الفصل الثامن: لا تخافوهم

الفصل الثامن
لا تخافوهم
10: 26- 36

هذا المقطع القاسي هو انجيل وبشرى، هو خبر طيّب. إنه يكشف لنا الشريعة العميقة التي توجّه حياة تلميذ يسوع، والينبوعَ الرئيسي لقوّته. وشريعة الحياة هذه هي تلك التي مارسها شهود يسوع بدءًا باسطفانس، أحد السبعة (أع 7: 4 ي)، وهذه القوة هي التي في موتهم تجعل الحياة تنتصر.

1- تأليف النصّ
بعد أن قدّم لنا مت تعليمًا حول البرّ الحقيقي في خطبة الجبل (ف 5-7)، ها هو يقدّم لنا الخطبة الثانية التي هي عرض تعليميّ للوضع الذي يعيش فيه تلميذ يسوع (35:9- 11:1).
تتضمّن هذه المجموعة عناصر مختلفة وهي تنقسم إلى ثلاث وحدات: تتضمّن الأولى خطبة الرسالة، وهي تعالج المهمّة التي سُلّمت إلى التلاميذ (9: 35- 10: 16). وتتحدّث الثانية عن الاضطهادات التي سيقاسيها التلاميذ (10: 17-25). وبدت الوحدة الثالثة متراخية، فتضمّنت أقوالاً خاصة تعرض الظروف الباطنيّة من أجل السير على خطى يسوع. إذا وضعنا جانبًا الآيات الختامية (10: 40-42)، يمكننا القول إن 10: 26-39 يختتم هذه المجموعة التي سُميّت خطبة الارسال أو الخطبة الرسولية.
إذا توقّفنا عند تأليف النصّ، وجدنا البناء متراخيًا في نهايته. ذاك كان الوضع في عظة الجبل (بعد 6: 19). أما بالنسبة إلى المضمون، فأقوى ما فيه هو نهايته. بعد أن أورد مت الأمر بالرسالة مع توصيات مفصّلة وعمليّة ترافقه. وبعد أن أعلن المضايق الخارجية، ها هو يقودنا إلى قلب وضع الرسالة.
والامانة لهذه الرسالة تفترض من قبَل التلميذ الذي يخدم معلّمه (24:10-25)، أن يتخلّى عن كل حياء بشري ليعترف جهارًا بإيمانه (10: 26-33). أن يفضّل الارتباط بيسوع على كل رباط آخر (10: 34- 37). بل أن يضحّي بحياته راغباً في تفتّح شخصيته وامتلاك نفسه: "من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها" (10: 39).

2- درس من أجل الكنيسة
في الوحدة الثالثة (تبدأ مع آ 26)، فصل مت الخطبةَ الرسوليّة عن وضعها التاريخي في حياة يسوع، وجعل منها تعليمًا ذا بعد واسع يتوجّه إلى تلاميذ يسوع. بدا الانجيلي وكأنه نسي الظرف الملموس الذي قرأناه في 9: 35- 10: 1، نسي الخاتمة التي تلقي ضوءاً على معنى المجموعة كلها.
ما شاء الكاتب أن يعطينا هنا تقريراً مفصَّلاً عن إرسال التلاميذ "إلى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل" (10: 6). هذا الارسال أراده يسوع امتدادًا لكرازته في القول والعمل. وهو مناسبة للانجيلي لكي يشرح للكنيسة من هو التلميذ وما هو دوره. وهكذا بدا مت 10 "درسًا للكنيسة"، وهو لا يُفهم إلاّ كذلك.
وهناك فكرة تُشرف على المجموعة: التلميذ هو مرسَل. ووضعه كتلميذ يتحقّق في إرساله. ولا يهتم مت هنا في تصوير هذا "الكائن الجديد"، بقدر ما يؤكّد على إرادة سامية تعمل فيه. فيسوع هو الذي يختاره ويدعوه بحرّية، ثم يرسله. ويتحقّق وضع التلميذ حين يقبل هذا الاختيار، يسمع النداء، ويخضع له في الحياة اليوميّة.
ويوافق هذا الوضعُ شريعة أساسية من شرائع العمل الالهي، كما نجده في الكتاب القدس منذ ابراهيم (تك 12: 1-4) إلى يوحنا المعمدان (لو 1: 7؛ 2:3). لا يكتفي نصّ مت بأن يستعيد الوضع التاريخيّ للحقبة التي مارس فيها يسوع رسالته على الأرض. ولكنه يعلمنا بالوضع الذي اختبره متّى نفسه حين كان يدوّن انجيله. وهكذا يبدو واضحًا أن الانجيلي يطبّق أقوال يسوع على عصره.
هناك سمات تتيح لنا أن نتعرّف إلى هذه التطبيق بشكل أكيد. لهذا نفسّرها بالنظر إلى الوضع الذي لأجله وُضعت وفي إطار ذلك الزمان. وقد تستطيع هذه السمات أن تكون نقطة انطلاق للتفسير الذي نعطيه اليوم. فهي تشكّل منذ الآن مرحلة في التفسير الصحيح في زمن الكنيسة، وتجهّز الجسر الذي يربط "زمن يسوع" بـ "زمن الكنيسة".
ونجد علامة أكيدة لهذا التأوين في العبارة الأولى من النصّ الذي ندرس: "إذن لا تخافوهم" (آ 26 أ). هذه العبارة هي انتقالة بين الوحدة الثانية والوحدة الثالثة. والضمير "هم" يتعلّق بالذين يُشعلون البغض والاضطهاد (10: 17- 25). فالاضطهادات التي ينظر اليها النصّ هنا، هي تلك التي تأتي من اليهود (17:10، 23، 24-25)، والتي قاستها في ذلك الزمان كنيسة متّى بطريقة عنيفة. "إذن لا تخافوهم"! إذن، نحن أمام عودة إلى خصوم يريدون إيذاء الانجيل ويضطهدون أبناء دينهم.

3- وحدة 10: 26-33
تكوّنت هذه المجموعة في "المعين". وهذا ما يدلّ عليه ترتيب الأفكار المشابَه في مت وفي لو 12: 2-9. إذن نعتبر هذه المقطوعة الصغيرة وحدة تامّة، ونفسّرها انطلاقاً من الفكرة الموجّهة في النصّ الحالي. نستطيع أن نكتشف فيها مقطعين أدبيّين كانا منفصلين في البداية (10: 26- 31؛ 10: 32- 33). ضُمّ المقطعان الآن في توسيع واحد، وهذا وضعٌ له أهميّته.
لا يتكلّم المقطع الأول في شكله اللوقاي (الذي يبدو أقدم من الشكل المتاوي) الا عن التلميذ تجاه الله الآب. ولا نجد حديثًا مباشرًا عن يسوع، عن دوره بالنسبة إلى الرسالة وإلى حياة التلميذ (لو 12: 3). لن تظهر هذه الافكار بوضوح إلاّ في آ 32-33 (= لو 12: 8-9). غير أن متّى دلّ منذ البداية على هذه العلاقة حين كتب: "ما أقوله لكم في الظلمة" (آ 27). لقد ارتدى المقطع الأول من هذا النصّ "لباسه المسيحي"، كما تحاول أن تعيشه الكنيسة بعد القيامة.

وهناك ملاحظة ثانية. قال يسوع في المقطع الأول إن عصفوراً واحداً لا يسقط على الأرض "بدون علم أبيكم" (آ 29) (رج لو 12: 6: أمام الله). غير أننا نقرأ في المقطع الثاني أن يسوع يعترف بالتلميذ أو ينكره "قدّام أبي الذي في السماوات" (آ 32-33) (رج لو 12: 8-9: أمام ملائكة الله). تتميّز لفظة "أبيكم" عن لفظة "أبي"، لكن اللفظتين متشابهتان. وهكذا نكتشف هنا دور يسوع الرئيسيّ، وهو يحدّثنا عن أبيه (أبي) وعن أبينا (أبوكم).
وتشكّل آ 32-33 الحلقة التي تربط ما يسبق بالأقوال اللاحقة، حيث نكتشف بشكل أوضح أهمّية يسوع في حياة التلميذ. ففي نظر مت، لم يعد من الممكن أن نجعل حاجزًا بين الله ويسوع كما فعله اللاهوتيّون اليهود. فشخص يسوع قد يكون مناسبة شكّ وعثار. ولكنه يتيح أيضاً للايمان أن يعلّمنا الاقتداء بالمعلم اقتداءً كاملاً (39:10).

4- لا تخافوهم
هناك فكرة واحدة تمتدّ في كل النصّ: هي الدعوة أن لا نخاف (آ 26، 28، 31). إن هذا التحريض يشكّل النظرة الأساسيّة التي بها ترتبط على التوالي مختلف المواضيع.
أ- الموضوع الأول
يجب أن لا تخافوا. فالتعليم العظيم، تعليم ملكوت الله، سيظهر قريبًا، سيُعلن. أما ما يبقى خفيًا في الظلمة، فسيُقال في وضح النهار، وسيُكشف بشكل علنيّ. والذي لا نستطيع إلاّ أن نتهامس فيه الآن في عمق الآذان (بسبب الأخطار الخارجيّة)، سينادى به على السطوح (آ 27). نحن أمام كلمة يسوع، أمام تعليمه ("ما أقوله لكم"). وهكذا تتحقّق قاعدة عامّة يعبّر عنها القول المأثور: "ليس من خفيّ إلاّ سيظهر، ولا مكتوم إلاّ سيُعلن" (آ 26 ب).
إذن الموضوع الاول في الدعوة الى ترك الخوف جانبًا هو ثقة وفرح أمام عمل الله الذي يتمّه يسوع وتحمله كلمتُه. فعلى التلميذ أن لا يقنط إن كان النجاح الحاضر طفيفًا أو ربما معدومًا. فكما أن الشمس التي تطلع تنتصر على الليل، كذلك تعليم يسوع ينفذ في العالم ولا شيء يستطيع أن يقف في وجهه.
ب- الموضوع الثاني
يقدّم الموضوع الثاني (آ 28) فكرة تقول إن حياة الانسان الحقيقيّة تبقى بمعزل عن كل ضرر (لا يصيبها شرّ). قد يهاجم الناسُ حياة الجسد، قد يخنقونها، قد يدمّرونها. ولكنهم لا يستطيعون شيئًا ضد "الحياة الحقة"، ضد الانسان في عمقه، نفسًا وجسدًا. فهذا الانسان لا يصيبه "هجوم". ثم إن عبارة "النفس والجسد" تذكّرنا بعبارة في العهد القديم: الحياة والموت. فالحياة هي وجود الانسان الحقيقيّ، كما يتأسّس في الله ويجد فيه غايته. أما الموت فهو وجود شبيه بوجود الظلّ. هو الانسان الذي لم يعد مرتبطًا بالله، لم يعد قريبًا من الله. والحياة الحقيقيّة التي يؤمّنها الله بشكل نهائي، لا يمكن أن تنتقص. كما لا يتمكن البشر أن ينتزعوها منا، حتى وإن دمّروا فينا حياة الجسد.
وما يحرس هذه الحياة هو "مخافة الله". نحن أمام مدلول مركزيّ في العهد القديم والعالم اليهودي. وهو يتضمّن أول ما يتضمّن أن يقبل الانسان بوضعه كخليقة، أن يقبل بارتباطه بالله الخالق. ولكن وجوده كخليقة لن يجد تحقيقَه الكامل إلاّ بكلمة الله الحية كما تنكشف لشعبه. فالذي يسمعها يرى نفسه مدعوًا لكي يقدّم جوابًا. والجواب الذي يعطيه هو القبول بوضعه كخليقة، القبول بارتباطه التامّ بالله. وتكون فينا مخافة الله حين نعطي جواباً هو جواب الخليقة إلى خالقها: هذا هو أساس الثقة بالله (آ 29- 31).
"لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون أن يقتلوا النفس. بل خافوا بالحريّ ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (آ 28). في هذه الكلمة القاسية، بدت كل عودة، وإن ضمنيّة، إلى شخص يسوع غائبة. فالعبارِة تقدَّم إلينا مع كل صرامة العهد القديم. فمخافة الله تؤكّد، شأنها شأن محبة الله (مت 22: 37-38)، هذه الثقة في وجهتها الأساسية. وإن الرسائل تتحدّث هي أيضًا عن "محبة المسيح" (روم 8: 35؛ 2 كور 5: 14) عن "مخافة المسيح" (أف 5: 21؛ 2 كور 5: 11). وهناك تحريض ثالث في آ 31 أ: "لا تخافوا. فأنتم أفضل من عصافير كثيرة". هذا التحريض يعود بنا إلى الآيات السابقة (آ 39- 30؛ رج "ايضًا" في آ 31).
ج- الموضوع الثالث
الموضوع الثالث هو عناية الله التي تسهر على الخليقة كلها، ولا تستثني حتى الصغيرة منها. غير أن هذه العناية ليست ناموسًا مجرّدًا يقرّر ويحدّد كلّ شيء مسبقاً (كالقدر). إنها شخص حي. إنها الله "أبوكم"، وهو يسهر عليكم كما تسهر الأم على أولادها. فلا تخافوا. إن العبور من الاصغر إلى الأكبر يعطي البرهان قوّة منطقيّة كبيرة. "أنتم أفضل من عصافير كثيرة" (آ 31 ب). فتجاه التجرّد ومخاطر الرسالة، يحمل هذا الموضوع الأخير أكبر تشجيع وعزاء. فعلى التلميذ أن يعرف مهما كانت أحواله، أنه موضوع حنان وسهر الآب الذي في السماوات.
5- من يعترف بي اعترف به
وتأتي الجملتان الاخيرتان اللتان تحدّثنا عنهما (آ 32-33) فتقابلان بين "الخوف" و"الاعتراف". حين نتحرّر من الخوف من البشر، نستطيع أن نعترف بالمسيح اعترافًا شجاعًا. هذا الاعتراف لا يُضعف الخوف ولا يوقفه. فالتلميذ المرسل مدعوّ إلى الشهادة من أجل يسوع (من يعترف بي)، وهذه الشهادة تتطلّب التزامًا شخصيًا تامًا. فقضيّة يسوع يجب أن تكون كلها قضيّة التلميذ. وبعبارة أخرى حين نعلن البشرى نشهد ليسوع، نعترف بشخص يسوع.
والذي أعلن دوماً إيمانه (1 تم 6: 12) يجد في يسوع نفسه مرافقًا له عند ساعة الدينونة. فيسوع يعترف به أيضًا أمام الآب الذي في السماوات. كما أنه ينكر من ينكره أمام البشر.
ما نلاحظه هنا هو أن يسوع لا يبدو فقط كديّان نهاية الأزمنة، بل يبدو أيضًا كالمحامي عن المؤمنين أمام الله الديّان. لقد اجتمع الدوْران في شخصه. فالآب قد أعطاه أن يدين البشر (25: 31 ي؛ رج 23:7). وهو في الوقت عينه مع الذين آمنوا به وتبعوه بحيث يمثّلهم أمام الآب أفضل تمثيل (10: 40؛ 20:18؛ 35:25 ي).
ولكن بدل أن نقدّم النظريات عن الطريقة التي بها يرتبط دور الديّان بدور المحامي، وكيف يتوافقان، نتوقّف عند أهميّة هاتين الجملتين بالنسبة إلينا.
فالفكرة التي تشرف على النصّ هي أن هذا الموقف يعني جوهرياً شخص يسوع. ثم إن النصّ لا يطبّق وعده إلا على التلاميذ وحدهم: فهو لا يقول شيئاً عن مصير سائر البشر.
ومهما يكن من أمر، فالتلميذ الذي يرفض الاعتراف بيسوع، يكون خائنًا لدعوته، ويحرم نفسه من أقوى عون في الساعة الحاسمة. وهكذا تتّخذ كل قيمتها الدعواتُ الملحّة لكي نتخلّص من كل خوف.

6- ما جئت لألقي السلام (10: 34-36)
أ- نظرة عامة
في هذا المقطع يندّد يسوع بسوء تفاهم حول السلام الذي يقدّمه. فالسلام الذي يقدّمه هو في الواقع سيف وحرب وخلاف. ويلتقي متّى هنا مع لو 12: 51-53: "أوتظنون أني جئت لأنشر السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الشقاق".
نحن هنا في القسم الرابع من تعليمات يسوع إلى رسله. انتهى القسم الأول في آ 15: "إن أرض سدوم وعمورة ستكون يوم الدين أهون مصيراً من تلك المدينة". وبدأ القسم الثاني بالحديث عن الآلام والاضطهادات التي تصيب التلاميذ: "ها أنا أرسلكم كخراف بين ذئاب". وبدأ القسم الثالث في آ 26: "لا تخافوهم". وها نحن في القسم الرابع (آ 34-36) الذي يختلف عن الأقسام الثلاثة السابقة. كانت تلك الاقسام حضًا على الشجاعة حتى الاستشهاد والموت. أما القسم الرابع فيشدّد بالاحرى على وجهة مجهولة من رسالة يسوع. رسالة وضع الخلاف والانشقاق بين الابن وأبيه والأم وابنتها. هذا ما يبدو في الظاهر. ولكن في الواقع ليس الامر كذلك. فكلمات المسيح المتّاوي تتوخّى حثّ التلاميذ على شهادة للمسيح بدون خوف. غير أن النصّ يعبّر عن هذا التحريض على أساس تعليم حول رسالة المسيح نفسه. إذن الفكرة الجوهرية هي هي في الاقسام الاربعة: إذا أراد المؤمن أن يشهد فيتألّم عندما يؤدّي شهادته، فينبغي عليه لا أن يتسلّح بالشجاعة فحسب، بل بفهم دقيق لمصير يسوع نفسه (ليس تلميذ أفضل من معلمه).
إن المقابلة مع النصّ الموازي في لوقا ترينا شيئاً خاصاً. من جهة، الفكرة الرئيسية هي هي في مت ولو. ونحن نجد لفظة "سلام" في الانجيليّين. ولكن إن وضعنا هذا جانباً، نرى أن الاسلوب يتغيّر بين إنجيل وآخر. فحين عاد لوقا إلى مي 6:7 (الابن يستهين بأبيه والابنة تقوم على أمها)، اختلف كل الاختلاف عن متّى. اذن، نحن هنا أمام حالة لا يكون نصَّا مت ولو متشابهَين بسبب ارتباطهما المشترك بانجيل مرقس (الذي لم يورد هذه الآيات)، ولا بسبب ارتباطهما بمرجع آخر دوّن في اليونانية. فلو كان الأمر كذلك، كيف نشرح الاختلافات بين الاثنين؟ لهذا يجب أن نتخيّل معطية شفهيّة أصيلة هضمها تقليدان متوازيان قبل أن تدوَّن كتابة.
وها نحن نقدّم النصوص الثلاثة الواحد بإزاء الآخر:
مي 7: 6 مت 10: 35-36 لو 12: 53
يشاق (يعارض) الأب
الابن
الابن يستهين 35- جئت أفرّق الانسان والابن
بأبيه عن أبيه الأب
والابنة تقوم والابنة الام الابنة
والابنة
على أمّها عن أمّها الامّ
والكنّة والكنّة والكنّة
على حماتها عن حماتها الحماة.
وأعداء الانسان 36- وأعداء الانسان
أهل بيته. أهل بيته.
إذا وضعنا جانبًا الاختلاف الاول بين مي ومت، (قال الاول: الابن، والثاني: الانسان)، يبدو مت أقرب إلى مي من لو، وذلك حتى النهاية مع آ 36 التي استغنى عنها لو. شدّد الانجيل الثالث على الشقاق (والخلاف)
داخل البيت الواحد، وجعله على خطين: من الأب إلى الابن ومن الابن إلى الأب... والغى العبارة الاخيرة: "أعداء الانسان أهل بيته". غير أنه عاد بعض الشيء إلى هذا الخلاف في 16:21: "وسيسلمكم حتى آباؤكم وأمهاتكم واخوتكم واقرباؤكم واصدقاؤكم، ويقتلون منكم".
ب- لا تظنّوا أني جئت (آ 34)
إن فعل "نوميزاين" الذي يستعمل في 17:5 يعني هنا، لا تتصوّروا. لا تضعوا في عقولكم. هو يحارب سوء تفاهم. نجد هنا لهجة هجومية ضدّ أخطاء وضلال حول يسوع، وذلك داخل الجماعة المسيحاويّة في كنائس ترتبط بمتّى. فمعنى هذا الفعل حتى في 20: 10 (خطأ عمّال الساعة الأولى حين ظنّوا ما ظنّوا) هو هو.
في العهد القديم، لفظة "ش ل و م" (سلام) غنيّة بحيث لا تعني فقط ما يعاكس الحرب. فهي تدلّ على الازدهار والنجاح والسعادة من أجل الشعب. وهي تصف العلاقات الشخصيّة والظروف الجماعيّة (يش 15:9؛ 1 مل 5: 15؛ سي 26: 22)، وتصف بشكل خاصّ العلاقات مع الله. في الأيام الأخيرة يقيم الله السلام في هذا المعنى الاسكاتولوجي. تدلّ اللفظة على مجمل الخلاص المنتظر وعلى جوهر هذا الخلاص (أش 6:9؛ زك 9:9؛ حز 25:34). في مت 13:10 (= لو 10: 5)، على التلاميذ أن يحملوا السلام إلى الناس الذين يذهبون إليهم. ونعرف لدى قراءتنا الرسائل أن التلاميذ الأولين كانوا أمناء في هذا المجال: "ليكن إله السلام معكم أجمعين" (روم 15: 33). "الله ليس إله تشويش، بل إله سلام" (1 كور 14: 33). "لأنه هو (أي المسيح) سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين شعبًا واحدًا" (أف 2: 14).
إذن ندهش حين نرى المسيح في انجيل متّى يحذّر تلاميذه من مسيح "مسالم"، من مسيح "يحمل السلام" (ذاك كان عمل الانبياء الكذبة الذين يقولون سلام ولا سلام، رج إر 6: 14؛ 8: 11؛ حز 13: 10، 16). لا شكّ في أننا نعرف أن "أيام المسيح" كما تخيّلتها مزامير سليمان (دوّنت في مناخ فريسيّ) أو كتابات قمران الاسيانية، ستكون أيام حرب عنيفة. غير أن هذا النصّ الانجيلي الذي نفهمه في سياقه، يوجّهنا في اتجاه آخر كما تدلّ على ذلك آ 13 ب، 16، 17-23. إن يسوع لن يقيم السلام في اسرائيل ساحقاً أعداءه، جامعاً الأمم تحت سلطة صهيون التي أعيد بناؤها. ولن يقيم السلام الهلنستي (كما فعل الاسكندر الكبير) جامعاً كل الشعوب تحت سلطة انسان يعامل الناس بلا رحمة. ولسنا هنا أمام السلام النهائيّ وسط بشريّة تصالحت مع الله. بل أمام السلام أو الحرب اللذين يسبّبهما شخصُ يسوع وشهادة تلاميذه.
فالفكرة الجوهريّة في النصّ تقول إن البشر سينقسمون على بعضهم البعض في جوّ من العنف. فيسوع لا يحمل السيف (ماخايرا، 47:26 ي؛ رؤ 13: 10) الحربيّ الطويل، بل السيف القصير الذي يستطيع كل واحد أن يستعمله ليهاجم قريبه. فيقوم الناس بعضهم على بعض بالنظر إلى السلام الذي يحمله يسوع ويجمله في شخصه. فتلاميذه المفروض فيهم أن يكونوا من أبناء السلام (5: 9) سيزرعون العنف أيضًا في وسط البشر.
ج- جئت لأفرّق الانسان (آ 35-36)
لا يرد فعل "ديخازاين" في مت إلاّ هنا. هو يعني: قطع الشيء اثنين. فصل، شقّ ما كان واحداً. مثلاً، في حديث عن الحسد الذي يزرع الشقاق حيث كانت الوحدة. ويرد مي 7: 6 بطريقة تختلف عمّا في لو 53:12 وفي سياق مختلف كما سبق وقلنا. لا يعود متّى إلى السبعينية ولا إلى العبري الماسوريّ. أيكون أن نصّ ميخا وُجد في كتب الاستشهادات؟ مهما يكن من أمر، لم يشعر متّى بالحاجة للعودة إلى العبري أو اليوناني.
قد نتساءل لماذا ينقسم الناس هكذا بسبب المسيح؟ ظنّ البعض أنهم يتركون أقاربهم ليتبعوا المسيح وهكذا تكون الانقسامات داخل البيت الواحد (رج 1 كور 7: 25 ي؛ 1 بط 3: 1 ي). ورأى آخرون أن الناس لن يتفقوا على شخص يسوع. أما التفسير الاول فقد استند إلى المقطوعة التالية (10: 37-39): من أحبّ أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقّني.

خاتمة
تلك هي الأفكار الرئيسيّة في هذا المقطع الذي يدعونا إلى أن ننبذ كل خلاف رغم الصعوبات والاضطهادات التي تهدّدنا. لماذا إخفاء الامور، ولماذا الاختباء في الأحكام. منذ البداية جعل يسوع تلاميذه أمام الواقع الذي ينتظرهم. ولكنه نبّههم أنهم لن يكونوا وحدهم. فالآب حاضر معهم. لا بعنايته الخافية فقط، بل بشخصه وعمله من أجلهم. ثم مهما فعل الناس، فهم لا يصلون إلاّ إلى الجسد. أما النفس التي هي مبدأ كل علاقة مع إله الحياة، فهم لا يستطيعون أن يسبّبوا لها أي ضرر. حياتهم هي في يد الله الذي يهتمّ بالعصفور الصغير الذي "لا قيمة له" في عين البشر. أتراه لا يهتمّ بأبنائه الذين يموتون من أجل قضيّة سامية، هي الانجيل. يموتون من أجل يسوع. وهكذا يعرف الرسل أن الحرب تنتظرهم. وسوف يقول يسوع هذا الكلام بشكل واضح جدًا في خطبة "نهاية العالم".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM