المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل السادس والثلاثون: تجلّي رحمة الله
 

الفصل السادس والثلاثون
تجلّي رحمة الله
9: 9- 13

نحن أمام خبر دعوة جديد. يضع أمامنا العشّار متّى الذي أخذ يتبع يسوع. بعد هذا، نرى مشهدَي جدال حول تصرّف المعلّم الذي انتقده الفريسيون من جهة، ومن جهة ثانية تلاميذ يوحنا المعمدان. أما موضوع هذه الخلافات فهو أن يسوع وتلاميذه يأكلون مع الخطأة والعشّارين، وهو أن التلاميذ لا يخضعون نفوسهم لأصوام خاصة كما يفعل تلاميذ يوحنا... هذا الجدال المزدوج أعطى يسوع المناسبة ليدلّ على نفسه كطبيب البشر والعريس المسيحاني. ويأتي نصّ من الكتاب حول أولويّة الرحمة على الذبيحة فيدلّ على الموقف الجديد الذي يقفه يسوع: إنه الخمرة الجديدة التي تستغني عن الزقاق القديمة. إنه ذاك الذي جاء يدعو الخطأة والمرضى ليدخلهم إلى ملكوت أبيه.

1- نظرة عامة
يتحدّد موقع مت 9: 9- 13 في مجموعة تؤلّف ف 8- 9، وفيها جمع الإنجيلي عشرة أخبار معجزات: دوّنها متّى حسب طريقته الخاصة وأهدافه اللاهوتيّة. فبعد عظة الجبل (5- 7) التي فيها قدّم متّى يسوع على أنه "مسيح الكلمة"، أراد بهذه الكتلة من المعجزات أن يرينا في يسوع "مسيح العمل". وهناك آيتان (4: 23 و9: 35) تحيطان بقسمَي هذا التأليف الواسع (5- 9) وتعلنان موضوعه العام: "وكان يطوف في الجليل كله، يعلم في مجامعهم، ويبشّر بإنجيل الملكوت ويشفي كل مرض وكل سقم في الشعب" (4: 23). "وكان يسوع يطوف في جميع المدن والقرى، يعلّم في المجامع، ويكرز بإنجيل الملكوت. ويشفي كل مرض، وكل سقم" (9: 35).
وجعل الإنجيلي بين الأسقام البشرية، الخطايا. فقد جاء يسوع بصفته "طبيباً من أجل المرضى" (9: 12)، يشفي القلوب بكلمته (9: 2) وبفعلة الغفران التي تصدر منه، فتبني الجماعة الجديدة (9: 9- 10). إن غفران الخطايا يرتبط بعمل يسوع العجائبي. فيسوع هو عبد الله المتألم الذي صوّره النبي أش 53: 4 وردّد كلماته مت 8: 17: "أخذ عاهاتنا، وحمل أوجاعنا".
ونقسم حلقة المعجزات المتاوية في ف 8- 9 إلى ثلاثة أقسام:
أ- 8: 1- 17
بعد أن نزل يسوع من الجبل (8: 1) وشفى الأبرص، دلّ بعمله أنه جاء يكمّل الشريعة (5: 17). أرسله الله فحقّ له أن يعلن: "قيل لكم، أما أنا فأقوله لكم"، بل في يده أن يقول، كما الله: "شئت، فكن طاهراً" (8: 2- 4). حين ذهب إلى كفرناحوم، شفى عبد قائد المئة الذي وجد عنده إيماناً عظيماً لم يجد مثله في إسرائيل (8: 5- 13). أخيراً شفى في بيت بطرس حماة بطرس (8: 14- 15). واجترح معجزات عديدة من أجل سكان المدينة. وهذا ما أتاح للإنجيلي أن يقول: أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا. وأن يرى أن برنامج عبد الله المتألم قد تحقّق كلياً (8: 16- 17).
ب- 8: 18- 34
مع 8: 18 تبدأ متتالية جديدة: مشهدان يرتبطان بمتطلّبات الدعوة الرسوليّة. بعدهما، دوّن متّى خبر تهدئة العاصفة (8: 23- 27)، ثم حدث مجنون جدارة (8: 22- 33) حسب النموذج المرقسي. إذا كانت المتتالية الأولى دلّت على يسوع أنه "عبد الله المسيحاني" الذي يأخذ على عاتقه عاهات الشر، فالمتتالية الثانية تدلّ على أنه "ابن الله" (8: 9).
ج- 9: 1- 17
تبدأ المتتالية الثالثة مع 9: 1. موضوعها سلطة ابن الله على الخطيئة وتجليّ رحمة الله. في هذه المتتالية (9: 1- 17) تبع مت النصف الأول من مجموعة مر حول الجدالات الجليليّة (مر 2: 1- 22). وبعد النسخة المتاويّة عن شفاء المخلّع الذي غفر له يسوع خطاياه (9: 1، 8)، نقرأ خبر دعوة متّى (9: 9)، ثم خبراً أطول عن طعام أخذه يسوع مع العشارين (9: 10- 13). فإذا أردنا أن نفهم نصّ متّى الإنجيلي، نعود إلى أساسه المرقسي.

2- رسالة يسوع كما في مرقس
إن النصّ المرقسي نفسه هو توسيع لتقليد قديم أعاد الكاتب صياغته. وهذا التقليد الذي نجده بشكل خاص في مر 2: 15- 17 يعود بنا بشكل مباشر إلى حياة يسوع.
أ- الأساس المرقسي (مر 2: 13- 17)
إن مشهد نداء لاوي على الشاطىء (آ 13- 14)، قد ألّفه الإنجيليّ مرقس نفسه، الذي أراد أن يقدّم صورة لافتة عن كلمة يسوع التي تقول: "ما جئت لأدعو الابرار بل الخطأة" (آ 17). وقد وجد الإنجيلي ولا شك اسم المدعو في مقدّمة إلى خبر الوليمة (آ 15). واكتشف رسمة الخبر (الاشارة إلى الوضع، نداء يسوع، تلبية النداء) في رواية دعوة التلاميذ الأولين: بطرس وأخوه اندراوس، يعقوب وأخوه يوحنا (مر 1: 16- 20).
ولاقى خبر غداء يسوع مع العشّارين (آ 15- 17) تطوراً طويلاً توسّع فيه التقليد مراراً. في البدء كان الموضوع فقط جلوس يسوع مع العشارين إلى مائدة واحدة. ولكن في بدايات الرسالة المسيحيّة لدى الوثنيّين، استعاد المرسلون هذا الخبر فنقلوا من العشارين (اعتبرهم الفريسيون وكأنهم وثنيون. هم خاطئون) إلى الوثنيين الدعوة التي وجّهها يسوع إلى الخاطئين (آ 17). وإذ أرادوا أن تكون أفكارهم واضحة، ذكروا الخطأة في الخبر (آ 15- 16 ب).
أما مقابلة الطبيب (آ 17 أ) التي بها برّر يسوع اهتمامه ببعض مجموعات من الناس، فقد دخلت في الخبر وطبّقت على يسوع الذي اعتبر مخلّص الخطأة. كل هذا تمّ ساعة دخل مر 2: 1- 2 و2: 15- 17 في مجموعة الجدالات اللاهوتية. وأخيراً، أشار الإنجيلي نفسه إلى التلاميذ العديدين الذين تبعوا يسوع (آ 15 ج).
إن التقليد الذي يورد مطالبة يسوع بسلطان غفران الخطايا (2: 1- 12)، والوليمة مع العشّارين، كان سابقاً لمرقس. غير أن الإنجيلي وسّع هذا الموضوع فدلّ على أن يسوع يمارس تجاه العشّار لاوي سلطانه بأن يغفر الخطايا. وبأن يدعو الخاطئين لاتباعه (آ 13- 14). إن النداء لاتباع يسوع هو (حسب الإنجيلي) نداء للخروج من ماضي الخطيئة، لا نداء للانفصال عن الخاطئين. وهذا النداء يلزمنا بالأحرى التضامن مع الخاطئين لأنهم مرضى ومفصولون عن الجماعة. والسبيل الوحيد لرجوعهم يفترض أن نضع حداً لهذا الفصل، لكي يستطيعوا أن يسمعوا النداء للمجيء إلى ملكوت الله.
ب- رسالة يسوع
نستطيع أن نعيد تكوين حدث الوليمة في شكله الاقدم كما يلي: وحصل أنه كان إلى المائدة في بيت لاوي بن حلفى. وكان عشّارون كثيرون إلى المائدة مع يسوع وتلاميذه. ورأى كتبة من حزب الفريسيّين أنه يأكل معهم. قالوا لتلاميذه: "إنه يأكل مع العشارين. حين سمع يسوع ذلك قال لهم: "ما جئت لأدعو الابرار بل الخطأة".
في الجدالات بين يسوع وخصومه، كما توردها الأناجيل، تنكشف مسألة حرّكت الجماعات الأولى. ولكن في مر 2: 15- 17، منعت التفاصيلُ اللافتة في الجدالات (اسم المضيف، كتبة من حزب الفريسيين)، من التفكير في وضع كلمة يسوع في خبر. لقد عملت الرواية على تذكّر تاريخيّ. لاموا يسوع لأنه جعل نفسه شبيهاً بالخطأة (رج مت 11: 19 وز). خافوا أن يخسر صيته حين يتّكىء إلى المائدة مع العشارين، فاجاب مؤكّداً أن رسالته (جئت= أرسلت من لدن الله) تتوجّه بشكل خاص إلى الخاطئين، أي إلى الذين طردهم مجتمع يحكمه الدين.
إن الدعوة إلى ملكوت الله، كما أعلنها يسوع في كرازته، تعني بشكل رئيسي الخطأة، والضالين الذين ذهبوا إلى البعيد (لو 15: 1- 8: الخروف الضائع)، وكل الذين أبعدهم "الأبرار" عن المجتمع. إذن، لا بدّ من دعوتهم إلى مائدة الله في ساعة البشر. إنهم خراف ضالة يجب أن نبحث عنها، نطلبها (مت 9: 9).
إن سامعي يسوع الذين يعرفون العهد القديم، يعرفون، شأنهم شأن يسوع، أن الرب هو راعي إسرائيل. الشعب كله له، وهو لا يسمح أن يُرذل أي فرد أو يُستبعد. إذن، اختار يسوع بيت لاوي ليدلّ على رحمة الله. ففي الساعة التي يقيم فيها ملكوته، تجلّت هذه الرحمة لتجمع إسرائيل كله بواسطة يسوع، وتجعلهم شعب الله في نهاية الأزمنة.
خبر صاغه تقليد طويل. كيف استعاده مت ليدلّ على ظهور يسوع؟

3- التفسير المتاوي (مت 9: 9- 13)
نحاول أن نلقي ضوءاً على نقطتين في التفسير الذي انطلق فيه متّى من مرقس ليقدّم تدوينه: بعد أن نتفحّص التفسير الجديد للنصّ، نكتشف الخطوط الكبرى للاهوت المتّاوي.
أ- التدوين المتاوي
بدّل مت موضع شفاء المخلّع (9: 1- 8؛ رج مر 2: 1- 12)، وجعل المعجزة تتمّ لا في بيت من بيوت كفرناحوم (ربّما بيت بطرس)، بل على الطريق التي تقود من بحر الجليل إلى المدينة. "مدينة" يسوع (مدينته، 9: 1). وخلال السير في الطريق، وحين جاء يسوع "من هناك" (9: 9)، كان نداء العشّار الذي لا يسمّى لاوي في مت، بل متّى.
أولاً: نداء العشار متّى (آ 9)
حين انطلق يسوع من الشاطىء إلى بيت كفرناحوم، نادى العشّار الجالس على مائدة الجباية. منذ الآن دخل متّى في مجموعة التلاميذ الذين دلّ 8: 18 ي بشكل بارز على أمانتهم المثاليّة في اتباع يسوع. نداء لا شرط فيه، طاعة مباشرة. هذا ما يميّز أخبار الدعوة في العهد الجديد. وهذا ما يدلّ على سلطان يسوع المواهبي، وهو سلطان لا يقابله سلطان. كما يدلّ على خضوع مُطلق من قبل التلاميذ.
إذا وضعنا جانباً اسم المدعو، فالتبدلات التدوينيّة في مت 9: 9 تبدو بسيطة بالنسبة إلى مر 2: 14. اعتاد مت أن يضع اسم "يسوع" في بداية مقطوعاته. "وفيما يسوع منصرف". أما بالنسبة إلى الوصلات التدوينية، فإن كما يلجأ مراراً إلى إشارة كرونولوجية غامضة: "اكايتن"، من هناك. لم يبصر يسوع "لاوي بن حلفى"، بل "رجلاً اسمه متّى.". هذه عبارة متاوية تمنعنا من إن نرى في متّى اسماً آخر للاوي. بل إن العبارة تفرض علينا أن نلاحظ أن صاحب الانجيل الأول أحلّ متّى محلّ لاوي. لقد أحلّى محلّ العشّار المجهول انساناً من مجموعة الاثني عشر. وسوف يسميه بوضوح في لائحة الرسل مع صفة "العشّار" (10: 3: ومتى العشّار).
لماذا تبدّل الاسم هذا؟ يبدو الجواب واضحاً: اختلف الانجيلي "متّى" عن مرقس، فماثل مجموعة تلاميذ يسوع بمجموعة الاثني عشر (لا فرق في التسميتين). فليس ليسوع إلا اثنا عشر تلميذاً. وبما أن لاوي ليس بين الاثني عشر، لذلك حلّ محلّه متّى.
إن صاحب الإنجيل الأول الذي أكرم اكراماً خاصاً الرسول متّى، جعله كالعشار في مجموعة التلاميذ. إنه نموذج أولئك الذين يدعوهم يسوع (آ 13). إن كان اسم يسوع "صديق العشارين والخطأة" (11: 19)، فلماذا نعجب إن هو دعا متّى العشّار ليتبعه؟
ثانياً: طعام مع العشارين (آ 10- 13)
وكانت وليمة للعشّارين في بيت يسوع الذي يحدّد مت موقعه في كفرناحوم. افتتح المشهد بعبارة بيبلية مأخوذة من السبعينية (الترجمة اليونانية): "وحصل، وحدث". وزاد الكاتب على الفعل "وها إن". إن مت يلجأ إلى هذا التعبير ليصوّر الأحداث التي تكشف بشكل لافت عن لاهوت يسوع، أو عن أعماله تبرز عظمته الالهيّة وقدرته. استعمل الانجيلي "وها إن" ليلفت الانتباه مسبقاً إلى مضمون الخبر الذي يقدّمه.
قال مت إن العشّارين والخطأة "جاؤوا" إلى بيت يسوع. هذه نتيجة الوضع كما رُوي من قبل: سمع الخطأة بغفران مُنح للمخلّع. وسمع العشارون بنداء متّى. وها قد جاؤوا الآن إلى ذاك الذي اختلف عن الفريسيين، فلم يعاملهم باحتقار، بل دعاهم إلى مائدته.
إن الاكل في بيت يسوع هو صورة عن المشاركة في الوليمة الاسكاتولوجية التي سبق يسوع وتحدّث عنها: "كثيرون يأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات. أما أبناء الملكوت فيلقون في الظلمة الخارجيّة" (8: 11- 12). لم يعد مت يرسم هنا الواقع التاريخيّ لحياة يسوع، ذاك الواعظ المتنقّل الذي جاء مع تلاميذه إلى بيت لاوي، بل بسّط خبره وقدّمه في منظار وليمة اسكاتولوجية حيث تستقبل رحمةُ الله الخاطئين العديدين.
حسب مت، الفريسيون (لا الكتبة الذين من حزب الفريسيين، كما قال مر 2: 16) هم الذين تشكّكوا من تصرّف يسوع. والمقطوعات الثلاث التي تكوّن المتتالية الثالثة (9: 1- 17) تترتب حوله محاورين متنوعين مع يسوع: الكتبة ساعة شفاء المخلّع (كما عند مر). "الفريسيون" ساعة الطعام مع العشّارين. "تلاميذ يوحنا" (مر: والفريسيون) ساعة السؤال حول الصوم. وهكذا تبرز الخلافات بين يسوع ومختلف المجموعات اليهوديّة، بين يسوع وشعب الله الذي أرسل إليه يسوع، فلم يجد عنده إيماناً (هذا ما يشدّد عليه مت مراراً). وموضوع الخلاف يحدّد في كل حالة مجموعة المقاومين (إن موقفهم يرمز إلى إسرائيل الذي يرفض يسوع). ولكنهم في النهاية يشكّلون جبهة موحّدة ضدّ يسوع.
سأل الكتبة تلاميذ يسوع: لماذا يأكل (معلّمكم) مع العشّارين والخطأة؟ دوّن مت نصّه بشكل تعليميّ كامل. أبرز الانجيلي جواب يسوع ليبرّر تصرّفه ويعلّله. وشدّد بإلحاح على أن يسوع أجاب على سؤال الفريسيين كـ "المعلّم". فهؤلاء حين كلّموا التلاميذ قالوا: "معلّمكم". يسوع هو معلّم التلاميذ (ومعلّم الكنيسة التي لها يقدم متّى إنجيله). إنه الذي يعلّم بالقول والعمل. إلى هذا المعلّم نذهب، ومنه يحسن أن نتعلّم: "إذهبوا وتعلّموا" (آ 13).
إذن، ليس يسوع مسيح الكلمة ومسيح العمل وحسب، أنه معلّم الكلمة والعمل أيضا. إنه المعلّم الذي توافق أعماله أقواله، عكس الفريسيين والكتبة "الذين يقولون ولا يفعلون" (مت 23: 3). لقد أراد مت أن يبيّن أن يسوع هو المعلّم الحقيقيّ. عنده يتوافق التعليم والعمل، بل يكوّنان وحدة لا تنقسم. هذا ما أوصانا به (5: 19؛ 7: 21- 23؛ 7: 24- 27). والتلميذ يستطيع معه أن يتعلّم: "تعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (11: 29).
برّر مت سلوك يسوع بطريقة جديدة. قال: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، بل المرضى". فتوضح قولُه في العمل. إن يسوع يتصرّف كطبيب عجائبي: يشفي المرضى ويعفي الخاطئين من ديونهم. يغفر لهم. ويدعو سامعيه لكي يكتشفوا معنى عمله: "فاذهبوا إذن وتعلّموا". ثم أورد (حسب مت) كلام هو 6: 6: "أريد الرحمة لا الذبيحة". يعني بكلامه أن ما يوجّه سلوكه هو معرفة إرادة الله. وأن على سامعيه أن يعرفوا ويحقّقوا في حياتهم هذه الارادة كما دلّ عليها الانبياء في العهد القديم. بما أن اليهود يقرّون بسلطة الكتب المقدّسة، فيسوع لم يترك لهم عذراً حين أورد نصّ هوشع: إنهم مجبرون على الاقرار بأن سلوكه هو حسب إرادة الله وسلوكهم رفض لإرادة الله كما يقدّمها لهم.
وما يعبّر عن إرادة الله هو "الرحمة". لقد دلّ يسوع في سلوكه على رحمة الله، لأنه يعتني بالخاطئين. "فإني لم آتِ لأدعو الصديقين بل الخطأة". يرى الفريسيون أن يسوع يتنجّس حين يؤاكل العشّارين والخطأة. وهذه المعاشرة تمنعه من المشاركة في العبادة والذبائح.
أما يسوع فقلَب هذه النظرة. ففي العظة على الجبل كان قد أعطى وصية مماثلة. "إذن، حين تقدّم قربانك على المذبح وتذكر هناك أن لأخيك عليك شيئاً، فضع قربانك هناك أمام المذبح. وامضِ أولاً فصالح أخاك. ثم تعال وقدّم قربانك" (5: 23- 24). فالعبادة والذبائح تجيء بعد عمل الرحمة والمصالحة. والذي يقلب تراتبيّة القيم هذه يستحقّ أن يطبّق عليه توبيخ أش: "أيها المراؤون! حسنأ تنبّأ أشعيا عليكم إذ قال: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، وأما قلوبهم فبعيدة عني جداً. فهم باطلاً يعبدونني، إذ إنهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15: 7- 9).
إن تصرّف يسوع هذا يدلّ على إرادة الله ورحمته. وهو يضع جميع البشر أمام قرار الدينونة الإلهية.
ب- اللاهوت المتاوي
شدّد مت كثيراً على أن رحمة الله هي الفكرة الموجّهة لسلوك يسوع، فكرّر في 12: 7 نصّ هو 6: 6. عند مر، تبعت المقطوعةُ حول السنابل المقلوعة يوم السبت (2: 23- 28)، تبعت بشكل مباشر المقطوعة التي ندرس. أما مت فأدرجها في ما بعد، ساعة أراد أن يبيّن أن رفض إسرائيل ليسوع صار نهائياً. لم يعد يسوع يدعو لكي "نعرف معنى" الايراد. بل هو يعلن: إذا كنتم فهمتم معنى هذه الكلمة: أريد الرحمة لا الذبيحة، لما كنتم وبّختم اناساً لم يقترفوا ذنباً (12: 6- 7). حرفياً: حطّمتم العصا على أبرياء. يعني دللتم على نقص في الرحمة، وتعدّيتم على الدينونة التي هي خاصة بالله وحده. "لا تدينوا لئلا تدانوا. (فبالدينونة) التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم". يستعمله الله لكم (7: 1- 2؛ 7: 2- 5).
فالذي لا يرى في متطلّبة الرحمة الإلهية الوصية الأولى، والذي لا يقبلها في أعماله، لم يعرف إرادة الله. والذي لا يعرف إرادة الله، لا يعرف الله. وفي النهاية، إن سلوك يسوع يكشف طبيعة الله الحقيقية، ورحمته. وإذ يدلّ يسوع على هذه الرحمة، يكشف محبة الآب الذي في السموات "الذي شرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الأبرار والأثمة" (5: 45).
إن التعارض بين يسوع وخصومه، يبرز صورتين مختلفتين عن الله. من جهة، الاله القاسي الذي لا يرحم. سيقول يو 8: 44: "أبوكم هو إبليس". أما يسوع فهو كابن الله، صورة رحمة الآب. تشاور خصومه من أجل موته (12: 14)، فدلّوا على أبيهم. "ذاك الذي كان قاتلاً منذ البدء". أما يسوع فهو يهاجم الموت بأشفيته، بإقامته للموتى، بغفران الخطايا. هو يعمل كابن الله والشاهد على رحمة الله.
وانهى مت عمداً حلقة معجزات يسوع بهذه العبارة: "وكان يسوع يطوف المدن والقرى، يعلّم في مجامعهم، ويعلن انجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وسقم. ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، لأنهم كانوا منهوكين، مطروحين مثل غنم لا راعي لها" (9: 35- 36).
كشف يسوع عن لاهوت الله وكماله من خلال الرحمة. وهو يستطيع كالمعلّم الذي يعمل حسب تعاليمه، ويعلّم حسب أعماله، يستطيع أن يطلب منا: "إذهبوا وتعلّموا" ماذا تعني هذه الكلمة: أريد الرحمة لا الذبيحة. وهو يستطيع أن يعطينا هذه الوصيّة: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو" (5: 48). بل فوق ذلك. امتلك رحمة الله فوجّه إلينا هذا النداء: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين، وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم، لأن نيري ليّن وحملي خفيف" (11: 26- 30).
إن متطلّبة الرحمة هي نير مليء بالوداعة والتواضع. فمن قبله نال الفرح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM