الفصل السابع: خراف بين الذئاب

لفصل السابع
خراف بين الذئاب
17:10-25

إن العنوان الذي أعطيناه لهذا الفصل يعود إلى 10: 16 حيث يقول يسوع لتلاميذه: "ها أنا ارسلكم كخراف بين ذئاب. فكونوا اذن حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام". فهذه الآية تعتبر صلة وصل بين مقطوعتين، بين ما سبق الذي يرتبط بوداعة الحمل أو بساطة الحمام، وبين ما يلي الذي يرتبط بحكمة الحيّات. فصورة الخروف لا تُستعمل هنا لكي تصوّر شعب اسرائيل المشتّت (10: 6)، بل الوضع الخطر الذي يعيشه التلاميذ بعد أن أرسلوا بدون سلاح وسط خصوم يحملون اليهم العذاب والموت. ولكن من هم هؤلاء الخصوم؟ هم ذئاب. والصورة معروفة في العالم اليوناني كما في العالم الساميّ (إر 6:5؛ حب 1: 8؛ حز 27:22). أما في العهد الجديد، فالذئب يدل على الأنبياء الكذبة (15:7؛ أع 29:20). أو على كل ما يهدّد القطيع (يو 10: 12). أما في هذه الآية، فالذئاب ليسوا الهراطقة، بل اليهود ولا سيّما الفريسيين الذين كانوا خصوم يسوع ثم خصوم رسله. وهكذا تحيلنا العبارة إلى محيط سوري وفلسطيني عاش فيه مسيحيّو متّى حوالي سنة 80، وعرفوا فيه الاضطهاد والمضايقات.
هذا هو الاطار الذي فيه أعلن يسوع لرسله ما ينتظرهم من آلام. فبعد نظرة عامّة الى هذه المقطوعة، ندرس آياتها بالتفاصيل وننهي بالقراءة اللاهوتية.

1- نظرة عامّة
نحن هنا في القسم الثاني من تعليمات يسوع الى رسله. ويتميّز هذا القسم بشكل واضح عن القسم الأول الذي ينتهي في آ 15 مع صلة وصل في آ 16. في المقطوعة السابقة، سيطر موضوعُ السلطان الخارق الذي منحه يسوع للمنادين بالملكوت. غير أننا لا نجد تلميحًا دقيقًا إلى الآلام التي تنتظر المرسلين. كل ما نجد هو إشارة عابرة إلى أناس قد يَرذلون التلاميذ. في آ 13 يحمل الرسلُ سلام المسيح. فإن قُبل هذا السلام فهو يحّل على أهل ذلك البيت. وان لم يُقبل... إذن، هناك حالات يرفض فيها الناس أن يستقبلوا الرسل المنادين بالانجيل. حينئذ يعود سلامهم اليهم. وفي آ 15، نجد نتيجة رفض الناس للرسل. فالمصير الذي ينتظر هؤلاء الناس سيكون قاسيًا. غير أن آ 16 نبّهتنا إلى الذئاب التي "تهاجم" تلاميذ يسوع. لكن هذه التلميحات الى المقاومات التي تلقاها الجماعة، تظلّ غامضة. والمناخ الذي يسيطر على النشاط الرسولي هو مناخ النجاح والغلبة. بدت مسيرة الرسل رحلة "لا مشاكل فيها". سينتقلون من بيت الى بيت، ومن مدينة إلى مدينة، ويحملون السلام "بلا صعوبة" إلى الناس أجمعين!
ولكن مع آ 17 تتبدّل الأمور كليًا: فالرسل سيُبغَضون. وليس هذا فقط، بل تُصوّر المحن التي تصيبهم بدقّة نستطيع بواسطتها أن نحدّد طبيعة هذه المضايقات والمحيط الذي يعيش فيه الرسل. فالناس الذي تشير إليهم آ 17 هم اليهود بلا شكّ. إنهم يُميَّزون تمييزًا واضحًا عن الوثنيين (آ 18). هم أقرباء الرسل، آباؤهم، إخوتهم (آ 21). وهكذا سيكون البغض عامًا (آ 22) في جميع مدن اسرائيل (آ 23).
مثل هذه النظرة الاجمالية تدعونا إلى الملاحظات التالية:
أولاً: نجد مرمى هذه المقطوعة وما يميّزها من الوجهة التعليمية في آ 24: ليس تلميذ أفضل من معلمه، ولا عبد أفضل من سيّده. فما يعزّي الرسل ويشجّعهم ليس النصر الذي سيُمنح لهم رغم كل شيء. فهنا كما في العهد الجديد (رج 1 تس، 2 تس، 1 بط) يحصلون على العزاء الرئيسي حين يعرفون أن معلّمهم عرف قبلهم الآلام عينها. إذن يجب أن لا يدهشوا من ذلك!
ثانيًا: التماسك اللاهوتي واضح في هذه المقطوعة، لا التماسك الادبي. فنشعر كأننا أمام قطع مبعثرة، جُمعت بعد ذلك بشكل جدير بالملاحظة في انجيل متّى. وما يُثبت هذا القول، هو أن جزءًا من أقوال يسوع هنا، نجده في الخطبة الجليانيّة الكبرى. مثلاً، 9:24، 13: "حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم، ويبغضكم جميع الأمم من أجل اسمي... ولكن من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص". ثم في أماكن أخرى. ق آ 19-20 مع لو 12: 11- 12: "ومتى قادوكم إلى المجامع والمحاكم...". ق أيضًا آ 24-25 مع لو 6: 40: "ليس تلميذ أفضل من معلّمه".
فكما يحدث مرارًا، إن هذا النص الخاص بمتّى، هو نتيجة تأليف دقيق من جهة المعنى ومن جهة التعليم الفقاهي. وهو من الدقة بحيث إن قيمته الوثائقية في مسيرة حياة يسوع، تبدو وكأن الانجيلي لا يهتمّ لها. فقد قال أحد الشرّاح: "ما أراد الانجيليون أن يقدّموا لنا سلسلة من الأحداث بحيث يكون لنا تاريخ (سيرة) يسوع. بل رووا هذه الاحداث بترتيب يخضع لفكرة لاهوتيّة".
ثالثاً: إن هذه الملاحظات تطرح مرّة أخرى مسألة المحيط التاريخي لهذه الآيات، وهي مسألة رئيسية من أجل فهم النصّ وتفسيره. للوهلة الأولى، نحسب هذه التعليمات متأخّرة وهي تميّز المحيط السوريّ الفلسطيني حيث وُلد مت، وقد وضعها الانجيلي فيما بعد في فم يسوع. أن تكون هذه الآيات قد جُمعت لتشجّع المرسلين في السنوات 80- 90، أمر لا شك فيه. فمدوّن الانجيل لم يحتفظ بشيء من الأخبار التي لا تفيد كنيسته. ولكن أن نستنتج من كل هذا أن يسوع "لا يمكن" أن يتلفّظ بهذه الاقوال، فأمر لا نستطيع القبول به. فاللغة هي لغة فلسطين وكذلك الأفكار. ثم إن الازائيين الثلاثة يتّفقون على القول بأن يسوع كان واقعياً في ما يخصّ مصيره ومصير تلاميذه. هذا هو المعقول. أما غير ذلك فغير معقول في المناخ الفلسطيني في ذلك الوقت. نحن لا نقول إن ما نقرأ في هذه المقطوعة هو التسجيل الحرفيّ لما قاله يسوع. ولكن يسوع أعطى بلا شكّ تنبيهات إلى رسله، وقد أعادوا قراءتها على ضوء الأحداث التي عاشتها كنيستهم. ووجّههم الروح القدس، فكان لنا الانجيل الذي يعكس في الوقت عينه حياة يسوع وحياة الكنيسة.

2- الدراسة التفصيليّة
نحن هنا أمام عدد من الأقوال تدلّ على أن نصّ متّى راح أبعد من الوضع التاريخيّ للاثني عشر ليضمّ الوضع الذي عرفه المرسلون في زمن متّى. انتقل الانجيلي من صيغة الماضي إلى صيغة الحاضر دون أن يشير بوضوح إلى هذا الواقع. وهذا ما لفت نظر الشرّاح، مع أن الظاهرة معروفة في نصوص عديدة (مثلاً، يو 3). فالانتقال المفاجئ من الماضي إلى الحاضر ينتج عن نظرة متّى إلى الرسل كنموذج ومثال: إنهم يمثّلون القرّاء المسيحيين (ولا سيّما المرسلين) في زمن متّى. كل ما قاله يسوع للاثني عشر إنما قاله للكنيسة، ورسالة الكنيسة هي امتداد للرسالة التي بدأت في أمام يسوع على الارض.
أ- يسلم الرسل (آ 17)
بعد التنبيه الذي نقرأه في آ 16، قدّم الانجيليّ إرشادًا وصورةً مفصّلة عن الضيق الذي يصيب المرسلين. فرغم الحكمة والفطنة (آ 16 ب)، لا يستطيع التلميذ أن يتجنّب الاضطهاد. فلا شيء يدافع عنه حين يتألّم ظلمًا. بل نستطيع القول إن الألم هو ما يميّز المرسل (5: 10-12). كما يكون المعلم كذلك يكون التلميذ. والذين يتبعون الربّ يكون مصيره مصيرهم.
إن المواد في آ 17-22 تعود إلى مر 13: 9-13 (رج لو 21: 12-19). هذا الواقع هو مفتاح تفسير هذا النص. فإن مر 13 هو صورة عن الويلات التي تسبق مجيء المسيح الثاني. ومعالجة متّى لهذا الموضوع في ف 23، يدلّ على أنه فهم اتجاهه الاسكاتولوجيّ وأخذ به. بالاضافة الى ذلك، لا شيء في ف 10 يشير إلى الطبيعة الاسكاتولوجيّة للمواد المرقسيّة، بل إن 10: 22 يذكر بوضوح "النهاية" (أو: المنتهى) و10: 32 يعود إلى المجيء (باروسيا، العودة). ينتج عن هذا أن مت 10 ينظر إلى الرسالة القبل فصحيّة والرسالة البعد فصحيّة، وكلتاهما تنتميان إلى الضيق الاسكاتولوجي، إلى فترة الضيق التي تتطلّع إلى مجيء عالم الله الجديد. وبعبارة أخرى، استعمل متّى، شأنه شأن عدد من الكتّاب في الكنيسة الأولى، فكرة الضيق المسيحاني، ليفسّر الزمن الواقع بين المجيء الأول والمجيء الثاني.
ما فعله متّى حين استقى مر 9:13-13 هو مهمّ جدًا. لأنه لا يعلمنا فقط بنظرته الاسكاتولوجيّة، بل لأنه يقول لنا أيضًا شيئًا عن كنيسته. فالخطبة الرسوليّة في مر وفي المعين، تضمّنت إشارة إلى الاضطهاد. ولكن متّى توسّع في هذا الموضوع أكثر من مراجعه. وهذا ما يعكس الضيق الذي عرفته جماعة متّى، ويفسّر اتجاه متّى الهجوميّ ضد الجماعات اليهوديّة. عندما يفكّر الانجيل الاول بالرسالة، فهو يفكّر بالاضطهاد. لهذا نقول إن مت 10 ليس فقط خطبة رسالة، بل خطبة رسالة في الضيق (آ 14-23، 25، 26، 28، 31، 35، 36).
"احذروا من الناس". قال مر 13: 9: "كونوا على حذر". هو يشير إلى الجميع سواء كانوا من اليهود أم من الوثنيين (رج 10: 32-33). "سيسلمونكم إلى المحافل" أي إلى السنهدرين المحليّ. وهكذا يكون مصير التلاميذ مثل مصير المسيح الذي مثل أمام السنهدرين في آلامه. والضيق هو رسميّ وعلنيّ. "وفي مجامعهم يجلدونكم" (رج مر 9:13). جعل مت الغائب الجمع (رج تث 25: 2-3 حسب السبعينية)، وزاد الضمير "كم" (أي أنتم)، وهكذا أبرز التوازي بين شطري آ 17. وإذ تحدّث عن مجامع اليهود، دلّ على الفصل التام بين المجمع (العالم اليهودي) والكنيسة (العالم المسيحي). إن فعل "دارو" (جلد) يستعمله يسوع في 19:20. أما الجلد هنا فيشير الى تث 25: 1-3.
لا يقول لنا متّى لماذا يُجلد المسيحيون على يد السلطة اليهوديّة. وهل هذا العقاب قد أصابهم لأكثر من جرم. ولكن هناك امكانيتين. أو أن بعض المسيحيين انتقدوا بقوة السلطات اليهوديّة (مت 23: أي) فاعتُبروا خائنين للنظام العام. أو أن هؤلاء المسيحيين تكلموا عن يسوع فاعتُبر كلامهم تجديفاً. يبدو أن جماعة مت المتهوّدة ما زالت تخضع لسلطة المجمع لهذا استطاع بولس أن يلاحق اليهود لا في أورشليم وحسب بل في دمشق (أع 9).
ب- الولاة والملوك (آ 18)
ذكر مت المحافل والمجامع، فقاده كلامه إلى الولاة (الحكام) والملوك. هذا ما يعكس حياة يسوع. أسلم أولاً الى المجمع اليهوديّ، ثم إلى الحاكم الرومانيّ. هنا عاد متّى إلى صيغة المجهول، ومرقس (13: 11) إلى صيغة الغائب الجمع. نجد فعل "اغو" (قاد). رج لو 23: 1؛ أع 18: 12؛ واستعمل مت لفظة "هيغامون" (حاكم) للتحدّث عن بونسيوس بيلاطس (27: 1، 11؛ رج لو 2:2؛ 1 بط 14:2)). كل هذا من أجلي، بسببي. هنا نتذكّر ما قاله بطرس: طوبى للانسان الذي يحتمل الظلم من أجل الله. أما إن ضُرب لذنب اقترفه فلا مفخرة له (1 بط 2: 19- 20).
"شهادة لهم وللامم" (ق مر 9:13). قد يكون متّى تأثّر بما في مر 13: 10 فزاد "وللامم". ليست الشهادة ضدّهم، بل لهم وكأنها دعوة للتعرّف إلى المسيح. فالتلاميذ عبر ما يقولون ويفعلون ويتألّمون، يصيرون شهودًا للحقيقة. وبعبارة أخرى، هم يشهدون للانجيل حتى ساعة يُقبض عليهم، كما فعل بولس أمام اليهود وأمام الوالي الروماني. ونضيف أن من تكلّم إلى الملوك والولاة، يكون وكأنه تكلّم الى الشعب الذي يمثّلونه (رج 20: 19؛ 2 تم 4: 16-18). لم تشر هذه الآية الى نشاط خارج فلسطين، لان عدداً من الوثنيين كانوا يعيشون في الأرض المقدّسة.
ج- متى أسلموكم (آ 19)
إن آ 19- 20 تجدان ما يوازيهما في مر 13: 11؛ لو 21: 14-15، كما في لو 12: 11-12. هذا الاخير نجده في المعين ويرتبط بعض الارتباط بمتّى ضدّ مرقس، قد يكون هناك رباط بين مرقس والمعين.
"فمتى أسلموكم". رج مر 13: 11. تتبدّل صيغة الفعل بين المخطوطات. ولكن تبقى في فعل "باراديدومي" "فلا تهتموا لما يقولون". استعمل مر 13: 11 فعلاً آخر (بروماريمناوو. لا يرد إلاّ هنا في الكتاب المقدس). في متّى سقط "برو" من بداية الفعل. اتفق متى مع لوقا ولكن لا مع "لا تهتموا" (رج مت 25:6-34).
يفترض ف 10 أن المرسلين المسيحيين يتألّمون، وهم لا يقاومون الاّ بالكلمة. وهم يفعلون لا ليدافعوا عن أنفسهم، بل ليعلنوا الانجيل. وهكذا يعيشون التطويبات وما قيل عن الانتقام وحبّ الاعداء (5: 38-48). "يعطى لكم في تلك الساعة ما تقولونه". اختلف مر 13: 11 بعض الشيء عن مت: "فما يُعطى لكم في تلك الساعة قولوه". تأثّر متّى هنا بالمعين (لو 12:12).
كما قدّم كلامًا رعاويًا يشجّع به المرسلين الموجودين في مأزق. وقد يكون تذكّر كلام التشجيع من الرب الى موسى: "أنا أكون مع فمك وأعلّمك ما يجب أن تقول" (خر 4: 12). وهناك نصوص تعطى فيها الكلمة التي يقولها الشعب. رج مز 119: 41-46؛ إر 1: 6، 10؛ أف 6: 19. بل نجد عند أحيقار (32): "إذا كان الشاب محبوبًا من الآلهة، فهم يعطونه ما يجب أن يقوله".
د- لستم وحدكم (آ 20)
حين يقف المرسلون أمام المحافل والمجامع، أمام الولاة والملوك، فليسوا وحدهم. فروح (بنفما) أبيهم هو معهم كما كان مع الانبياء، فيصبحون "بوق" الروح القدس. نجد علاقة بين الاعتراف أمام السلطات والهام الروح القدس في نصوص عديدة. أع 8:4؛ 5: 32؛ 1 بط 4: 12؛ رؤ 19: 10، ق أش 42: 1. يظهر الروح في الأزمة، في وقت الشدّة. "لستم أنتم المتكلّمين" (مر 13: 11). يستعمل المسيحيون الاولون فعل "لاليو" بدل فعل "لاغو" لكي يتحدّثوا عن كلمة وحي أو انخطاف. رج 1 كور 12: 3؛ 13: 1؛ 14: 2.
"روح أبيكم هو المتكلّم فيكم". ق يو 26:14: 1 كور 2: 4. هنا نتذكّر عماد يسوع ساعة نزل الروحُ وتكلّم الصوتُ الإلهي. قال مر: "الروح القدس". وقال متّى: "روح أبيكم"، مثل يو. هذا ما يُعدّنا لنقرأ آ 21. قد يلاقي التلاميذ الخيانة من أقاربهم، ولكنهم يعرفون أن عائلتهم الحقيقيّة ليست عائلة الأرض التي فيها يتألمون (12: 49- 50).
ونسوق هنا ملاحظتين. الاولى، يسوع هو في مت ذاك الذي "يمتلك" روح الله، يحمله (3: 16؛ 12: 18 ,28). وهكذا نكون أمام مقابلة بين يسوع ورسله: هم أداة الروح. الثانية، إن وعد الروح (في مت أو في مراجعه) قيل في إطار إسكاتولوجيّ. فالعالم اليهوديّ نظر أيضًا إلى فيض الروح في آخر الأيام في هذا الإطار عينه (رج يوء2: 28-29 كما ورد في أع 2: 17- 21).
هـ- خلاف داخل العائلة (آ 21)
الموضوع الآن هو الخلاف داخل العائلة (10: 34-36). نقدّم ملاحظتين. الأولى: المنظار الاخباري يدلّ على أننا بعد الفصح والقيامة. الثانية: يقول يوحنا الذهبيّ الفم إن التعزية هي هنا على الابواب (عظة في مت 33: 4). إذا تكلّمت آ 21-22 أ، و23 أب عن الضيق، فإن آ 22 ب،23 ج تتكلّمان عن الخلاص.
"يسلم الأخ أخاه للموت...". نجد مثل هذا الكلام في سفر أخنوخ الحبشي (100: 1-3). ق مر 13: 12؛ مي 6:7 بحسب السبعينية. ينتمي هذا الموضوع الى الانتظار الاسكاتولوجيّ (10: 35-36). قد يكون تأثير من أش 19: 2 (رج مت 24: 7= مر 13: 8): "فيقاتل الانسان أخاه، والرجل صديقه، والمدينة المدينة، والمملكة والمملكة". "باراديدومي" (أسلم). رج 4: 12؛ 10: 14؛ 17: 19. نجد في كل هذا لغة قاسية. وقد يشعر القارئ أنه أمام استعارة. ولكن يجب أن نتذكّر أن الجماعات المسيحيّة عرفت أخبارًا عن الذين قدّموا حياتهم من أجل الانجيل: اسطفانس، بطرس، بولس، يعقوب. وقد سبقهم يوحنا المعمدان ويسوع نفسه. قد لا يكون الموت مهدّدًا لجماعة متّى، ولكن قد يكونون أمام احتمال واقعيّ.
و- "وتكونون مبغضين" (آ 22)
رج مر 13:13؛ ق مت 5: 10-12؛ يو 19:15، 21، 16: 2. ترد الكلمات عينها في مت 9:24 مع لفظة "الامم". ولكن المعنى هو هو. سيلاقي تلاميذ يسوع المقاومة من كل جانب. لا طمأنينة لهم في فلسطين ولا خارج فلسطين. فالأرض المقدسة ليست أفضل ولا أردأ من سائر الامكنة. "من أجل اسمي" (رج أش 66: 5: أبغضوكم وطردوكم لأجل اسمي). هذا هو سبب الاضطهاد: تماهي التلاميذ مع يسوع واعترافهم به (1 بط 4: 14). ما يبغض العالم ليس التلاميذ بل تصرّفهم كتبّاع يسوع. وهم يلاقون الاضطهاد حين يتكلّمون مثل معلّمهم ويفعلون ما يفعل.
"ومن يثبت إلى المنتهى يخلص". من يتحمّل الضيق (هيبومايناس). رج 2 تم 2: 12؛ عب 10: 32-33. "حتى المنتهى" (تالوس). لا "حتى الموت" (رؤ 2: 10). أو " أخيرًا" (مر 2 مك 8: 29) ولا "باستمرار" (لو 18: 5). بل حتى المجيء (باروسيا). ق حب 2: 3؛ مي 7: 7؛ دا 12: 12-13. رغم الظواهر، فالتلاميذ الذين يُمتحنون ويضايقون، سيخلصون من الموت ويجدون الحياة.
ز- من مدينة الى مدينة (آ 23)
تطرح هذه الآية خمسة أسئلة. هل هي تدوينيّة؟ إن لا، هل نربطها بالمعين؟ هل كانت آ 23 أ ب مستقلة في الاصل عن آ 23 ج د؟ هل تعود آ 23 إلى يسوع؟ ما هو معناها؟
بالنسبة إلى السؤال الاول. لا شيء يوازي آ 23 في مر ولا في لو. ثم إن آ 23 أ ب قريبة جداً من 24:23 ج التي هي تدوينيّة في شكلها الحالي. والمفردات في آ 23 تميّز الانجيل الاول. بينما تكون بنية القول قد تبعت 10: 19- 20 و28:16. لهذا اعتبر بعض العلماء أننا أمام آية تدوينيّة. ولكن آ 23 لا تكرّر آ 22. ولماذا لا نعود إلى مرحلة سابقة لمتّى؟
والسؤال الثاني. إذا كانت آ 23 سابقة لمتّى، أو أنها تعود إلى المعين أو إلى تقليد منعزل، فالذين عادوا إلى المعين قالوا إن آ 23 تتبع 10: 19- 20= لو 12: 11-12. فالقولان متشابهان في المضمون. وإن ألغى لو ما يوازي آ 23، فأمر مفهوم، لأنه لا يوافق الوضع الرسوليّ الذي عرفه. ولكن لماذا يضع لو ما يوازي هذه الآية في ف 10؟ لهذا يعود الشرّاح إلى مرجع آخر مستقل استقى منه متّى.
والسؤال الثالث. يبدو أن الارتباط بين قسمَي الآية جاء في وقت لاحق. فقد تكون آ 23 ج د كافية نفسها بنفسها (لن تتموا مدن اسرائيل). ولفظة "تتموا" لا علاقة لها بالاضطهادات. ولكن هناك رأيًا آخر يشدّد على الارتباط بينهما. فنحن في مناخ اسكاتولوجيّ، وهناك رباط بواسطة كلمة "مدينة" في الشقّ الاول و"مدن" في الشقّ الثاني.
والسؤال الرابع. هل يعود هذا القول إلى يسوع؟ قد يكون الجواب نعم بقدر معقول جداً. فله ما يوازيه في 18:5. واللغة ساميّة. والمنظار اسكاتولوجيّ على ما نعرف عن يسوع. قد تكون هذه الآية تعبيرًا آخر عمّا في مر 8: 1 (البنية نفسها): الحق الحقّ أقول. ما لن يحدث للتلاميذ. مجيء ابن الانسان او ملكوت الله. فاذا افترضنا على ضوء 28:16 (ق مر 9: 1 حيث ملكوت الله صار في مت ابن الانسان) اهتمام مت بلقب ابن الانسان، تعود آ 23 (التي هي سابقة لمتى) لا إلى ابن الانسان بل الى ملكوت الله. ونستطيع أن نفترض بعد ذلك أن التعبير في مر 9: 1 قد تحوّل بعض الشيء حين صار مقدّمة مشهد التجلّي، بحيث يصبح الاختلاف بين مت 23:10 ومر 9: 1 بسيطاً. فالنصان يقولان إن ملكوت الله سيأتي بعد الموت أو الاضطهاد.
والخامس. إن هذا القول في فم يسوع هو كلمة تشجيع للرسل (أو المرسلين)، الذين يحمل إليهم المستقبلُ الاضطهادات. تشجّعوا. فخلاصكم قريب. ولكن ما الذي فهمه متّى؟ فسّر آ 23 كنبوءة قد تمّت فعلاً في الكنيسة. لقد ماهى متّى بين مجيء ابن الانسان ومجيء ملكوت الله في ملئه (28:16). فحسب الانجيل الأولى، حين يأتي ابن الانسان يُرسل الملائكة، ويحاسب كل انسان، ويجلس المسيح على عرشه (13: 41؛ 27:16؛ 27:24-44؛ 25: 31). وبعبارة أخرى، إن مجيء ابن الانسان يعني الدينونة الأخيرة. وهكذا تكون آ 23 إشارةً إلى المجيء الثاني (باروسيا).
ولكن يرى بعض الشرّاح أن مثل هذه النبوءة تجعل من يسوع، لا سمح الله، "نبيًا كاذبًا": فابن الانسان لم يأت في المجد قبل أن يتمّ الرسل مهمتهم في اسرائيل! غير أن متّى يعلمنا أن الرسل قد أنهوا عملهم في اسرائيل. فحين طلب من المرسلين أن "يخرجوا" (10: 5-6) لم يقل لهم بأن يعودوا (ق مر 6: 3؛ لو 10: 17). بدأت الرسالة في اسرائيل قبل القيامة، ولكنها لم تنته. بل هي تتواصل مع الرسالة إلى الأمم لأن الأمر في 28: 19 بالذهاب إلى الأمم يعني اسرائيل أيضًا.
ح- التلميذ والمعلم (آ 24)
بين 10: 16-23 الذي يتحدّث عن الاضطهاد و10: 26- 31 الذي يقدّم التعزية، أدرج متّى 24:10-25. لقد وصل هذا النصّ الى مت كتقليد مستقلّ. هناك ما يقابله في لو 6: 40 (ليس تلميذ أفضل من معلمه). ولكن الاختلاف بين الاثنين واضح على مستوى السياق والتطبيق والبنية والمضمون.
قد يكون لو 6: 40 استخلاصاً من المرجع المستقل الذي اخذ منه مت. هـان كان مت قد عاد إلى المعين، فقد يكون لوقا أوجزه.
نستطيع أن نقرأ هذا المقطع في شكلين مختلفين: إذا قرأناه مع ما سبق، فهو يعلن ضرورة الألم: اضطهدوا المعلم، فمن المؤكّد أنهم سيضطهدون التلميذ. واذا قرأناه مع ما يلي، فهو يعلن التعزية: تشجّعوا. فحين يضطهدونكم فهكذا عملوا بمعلمكم. ولكن هناك اعتبارات ثلاثة تجعلنا نشدّد على ضرورة الألم. أولاً، في يو 6: 40 وفي يو 6:13، لا يرتبط القول حول التلميذ والمعلم بالتعزية، بل يقع في إطار إرشادي. ثانيًا، إذا عدنا إلى تلمود بابل 55 ب وسفري لا (أي اللاويين) 23:25 حول لفظة "حسبُ" (يكفي)، فهي لا تعبّر عن التعزية بل عن تحمّل الألم. ثالثًا، حين ندرس بنية ف 10 نفهم أن المقطع ينتمي إلى المثلث آ 5- 15+ 16-23+ 24-25. أما 26:10- 31 فهو مستقّل.
"ليس التلميذ أفضل من المعلم". قد نكون هنا أمام قول مأثور (صيغة الحاضر). يسوع هو المعلم في متّى (رج 8: 19). "ولا العبد أفضل من سيّده" (يو 13: 16). يسوع سمّى نفسه الخادم (العبد 20: 28). والخدمة المسيحية هي الحريّة الكاملة. وقد قال فيلون الاسكندراني في هذا المجال: أن يكون الانسان عبد الله، فهذا أعظم فخر له، هو كنز أثمن من الحريّة والصحّة والقوّة وجميع ما يعزّ على قلب المائت (أي الانسان).
ط- معاملة واحدة (آ 25)
فإن لم يكن التلميذ مساوياً للمعلم، فهو يتوق أن يتشبّه به. وكذلك العبد بالنسبة إلى السيّد (أو: الربّ). هذا هو موضوع الاقتداء بالمسيح: فعلى المسيحيّين أن يتبعوا خطّ المسيح، ولكننا لسنا أمام اقتداء حرفيّ. فقد انطلق الابيونيون وجماعة قرنتس من مت 10: 25 ليدعوا المسيحيين إلى الختان لان المسيح خُتن. هنا نتذكر أقوالاً نُسبت إلى اسحق السرياني: "إن سأل أحد كيف يقتني التواضع، نجيب يكفي التلميذ أن يكون مثل معلّمه والعبد مثل سيّده. فكم بدا التواضع عظيماً لدى ذاك الذي أعطانا هذه الوصيّة وأعطانا إياها كهديّة. اقتد به فتقتن التواضع".
"إن سمّوا ربّ البيت بعل زبول، فكم بالأحرى أهل بيته"! رج 1 بط 4: 1. بما أن التلاميذ هم أعضاء في البيت المسيحي، فهم يُضطهدون. من يُسمَّى هنا؟ في 9: 34، سمّى الفريسيون يسوع رئيس الشياطين لأنه يطرد الشياطين. رج 12: 24. وهكذا يكون رؤساء اليهود هم الذين اتّهموا يسوع وتلاميذه بأن الشيطان هو من يلهمهم في أعمالهم.

3- القراءة اللاهوتية
أ- الاضطهاد المنتظر (آ 17- 20)
تستعيد أولى كلمات آ 17 موضوع الفطنة (أو الحكمة في آ 16)، ولكن مع ألفاظ أخرى. ففعل "بروساخاين" الذي يستعمله مت مرارًا، يرتدي معنين: تنبّه، رفض شيئاً (15:7؛ 6:16). ثم حذر الخطر أمام وضع من الأوضاع (6: 1). هذا هو المعنى في هذا النصّ. فيسوع لا ينصح تلاميذه بأن يهربوا من المجتمع الذي يعيشون فيه، من "الناس" (رج 19:4؛ 5: 16؛ 6: 19)، بل أن يحذروا في لقائهم مع الناس السراب والوهم. فلا ينسوا أن معلّمهم قد رذله هؤلاء الناسُ.
سيدلّ ولْي الآية على أن هؤلاء الناس هم اليهود. نحن هنا أمام النص الوحيد في العهد الجديد حيث لفظة "سنهدرين" ترد في الجمع فلا تدلّ على المجلس الأعلى الذي كان في أورشليم قبل دمارها. بل على كل اجتماع حول المجمع أو الكنيس. وهكذا تكون لفظة "المحافل" مرادفة للفظة "المجامع". نحن أمام جماعات محليّة تلتئم في ظلّ المجمع وتتألّف من 23 عضوًا. نحن هنا أمام استعمال متأخّر. لأنه بعد سقوط أورشليم أخذت هذه المحافل المحليّة أهميّة كبرى (5: 22؛ 26: 59). وهكذا يكون عرف العطف (كاي) مفسّرًا لما قبله. المحافل أي المجامع.
ويتحدّث النصّ عن الجلد. وكان يتمّ في العالم اليهودي التقليدي بواسطة العصا (تث 25: 2). ولما تأثّروا بالرومان استعملوا السوط والمجالد (2 كور 11: 25؛ أع 22:16؛ رج مت 34:23). في هذه الحال، لا يتّخذ الملوك والولاة المبادرة، بل اليهود، وبشكل أخصّ الفريسيون الذين يطلبون الحكم على المسيحيّين كما طلبوه على المسيح. وكل هذا "من أجلي". لا من أجل عملي الخفيّ فيهم، ولا بالنظر إلى خدمتي من أجلهم، بل لأنهم تلاميذ يسوع (رج 5: 11). هذا هو معنى الأداة في آ 22 (من أجل اسمي). غير أن هذا العنف سيكون له معنى يعرفه المسيحيون وحدهم: سيكون مناسبة شهادة للمسيح وللملكوت. شهادة على عيون الملأ. شهادة في إطار سياسي أمام الولاة والملوك. أجل، سيسمع الملوك من يحدّثهم عن ملكوت آخر ليس من هذا العالم وإن كان في العالم.
"لا تهتمّوا" (آ 19). المهمّ في نظر متّى، هو انشغال بال وقلق وبلبلة (6: 25) تجعل الانسان يضيع فلا يعود يعرف كيف يتصرّف. هذا الهمّ يحرم الانسان من عطايا الله سواء كانت ماديّة (ف 26) أو كانت أقوالاً ملهمة كما نقرأ هنا. إذن، لن يُطلب من الرسل أن يكرّروا أمثولة "سجّلت لهم" عن يسوع أو الملكوت، ولن يُطلب منهم أن يدافعوا عن نفوسهم (رج لو 12: 11). فالمهمّ هو الشهادة التي يؤدّونها لمعلّمهم.
حين نقرأ آ 20 نظنّ أننا أمام إلهام ميكانيكي (كالآلة أو الأداة) يزيل كل مشاركة للمؤمن في هذه الشهادة: إنه كالبوق أو مكبّر الصوت! كلاّ ثم كلاّ. يرد مرّتين "هيمين" الكم، فيكم)، فيشدّد على أن هذه الشهادة تتمّ في الرسل وبواسطة الرسل. فهنا وفي كل مكان، الله يحتاج الى البشر، ولا يستطيع الانسان أن يشهد حقا إن لم يفعل بكل قواه الجسديّة والعقليّة والروحيّة. وروح الآب الذي يعطى لنا لا يُلغي مواهبنا، بل يُبرزها ويفتحها ويأخذها على عاتقه لكي تحمل الكلمة التي تؤدّي أفضل شهادة. عبّر لوقا عن الفكرة عينها ولكن بألفاظ مختلفة فقال: "إن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا" (12: 11).
هي المرّة الوحيدة في مت مع 3: 11، يذكر فيهما الانجيلي الروح القدس الذي يُعطى للتلاميذ لا للمسيح (3: 16؛ 4: 1؛ 28.18:12؛ 42:22؛ 19:28). ولكن يكفي أن نقرأ أعمال الرسل والرسائل لكي نكتشف عمل الروح، كما نكتشف الدور الحاسم الذي لعبته محاكمات المسيحيين أمام السلطات من أجل انتشار المسيحيّة في القرن الاول.
ب- عداوة من داخل البيت (آ 21-23)
إن مضمون آ 21-22 سنجده أيضًا في 10: 35 (جئت لأفرّق الانسان عن أبيه) الذي يستلهم مي 6:7. تلمح آ 21 إلى العنف الذي يصيب المسيحيين أمام القضاة. وإذ يشهد أقارب المسيحيّين ضدّ المسيحيّين أمام السلطات، يرسلون هؤلاء المسيحيين إلى الموت (ايس ثاناتون). ان فعل "ابانستماي" يعني وقف، انتصب أمام آخر. هنا وقف أمامه في المحكمة لكي يشي به. لا يرد هذا الفعل في كل العهد الجديد إلاّ هنا وفي مر 13: 12.
هكذا يفعل الأخ والاب والاولاد. "ويميتون" المسيحيّين. وكل هذا من أجل اسمي. من أجل هذا الاسم يُبغَض المسيحيون. اسم يسوع. الاسم المسيحي (29:19؛ مر 13:13 وز؛ أع 26:11؛ 1 بط 16:4). ولكن تلاميذ يسوع قد نالوا الاضطهادات من أجل الاسم (اسم يسوع) قبل أن يُسمّوا مسيحيّين.
ان فعل "هيبوماناين" الذي لا يرد إلاّ هنا في مت، قد عرفته المسيحيّة الأولى للكلام عن الاستشهاد. هو لا يعني "قاوم" بل "تحمّل" "تألّم بصبر" (مر 13: 13؛ روم 12: 12؛ 2 تم 2: 12؛ 1 بط 2: 20؛ ق دا 12: 12). في مت، يحضّ يسوع تلاميذه لا على تحمّل العذابات الجسديّة وحسب، بل أن لا ينكروا معلّمهم ايضاً حتى لو وصل بهم العذاب إلى الموت. فلفظة "تالوس" لا ترتبط هنا بنهاية الاضطهاد ولا بالاستجواب ولا بنهاية الازمنة،، ولا بالهدف الأخير الذي يتوخّاه الله من هذه الآلام، بل بموت الشهيد (13:24؛ مر 13: 16). ينتج من هذا أن العبارة "ذاك يخلص" لا تعني أنه ينجو من متّهميه، أنه يُشفى، بل أنه ينال رضى الله في الدينونة الأخيرة. هذا لا يعني أن الشهيد وحده الذي ختم شهادته في الدم يخلص، كما سيقوله بعضُ المعلّمين بعد ذلك، ولكن بين جميع المضطهدين، لا يخلص الا الذين "ثبتوا" في شهادتهم حتى الموت.
ماذا تعني آ 23؟ ليس الشقّ الأول نصيحة تدعو إلى الفطنة فقط. بل هو يُبرز السرعة التي بها ينتشر الانجيل من مدينة الى مدينة بسبب الاضطهاد. هذا ما حصل بالفعل بعد موت اسطفانس (رج أع 8: 1؛ 11: 19). وهذا الهرب الذي نجده مرارًا في المسيحيّة الأولى، سيكون من أكبر الوسائل لنقل الانجيل.
حينئذ يعني الشقّ الثاني في آ 23: حتى مجيئي في المجد، حتى نهاية الأزمنة، ستجدون مكاناً تهربون إليه وتشهدون للانجيل. إذن، لا تدلت هذه الآية على قُرب عودة يسوع، بل على جميع امكانيّات الشهادة التي يحملها التلاميذ إلى إسرائيل حتى عودة الرب. هذا التفسير لا يمنع تفاسير أخرى. منها: لسنا أمام عودة ابن الانسان، بل مجيئه الروحيّ وسط أخصّائه، أو عودته حياً إلى تلاميذه بعد رسالتهم. ومنها أيضًا: لا تنتهون من تبشير مدن اسرائيل قبل أن يعود ابن الانسان. نكون هنا أمام تلميح إلى المهمّة الطويلة والصعبة التي سيقوم بها تلاميذ يسوع في اسرائيل.
ج- التلميذ والمعلّم (آ 24- 25)
تشكّل هاتان الآيتان خاتمة المقطوعة كلها، وإن جعلهما الانجيلي هنا (رج لو 6: 40). فنحن نجد تعبيراً عن ذات الفكرة في أماكن أخرى من العهد الجديد (مثلاً 1 بط 4: 1ي). لا يستطيع التلاميذ أن ينتظروا مصيراً يختلف عن مصير معلّمهم المصلوب. نلاحظ أن جزءًا كبيرًا من المسيحيّين توقّفوا عند آلام المسيح الذي احتُقر وصُلب، وتركوا بعض الشيء النظر إلى القيامة مع أن أقواله المسيح كما جمعها متّى عُرفت في كنائس تحتفل أيضًا بالقيامة (يو 13: 6). حسبُ التلميذ، يكفي التلميذ (اركاتون، رج 6: 34). هذه اللفظة لا تدلّ على ما يجب أن يكتفي به التلميذ، بل على ما هو كاف في حدّ ذاته، في نظر الله. المعلم وتلميذه والسيد وخادمه هم في وضع واحد. يتماهى مصير السيّد مع مصير الخادم. ولكن إن كان مصير السيّد مؤلما ويصل به إلى الاضطهاد والموت، فهذا لا يعني أنه ينشِّئ التلميذ لكي يحيا مغامرته من جديد. فهذان المصيران (مصير المعلم ومصير التلميذ) يتشابهان في مسيرتهما الخارجيّة، ولكنهما يختلفان في مدلولهما وبعدهما. إن ألم يسوع هو ألم ذاك الذي فيه اقترب الملكوت. أما ألم التلاميذ فهو ألم شهود (آ 18) هذا الملكوت.

خاتمة
وهكذا أعلن يسوع لتلاميذه منذ إرسالهم أن الاضطهادات تنتظرهم. سيكونون "كالخراف بين الذئاب". وقرأ متّى كلام يسوع على ضوء الواقع الذي تعيشه كنيسته. اضطهاد أول من قبل اليهود، من قبل أهل المجمع، وكانت سلطتهم كبيرة في أيام الرومان، على اليهود أينما وُجدوا. واضطهاد ثان من قبل العالم الوثنيّ. لن يكون الاضطهاد أولاً من البعيدين، من الوثنيين، بل من القريبين، من اليهود. "أعداؤهم" هم أهل البيت. وهكذا يتضاعف الخطر، ولكن لا بأس. لأن هذا الخطر لا يدوم إلى ما لا نهاية. ثم إن هذا الخطر يجعل مصير التلميذ مثل مصير معلّمه. يبقى علينا كما سيقول لنا يسوع فيما بعد أن نفهم أن من يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM