المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الخامس والثلاثون: شفاء المخلع

الفصل الخامس والثلاثون
شفاء المخلع
9: 1- 8

إن خبر المخلّع الذي نال من يسوع أولاً غفران الخطايا ثم الشفاء، يرد في الأناجيل الإزائية الثلاثة. تبع لوقا (5: 17- 26) نص مرقس (2: 1- 12) عن قرب. وتميّز خبر متّى بإشارة أولى، سلبيّة: لم يهتمّ كثيراً بالتفاصيل التي تجعل نص مرقس لوحة مليئة بالحياة والصور. مت هو قصير جداً بحيث يبدو بعض المرات غامضاً: لهذا يجب العودة إلى ما يوازيه عند مر لكي يصبح المشهد محسوساً ويدخل في واقع الحياة. ولكن إن كان مت لا يُعطي الأهميّة الكبرى للتفاصيل، فلأنه أراد أن يشدّد على التعليم "العقائدي".
ينقسم الحدث إلى ثلاث مراحل. وُضع المخلّع أمام يسوع، فبدأ يسوع ومنحه غفران خطاياه. وإذ أراد أن يبرهن بعد ذلك أنه يمتلك سلطان مغفرة الخطايا، شفى ذاك الرجل التعيس. وفي النهياة قدّم كلامُ الجموع خاتمة الخبر: "مجّدوا الله الذي أتى الناس مثل هذا السلطان".

1- إيمان وغفران الخطايا (9: 1- 2)
جرى المشهد في كفرناحوم. فيسوع قد أقام منذ بداية رسالته في هذه القرية الكبيرة التي صارت مدينته فدفع فيها الجزية (17: 24- 27). لا يقدّم لنا مت إشارة أخرى حول إطار الحدث: فيسوع الذي كان في منطقة جدارة (8: 28- 34)، جنوبيّ شرقيّ البحيرة، عبر هذه البحيرة وعاد إلى "مدينته". أما مر فقدّم تفاصيل عديدة. قال: "وبعد بضعة أيام، عاد إلى كفرناحوم، وسُمع أنه في أحد البيوت، فاجتمع خلق كثير بحيث لم يبق موضع حتى عند الباب. وكان يبشّرهم بالكلمة" (مر 2: 1- 2). يسوع هو "في البيت"، "بيت سمعان واندراوس" (1: 29). فكأنه في بيته. وقد يكون ذلك البيت قد صار "كنيسة" للجماعة المسيحية في كفرناحوم. وفي هذا البيت أخذ يسوع يعلّم أولئك الذين جاؤوا إليه ليسمعوه وحاصروا البيت لكي يكونوا بقربه.
واللوحة التي رسمها مر تهيّىء الآتي من الخبر. "وجيء إليه بمخلّع يحمله أربعة. وإذ لم يتهيّأ لهم أن يصلوا إليه بسبب الجمع، كشفوا السقف فوق الموضع الذي كان فيه، وبعدما نقبوه دلّوا الفراش الذي كان المخلّع مضطجعاً عليه" (مر 2: 3- 4). يسوع هو في هذا البيت الطويل المؤلّف من "غرفة" واحدة، مع درج خارجي يقود إلى السطح. في هذا السطح فتحة تستعمل لإنزال محاصيل الأرض بعد أن "تشمّس" وتجفّف. من هذه الفتحة يدخل النور إلى بيت لا نوافذ فيه. ولهذا، يجلس "ضيف الشرف" الذي هو المسيح في هذا الخبر، تحت هذه الفتحة فيقع نور الشمس عليه ويراه الجميع. وهكذا، حين أنزل المخلّع وجد نفسه وجهاً لوجه مع يسوع. لم يفهم لوقا هذا التفصيل وهو ابن الحضارة اليونانيّة، فقال: "دلّوه مع فراشه من بين القرميدات، إلى الوسط، أمام يسوع" (لو 5: 19).
لم يحتفظ مت بشيء من كل هذه التفاصيل. "قدّموا إليه مخلّعاً على فراش" (آ 2). لا يحدّد الإنجيل الموضع الذي كان فيه يسوع. قد يكون المشهد حدث في الساحة العامة أو في بيت من البيوت. كما لا يذكر شيئاً عن حيلة هؤلاء الأربعة. لقد سار مت مباشرة إلى جوهر الخبر وترك التفاصيل جانباً.
وتابع مر 2: 5: "فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلّع: يا ابني، مغفورة لك خطاياك". هنا، لم يعد مت يوجز نصّ مر. بل هو زاد كلمة على ما وجد عند مر. "فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلع: تشجّع يا ابني مغفورة لك خطاياك". من الواضح أن الانجيليّ يركّز كل اهتمامه على كلمة يسوع. أما الباقي فهو ثانويّ. وإذ أراد أن يشدّد على إعلان يسوع ويبرزه إبرازاً خاصاً، زاد هذه اللفظة الصغيرة: "ترساي": تشجّع، لا تخف، لتطب نفسك". وسوف نجد هذه اللفظة عينها في كلام يسوع لنازفة الدم، "تشجعي يا ابنتي، إيمانك خلّصك" (9: 22).
وما اكتفى متّى بأن يحتفظ بكلمة يسوع هذه، وبأن يبرزها. بل حافظ أيضاً على الإشارة التي تفسّر وتبرّر هذه الكلمة: إن يسوع "رأى إيمانهم". أن يقول مت "إيمانهم"، فهذا ما يدهشنا. بما أنه لم يتحدّث عن الحاملين الأربعة، فمن أين جاء بالضمير المتصل "هم" في "إيمانهم" وجعله في سياق خبره؟ ثم إن هذا السياق لا يبيّن كيف أدرك يسوع إيمان هؤلاء الرجال. فإيمانهم يظهر في حيلتهم كما رواها مر. ففي منطق خبر مت، يبدو أن هذه الملاحظة يجب أن تختفي كما اختفت المساعي التي تبرز مدلولها. غير أن مت لم يرد أن يلغي هذه الإشارة، لأنها بدت مهمّة في نظره من أجل فهم إعلال يسوع.
يتحدّث النصّ مراراً عن الإيمان كشرط لشفاء عجائبيّ. ذكرنا كلمة يسوع للنازفة: "تشجعي يا ابنتي، إيمانك خلّصك" (9: 22). وأعلن يسوع لضابط كفرناحوم: "ليكن لك بحسب إيمانك" (8: 13). وللكنعانيّة: "يا امرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك كما طلبت" (15: 28). وللاعميين اللذين آمنا أن يسوع يستطيع أن يشفيهما، قالت يسوع: "ليكن لكما بحسب إيمانكما" (9: 28- 39). إن يسوع يطلب الإيمان من الذين جاؤوا يطلبون شفاء.
غير أن يسوع لم يأت فقط لكي يشفي الأجسام المريضة. إنه يقابل نفسه بطبيب. ولكن مرضاه هم الخطأة الذين يحمل إليهم الخلاص. قال: "الأصحّاء لا يحتاجون إلى طبيب، بل الذين ساءت حالهم... لم آتِ لأدعو الصدقين بل الخطأة" (9: 12- 13). وقال أيضاً: "فابن الإنسان جاء يطلب ويخلّص ما كان هالكاً" (لو 19: 10). فهذا الخلاص الروحيّ، شأنه شأن الأشفية العجائبيّة، يخضع للإيمان. وهذا ما نفهمه في هذا الموضع الوحيد من الإنجيل الذي فيه يمنح يسوع غفران الخطايا، كما فعل مع مخلّع كفرناحوم: أظهرت الخاطئة حبّها، فأعلن لها يسوع: "مغفورة خطاياك". وزاد غير مهتمّ بدهشة الحاضرين: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام" (لو 7: 48- 50).
ونجد ذات الارتباط بين الايمان ومغفرة الخطايا في أماكن عديدة من الكرازة الرسوليّة. أعلن بطرس في خطبة قيصرية البحريّة: "كل من يؤمن به ينال باسمه مغفرة خطاياه" (أع 10: 43). وقال بولس في خطبته في أنطاكية بسيدية: "قد بشِّرتم بمغفرة الخطايا. به يتبرّر كل مؤمن، من كل من لم تستطيعوا أن تبرّروا منه بناموس موسى" (أع 13: 38). وفي خطبة بولس أمام الملك أغريباً، أعلن أنه مرسل إلى الوثنيّين من قِبل المسيح "لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلمة إلى النور، ومن حوزة الشيطان إلى الله، وينالوا بالايمان بي، مغفرة الخطايا. وقسمة ميراث مع القديسين" (أع 26: 18).
إن هذا الموضوع يلقي ضوءاً على فكر مت. فبعد أن أغفل الحاملين وحيلتهم الغريبة ليصل سريعاً إلى يسوع، أراد مع ذلك أن يذكر الايمان الذي نظر إليه يسوع فمنح المريض مغفرة خطاياه. إذا كان الإيمان ضرورياً للحصول على شفاء عجائبيّ، فهو ضروريّ أيضاً للخاطىء الذي يمنحه يسوعُ الشفاءَ الروحيّ فيحلّه من خطاياه.

2- سلطان ابن الانسان (9: 3- 7)
لم تتبدّل طريقة الإخبار عند مت: لقد انتقل بسرعة من ردة فعل الكتبة (لا ننسَ أنه يتحدّث إلى اليهود) وجعل كل اهتمامه في أقوال يسوع. أما مر فما اكتفى بأن يورد ما فكّر به الكتبة في قلوبهم، يل بدأ يصوّرهم، ثم أوضح ما صدمهم في إعلان يسوع للمخلّع. قال: "وكان بعض الكتبة جالسين هناك، يفكّرون في قلوبهم قائلين: ما لهذا يتكلّم هكذا؟ إنه يجدّف! فمن يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده" (مر 2: 6- 7)؟ لا يطيل مت الحديث حول وجود الكتبة. ولا يحتفظ مما قالوه في قلوبهم سوى الاتهام بالتجديف. فقد اعتبر ان لا حاجة لإيراد هذا التفسير: الله وحده يستطيع أن يغفر الخطايا.
نحن نفهم بسهولة اعتراض الكتبة: بما أن كل خطيئة هي إساءة إلى الله، فالله وحده يستطيع أن يغفر لمن أساء إليه. وحين منح يسوع المغفرة لخاطىء، فقد جعل نفسه مكان الله. ما كان محاورو يسوع يستطيعون أن يتخيّلوا مثل هذا الموقف. وستكون لهم الصدمة عينها حين يُعلن يسوع للمرأة الخاطئة أن خطاياها قد غُفرت. "بدأ الحاضرون يقولون في نفوسهم: من هو هذا حتّى يغفر الخطايا" (لو 7: 48- 49).
وأنتجت إعلانات أخرى ليسوع نتيجة مماثلة. فالطريقة التي بها قدّم نفسه على أنه ابن الله، جعلتهم يتّهمونه بالتجديف: "تقولون للذي كرّسه الآب وأرسله إلى العالم: أنت تجدف؟ لأني قلت: أنا ابن الله" (يو 10: 36). يجب بشكل خاصّ أن نقرّب من النصّ الذي ندرس (مخلّع كفرناحوم) المشهد الذي يشكّل الذروة في محاكمة يسوع أمام المجلس الأعلى (السنهدرين). استحلف عظيم الكهنة يسوخ أن يقول إن كان هو المسيح. ما اكتفى يسوع بأن يردّ على الجواب، بل زاد: "أنت قلت. وأيضاً أقول لكم: إنكم منذ الآن تبصرون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة (الله القدير) وآتياً على سحاب السماء" (26: 64).
لقد تماهى يسوع مع الكائن السماويّ الذي أعطى له دانيال اسم "ابن الانسان" (دا 7: 13). وتماهى مع "الربّ" الذي قال عنه داود إنه يجلس من عن يمين الله (مز 110: 1). فجاءت ردّة الفعل سريعة. "عندئذ شقّ رئيس الكهنة ثيابه، وقال: لقد جدّف. فما حاجتنا بعد إلى شهود؟ إنكم قد سمعتم تجديفه" (آ 65)! التقارب يفرض نفسه، لأن يسوع في حدث المخلّع طالب بسلطان غفران الخطايا بصفته "ابن الانسان". ففكرته عن دوره كابن الانسان اجتذبت إليه الاتهام بالتجديف.
عرف يسوع أفكار الكتبة. أو حسب اختلافة نصوصيّة: "رأى" أفكار الكتبة. وبدا مر هنا أطول من مت. "فأدرك يسوع في الحالة بروحه، ما يجول فيهم من الأفكار، فقال لهم: لمَ هذه الأفكار في قلوبكم" (مر 2: 8)؟ كان مت موجزاً، ولكن هذا لم يمنعه من أن يصف أفكار الحاضرين من الناحية الأخلاقيّة: هي أفكار "شريرة"، رديئة. هم لا يحاولون أن يفهموا، فحكموا عليه وانقادوا لاستعداداتهم السيّئة.
وإذ أراد يسوع أن يبرهن أن له الحق في أن يغفر الخطايا، أتمّ المعجزة، أعاد الصحة إلى هذا المخلّع، هذا المقعد، هذا المفلوج، وفي الوقت عينه شرح موقفه حول أصل سلطانه وطبيعته: إنه يمتلك هذا السلطان بصفته "ابن الانسان". لقد اجترح يسوع المعجزة لكي يعرف محاوروه "أن لابن الانسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا". الشفاء العجائبيّ هو علامة وحسب. وهو يشهد أن يسوع يمتلك سلطاناً أسمى من سلطان شفاء المرضى. يمتلك سلطاناً يخصّ "ابن الانسان".
ويظل تفسير يسوع غير واضح ما لم نعدُ إلى قول دا 7: 13- 14: "ورأيت في منامي ذلك الليل، فإذا بمثل ابن الانسان آتياً على سحاب السماء، فأسرع الى الشيخ الطاعن في السنّ فقرِّب إلى أمامه وأعطي سلطاناً ومجداً وملكاً حتى تعبده الشعوب من كل أمّة ولسان ويكون سلطانه سلطاناً أبدياً لا يزول، وملكه لا يتعدّاه الزمن".
هذا القول هو في أساس سلسلة طويلة من النصوص الإنجيليّة التي تتعلّق بـ "ابن الانسان". سبق وذكرنا إعلان يسوع أمام المجلس الأعلى: "سترون ابن الانسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً على سحاب السماء" (26: 24). لقد تماهى يسوع مع "ابن الانسان" الذي صوّره دانيال "آتياً على سحاب السماء". وفي الخطبة الاسكاتولوجيّة، صوّر يسوع "ابن الانسان آتياً على سحاب السماء بقوّة ومجد عظيمين" (24: 30). وشدّد على طابع هذا المجيء الذي يفاجىء الناس فلا يتوقّعونه (آ 27، 37، 39، 44). وفي مقدّمة مثَل الدينونة الأخيرة، نقرأ: "حين يأتي ابن الانسان في مجده، يرافقه جميع الملائكة، يجلس على عرش مجده. وتجتمع أمامه كل الأمم" (25: 31- 32). ونقرأ في 16: 27: "إن ابن الانسان سيأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب أعماله". ونجد كلاماً مماثلاً دون عبارة ابن الانسان في 28: 18: "أُعطي لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض".
على ضوء هذه القرائن، يتحدّد "سلطان ابن الانسان" كسلطة أعطيت للديان السامي، وهي سلطة تمتد إلى كل أمم الأرض، وتمنحه القدرة لكي يتم دينونة المسكونة كلها. وبفضل هذه السلطة المحدّدة، طالب يسوع بحقّه بأن يغفر الخطايا. منذ الآن هو يمتلك هذه السلطة السميا التي تسمح له بأن يرأس محكمة الدينونة الأخيرة. إذن، يحقّ له أن يستعمل هذا السلطان، فيستبق الحكم الذي سيصدره في نهاية الأزمنة. وإن شاء أن يستبق ساعة الدينونة، فهو لا يفعل لكي يعاقب على الخطيئة، ولكن ليغفر لنا ويحلّنا من خطايانا. فساعة تأدية الحساب لم تأتِ بعد. وسيسبقها زمن نعمة ورحمة.
معجزات يسوع هي علامات تكشف الستار الذي يغطّي سرّ شخصه. وحين أرسل يوحنا وفداً يسأله هل "هو الآتي"، أجاب يسوع بكل بساطة: "إذهبا وأخبرا يوحنا بما سمعتا ورأيتما: العمي "ينظرون، العرج يمشون، البرص يطهّرون، الصمّ يسمعون، الموتى يقومون، والمساكين يبشّرون" (11: 3- 5). عرف يوحنا المعمدان الكتب المقدّسة ففهم من رؤية أعمال يسوع السمات التي تميّز المسيح كما أعلنه أشعيا.
شهدَ شفاء مخلّع كفرناحوم على سلطان يسوع بأن يغفر الخطايا، فكان له أيضاً بُعد عميق وهو أنه أوحى لنا أن يسوع هو ابن الانسان الذي يتحدّث عنه سفر دانيال. هو يمتلك السلطان الذي منحه الله للديّان السامي الذي يتمّ الدينونة في نهاية الأزمنة. وحين يغفر الخطايا فهو يستبق على الأرض الوظيفة التي سوف يمارسها حين يأتي على سحاب السماء تحيط به الملائكة القديسون، فيجلس على عرش مجده.

3- سلطان أعطي للناس (9: 8)
اختتم مر ولو الحدث، شأنهما شأن مت، مشيرين إلى تأثير المعجزة على الجموع. قالت مر 2: 21 ب: "دهشوا كلهم ومجّدوا الله قائلين: ما رأينا قطّ مثل هذا". وقال لو 5: 26: "فدهشوا جميعاً ومجّدوا الله، وقالوا، وقد امتلأوا خوفاً: لقد رأينا اليوم أموراً خارقة"! إن السمة المسيطرة على هاتين الخاتمتين هي الدهشة، التعجّب: دهشوا جميعاً.
أما مت فلا يشير إلى ردّة الفعل البشريّة هذه، التي تميّز أولئك الذين لم يدركوا المعنى العميق للحدث. نحن ندهش لأننا لا نفهم. وعند مت، فالناس قد فهموا. وسيقول لنا ماذا فهموا. إذن، لا يقول شيئاً عن دهشتهم. هنا نقابل مع النهج الذي تبعه مت في خاتمة حدث المسيرة على المياه. في مر، دهش التلاميذ لأنهم لم يفهموا: "فدهشوا في أنفسهم أشدّ الدهش، لأنهم لم يفهموا شيئاً من أمر الأرغفة بل كانت قلوبهم عمياء" (مر 6: 51- 52). أما عند مت، فلا حديث عن الدهشة ولا عن عمى القلب. بل إن التلاميذ فهموا ملء الفهم، فجعل الانجيليّ في فمهم فعل إيمان ينير القارىء: "فسجد له الذين كانوا في السفينة، قائلين: أنت حقاً ابن الله" (14: 33)!
حين قدم مت الأمور بهذا الشكل، فكّر في قرّائه. فأراد أن يساعدهم على قراءة الحدث واستخلاص الدرس الذي يتفرّع منه. لا نهتمّ إن كان معاصروه فهموا أم لا. يجب على المسيحيين اليوم أن يفهموا. ففهمُ الحدث ترافقه بالضرورة عاطفة خوف: الخوف الذي يحسّ به الإنسان أمام الظهور الإلهيّ (17: 6- 7؛ 27: 54؛ 28: 5، 10). الخوف المقدّس الذي نترجمه مديحاً به نمجّد الله (رؤ 14: 7؛ 15: 4؛ 19: 5).
ونعود إلى السبب الذي لأجله دهش الجمع. عند مر: "ما رأينا مثل هذا قطّ". عند لو: "رأينا اليوم أموراً خارقة". وُلدت الدهشة مما رأوا، أي من المعجزة التي شاهدوها الساعة. فهي وحدها تلفت الانتباه، دون التوقّف عند الكلمات التي بها أعطى يسوعُ المعجزة مدلولاً أسمى. ولكن الوضع يختلف كل الاختلاف عند مت: ما حرّك الخوف هنا هو السلطان الذي أعطاه الله للبشر. لقد اختار الانجيلي لفظة "سلطان" عمداً: فهذه اللفظة هي التي استعملها يسوع في آ 6 (ابن الإنسان له سلطان، اكسوسيا)، حين أعلن أن ابن الإنسان له سلطان به يغفر الخطايا.
إن ردّة الفعل عند الجموع لا علاقة لها ببرهان يسوع. فهي لا ترى فيه إلاّ رجلاً خارقاً، ومجترح معجزات كسائر مجترحي المعجزات. هذا هو معنى نصّ مر 2: 12 ولو 5: 26. أما في نصّ مت المهتمّ باللاهوت أكثر منه بالسيكولوجيا، فقد وُجدت علاقة وثيقة بين آ 6 الكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً به يغفر الخطايا) وبين آ 8 (مجّدت الجموع الله لأنه أعطى الناس مثل هذا السلطان). وبكلام آخر، السلطان الذي تتحدّث عنه آ 6 هو ذلك الذي تتحدّث عنه آ 8، سلطان غفران الخطايا.
وهذا السلطان، في حدّ ذاته لا يخصّ إلا الله وحده. وإذ شفى يسوع المقعد، أعطى البرهان أنه يستطيع أن يمارس هذا السلطان الإلهي، سلطان المغفرة. ومرمى آ 8 يكمن في التعارض: سلطان يعود إلى الله وحده، ومع ذلك قد أعطي للبشر.
كان أناس آخرون قد مارسوا سلطان صنع المعجزات. والشفاء العجائبيّ الذي اجترحه يسوع ليس خارقاً أكثر من معجزات قام بها هذا النبيّ أو ذاك. أما ما هو جديد حقاً، ولم يُسمع به في حصر الكلمة، فهو واقع يقول بأن ليسوع السلطان أن يغفر الخطايا. مثل هذا السلطان لم يُعطَ أبداً للبشر. ولكن بيسوع أعطي الآن في الكنيسة للبشر.
إذا كان المعنى العام من آ 8 ينتج بما فيه الكفاية من علاقة توحّد هذه الآية مع الخبر السابق، يجب أن نقرّ رغم ذلك أن التعبير يبقى ملتبساً. كنا أمام سلطان لا يخصّ في طبيعته إلا الله وحده. ولكن يقاسمه فيه إبن الإنسان بالنظر إلى وظيفته كديّان الأحياء والأموات. فكيف استطاع الانجيليّ أن يكتب أن هذا السلطان قد أعطي "للناس"؟
مثل هذا التأكيد العام يدهشنا ويحرّك الأسئلة العديدة. فإذا أردنا أن نخرج منها، يجب أن لا ننسى أن متّى هو انجيليّ مسيحيّ وأنه يكتب لقرّاء مسيحيّين. وطريقته في تدوين ردّة فعل الجموع اليهوديّة، تدلّ الجماعة المسيحيّة على فعل الشكر الذي يجب أن تؤدّيه لله، بسبب السلطان الذي أعطي ليسوع بصفته ابن الإنسان، وظلّ حاضراً في الكنيسة بواسطة البشر الذين إليهم سلّم يسوع هذا السلطان. وهكذا يفهم تعبير آ 8 بالنظر إلى الاهتمامات الكنسيّة التي تميّز الانجيل الأول، وتظهر بشكل خاص في اهتمامات متّى بالسلطات التي وهبها يسوع لرسله.
وبين النصوص التي تلقي ضوءاً على الآية التي ندرس (آ 8: تجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً كهذا)، هناك أولاً نهاية الانجيل الأول. ظهر يسوع القائم من الموت، على الأحد عشر، على جبل في الجليل، وأعلن لهم: "أعطي لي كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض" (28: 18). لقد وجدت نبوءة دانيال تمامها: اقترب ابن الإنسان إلى أمام عرش الله ونال السلطة على جميع الشعوب والأمم والألسنة (دا 7: 13- 14).
وزاد يسوع: "فاذهبوا إذن وتلمذوا جميع الأمم: عمّدوهم، علّموهم" (آ 19- 20). هناك رباط نتائجي بين السلطان الذي ناله يسوع على الكون كله والرسالة الشاملة التي سلّمها إلى الرسل. وهذه الرسالة هي رسالة تعليم. بل هي تقوم بأن ننقل تعليم يسوع: "علّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به". فالذين يقبلون هذا التعليم يكونون، في كل معنى الكلمة لا تلاميذ الرسل، بل تلاميذ يسوع. يبقى أن الرسل، وبفضل الوكالة التي أوكلوا بها، هم من أودع فيهم سلطان يسوع السامي. أوكلهم يسوع بأن ينقلوا وصاياه، فقاموا بعملهم بسلطة تنبع من السلطة التي تقبّلها يسوع من الله، وتشارك في شموليّتها.
ويوضح نصّان خاصّان بمتّى مدلول هذا السلطان التعليميّ. يرتبط الأول ببطرس. أعلن له يسوع: "أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات" (16: 19). والنصّ الثاني يوسّع هذا الوعد ليصل إلى كل الحلقة الرسوليّة: "كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء. وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (18: 18).
جاء المقطع الأول أكثر وضوحاً وأكثر أهميّة. فيسوع أعلن نيّته بأن يبني كنيسة لا يستطيع عالم الموت شيئاً ضدّها. إذن، ستدوم هذه الكنيسة "حتى انقضاء الدهور". وما يؤمّن لها ثباتها هو هذا "الصخر" (أو: الحجر، كيفا تعني الاثنين في الأراميّة والسريانيّة) الذي عليه أسّست. وبفضل هذا "الصخر" تنجو من هجمات الموت (16: 18).
هذه الكلمات هي صدى لما في أش 28: 14- 16: "فاسمعوا هذه الكلمات أيها المستهزئون؟... لذلك قال السيّد الربّ: ها أنا أضع في صهيون حجراً مختاراً، حجر زاوية كريماً، أساساً راسخاً، فمن آمن به فلن ينهزم. وأجعل العدل ميزاناً والحقّ معياراً... ويُلغى عهدكم مع الموت ويبطل ميثاقكم مع الهاوية". هذا القول النبويّ قد قرأه المسيحيّون الأولون (رج روم 9: 33؛ 10: 11؛ 1 بط 2: 6) في خطّ تفسير يهوديّ، وأعطوه معنى مسيحانياً، فماهوا بين "الحجر" الأساسّي والمسيح: فهذا الدور الذي يخصّ يسوع بشكل خاص، يريد أن يقاسمه مع "سمعان بريونا"، رئيس الرسل.
وإذ أراد يسوع أن يتيح لبطرس أن يقوم بهذا الدور، نقل إليه سلطاناً، فعاد إلى صورتين متكاملتين. أولاً، سلّمه مفاتيح ملكوت السماوات. والمفاتيح ترمز إلى سلطات الوكيل. هذه الصورة قد أخذت من أش 22: 22 (ألقي مفتاح داود على كتفه: يفتح فلا يغلق أحدٌ، ويُغلق فلا يفتح أحد) فعادت إلى الظهور في رؤ 3: 7 التي طبّقتها على المسيح: "ذاك الذي يمسك مفتاح داود. إن فتح لا يغلق أحد، وأن أغلق لا يفتح أحد". وفي مت 23: 13 (تغلقون في وجه الناس ملكوت السماوات، فلا تدخلون أنتم)، تدلّ الصورة على سلطة علماء الشريعة الذين يلومهم يسوع لأنهم يغلقون (بالمفتاح) ملكوت السماوات أمام البشر.
ثانياً، إن استعارة 16: 19 ترتبط بالتفسير عينه، تفسير السلطة التعليميّة. ذاك هو المعنى العادي لعبارة "ربط" و"حلّ". هي تنطبق في الحالات العاديّة على سلطة الرابانيين الذين يتَّخذون قراراً "فيربطون" الناس، وذلك حين يحدّدون أن هذا العمل ضروريّ أو ممنوع. و"يحلّون". الناس حين يعلنون أن هذا العمل "حرّ"، ومسموح به. ويستعمل هذان الفعلان أيضاً في معنى: استُبعد من الجماعة أو أعيد إليها. لفظ ألحرم أو صالح ذلك الذي استحقّ الغفران.
كل هذا جزء لا يتجزأ من سلطان التعليم. فيسوع سلّم إلى بطرس سلطات تعليميّة وتأديبيّة ستوافق على قراراتها السماء، أي الله نفسه: ما يأمر به بطرس أو يشجبه، يأمر به الله نفسه ويشجبه. وما يسمح به بطرس أو يسامح به، يسمح به الله أو يسامح به. وبفضل ممارسة هذا السلطان لا تخاف الكنيسة من هجمات الموت. وهذا السلطان هو مسيحانيّ في المعنى الأصليّ للكلمة. وبطرس لا يمتلكه إلا بتفويض، بانتقال سلطة نالها يسوع من الله. إذن، أراد يسوع أن يقاسم سلطانه مع بطرس وسائر الرسل. هذا ما تفرّد به متّى، وذكّر به قرّاءه.
لم يكن للشاب الغنيّ من الجرأة لكي يتجاوب مع نداء يسوع. فاستخرج يسوع الدرس من هذا الفشل: إنه لصعب جداً، بل هو مستحيل من الناحية البشريّة، أن يدخل غنيّ إلى ملكوت الله. استفاد بطرس من المناسبة فرفع ملاحظته إلى المعلّم: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك" (مر 10: 28؛ لو 18: 28). أما مت فزاد: "ماذا يكون لنا" (19: 27)؟ أجاب يسوع بوعد لتلاميذه.
في مر ولو، يتوجّه الوعد بشكل عام إلى كل الذين تركوا شيئاً من أجل يسوع. والوعد وعدان. وعد في الزمن الحاضر: ينالون مئة ضعف. ووعد في الزمن الآتي: الحياة الأبديّة (مر 10: 29- 30؛ لو 18: 29- 30). أما مت فلم يحتفظ بالتمييز بين مجازاة في الزمن الحاضر وأخرى في العالم الآتي. بل أدخل تمييزاً آخر: بدأ يسوع فأعلن مجازاة خاصة للرسل (19: 28). ثم تكلّم عن مجازاة محفوظة لكل من تخلّى عمّا يملك (آ 29).
والوعد الذي يؤمّن للرسل مجازاة مميّزة، يأتي ولا شكّ من سياق آخر، وهذا له مدلوله. نقرأ في آ 28: "الحقّ أقول لكم، أنتم الذين تبعتموني، متّى جلس ابن البشر في عهد التجديد، على عرش مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر". لقد عرفنا أنه في نهاية الأزمنة" سيأتي ابن الانسان في مجده ترافقه جميع الملائكة، فيجلس على عرش مجده" (25: 31). إذن، يرأس محكمة الدينونة الأخيرة. "تجتمع أمامه كل الأمم، فيفصل الواحد عن الآخر كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء" (آ 32). ويعلمنا 19: 28 أن الديّان السامي يحيط به في هذه الجلسة الاحتفاليّة عددٌ من المعاونين: سيجلس بجانبه الرسل الاثنا عشر ليدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر.
من المفيد جداً أن نقرّب من هذا الوعد نصوصاً يتحدّث فيها مت عن سلطات منحها يسوع لبطرس ولسائر الرسل. ففي درسنا 9: 6 وصلنا إلى استنتاج يقول إن يسوع ربط بصفته ابن الإنسان سلطان مغفرة الخطايا الذي ينعم به. وبما أنه الديّان السامي يستطيع أن يستبق الدينونة المقبلة فيغفر للبشر خطاياهم. والرسل الذين مُنحوا سلطان الربط والحلّ، يستطيعون هم أيضاً أن يمنحوا غفراناً توافق عليه السماء، فيصبح غفرانَ الله بالذات.
وهكذا نرى الآن أنهم سيكونون في نهاية الأزمنة متّحدين بابن الإنسان اتحاداً وثيقاً في وظيفته كديّان. والموازاة واضحة جداً، وهي تقول لنا إن يسوع أراد أيضاً للرسل أن يشركهم في سلطان الغفران الذي يمتلكه كابن الإنسان. فيه ومعه يستطيعون أن يستبقوا حكم الدينونة الأخيرة. وبما أن عليهم أن يكونوا هم أيضاً "ديّانين" في نهاية الأزمنة، نالوا على الأرض سلطان الربط وسلطان الحلّ.
ويشير دا 7 إلى امتداد للسلطان الذي مُنح لابن الإنسان. فبعد أن تكلم عن هذا السلطان في آ 14، قال في آ 22: "وحين يأتي قديم الأيام، يُسلّم القضاء إلى قدّيسي العليّ". إذن، يشارك القدّيسون في امتيازات ابن الإنسان. وبيّن الانجيل الأوّل أن الرسل يشاركون في هذه الامتيازات: بالسلطات التي مُنحت لهم على الأرض. بالوظيفة التي تعود إليهم في نهاية الأزمنة.
والسلطات الممنوحة لبطرس وسائر الرسل في الزمن الحاضر، تُعطى لهم من أجل خير كنيسة المسيح. وهكذا يُؤمّن لها ثباتها وتنجو من هجمات الموت. وهي ضروريّة ولا غنى عنها من أجل ديمومتها ككنيسة. والكفيل هو حضور المسيح في كنيسته حتى "انقضاء الدهور". لا يستخرج مت الاستنتاجات، ولكنها تظهر في ذاتها: هذه السلطات لا تزول بزوال الرسل، بل تبقى ملكاً للجماعة بخدمة الذين تسلّموها.
تتيح لنا هذه الشروح أن نعطي الآية التي تختتم خبر المخلّع (9: 8) كل مدلولها. اجترح يسوع المعجزة لكي يدلّ على أنه، وهو ابن الإنسان، له سلطان أن يغفر الخطايا. ويعرف متّى أن يسوع نقل سلطاته التي تبقى حاضرة في الكنيسة حتى بعد موت الرسل، أي سنة دوّن متّى انجيله. بل بعد ذلك الوقت، في زماننا، وحتى انقضاء العالم. هذه الفكرة عزيزة على قلب الانجيليّ الأول. فحين دعا قرّاءه إلى أن يخافوا الله ويمجّدوه للسلطان الذي أعطاه ليسوع، أراد لهم أيضاً أن يشكروه لأنه جعل هذا السلطان باقيا وسط البشر، وما زالت الكنيسة تمارسه بواسطة الرسل وخلفائهم.

خاتمة
إذا قابلنا نصّ مت حول المخلّع مع نصّ مر، فإنه يبدو فقيراً على مستوى التفاصيل والصور. فخبر مر خبر حيّ. أما خبر مت فيبدو ناشفاً جامداً. ولكن مت تفوّق على سائر الانجيليين حين أدرك البُعد العميق للحدث، وأظهر مدلوله اللاهوتي. هو لا يروي المعجزة من أجل المعجزة، بل من أجل البرهان التي تقدمه عن سلطان يمتلكه يسوع بأن يغفر الخطايا، وهو سلطان يلتصق بصفته ابن الإنسان والديان السامي في نهاية الأزمنة. وحين قرأ المسيحيّون هذا الخبر، ما استطاعوا أن ينسوا أن الله أراد أن يحافظ على هذا السلطان في الكنيسة، فأعطى البشر أن يستبقوا حكم الدينونة الأخيرة فيمنحوا الخاطئين مغفرة خطاياهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM