الفصل التاسع: الاستعداد لاتباع المسيح

الفصل التاسع
الاستعداد لاتباع المسيح 10: 37- 42

في هذه الآيات التي تختتم التوسّع حول وضع التلميذ، نميّز قسمين اثنين: آ 37-39. ثم آ 40-42. يقدّم القسم الأول نهاية الكلمات التي تتحدّث عن الاضطهادات وعن استعدادات التلميذ. ويستعيد القسم الثاني فكرة الرسالة التي عبّرت عنها بدايةُ الخطبة (10: 1- 5).

1- خسران الحياة
في آ 37، خفّف مت الشكل القاسي لقول يرد في لو 14: 26 (يبغض أباه وأمه)، وعبّر عنه بطريقة قريبة من منطقنا. ففي الاسلوب العبريّ، لا يعبّر فعل "أبغض"، "أحب" دومًا عن مواقف ناشطة ومحمّلة بالعاطفة. إنهما يعنيان أيضًا: فضّل، جعل شيئًا يمرّ بعد شيء آخر. أما مت فعبّر عن هذا الاختلاف على الطريقة الآراميّة (أكثر مني).
يتطلع النصّ هنا إلى الأهميّة الحاسمة لشخص يسوع كما في آ 32-33. هو يمرّ قبل الوالدين والأولاد. فالذي لا يعترف بهذه الاولويّة المطلقة، لا يستطيع أن يكون تلميذ يسوع (8: 19-22= 57:9-60). لماذا هذه القساوة بالنسبة إلى شعورنا البشريّ؟ الجواب: نحن أمام قضيّة الله. أمام شخص الله. وأمام هذه القضيّة تمّحى سائر القيم، وأمام هذا الشخص يختفي سائر الاشخاص. هذه هي لغة الانجيل، لغة المقطع الذي ندرس.
وتشكّل الآيتان التاليتان (آ 38-39) ذروة كل الخطبة الاسكاتولوجيّة وملّخصها في مت. يُعتبر هذان القولان منفصلين الواحد عن الآخر في الأصل. ولكنهما يتكاملان في التأليف الحالي.
يتحدّث القول الأول عن حمل الصليب. نحن هنا أمام عبارة رمزيّة تعني أنه يجب أن نكون مستعدّين لنذهب إلى الموت. ويرتبط هذا الاستعداد للموت بفكرة "تبع"، مشى وراء. فعلى الذي التزم في هذه الطريق، فالذي مشى "على خطى يسوع"، أن يكون مستعدًا كل الاستعداد، للتخلّي عن حياته. ومقابل هذا نقول: من وجد نفسه في هذا الاستعداد يستطيع أن يمشي وراء يسوع، أن يتبع يسوع. فكلاهما يترافقان معًا. وحده ذاك الذي يقبل الشرطين ويعمل على تحقيقهما، "يستحق" المعلّم.
تتكرّر هنا ثلاث مرات عبارة "لا يستحقّني" (في آ 37، 38). يكون الحديث أولاً عن الأب والأم (آ 37 أ). ثم عن الابن والابنة (آ 37 ب). ثم عن الحياة الشخصيّة (آ 38). وهكذا نصل إلى قمة التدّرج: أمام أولوية يسوع، أمام متطلّباته المطلقة، تبدو الحياة وكأنها تتلاشى كقيمة مستقلّة في ذاتها. فإذا إردنا أن نفهم النصّ، نجد عونًا في ما قلناه في آ 37: القضية قضية الله. ونحن نستطيع أن نفهم هذا التخفي التام تجاه كل خير بالنسبة إلى الله وحده. ومع ذلك، يبدو صعباً بل مستحيلاً على عقلنا البشري أن يفهم هذا القول. اذن هو يحتاج إلى شرح سوف يُعطى لنا في آ 39.
ولكن قبل ذلك. نعود إلى عبارة "حمل صليبه". هذه العبارة نجدها خمس مرات في الاناجيل الازائية. في 8: 34: "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه ويتبعني" إن حياة التلميذ الحقيقي تتجدّد بحياة يسوع: نتبعه في التخلّي عن ذاتنا، فنخاطر بحياتنا من أجل قضيّة سامية، من أجل يسوع والانجيل. ونقرأ في مت 16: 24 العبارة عينها كما في مر 8: 43. فاتّباع يسوع لا يعني عملاً خارجياً وسطحياً. بل التخلّي عن الذات وحمل الصليب. وأورد لو 9: 23 هذا القول وحدّد "كل يوم". التلميذ يحمل صليبه كل يوم. نحن هنا أمام شريعة مستمرّة في حياة المسيحي (رج 3:11) الذي يتخلّى كل يوم عن ذاته. وقد بدأ القول اللوقاوي بهذه العبارة: "قال للجميع". فهذا القول الإلهيّ لا يتوجّه فقط إلى الاثني عشر، بل إلى جميع تلاميذ المسيح.
ونقرأ الآن في مت 38:10: "من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني". وفي لو 27:14. "من لا يحمل صليبه ويتبعني، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذًا". لسنا فقط على مستوى الشهادة والموت من أجل المسيح، بل التخلّي عن الذات الذي يقود إلى الموت.
ونعود إلى مت 10: 39: "من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها". النفس هي الحياة. فعلى التلميذ أن يتخلى عن حياته، لأن لا قيمة لها (الحياة ليست طلبًا لمجهود على مثال جماعة الرواقيين). وهو لا يتخلّى عن حياته في احتقار وكبرياء على ما تقوله بعض الأناشيد الوطنيّة. إن آ 39 تقول عكس ذلك. علينا أن نخسر الحياة لكي نستطيع أن نربحها. ومقابل هذا، من وجد حياته، وتملكها وتعلّق بها، واعتبرها الحياة الحقيقيّة، فهو يخسرها، يضيعها.
لا منطق (ولا أخلاقية) في هذا العالم يساعدنا على فهم هذا الأمر. نحن هنا أمام خبرة وجودية تبدأ في وضاعة الحياة اليوميّة، وتتمّ بشكل رائع في ذبيحة الشهيد. ليست كلمة يسوع هذه صورة بلاغيّة، وليست جدليّة على مستوى العقل أو الوجود. فنحن لا نعرف عمقها ولا نستطيع أن نعيشه إلاّ في الايمان. والكافل الوحيد لحقيقة هذه الكلمة، والذي عليه نستطيع أن نرتكز مرة أخرى، هو الله الذي منه الحياة والموت. إنه من يفرض الموت (آ 38) ويهب الحياة.
تضمّن تدوين النصّ الذي ندرس لفظة "من أجلي". ق لو 17: 33: "من طلب أن يحفظ نفسه يهلكها. ومن أهلكها يحفظها"، هناك شهود يقولون: "يخلّص" بدل "يحفظ"، تمشّيًا مع لو 024:9 المعنى: يحفظها في قيد الحياة (يش 17:6؛ مز 79: 11؛ حز 18:13- 19). إن تأكيد لو 33:17 ببُعده الشامل، ينحصر هنا (مر 35:8= مت 25:16= لو 24:9) في مجموعة التلاميذ الذين هم في خدمة يسوع، وبالتالي يتعرّضون للعداوة والموت. لا شكّ في أنه كان من السهل أن نعطي عبارة يسوع العامة، هذا المعنى الخاص. ولكن أما نستطيع القول أيضًا إننا نجد هنا تعبيرًا عن فكرة تلهم كل مت 10: 26-39 في التدوين المتاوي. نجد وضع يسوع المشرف ودوره الحاسم كشخص حيّ في حياتنا.
ودينونة التلميذ تتمّ حسب الطريقة التي بها تصرّف تجاه معلّمه، وردّة فعل المعلّم على موقف التلميذ (10: 32-33). فعلى التلميذ أن يعترف في حياته بأولويّة يسوع. عليه أن يفضّله على الأقارب الأقربين (10: 35-37). عليه أن يتبعه هو حتى لو ضحّى بحياته. ففي النهاية، نحن نضحّي بحياتنا من أجل يسوع. وهكذا نرى الله يتراءى في شخص يسوع. إن عبارة "من أجلي" تعني: من أجل ملكوت الله وبرّه (5: 10؛ 6: 33).

2- قبول وجزاء
إن المجموعة المؤلّفة من آ 40-42 تتكوّن من أربعة أقوال مبنية بالشكل عينه تقريباً. والتقارب بين الأفكار واضح كالتقارب بين البُنى. القول الأول يؤكد الوحدة بين ذاك الذي يرسل وذاك الذي يُرسَل. وتتضمّن الأقوال الثلاثة التالية توافقًا بين قبول يناله مرسل محدّد، وجزاء من أجل ذلك القبول. نحن هنا أمام مثال نموذجي حول "الهلكة" (السلوك) المسيحية كما نجدها في مقاطع عديدة من مت (33:5-36؛ 18: 15-17؛ 23: 16-22).
نجد ما يوازي آ 40 في ينبوع خطب لوقا. "من سمع منكم فقد سمع مني، من نبذكم (احتقركم)، فقد نبذني. ومن نبذني، نبذ الذي أرسلني" (لو 10: 16). الفكران متقاربان، ولكن الاختلاف في التفاصيل واضح. انتزع مت هذا القول من موضعه الاصلي الذي احتلّه في ينبوع الخطب (حسب لو 16:10). ولم يبق عنده حديث عن السماع (سماع تعليم الانجيل)، بل عن قبول واستقبال المرسلين. إذن، ينطبق النصّ على وضع المرسلين في حقبة لاحقة هي حقبة كنيسة متى (لا حقبة حياة يسوع). ثم إن مت لا يذكر ما يقابل "نبذ" المرسلين، بل يتوقّف فقط عند الوجهة السلبية من القول: "من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل (الآب) الذي أرسلني". نجد في أساس هذا القول القاعدة الرابينيّة المتعلّقة بالمرسل (السليح، شليحا في الآرامية): "المرسَل يشبه من يُرسله".
والقول الذي يجد له ما يوازيه هو في آخر المجموعة (آ 42: القول الأخير). ونحن نقابله مع مر 9: 41. أخذه مت من مر ووضعه في هذا السياق. نلاحظ أن مت يطبّق هذا الكلام على "هؤلاء الصغار"، لا على التلاميذ بشكل عام كما يفعل مر (من سقاكم كأس ماء بما أنكم للمسيح). ففي التدوين المرقسي كانت الجملة جزءًا من أقوال ترتبط بالرسالة، وتتيح التعرف إلى إرسال التلاميذ إلى اسرائيل، كما في تاريخ يسوع. غير أن "هؤلاء الصغار" هم كتلة داخل الجماعة المسيحيّة. وهذا واضح من النصّ الموازي في مت 6:18-14 الذي هو مقطوعة تطبّق عناصر وتوصيات مختلفة على هذه الكتلة العائشة داخل الجماعة (مت 18). هذا هو التبديل الثاني في نص مت. قال: "بصفتكم تلاميذ". على أنه تلميذ. فالتلميذ عند مت هو المسيحي. ولفظة "تلميذ" هي التسمية التي تميّز المسيحي وتشير إليه.
ونتوقّف الآن عند المجموعة أي آ 41-42. نجد بين هذه الاقوال "قاعدة الجماعة" كما في مت 18: 15-17؛ 7:23- 11. إن قاعدة الجماعة هذه تريد أن تشدّد على كرامة "الصغار". لقد وجد الانجيلي آ 40- 41 كتقليد ثابت في كنيسته. تتطلّع هذه القاعدة إلى ظروف صارت من الماضي. فأوّنها الانجيليّ من أجل ظروف يعيش فيها الآن، وزاد لفظة "الصغار". أجل إن هذه "القاعدة" كانت قد تكونت قبله حين زيدت اللفظتان على القول عن الرسالة في آ 40.
"نبيّ، صدّيق". كان الانبياء والصدّيقون يُذكرون كمجموعات خاصة أو كـ " حالات" في الكنيسة (كما نقول: الاكليروس الرهباني، الاكليروس العلماني). فالنبيّ (المتجول) هو شخص نجده في كل الكنائس المسيحيّة الأولى. ويشهد العهد الجديد مرارًا على وجود هؤلاء الانبياء ونشاطهم.
والمجموعة الثانية هي مجموعة الصدّيقين. لا نجد ما يقابل هذه الفئة في العهد الجديد. لسنا أمام وظيفة أو خدمة، على مثال ما عرفت الجماعات البولسية. بل أمام "حالة" تستند إلى سلوك نموذجيّ لدى هؤلاء الناس. وبالتالي أمام وضعهم الرفيع في الجماعة. لا شكّ في أن مت عرف نظرة خاصة إلى الطريقة التي بها يكون الانسان "بارًا". كان يوسف بارًا (1: 19). وحسب امرأة بيلاطس، كان يسوع نفسه بارًا (27: 19). فالبرّ هو جوهر (ونظرة شاملة) الشكل الجديد لحياة تنتج من تعليم يسوع (5: 20). تعود اللفظة في جذورها إلى التوراة والعالم اليهودي. ولكن هناك وجهة جديدة تتخذها لفظة "صدّيق، بار" حسب تعليم يسوع. وهكذا يقال هنا أنه وُجدت "حالة" تكوّنت من هؤلاء الصدّيقين. وبما أنهم ذُكروا مع الانبياء، فهذا يعني أنهم كانوا موضوع احترام كبير. قد نكون هنا أمام بقيّة من تكوين قديم للجماعة.
سيتحدّث العالم السرياني مثلاً عن أبناء العهد وبنات العهد في الكنيسة، وهم أشخاص مكرّسون كلياً لله وعائشون في العالم. أيكون هؤلاء الصديقون" أسلافهم"؟!
وضمّ الانجيل إلى الانبياء والصدّيقين مجموعة "الصغار". فكرة جريئة وعظيمة. فالذي ليس له صفة خاصة إلا بأنه تلميذ، يتميز لأنه تلميذ ويُجعل مع جميع الآخرين. أجل، إن الصغار الذين هم فقط "تلاميذ"، الذين لا يعملون شيئاً إلاّ أن "يؤمنوا" (18: 6)، يستحقون هم أيضًا كرامة سامية ومحبة خاصة. هناك خطر كبير بأن يُجعلوا على هامش الجماعة، أن يُحتقروا، أن يُعاملوا بعنجهيّة من قبل "الكبار". إن 6:18-14 يحاول أن يتجنّب مثل هذا الوضع (رج آ 26، 10، 14). فكل من يعطي واحدًا من هؤلاء الصغار أقلّه كأس ماء بارد لأنه تلميذ ليسوع، ينال أجرًا شبيهًا بأجر من يستضيف نبيًا أو صدّيقًا في بيته.

خاتمة
هكذا تنتهي الخطبة الاسكاتولوجيّة. إن تلميذ يسوع (اذن المسيحي) هو مرسَل، ومصيره مرتبط بمصير معلّمه. وأصغر مسيحي، إذن "الصغير"، يجد كرامته محفوظة في هذه الجماعة. إن انجيل متّى قد حاول أن يبرز النظام الأساسي على مستوى المحبة والخدمة كما يتضمّنه تعليم يسوع. ولكن الكبرياء والطموح الأرضي والألقاب وقفت كخصم يقاوم هذا النظام (23: 8-12). لهذا قال لنا مت كلمات يسوع بشكل جديد بحيث يسمعها التلميذ في حياته وفي عصره.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM