميّة. أما الثوب الجديد الذي يتكلّم عنه لو، فهو التدبير الجديد، فهو كلام يسوع حول زمن العرس، أو الخمر الجديدة التي توضع في زقاق جديدة. في آ 22، وضع مر فعلاً واحداً (ابوليتاي) تتلف الذي يوافق الزقاق لا الخمرة. أما لو فوضع فعلين مختلفين: تراق الخمر، وتتلف الزقاق.
وفي هذه الآية عينها، أدخل مر معترضة (وإنما) في بداية الجملة. وهكذا لم تعد تحتاج النهاية إلى فعل آخر غير ما في البداية: لا يضع أحد الخمرة الجديدة في زقاق بالية، ولكن (توضع) الخمرة الجديدة في زقاق جديدة. أما لو فلم يحسب "وإنما" كأنها معترضة. ولهذا كرّر الفعل في النهاية: "توضع الخمرة الجديدة في زقاق جديدة".
ثانياً: بين مرقس ومتّى
ما هي العلاقة بين مر ومت؟ هناك من يجعل الأولويّة لمرقس، وآخرون يجعلون أقلّه مت الاراميّ قبل مر. وهناك من يقول إن مت سبق لو حين جعل من سائلي يسوع تلاميذ يوحنا فقط. أما مر فنسب السؤال إلى تلاميذ يوحنا والفريسيين، أو إلى أناس لا هويّة لهم إذا اعتبرنا الجمع في "جاؤوا يقولون" وكأنه صفة لا شخصيّة (جاء من قال). يبدو أن تلاميذ يوحنا هم الذين طرحوا السؤال. أما الفريسيون فيُذكرون مراراً في الأناجيل، وتلاميذ يوحنا لا يذكرون إلا هنا في الأناجيل الإزائية الثلاثة. في مت ولو، سيأتي اثنان منهم يحملان رسالة من يوحنا إلى يسوع (أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟).
وهناك حاشية من مت تبدو أصيلة. فعل "بنتاين" (9: 15). هل يستطيع رفاق العريس أن يكونوا في الحداد (لا: أن يصوموا)؟ قد نكون مع الاراميّة "ع ن ه" الذي يعني حدّ، وصام.

2- تفسير النصّ
تبدو المقطوعة حول الصوم بسيطة. ولكن هناك في الواقع صعوبات. نبدأ مع السؤال الذي طُرح على يسوع. ثم القسم الأول من جواب يسوع، أي لماذا لا يتوافق وضع التلاميذ الحاليّ مع الصوم. وأخيراً القسم الثاني من جواب يسوع، أيّ في أي معنى يفرض الوضع المقبل على التلاميذ أن يصوموا.
أ- السؤال المطروح على يسوع
في لوقا سئل يسوع حول الصوم خلال وليمة عند لاوي. وأشار مت إلى ذات العلاقة الكرونولوجيّة كما تدلّ على ذلك "توتي" (حينئذ) في آ 14 (في آ 18 يقوم يسوع كي ينهض ابنة يائيرس. يبدو أنه ترك قاعة الوليمة، رج آ 18: إذ قال هذا).
من المعقول أن تكون الفقاهة هي المسؤولة عن التقريب بين الحدثين: اكتشفت علاقة بينهما مع أنهما في الواقع مختلفان جداً: في الحالة الأولى، لا يسبّب الغداء شكاً إلاّ لأنه يتمّ مع الخطأة. في الحالة الثانية، يُطرح السؤال حول شرعيّة الطعام في حدّ ذاتها ساعة يكون الناس صائمين. بما أن هذا الحدث الأخير الذي لم ترد لنا ظروفه يفترض تمييزاً بين تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع، دون أن تنفصل المجموعة عن الأخرى بشكل تام، نستطيع القول إن الحدث لا يرتبط بأولى أيام حياة يسوع العلنيّة بل في مرحلة متقدّمة بعض الشيء.
من هم أصحاب السؤال المطروح على يسوع، ومع من تعارض تلاميذه؟ جعل لو السؤال في فم هؤلاء الفريسيين والكتبة أنفسهم الذين تشكّكوا الساعة حين رأوا يسوع يأكل مع العشّارين والخطأة (5: 30). أن يكون الفريسيّون قد صُدموا لأن يسوع لم يأخذ بممارساتهم للصوم، فالأمر معقول جداً. لهذا اتفق الازائيون الثلاثة على القول بأنهم انضموا إلى تلاميذ يوحنا في طرح السؤال على يسوع. غير أن مت ينسب هذا السؤال بشكل حصريّ إلى تلاميذ يوحنا. لهذا، يُفرض علينا أن نختار بين لو ومت. ولكن لو يأتي في مرحلة ثانية. قال إن الفريسيّين هم الذي سألوا يسوع، ومع ذلك تحدّث عن الفريسيّين في صيغة الغائب. وفي 5: 30، كان الانجيلي قد أرانا الفريسيين وهم يلومون تلاميذ يسوع لأنهم يتعاملون مع الخطأة. لم يهاجم الفريسيون التلاميذ مباشرة، فاتخذوهم شهوداً على سلوك معلّمهم، أنظروا بأنفسكم: إنه يأكل مع العشّارين.
ماذا نقول عن معطيات مرقس؟ يتضمّن نصُّه شيئاً غريباً: يُذكر تلاميذ الفريسيين مع تلاميذ يوحنا. "لماذا يصوم تلاميذ الفريسيين وتلاميذ يوحنا"؟ لقد ألّف الفريسيون حزباً، ولكنهم لم يكونوا مدرسة. لم يكن لهم تلاميذ بحصر المعنى. هنا نستطيع القول إن لفظة "الفريسيّين" هي زيادة تدوينيّة تبرّر إدخال المقطوعة في سلسلة من جدالات يسوع مع الفريسيين. أما في الأصل، فالتعارض كان بين تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع. لا شكّ في أننا هنا أمام فرضيّة وإن كانت معقولة... إنه لمن الصعب أن نتصوّر اجتماع فئتين مختلفتين كل الاختلاف: تلاميذ يوحنا والفريسيّون.
هنا نصل إلى نصّ متّى الذي ينسب إلى تلاميذ يوحنا وحدهم السؤال الذي طُرح على يسوع. ولكن هذا لا يمنع الفريسيين من أن يُذكروا هم أيضاً في السؤال. هذا ما جعل الشرّاح يعتبرون أن هذه المعطية هي أولانيّة. في مت فقط، يتبدّل محاورو يسوع بشكل طبيعيّ مع الموضوع المعالَج: موضوع الطعام مع العشارين والخطأة يعالجه الفريسيون (9: 10- 13). موضوع الصوم يعالجه تلاميذ يوحنا، ذاك المتنسك الكبير (9: 14- 17). نحن هنا أمام مجموعتين انفصل عنهما تلاميذ يسوع بعد أن كانوا قريبين منهما: فالفريسيّون يمثلون الشعب المختار، واليوحناويون يمثّلون الجماعة العماديّة. اختلف تلاميذ يسوع كل الاختلاف عن تلاميذ الرابانيين، فوجدوا في تلاميذ يوحنا من فتح الطريق أمامهم.
ب- إعلان يسوع
أولاً: يجب على التلاميذ أن لا يصوموا اليوم
يؤكّد الشقّ الأول من إعلان يسوع أن الوضع الحاليّ لتلاميذه لا يتوافق مع الصوم. "هل يستطيع رفاق العريس أن يصوموا (مت: أن يكونوا في الحداد) والعريس معهم"؟ من الواضح أن هذا السؤال يطلب جواباً سلبياً. كلا، لا يجب أن يصوموا. ولكن لا حاجة إلى الإيضاح. ومع ذلك قال مر 2: 19 ب: "لا يستطيعون أن يصوموا". لقد غابت هذه العبارة من بعض المخطوطات ولا سيّما السريانيّة البسيطة، ولكن يبدو أنها صحيحة وهي في محلّها (هناك تكرار يصومون. وقد سقط فعل من الفعلين). على كل حال، اعتاد مر أن يكرّر عباراته، وكأنه بذلك يريد أن يشدّد على أمر من الامور. مثلاً، نقرأ في 1: 32: "فدنا وأخذ بيدها وأنهضها، ففارقتها الحمى. فأخذت تخدمهم". وفي آ 45: خرج الابرص "وطفق ينادي في كل مكان ويذيع الخبر". في 2: 8- 9: فأدرك يسوع ما يجول فيهم من الأفكار فقالت لهم: "لمَ هذه الأفكار" (11: 16؛ 12: 23، 11، 24، 13: 19)؟
إن كلمات السؤال "حين يكون العريس معهم" تركّز الانتباه على زمن الأعراس وحضور العريس، بدون أي تلميح إلى ما سيحدث في ما بعد. غير أن الجواب السلبيّ (لا يصومون) الذي يتبع، يزيل كل التباس في المعنى: لا يستطيعون أن يصوموا ما دام العريس معهم؟ وهذا ما يجعلنا نظنّ أنه سيتركهم وحينئذ يصومون.
إن عبارة "رفاق العريس" تبدو بشكل حرفيّ: بنو العرس. بنو قاعة العرس. فلفظة "ابن" في اللغة الأراميّة تدلّ على علاقة مع شيء ما. "ابن الموت" يعني الذي يستحق الموت أو الذاهب إلى الموت. ابن مئة سنة أي عمره مئة سنة. نجد في الأناجيل: ابن الرعد، ابن جهنم، ابن هذا الدهر، ابن القيامة. و"أبناء قاعة العرس" هم إمّا كل المدعوّين إلى العرس، وإما الشباب الذين يرافقون العريس خلال العيد (قض 14: 11). يقوم دورهم بأن يزرعوا الفرح وسط المدعوين، لهذا فهم يُعفون من الصوم. عليهم أن يأكلوا ويشربوا مع الجميع من أجل جوّ العيد.
أن يكون يسوع قابل حضوره وسط البشر بالاحتفال بزواج يكون هو فيه العريس، وتلاميذه رفاق العريس، فهذا واقع له بُعد كبير. نستطيع أن نقرّب هذا النصّ من نصوص عديدة عند الإزائيّين أو يو، وهي تعبّر كلها عن ذات الفكرة الأساسيّة: "مع مجيء يسوع قد تدشّن زمن الخلاص المسيحانيّ". فزمن حضور يسوع وسط البشر هو زمن السعادة الذي أنبأ به أش 35: 5- 17، ساعة يُشفى العميان والصمّ والعرج والخرس، ساعة تسيل المياه الحيّة (11: 5= لو 7: 22؛ يو 4: 14، 7: 37- 39). هو زمن الخلاص الذي فيه يسمع المساكين والبؤساء البشارة، وفيه تُفتح السجون كما في أش 61: 1- 2 (لو 4: 18- 19). لقد انتهى العالم القديم: إنه يشبه لباساً عتيقاً لا يستحقّ أن نرقعه، أو زقاقاً بالية لا تجد من يستعملها (مر 2: 21- 22 وز). وحين جاء المسيح وسط البشر، حمل إليهم بهجة أيام العرس. فالخمرة الجديدة تجري أنهاراً (يو 2: 1- 11). ونضجَ الحصادُ الوفير الذي يحتاج إلى عمّال (9: 37= لو 10: 2؛ يو 4: 35- 38). والتينة التي تعرّت في الشتاء وبدت مائتة، عاد إليها الاخضرار وتغطّت بالورق (مر 13: 28).
كل هذا نتيجة مجيء المخلّص في نهاية الزمن. فيسوع هو الراعي الذي يجمع الخراف المشتّتة (15: 24؛ لو 12: 32؛ يو 1: 1 ي؛ 21: 15- 17)، والطبيب المرسل إلى المرضى ليشفيهم (مر 2: 17 وز، يو 5: 6؛ 9: 6، 7)، والمعلّم الذي يُرشد تلاميذه إلى أسرار الملكوت وإرادة الله (11: 25- 27؛ لو 10: 21- 22؛ لو 3: 11؛ 6: 44- 45)، والمرسل الذي يدعو البشر إلى الوليمة المسيحانيّة (8: 11؛ 22: 2- 10؛ لو 14: 5- 24، يو 6: 1 ي)، والمهندس الذي يشيّد معبد نهاية الأزمنة (16: 18؛ مر 14: 58؛ يو 2: 19)، والملك الذي يدخل دخول الفرح إلى مدينته المقدّسة (مر 11: 1- 10 وز). إن معظم هذه الصور، بما فيها صورة العرس التي ندرس الآن، كانت تقليديّة لدى الأنبياء لكي تدلّ على سنة النعمة (يوء 4: 13؛ هو 14: 5؛ زك 9: 9- 10؛ حز 34: 1 ي؛ إر 31: 3- 33؛ أش 26: 16- 17؛ 53: 13...) إستعادها يسوع لكي يطبّقها على نفسه. وهكذا أعلن أنه جاء يحمل إلى البشر الخلاص النهائيّ.
وكيف نحدّد الفنّ الأدبيّ للسؤال الذي طرحه يسوع: "هل يستطيع رفاق العريس أن يصوموا ما دام العريس معهم"؟ رأي أول: هناك مقابلة بسيطة: ليس من المعقول أن نفرض الصوم على أناس يشاركون في العرس. كذلك يستحيل أن نجعل تلاميذ يسوع يصومون ساعة يحمل إليهم معلّمهم فرح الخلاص النهائي. وهناك رأي ثان يتردّد في إعطاء العريس تسمية المسيح الاستعاريّة. يقول: إن جواب يسوع هو سؤال يعارض سؤالاً بحسب طريقة الجدالات الرابانيّة. ينطلق من واقع يقول إن الرابانيين يمنعون الصوم أيام السبت والأعياد. ولا يقول يسوع فقط عن الزمن الحالي إنه يوم عيد، بل هو يوم عرس. ويستبعد الصوم ما زال العرس قائماً. وصورة الخلاص في صورة زواج تعود إلى هوشع... ومجيء يسوع يتوافق مع بداية الأعراس التي تجعل الصوم يتوقّف ويفرض البهجة على تلاميذ يسوع.
ويأتي اعتراض يقول إن العهد القديم (والعالم اليهوديّ المتأخّر) احتفظ بلقب العريس ليهوه (الرب) لا للمسيح. ولكنهم نسوا مز 45 الذي فُسّر في زمن مبكر تفسيراً مسيحانياً. ولا ننسى نشيد الأناشيد حيث يهوه هو عريس شعبه، ولكن حيث لا يغيب شخص المسيح. وإذا عدنا إلى الأناجيل نجد أن يسوع نسب إلى نفسه مراراً ألقاباً ووظائف محفوظة ليهوه في العهد القديم. وهكذا فعبارة "والعريس معهم" لا تليق بأعراس عاديّة حيث ينتهي العيد بذهاب المدعوّين لا بذهاب العريس.
ونستطيع القول، والحزن (لا التنسّك) هو معنى جواب يسوع حوله الصوم، إن تلاميذ السابق قد ظنّوا بسبب العلاقات الوثيقة بين المعمدان ويسوع، أنه يحقّ لهم أن ينتظروا من تلاميذ يسوع أن يشاركوهم في صيامهم. فقال لهم يسوع ما معناه: لم يكن معلّمكم (الذي كان مصيره مؤلماً) العريس المسيحانيّ الحقيقيّ. أما الآن فقد دقّت ساعة الخلاص النهائيّ والعريس المسيحانيّ هو هنا. وزاد يسوع ما سوف نشرحه: وهذا العريس بدوره سوف "يُخطف" مثل معلمكم. في ذلك اليوم يصوم تلاميذه أيضاً.
ثانياً: التلميح إلى موت عابد الله
ماذا يقول الشقّ الثاني من جواب يسوع في مر 2: 20 وز؟ حين يُرفع العريس، يصوم التلاميذ. ما معنى هذا "الرفع"، هذا الاختطاف؟ ما هي طبيعة هذا "الصوم" الذي يربطه بهذا الحدث.
إن فعل "ابايراين" الذي استعمله الانجيليون الثلاثة في صيغة المجهول ليدلّ على اختطاف العريس، يرتدي في المعلوم مدلولين: رفع، انتزع أو ابتعد. وكانت تفاسيره عديدة ومختلفة. يرى معظم الشرّاح أن يسوم يشير هنا إلى أنه سيُنتزع فجأة من هذا العالم مع تنويه بموت عبد الله المتألم (أش 53: 8). قال النصّ الماسوري: "والضيق والدينونة أخذ". والسبعينية: "انتزعت حياته عن الأرض". وظنّ آخرون أن النصّ يشير إشارة خفيّة إلى الآلام وإن لم ترتبط ارتباطاً مباشراً بعبد يهوه. وفئة ثالثة: عاد يسوع إلى الزمن الذي لن يكون فيه مع تلاميذه، ولكنه لم يحدّد إن كان هذا الموت قتلاً أم لا. وعبارة "ما دام العريس معهم" تقابل "حين يُنتزع العريس منهم". وهكذا يقابل اختفاء يسوع إمّا صعوده وإما موته دون التنويه بالطابع المؤلم لهذا الموت.
أي موقف نتّخذ في هذا الجدل؟ يجب أن نعرف قبل كل شيء كيف ترتبط أقوال يسوع هذه بالنظرة إلى المسيح المتألم، إلى عبد الله المتألم كما في أش 53. نحن بدون شكّ أمام سرّ الآلام الذي يظهر بشكل خفيّ، فلا يفهمه التلاميذ إلا في ما بعد. وكانت هذه العبارة مفهومة حين قالها، لا سيّما وأنه جمع في شخصه وجهتين لا تتّفقان في الظاهر عن انتظار الأنبياء الاسكاتولوجيّ. من جهة، عنى بكلامه أن حضوره وسط البشر يدلّ على مجيء عهد النعمة، عهد الأعراس التي أنبأت بها الكتب، وقت اجتياح الفرح النهائي الذي لا يستطيع أحد أن يبلبله. ومن جهة ثانية، فتح يسوع بعد ذلك حالاً أذهان تلاميذه على منظار معارض ومؤلم جداً: كما أن تلاميذ المعمدان فقدوا معلّمهم، كذلك تلاميذ يسوع سيفقدون معلّمهم في ظروف مأساويّة. ماذا يعني هذا الكلام؟ فمع أن مجيء يسوع دلّ حقاً على إقامة مملكة الله في نهاية الأزمنة، فهذا الحدث العظيم يجب أن يتضمّن مراحل متعاقبة. وهذه المفارقة تختلط مع مفارقة شخص يسوع: هو ابن الإنسان المتسامي والمجيد كما في دانيال. ولكن عليه أن يُرذل ويعرف الموت المشين كما كان لعابد الله، وذلك قبل أن يبلغ إلى انتصار الفصح والقيامة.
ثالثاً: صوم بعد اختطاف العريس
أعلن يسوع: حين يُرفع العريس، حينئذ يصومون. هناك ثلاثة تفاسير عن هذا الصوم الذي تحدّث عنه يسوع للزمن الذي يلي موته: التفسير القانونيّ، التفسير النبويّ، التفسير الرمزيّ. حسب الرأي الأول (مدافعون قليلون): أعلن يسوع شريعة الصوم التي ستتبعها الكنيسة تذكّراً لآلامه. حسب الرأي الثاني (معظم الشّراح): نحن هنا أمام نبوءة حول صوم التلاميذ بعد غيابه. مثل هذه النبوءة تعتبر وكأنها وصيّة من المسيح حول السلوك الذي يجب أن يتبعه التلاميذ داخل الجماعة المسيحيّة. وهكذا يلتقي الرأي الثاني مع الرأي الأول.
ويبقى الرأي الثالث مع منظار مختلف كل الاختلاف. ففعل "صام" يرتدي في هذا الظرف معنى رمزياً. فجواب يسوع ينقل الجدال على مستوى غير المستوى الذي أقام فيه محاوروه. هو ليس بمستعدّ لأن يجادل في مسائل الصوم. ولا أن يتراجع في ما يخصّ المستقبل. إنه يستفيد من المناسبة ليكشف عن ذاته ويجعل تلاميذه يدركون في لغة الصور، ما يعني حضوره في قلب البشريّة وغيابه عنها. حضوره هو وليمة عرس. وهو ينفي الحزن والحرمان. وسيأتي وقت يزول فيه هذا الحضور، حينئذ "يصوم" التلاميذ "صوماً" يختلف كل الاختلاف عن ذاك الذي يفكّر فيه تلاميذ يوحنا: إذا كان حضور يسوع الحاليّ يحمل إلى البشر فرحاً ذا طابع فريد، فغيابه يمثّل لهم حرماناً ذا طابع فريد أيضاً. وهكذا تطلّع التلاميذ إلى موت يسوع قبل فرح القيامة. أجل، إن فكرة الحداد التي يدلّ عليها الصوم هي في المستوى الأول.
في هذا المقطع، نتأمّل في كلّ حياة التلاميذ من وجهة حضور يسوع بينهم أو غياب العريس المسيحاني. ولقد كانت غاية كلمات يسوع، لا أن تنبىء بممارسة الصوم، بل أن تصوّر التبدّل الذي يسببه ارتفاع العريس. حين جاء يسوع على الأرض، حمل للبشر فرح الزمن المسيحاني ومعه انتصاراً على الموت والخطيئة. وهذا الفرح المرتبط بشخص يسوع، سيترك في شكل من الأشكال هذا العالم حين يتركه يسوع ولكنه سيُعاد إلى التلاميذ بفضل الحضور الخفيّ الذي به وعد القائم من الموت كنيسته "حتى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). ولكنه (أي هذا الفرح) لن يُعطى لهم في ملئه إلا في مجيء الرب الذي يضع حداً لانفصال مؤلم بين التلاميذ ومخلّصهم، كما يقود انتظار المسيح على قوى الشّر إلى نهايته. أجل إن هذه المقطوعة هي وحي لما يعنيه شخص المسيح بالنسبة إلى البشر.

3- الثوب والزقاق
بعد هذا الجدال حول الصوم بين يسوع وتلاميذ يوحنا (آ 14- 15)، يمتدّ الجدال في قولين مأثورين يقولان لنا: الجديد مع الجديد، والعتيق مع العتيق. يجب أن يتجدّد الإنسان لكي يكون على مستوى الحدث. ستعود صورة الثوب والخمرة الجديدة في 22: 11 (إنسان ليس عليه حلّة العرس... اطرحوه في الظلمة البرانية) وفي 26: 29 (لن أشرب بعد من عصير الكرمة إلى اليوم الذي أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي. مشاركة منذ الآن في وليمة السماء).
كان للجدال حول الصوم بُعدان اثنان: التلاميذ يُهاجمون على مستوى الصوم. وهؤلاء التلاميذ هم أعضاء الكنائس العائشة حوالي سنة 80 كما هم التلاميذ الذين يحيطون بيسوع خلال حياته على الأرض. وجواب يسوع يلعب على اللوحتين. فالفريق الذي يقوده يسوع لم يكن يصوم، بل يعيش جماعة فرحة حول المائدة دلالة على مجيء الملكوت. وهكذا تميّز عن تقوى الفريسيين وتنسّك اليوحناويين بحيث لقبوا يسوع: أكول لحم، شريب خمر (11: 19).
وكما دلّت على ذلك خطبة الجبل (6: 16- 18) عاد المسيحيون إلى ممارسة الصوم، وما برّر ممارستهم هو 9: 15 ب: إنهم يعيشون الآن في محنة انتظار العريس الذي رُفع. ومع ذلك فكنائس سنة 80 لم تكن "أبطالاً" على مستوى الصوم. ولهذا انتقد الفريسيون وتلاميذ يوحنا ضعف المسيحيين في هذه الممارسة. كما كانت إشارة في لو أنهم لا يواظبون على الصلاة. أجل، ليست الممارسة الخارجيّة هي أهم شيء في الحياة المسيحيّة. وليست كثرة الأعمال وتكرار الصلوات هي التي تميّز المسيحي. عطاء القلب هو الأول. ومحبّة الله ومحبّة القريب تلخّصان جميع الوصايا. ورفاق يسوع، نحن المسيحيين، يعرفون أنهم رفاق العريس وهم مدعوّون إلى العرس. لهذا كانوا يمارسون عشاء المحبّة قبل العشاء السرّي ليدلّوا على أن وليمة الأرض صورة عن وليمة السماء. أجلى مع المسيح جاء الجديد الجديد، فلماذا نتعلّق بالعتيق.
"ما من أحد يجعل رقعة" (آ 16- 17). نحن هنا أمام مثلين قصيرين أو تشبيهين يصوّران هذا الحدث الجديد الذي حصل بمجيء يسوع.. أما الفكرة الأساسيّة فهي: لا نستطيع أن نضع رقعة جديدة في ثوب عتيق. لا نستطيع أن نضع خمرة جديدة في زقاق بالية. فالنتيجة هي خسارة كبيرة بعد عمل لا يدلّ على شيء من الفطنة.
حين طبّق هذان المثلان على الجدال حول الصوم، دلاّ على أن جديد الملكوت الذي دشّنه يسوع، لا يستطيع أن يحسّن الوضع الناقص للتقوى اليهوديّة التي نجد ملخصاً عنها في شريعة الصوم. كما لا يستطيع أن يثبت هذه التقوى التقليديّة. إن حاولنا أن "نلصق" من الخارج هذا الجديد على ثوب عتيق، أو نجعله في زقاق بالية نكون أمام نتيجتين: إمّا أن نمزّق كل التقوى اليهوديّة بشكل عام والصوم بشكل خاص. وإما نفجّر هذه التقوى بحيث ندمّرها تدميراً تاماً. ذاك هو تفسير أول.
غير أن الصورة الثانية تذهب أبعد من ذلك. هي تتكلّم عن زقاق جديدة فيها "يحفظ" الجديد الذي حمله المسيح. ماذا تمثّل هذه الزقاق الجديدة؟ نستطيع أن نرى فيها كنيسة المسيح الذي هي "وعاء" جديد لسلطان المسيح ولملكوته. هكذا نكون في إطار كنسيّ. وقد نجد إشارة إلى تواصل بين التدبير القديم والتدبير الجديد على ما في 5: 20 (إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين...). ونستطيع أن نرى أيضاً في هذه الصورة الأشكال الجديدة أو ممارسات التقوى التي ستحلّ محل الممارسات اليهوديّة لدى تلاميذ المسيح. هذا ما نراه بشكل خاصّ في ما يتعلّق بالأعياد. كيف صار الفصح القديم بحمله المذبوح وتذكّره الخروج من مصر، الفصح الجديد بيسوع الحمل الحقيقيّ وتذكّرنا موت الربّ وقيامته إلى أن يجيء. ويمتدّ عيد العنصرة وعطيّة الروح القدس في خطّ عيد العنصرة اليهودي، عيد الأسابيع، وإعطاء الشريعة على جبل سيناء.
ويبقى أن المعنى الأساسي هو تنبيه إلى تلاميذ يوحنا والفريسيين. هاجموا تلاميذ يسوع، وما زالوا يهاجمونهم حول مسألة الصوم وهي مسألة قديمة جداً تعود إلى زمن زكريا (زك 8: 19). لقد دلّوا هكذا على أنهم لم يفهموا شيئاً من الجديد الذي يحمله يسوع. فيبقى على الديانة اليهوديّة، وكل ديانة، أن تترك المسيح يجدّدها تجديداً كلياً، وإلا عجّل الإيمان الجديد في دمارها. وهذا ما نقوله عن حياتنا الشخصيّة وممارساتنا التقويّة: لا قيمة لها إن لم يجدّدها يسوع، إن لم يجدّدنا بقلب نقيّ وروح مستقيمة.
هذا الجديد الذي يعلنه يسوع سيظهر حالاً في أعماله من خلال أخبار ثلاثة تبرز ما حمله يسوع بحضوره في العالم: شفاء النازفة وإقامة ابنة بائيرس. لمست الأولى ثوب يسوع (هذا الثوب الجديد) فانتقلت بعد 12 سنة (رقم الشعب العبرانيّ) إلى حياة جديدة وخصبة. ستستطيع أن تكون أماً. ولا ننسى أن المرأة تدلّ دوماً على الشعب. فهذه النازفة التي لمست ثوب المسيح، انتقلت من القديم إلى الجديد، من المرض إلى الصحة. وستنتقل ابنة يائيرس من الموت إلى الحياة بمجرّد لمسة من يسوع، بل كلمة: يا صبيّة قومي. ورمز الأعميان إلى شعب لا يرى وسيجعله يسوع يرى. كما سيعرف أن يتكلّم ويذيع عظائم الله بعد أن كان كذلك الأخرس الذي خرج منه الشيطان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM