المَرحَلَة الرابعَة: عَشْرُ مُعجَزات الفصل الرابع والثلاثون: في أرض جدارة
 

الفصل الرابع والثلاثون
في أرض جدارة
8: 28- 34

جعلت الأناجيل الثلاثة الأولى هذا الحدث بعد تهدئة العاصفة. ولكن مت اختلف عن مر ولو حين جعل مجنونين (متشيطنين اثنين فيهما شياطين) لا واحداً. لم يذكر اسم هذا المجنون (اسمه لجيون في مر) ولم يتحدّث عن رغبته في أن يتبع يسوع. ما تركه مت من عناصر إخباريّة لا يؤثّر إطلاقاً على هدفه وهو إظهار سلطة يسوع على المرض وعلى كل سلطة شيطانيّة. فهو لهذا لا يحتاج إلى الزخرفة الأدبيّة ولا إلى غنى المفردات. أما الموضوع فهو امتداد لما في تسكين العاصفة. كما سيطر يسوع على قوى الشّر "في المياه"، هذه القوى التي تحارب الكنيسة وتحاول أن تغرقها، ها هو يسيطر على الشياطين في هذين المجنونَين، ويعيدهم إلى مكنان سكناهم، إلى البحر. وجاء تأثير مز 65: 8- 9 واضحاً: "المهدىء عجيج البحار، عجيج أمواجها وضجيج الأمم. سكان الأرض يخافون آياتك، ومطالع الصبح والمساء ترنّم لك". كما جاء تأثير أش 65: 1- 4.: "قلت: ظهرت لمن لا يسألون عني، ووُجدت لمن لا يطلبونني... مددت يدي نهاراً وليلاً نحو شعب متمرّد علي... يجلسون ويبيتون في المدافن ليستشيروا أرواح الموتى".
ويُطرح سؤال حول صحّة هذا الخبر، فلا نستطيع أن نقدّم جواباً وافياً. ولكن عبر هذا الخبر المتشعّب والبنية اللاهوتيّة، هناك نواة من الحقيقة حول شفاء هذا الرجل مع ذروة في خوف الخنازير وهربهم. كانت هذه الأرض وثنيّة وقد دلّ على ذلك وجود الخنازير، فلم تعد كذلك بعد مرور يسوع، بل صارت أرض شعب الله.

1- في الأناجيل الثلاثة
قبل أن نقرأ النصّ الإنجيلي كما في مت، نقدّم النصوص المتوازية:

مت 8: 28- 34
ولما جاء إلى العبر
إلى منطقة الجداريين


استقبله
مجنونان من القبور



هائجان جداً





حتى لم يكن أحد يقدر
أن يجتاز من تلك الطريق


وإذا

هما قد صرخا قائلين
ما لنا ولك
يا ابن الله
أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟



















وكان
بعيداً عنهم قطيع خنازير
كثيرة ترعى
فالشياطين طلبوا إليه
قائلين
إن كنت تخرجنا
أرسلنا إلى قطيع الخنازير
فقال لهم: امضوا
فخرجوا

ومضوا
إلى الخنازير
فاندفع كل القطيع
من على الجرف
إلى البحر

ومات
في المياه
اما الرعاة
فهربوا ومضوا
إلى المدينة وأخبروا
عن كل شيء
وعن المجنونين
فإذا كل المدينة
قد خرجت
لملاقاة يسوع
ولما رأوه







طلبوا إليه


لكي ينصرّف
عن تخومهم.
مر 5: 1- 20
وجاء إلى عبر البحر
إلى منطقة الجراسيين

ولما خرج من السفينة
للوقت استقبله من القبور
انسان به روح نجس


كان مسكنه
القبور،
ولم يقدر أحد أن يربطه
ولا بسلاسل، لأنه قد
ربط كثيراً بقيود وسلاسل
فقطع السلاسل
وكسرّ القيود
فلم يقدر أحد أن يذلّله
وكان دائماً ليلاً ونهاراً
في القبور وفي الجبال
يصيح ويجرّح نفسه بالحجارة فلما رأى يسوع من بعيد
ركض وسجد له
وصرخ بصوت عظيم وقال
ما لي ولك
يا يسوع ابن الله العلّي
استحلفك بالله
أن لا تعذّبني
لأنه قال له
أيها الروح النجس
أخرج من الانسان







وسأله

ما اسمك
فقال له: لجيون
اسمي
لاننا كثيرون
وطلب إليه كثيراً
أن لا يرسله إلى خارج

وكان
هناك عند الجبال قطيع
من الخنازير كبير ترعى
فطلبوا إليه
قائلين
أرسلنا إلى الخنازير
لندخل فيها
فأذن لهم
فخرجت
الارواح النجسة
ودخلت
إلى الخنازير
واندفع القطيع
من على الجرف
إلى البحر
وكان نحو ألفين
فاختنق
في البحر
وأما رعاتها
فهربوا
وأخبروا في المدينة
وفي الضياع


فخرجوا ليروا ما جرى
وجاؤوا إلى يسوع
فنظروا المجنون جالساً

ولابساً وعاقلاً
الذي كان فيه لجيون
فخافوا
فحدّثهم الذين رأوا
كيف جرى للمجنون
وعن الخنازير
فابتدأوا يطلبون إليه


أن يمضي
عن تخومهم

ولما دخل السفينة
طلب إليه الذي
كان مجنوناً
أن يكون معه
فلم يدعه
بل قال له
إذهب إلى بيتك
وإلى أهلك
واخبرهم ما
صنع الرب بك
ورحمك
فمضى
وابتدأ ينادي
في المدن العشر
ما صنع به يسوع
فتعجّب الجميع. لو 8: 26- 39
وساروا
الى منطقة الجراسيين
التي هي مقابل الجليل
ولما خرج إلى الأرض
استقبله
رجل من المدينة كان
فيه شياطين
من زمان طويل لا يلبس ثوباً
ولا يقيم في بيت
بل في القبور









فلما رأى يسوع
صرخ خرّ له
وقال بصوت عظيم
ما لي ولك
يا يسوع ابن الله العلّي
أطلب منك
أن لا تعذّبني
لأنه أمر
الروح النجس
أن يخرج من الإنسان
لأنه منذ زمان كثير
كان يخطفه
وقد ربط بسلاسل وقيود
محروساً
وكان يقطع الربط
ويساق من الشيطان
إلى البراري
فسأله
يسوع:
ما اسمك
فقال: لجيون

لأن شياطين كثيرة دخلت فيه
وطلب إليه
أن لا يأمرهم بالذهاب
إلى المنطقة
وكان
هناك قطيع خنازير كثيرة
ترعى في الجبل
فطلبوا إليه

أن يأذن لهم
بالدخول فيها
فأذن لهم
فخرجت
الشياطين من الانسان
ودخلت
إلى الخنازير
واندفع القطيع
من على الجرف
إلى البحيرة

فاختنق

فلما رأى الرعاة
ما كان، هربوا
وأخبروا في المدينة
وفي الضياع


خرجوا ليروا ما جرى
وجاؤوا إلى يسوع
فوجدوا جالساً الإنسان
الذي منه الشياطين خرجت
لابساً وعاقلاً
عند قدمي يسرع
فخافوا
فاخبرهم الذين رأوا
كيف خلص المجنون

وطلب إليه كل جمهور
المنطقة المحيطة
ببلاد الجراسيين
أن يذهب عنهم

لأنه اعتراهم خوف عظيم
ودخل إلى السفينة ورجع
فطلب إليه الرجل الذي منه
خرجت الشياطين
أن يكون معه
ولكن صرفه
قائلاً
إرجع إلى بيتك

وحدّثهم بما
صنع بك الله

فمضى
ينادي
في كل المدينة
ما صنع به يسوع.

اتفق الإزائيون الثلاثة على جعل هذا الخبر حالاً بعد خبر تهدئة العاصفة. ولكنهم اختلفوا اختلافاً ملحوظاً في تفاصيل الخبر. عند مر ولو نجد مجنوناً واحداً واسمه لجيون. بعد أن شُفي أراد أن يتبع يسوع. أما في مت فهناك مجنونان. ولكن كيف يستطيع هذان المجنونان أن يكونا معاً وهما ما هما من شراسة الطبع. غير أن الانجيلي الأول اهتمّ دوماً بأن يكون هناك اثنان (اعميان لا أعمى واحد) من أجل صحة الشهادة. أجل إن هذين المجنونين سيشهدان ليسوع في أرض وثنية. هي هذه المدينة، كما قال لو، أي كل مدينة في ذلك العالم الروماني المترامي الاطراف. هي في المدن العشر التي امتدت شرقيّ الاردن فجمعت العنصر الوثني والمتحضر بالحضارة اليونانيّة، إلى العنصر اليهودي والمتحدّث بالأرامية.
جهل مت اسم ذلك المجنون، وما همّ. المهمّ هو أن يسوع شفاه فكان آية لأهل مدينة جدارة. ثم إن مت لم يقل شيئاً عن رغبة ذلك المجنون (أو المجنونين) في أن يتبع يسوع. أجل، لم تأتِ بعد ساعةُ الأمم الوثنية. يجب أن ننتظر القيامة لكي تنطلق البشارة في العالم الوثني وتسمع توصية الربّ: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (28: 19).
قد نستطيع أن نتوقّف عند الاختلافات بين نصّ ونصّ، وارتباط هذا النص بالآخر. ولكننا نفضّل أن نتوقّف عند الطابع اللاهوتيّ عند الخبر المتّاوي الذي ظهر متماسكاً جداً مع مجمل الإنجيل. لقد ركّز مت الخبر على الجوهر، فلم يبقَ إلا يسوع والمعجزة نفسها، وبعض العبارات حول ردّة فعل المعجزة لدى الجمهور. لم نعد نرى عنده ما عند مر من طرفة في الخبر، ولا ما عند لو من ترتيب في الرواية. فعل متّى هنا كما في سائر إنجيله، فجعل على "المسرح" شخصين: يسوع والشياطين (لهذا لم يذكر اسم المجنون أو المجنونين). لم يتحدّث عن الشخصين اللذين نعما بالمعجزة. أما العبارة الأصليّة الأهم في هذا الخبر فهي آ 29: "جئت إلى هنا لتعذبنا قبل الأوان". هذا الزمن هو زمن الدينونة الأخيرة حيث تزول كل قوّة الشياطين. فتقسيم يسوع (ليخرج الشياطين) يستبق هذه الأشفية الأخيرة. وإذ يتحدّث النصّ عمّا يفعله يسوع هنا في أرض وثنيّة، فهو يعلن أيضاً خلاص جميع الأمم. فلفظة "هنا" (جئت إلى هنا) وعبارة "قبل الأوان" تتوجّهان إلى مسيحيين من أصل وثنيّ انضموا إلى الكنيسة التي يوجّه إليها متّى إنجيله.

2- قراءة تفصيليّة
هناك تفاصيل حول اسم الموضوع (جراسة أو جدارة)، حول المجنونين، حول السبب الشعبيّ لهرب الخنزير كدلالة على هزيمة الشّر. ففي نظر اليهوديّ يرمز الخنزير إلى النجاسة وإلى العالم الوثنيّ الذي هو الموقع الرئيسي للنجاسة. وقطيع الخنازير لا يمكن أن يكون إلا في أرض وثنيّة. هذا ما نقوله أيضاً عن مثل الابن الضال (لو 15: 12 ي): أخذ يرعى الخنازير. فهذا يعني أنه ذهب إلى أرض وثنية. ذهب إلى أرض بعيدة، لأن الأرض القريبة هي أرض فلسطين، أرض الله. وهكذا يرمز الابن الأصغر إلى جميع الوثنيين الذين دخلوا إلى الكنيسة فعادوا إلى مكان كان لهم قبل أن يبتعدوا عن "شعب الله".
وإذا عدنا إلى منطق الخبر، نرى أنه من الطبيعيّ أن توجد الشياطين (التي هي النجاسة بالذات) في هذه الخنازير، فتسقط في البحر أو البحيرة أو المياه. لا ننسَ أن الماء هو موضع إقامة الشّر والشياطين. وهكذا انتصر يسوع مرتين على المياه التي يخاف منها العبرانيّ كل الخوف: مرّة أولى حين هدّأ المياه التي تهاجم السفينة مع الرسل، التي تهاجم الكنيسة. ومرة ثانية حين أهلك فيها هذه الأرواح الشريرة.
"ولما وصل إلى العبر" (آ 28). يتحدّث النصّ عن أرض الجداريين، عن جدارة التي تبعد 10 كلم إلى الجنوب من مصبّ نهر الأردن، على الشاطىء الشرقيّ لبحيرة الجليل. قال مر 5: 1 ولو 8: 26: جراسة، بلاد الجراسيّين. وهي موضع آخر في ذات المنطقة. هل امتدت جدارة حتى بحيرة جنسارت؟ يبقى الأمر موضوع جدال لدى الشّراح. وكانت اختلافة تقول أرض الجرجسيّين. ولكن لا أرض الجراسيين ولا أرض الجرجسيّين تتوافقان مع إطار هذا الخبر.
مهما يكن من أمر، نحن في أرض وثنية. ما يدلّ على ذلك: مناخ الخبر كله. وجود قطيع الخنازير، كما سبق وقلنا. ردّة الفعل لدى أهل "المدينة". لم نعد هنا أمام العالم الوثنيّ المستعدّ لتقبّل المسيح كما في وضع قائد المئة (8: 5- 13)، بل أمام عالم غريب عن الإنجيل وقد أخذ حذره من هذه الديانة الجديدة بانتظار أن يضطهدها. بدأ فطرد يسوع. بانتظار أن يطرد المبشّرين. لهذا قال لهم يسوع، كأنه يكلّم جماعة متّى في نهاية القرن الأول: "إن لم تُقبلوا ولم يُسمع لكم كلام، فعند خروجكم من ذلك البيت أو من تلك المدينة. انفضوا غبار أرجلكم" (10: 1). وقال أيضاً في الخطبة عينها: "ومتى اضطهدوكم في هذه "المدينة" فاهربوا إلى أخرى". هذا ما فعله يسوع حين طلب منه أهل تلك "المدينة" أن ينصرّف عن تخومها. وهكذا سيفعل التلاميذ. فالرسالة واسعة والحصاد كثير في كل مكان.
تحدّث النصّ عن القبور. هي القبور التي لم يعد يُدفن فيها أحد. لقد صارت ملجأ للبؤساء الذين يقيمون في مدخل الغرفة حيث تُوضع الأجساد (يو 20: 5، 6؛ رج 11: 38- 39؛ مر 15: 46؛ مت 27: 66). نلاحظ أن مت ترك جانباً الصورة المثيرة عن هذا الرجل صاحب القوّة الهائلة. فاكتفى بحاشية قصيرة: "استقبله مجنونان قد خرجا من القبور. وكانا من الشراسة بحيث لم يعد بوسع أحد أن يجتاز في تلك الطريق".
قالت مت: متشيطن. إنسان فيه شيطان (دايمونيزومانوس). وقال مر: امتلكه روح نجس. إنسان فيه روح نجس. وقالت لو: الشياطين: ألفاظ ثلاث لا معنى واحد.

3- مالنا ولك يا ابن الله
"وأخذا يصيحان قائلين" (آ 29). هذه هي الآية المركزيّة في خبر مت. فإن اصحاب الشياطين في الأناجيل أناس أصابتهم أمراض مختلفة نُسبت إلى الشياطين. وقد نعموا بوعي سريّ جعلهم يخافون سلطة يسوع وفي الوقت عينه يقرّون بهذه السلطة. مثلاً: قالت الكنعانيّة: "يا سيديّ، يا ابن داود ارحمني. إن ابنتي بها شيطان يعذّبها" (15: 22). هذا يعني أنها مريضة. قد يكون ذلك مرضاً جسدياً. وقد يكون مرضاً عقليّاً.
جاءت كلمات الشيطان الأولى هي هي في الأناجيل الإزائية الثلاثة: "مالنا ولك يا ابن الله؟ أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذيبنا" (مت)؟ "ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ. استحلفك بالله أن لا تعذّبني" (مر). لم نعد أمام شياطين عديدة، بل أمام روج نجس واحد. وفي لو خرّ الروح النجس ساجداً كما يفعل الناس أمام الله، وقال بصوت عظيم دلّ به على أن نهايته صارت قريبة. "مالي ولك يا يسوع ابن الله العليّ؟ أطلب منك أن لا تعذّبني".
يدلّ السياق في النصوص الثلاثة على الخوف، كما يدلّ على اعتراف واضح بيسوع الذي هو "ابن الله". هذه العبارة التي نجدها بشكل خاص في مت وفي يو، تغرز جذورها في العهد القديم. ويجب أن نفسّرها في مقولات الفكر البيبليّ، المسيحانيّة والوظيفيّة: يسوع هو المختار الذي كلّف بمهمّة حاسمة تدشّن الأزمنة الأخيرة.
نقرأ في 2: 15: "من مصر دعوت ابني". هذا ما يجعله مت في فم الآب في إنجيل الطفولة، مؤوّناً كلام هو 11: 1. وفي 3: 17 نقرأ الصوت السماوي: "هذا هو ابني الحبيب". وفي 4: 3 نسمع عبارة "ابن الله" في فم إبليس. وفي 16: 16 نسمعها في اعتراف بطرس في قيصريّة فيلبس: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". رج 26: 63...
إذا عدنا إلى العهد القديم، رأينا أن عبارة "ابن الله" تنطبق على الملائكة، على الشعب المختار، على المؤمنين في بني إسرائيل، على المسيح. نقرأ مثلاً في 1 صم 7: 14: "أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً". هذا ما قاله "الرب" بواسطة نبيّه ناتان عن سليمان ابن داود. لا شكّ في أننا هنا أمام قراءة لاحقة على ضوء الأحدث التي أوصلت السلالة الداودية إلى أيام المنفى، وما زالت تتطلّع إلى ملك مسيح وممسوح يقيم باسم الله السلام على الإرض.
ونقرأ في مز 2: 7 الصوت الإلهي يصل إلى الملك في يوم تتويجه. الله نفسه يتبنّاه فيقول له: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك". وفي 89: 27: "يناديني أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي". فالعبارة تدلّ على علاقة خاصّة مع الله، مؤسّسة على الاختيار والرسالة التي يوكل بها أبناءه. وتوسّعت المسيحيّة الأولى في مفهوم الاختيار والمهمّة هذه، فشّددت منذ اعترافات الإيمان الأولى على الطابع الفريد والحاسم لشخص يسوع: إنه ذلك الذي يعيش مع الله في علاقة بنويّة لا شبيه لها. إنه ذلك الذي سلّمت إليه مهمّة لا مثيل لها من أجل خلاص البشر. على ما قال الملاك: "يخلّص شعبه من خطاياهم". وعلى ما قال يسوع نفسه في ساعة من ساعات صلاته الحميمة: ليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن" (11: 27).
"ما لنا ولك"؟ عبارة نجدها مراراً في التوراة. نقرأ مثلا في قض 11: 12 كلاماً وجّهه رسل يفتاح إلى ملك بني عمّون: "ما لي ولك. أنت جئتني للحرب في أرضي". نحن هنا أمام اختلاف عميق بين شخصين. وقد يصل هذا الاختلاف إلى العداوة "والحرب". ونقرأ في 2 صم 16: 10 كلام الملك داود: "ما لي ولكم يا بني صرويّة" (رج 19: 23). وقالت أرملة صرفت صيدا لإيليا النبيّ: "ما لي ولك يا رجل الله، جئتني لتذكّرني بذنونبي وتميت ابني" (1 مل 17: 18). المسافة شاسعة بين الأرملة التي تعتبر نفسها خاطئة. وإيليا الذي تسمّيه رجل الله لأنه قريب من الله، وبالتالي ينعم بالقداسة.
لماذا قال الشيطان ما قال ليسوع؟ ليمنعه من تدخّل ليس في وقته. أو ليدلّ على رفض كل علاقة معه. فالشيطان الذي يُعتبر متكلماً في فم المريض وباسم رفاقه، يفهم أن سلطانه على هذا الرجل صار إلى النهاية. هنا نتذكّر كلام يسوع في لو 10: 18: "رأيت الشيطان يسقط من السماء مثل البرق". هكذا انتصر يسوع وانتصر تلاميذه، فحلّ ملكوت الله في العالم.
نقرأ في هذه الآية لفظتين: "هودي" (هنا). "بروكايرو" (قبل الآوان). فالشيطان يقول ليسوع: ماذا جئت تعمل هنا؟ أن تعمل في العالم اليهوديّ، لا بأس. ولكن ماذا جئت تعمل في العالم الوثني؟ هل جئت تحمّلنا العذابات المحفوظة لنا في الدينونة الأخيرة؟ لا نجد شيئاً من هذا في مر ولو. لا نجد فكرة تقول إن يسوع يستبق الأزمنة التي فيها يُنزل الشيطان عن عرشه. إن الإنجيليّ الأول يفكر في وقت الكنيسة حيث جعله التقسيم (وطرد) على الأرواح النجسة يستشفّ النهاية الأخيرة لقوى الشيطان.
لم يعد الخلاص حقيقة وُعدنا بها من أجل زمن قريب جداً في عالم الملكوت الجديد. الخلاص هو هنا، "على الأرض" (28: 18، كما في السماء)، بعد أن امتدّ سلطان ابن البشر "على الأرض" لكي يغفر الخطايا (9: 6 وز). لقد صار الخلاص واقعاً آنياً، وهو قد حلّ فينا. والاستعمال العادي في مت للفظة "كايروس" (الزمن) يُثبت هذا التفسير.
قبل زمن الحصاد، أي قبل الدينونة، يسوع قد جعل الشياطين تهرب. في 13: 30 نعرف ما سيعمله يسوع في وقت الحصاد. يقول للحاصدين: "إجمعوا أولاً الزؤان واربطوه حزماً ليحرق. أما الحنطة فاجمعوها إلى اهرائي". وفي 21: 34، نعرف أن ربّ البيت أرسل غلمانه إلى الكرّامين ليأخذ ثمر كرمه. فقد حان أوان الثمر (رج 26: 18). ويتحدّث النصّ عن "العذابات" (باسانيزاين): هي تنتمي إلى اللغة الجليانيّة حول الدينونة الأخيرة. نقرأ مثلاً في رؤ 9: 5: "فرض عليه لا أن يقتلهم، بل أن يعذّبهم خمسة أشهر، وتعذيبه كتعذيب عقرب إذا لدغت إنساناً" (رج 11: 10؛ 12: 2، 14: 10؛ 20: 10).

4- قطيع الخنازير
"وكان على بعض المسافة منهما" (آ 30- 32). إذا كان ما قلناه في ما قبل هو صحيح، نجد في آ 30- 32 نوراً جديداً. أحسّ الشياطين أن خصمهم الذي سيقضي عليهم قد اقترب، فأرادوا أن يتجنّبوا حكم الإعدام الآن. أرادوا أن يؤخّروا الساعة التي فيها يعودون إلى ديارهم. فتوسّلوا إلى يسوع أن يرسلهم إلى قطيع الخنازير. فالخنازير هي الملجأ الحقيقيّ للأرواح النجسة. نلاحظ أن يسوع "يتحدّث" مع الشياطين (دايمونس) لا مع الممسوسين.
طلبوا من يسوع، فأعطاهم يسوع ما طلبوا. غير أن النصّ لا يقول إنه فعل ما فعل لكي يريح المجنونين. فالخبر يبقى مركّزاً حتى النهاية على الشياطين. ولكن القطيع كله دخل فيه روح جنون فاندفع إلى البحيرة. اندفع الخنازير واندفع الشياطين معهم. هل نحن قريبون من سر العماد كما كان يُعطى في المسيحية القديمة والتقسيمات التي تمارس في ذلك الوقت؟ الأمر ممكن. فالمسيح انتصر على الشيطان في موته وقيامته. وإذ يُعمّد المسيحيّ يشارك المسيح في موته وقيامته، وبالتالي في انتصاره على الشيطان. لم يعد تحت الدينونة، بل نال الخلاص منذ الآن، فيبقى عليه أن يفتح قلبه لهذا الخلاص فيصبح هذا الخلاص واقعاً آنياً في حياته بانتظار أن يتجلّى عند ساعة موته.
هنا نتساءل عن غرق هذه الخنازير. قد يكون هناك خبر شعبيّ تحدّث عن غرق بعض الخنازير. فتوسّع الكاتب في الخبر وربطه بمجيء يسوع إلى هذه الأرض الوثنيّة التي اعتبر الشيطان أنه سيّدها، وأن لا مكان ليسوع فيها. ولكن الأقوى (أي يسوع) دخل إلى "بيت" القويّ (الذي هو الشيطان) وجرّده من أسلابه. هذا ما فعله يسوع في أرض الجدريّين. وهذا ما يفعل تلاميذه حيث تقيم الخنازير، أي في كل أرض وثنية، فيكون انتصارهم تاماً على الشيطان.
"وهرب الرعاة". أزال مت العنصر البشريّ الذي نجده لدى مر ولو اللذين قالا: نظر الناس إلى المجنون فرأوه "جالساً ولابساً وعاقلاً". وجلس "عند قدمي يسوع " كالتلميذ السامع لكلام الربّ. بعد أن صار انساناً من الناس، ها هو يطلب من يسوع أن يكون تلميذاً له، "أن يكون معه".
ما اهتم مت إلا في نهاية (اباتانون) القطيع والشياطين. ولكنه أشار كعادته إلى ردّة الفعل العامة (بوليس: المدينة) على الحدث. وهي ردّة فعل تدلّ على تفسير نشاط يسوع من وجهة وثنيّة يرافقها الخوف. لا ننكر أن شيئاً عظيماً قد حصل، ولكننا لا نريد أن نتمعّن في ما حدث. من الأفضل أن نبقى بعيدين. هذا ما تفرضه الفطنة البشرية. لهذا طلبوا إلى "يسوع أن يتحوّل عن تخومهم". وهكذا توقّف الخبر. أما مر ولو فاعتبرا أن الخبر لم ينتهِ بعد. ذهب المسيح ولكنه ترك وراءه شاهداً يتابع رسالته على مثال لوقا. قال يسوع للمجنون: "إرجع إلى بيتك وحدّث بما صنع الله لك" (لو 8: 39).

خاتمة
نحسّ وكأننا أمام "رؤية مفصّلة" في نظر اليهوديّ. غير أن الجدريين لم يرتاحوا لمثل هذا الخبر. فهم أيضاً قد ذهبوا للقاء يسوع بعد أن سقطت الخنازير من الماء. ولكنهم لم يأتوا إليه لأنه أزال الشّر من بينهم، بل اتوا إليه ليطلبوا منه أن ينصرف عن تخومهم. لقد صار يسوع عبثاً عليهم، ويودّون التخلّص منه لئلا يصيبهم "أسوأ". أتكون تلك خبرة متّى في المدن الوثنيّة؟ ربما.
إذن، كان ليسوع لقاءان. في لقاء أول انتصر على القوى الشّريرة التي تعتبر السيّدة في العالم الوثني. وفي لقاءٍ ثانٍ تغلّب عليه رفضُ الوثنيين الذين لم يستفيدوا من الظرف ليستقبلوا يسوع كما استقبله السامريون ورأوا فيه مخلّص العالم. إذا كان انتصار يسوع على العاصفة قد ملأ أولئك الرجال دهشة بقدرة يسوع، ففشله هنا يفهمنا أن المعركة لم تنتهِ بعد. وسوف يتابعها الرسل إلى أن يأتي وقت يُطرح فيه إبليس "في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش والنبيّ الكذاب (السلطتان السياسيّة والايدولوجية اللتان تضطهدان الكنيسة) أيضاً. هناك يعذّبون نهاراً وليلاً إلى دهر الدهور" (رؤ 20: 10)!

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM