الفصل الخامس: إرسال الاثني عشر الى الخراف الضالة

الفصل الخامس
إرسال الاثني عشر الى الخراف الضالة
10: 1-8

يُعتبر هذا المقطع الذي ندرس مهمًا جدًا لمن يريد أن يتعمّق في جذور الرسالة ومضمونها. ولكن قبل أن نبدأ بشرح النصّ، نطرح بعض المسائل حول التاريخ واللاهوت البيبلي.

1- مدخل
أ- كوّن يسوع مجموعة الاثني عشر خلال حياته العلنيّة
إنّ تكوين مجموعة خاصة هي مجموعة الاثني عشر تلميذًا بيد يسوع قبل موته، هو واقع تاريخيّ ثابت. والكتّاب الذين حاولوا أن يشكّوا فيه ويستبعدوا تنظيم حلقة الاثني عشر إلى ما بعد الفصح، لم يستطيعوا أن يزعزعوا الاشارات التي بين أيدينا. إن 1 كور 15: 5 الذي يعدّد أولئك الذين نعموا بظهورات القائم من الموت يذكر "الاثني عشر" كمجموعة مميّزة عن المكوّنة من "سائر الرسل". فبولس عرف من التقليد، سنة 49، بل عشر سنوات قبل هذا التاريخ، من بطرس وآخرين التقى بهم في أورشليم، عرف بوجود مجموعة الاثني عشر. عرف أنهم شهود الربّ المميّزون، ويلعبون بلا منازع الدور الأولى في الجماعة الفصحيّة الأولى.
في هذه الجماعة، كانوا يعلّمون على ما تقول الأناجيل الأزائية، أن اختيار الاثني عشر وتنظيمهم في مجموعة مميّزة، يعودان إلى رسالة يسوع على الأرض. قال مر 3: 14: "أقام منهم (صنع) اثني عشر". و3: 16: "إذن، أقام الاثني عشر" (ق 1 صم 12: 6؛ 1 مل 13: 33؛ 2 أخ 2: 17؛ رج مر 1: 17). نحن أمام عمل خلاّق يُشرك هؤلاء الرجال في سلطات يسوع ونشاطه.
وما كانت الأناجيل تجهل أن يهوذا (يوضاس) الخائن كان "أحد الاثني عشر" (26: 14؛ مر 14: 10؛ 20؛ لو 22: 47؛ يو 6: 71). أخيرًا، احتفظ لنا لوقا (28:22 ي) ومتّى (28:19) بقول ثمين في سياقين مختلفين، وهذا ما يؤكّد لنا صحّته. "ستجلسون على اثني عشر عرشاً لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر".
هذا القول الذي يتناسق مع الرجاء اليهودي بإعادة بناء الاسباط الاثني عشر بشكل نهائي، والذي يدلّ بشكل يرضي المؤّرخ على وجود عدد الاثني عشر رسولاً، ينسب إلى رفاق يسوع الحميمين، مشاركة في ظفره المسيحاني وسلطانه على اسرائيل في نهاية الأزمنة. وهذا ما يتوافق كل الموافقة مع النظرة الاسكاتولوجيّة لكرازة يسوع: لقد اقترب ملكوت السماء.
ب- خلال رسالته الجليلية، أرسل يسوع الاثني عشر
إذا كان يسوع قد أسّس حقاً الاثني عشر ليكونوا معه ويقاسموه الملك على اسرائيل الجديد، أما يكون من الطبيعي أن يكون أرسلهم ليعلنوا مثله لاهل الجليل حلول هذا الاسرائيل الاسكاتولوجي الذي كانوا نواته الأولى ورؤساءه المقبلين. ليس ارسال الاثني عشر تسبيقًا لمرقس ينطلق من كلمات "نسبتها" الكنيسة إلى المسيح القائم من الموت. فإرسال الاثني عشر في دورة رسوليّة مع توصيات مناسبة، واقع يشهد له التقليد قبل الازائي، وتثبته اللهجة الفلسطينية التي تتحلّى به هذه التوصيات. مثلاً، الضيافة المؤمّنة للمرسلين. السلام الذي يعود إلى المرسل إن لم يتقبّله الناس الذين أعطي لهم. كل هذا مؤكد تاريخيًا، لا سيّما وأنه يتحدّد في منظار اسكاتولوجي يتوافق كل الموافقة مع ما نعرفه من رسالة يسوع في الجليل.
أما الإشارة الأولى إلى هذا المناخ الاسكاتولوجي فهي: تأمين راع أمين للقطيع، لا سيّما وأن الحصاد كثير (9: 36 ي). صورتان معروفتان لدى الانبياء للدلالة على الأزمنة المسيحانية والاسكاتولوجيّة (حز 34: 23- 24؛ زك 7:12؛ أش 12:27؛ يو 13:4). ومثل يسوع نفسه (17:4 وز)، يجب على المرسلين أن يعلنوا اقتراب الملكوت المنتظر (10: 7). يسافرون بعجلة، ويكون حملهم خفيفًا (9:10-10). لا يسلّمون على أحد في الطريق (لو 10: 4). كل هذا نفهمه في إطار اقتراب مجيء الملكوت في نهاية الأزمنة.
واخيراً يأتي تنبيه ينتمي إلى أقدم نواة في خطبة الرسالة: "لا تكمّلون مدائن اسرائيل حتى يأتي ابن الانسان" (10: 23 ب). لا مجال للتأخّر. قبل أن تُنهوا الحصاد، سيأتي الملك المسيحاني (الذي يملك على الكون كله) الذي تحدّث عنه دا 13:7. مجيء غير محدّد، ولكنه سيتحقّق في الواقع من خلال موت يسوع وقيامته.
ج- الازائيون والاثنا عشر والرسالة في الجليل
إن تاريخية تأسيس الاثني عشر خلاله حياة يسوع على الارض، وتنظيم وسالتهم الجليلية لا يستبعدان ترتيب النصوص الانجيلية في إطار أدبيّ أو لاهوتيّ. فقد أولى الازائيون الثلاثة أهميّة كبرى لتنظيم مجموعة الاثني عشر. ولكن مرقس وحده ذكر تأسيسهم (3: 13-19) كحدث مميّز عن إرسالهم في مهمّة الكرازة بالكلمة وطرد الشياطين (6: 6 ب-13).
هنا نتساءل دون أن نصل إلى جواب قاطع، إذا كان الترتيب الاولاني للينبوع (مت الاراميّ كما تُرجم إلى اليونانية) هو الذي يتبنّاه الإنجيل الأول. أو هل بحث مت عن المنطق، فقلب ترتيب مر (الذي لا يذكر الرسالة الا بعد "يوم الامثال" في 4: 1-34)، بعد فشل الانجلة (التبشير بالانجيل) المباشرة؟ وهذا ما نلاحظه في التعليم بالامثال (مت 13: 13).
أما في ما يخصّ توصيات الرسالة، فيجب أن نتوقّف عند الوجهات الخاصة بكل انجيلي. تفرّد مرقس فجعل تأسيس الاثني عشر كعنصر أساسي في تكوين الملكوت. ولهذا اختصر خطبة الارسال، ولم يتوقّف كثيرًا عند توصيات يسوع (مر 8:6- 11) كقاعدة للحياة الرسوليّة في الجماعة الفصحيّة. أما متّى (اليوناني)، انجيليّ الكنيسة، فتوسّع في خطبة الرسالة. أضاف إليها إعلانًا مسبقاً عن الاضطهادات اليهوديّة والوثنيّة (10: 17-39). وضمّ توصيات الرسالة بعضها إلى بعض فقدّمها للكنيسة في منظار مسكونيّ شامل (آ 18) يتوافق بصعوبة مع حصر الرسالة مؤقتًا في عالم الجليل، والعالم اليهودي (آ 5 ب-6). نحن هنا أمام خلاصة كاملة في يد المرسل.
أما لوقا فمرّ سريعًا على التوصيات إلى الاثني عشر (لو 9: 2- 5). ولكنه استعادها وتوسّع فيها بمناسبة إرسال السبعين (أو: 72) تلميذاً، سبعين آخرين، يذكرهم وحده (10: 1-12). إذا اهتمّ اهتماماً خاصاً بحلقة تلاميذ مرسلين، هي أوسع من حلقة الاثني عشر. أسّس على مبادرة من يسوع الوضعَ الذي يصورّه أع مع اسطفانس، فيلبس... الذين وعظوا بالكلمة ولم يكونوا من الاثني عشر. فعبر عدد السبعين الذي هو في نظر اليهود عدد الأمم الوثنية، نستشفّ رسالة شاملة انطلقت بعد الفصح إلى الكون كله.
د- تصميم المقطوعة (36:9- 8:10)
إن المتتالية التي تمتد من 35:9 الى 10: 42 (مع الخاتمة- الوصلة في 11: 1: ولما فرغ يسوع) سُمّيت "خطبة الرسالة" أو "الخطبة الرسولية". هي إحدى الخطب الخمس في الانجيل الأول. لا تبدأ الخطبة بحصر المعنى، إلاّ في 10: 5 ب (لا تسلكوا طريقًا...). ولكن من الواضح أن ما يسبق ذلك (أقله من بداية ف 10) يشكل مقدّمة للخطبة.
هل ينتمي 9: 36-38 إلى الخطبة؟ أمر أقل وضوحًا. هناك من يربط هذه الآيات مع مجموعة ف 8-9 اللذين يكونان "القسم الاخباري" الذي يهيّئ خطبة ف 10. غير أن مت 8: 1-9: 34 يرتبط بالاحرى بما سبق (ف 5-7: عظة الجبل)، لا بما يلي: يسوع هو مسيح الكلمة ثم مسيح العمل. والاثنان لا ينفصلان. في هذه الحالة، تُجعل وقفة بعد 9: 34. وهكذا تُعتبر آ 36-38 بداية مدخل لخطبة الرسالة. بعد أن صوّر متّى نشاط يسوع المعلّم ومجترح العجائب، عاد منذ آ 36-38 إلى العمل الرسولي للاثني عشر. أما آ 35 فهي جملة تدوينية، وقد شكّلت انتقالة بين جزئين: إنها تشكّل "تضمينًا" مع إجمالة 23:4 فتوجز رسالة يسوع كواعظ وشاف. هكذا قدّم متّى عمله منذ ف 5. ولكننا الآن في عبارات مأخوذة من رسالة الاثني عشر (10: 1، 7).
والمقطوعة التي ندرس الآن تتضمّن جزئين متميّزين: مقدمة إلى خطبة الرسالة، وفيها شقّان: شفقة يسوع، تشكّيه من قلة العمّال (36:9-38). ثمّ تأسيس الاثني عشر (10: 1-4). والجزء الثاني يشمل بداية الخطبة (5:10-8).

2- مقدمة الخطبة (36:9- 10: 40)
أ- الرسالة ثمرة شفقة المعلم وصلاة التلاميذ (36:9-38)
بعد آ 35 التي تشكّل انتقالة، تبدأ المقدمة المتّاوية بقولين ينتميان إلى سياق المهمّة الرسوليّة في ينبوع يشارك فيه الازائيون الثلاثة. نجد القول الاول (آ 36: أشفق يسوع على الجموع) في مر 6: 34 في سياق أولا تكثير للأرغفة (وقد يكون متّى أخذه من هناك كما يقوله بعض الشرّاح). أما القول الثاني (آ 37- 38)، فهو يحدّثنا عن الصلاة من أجل إرسال الحصاّدين. يجد ما يقابله في لو 10: 2، في سياق إرسال السّبعين. هنا يستقي لو من الينبوعِ الذي منه استقى مت في خطبته الرسولية. قد يكون مت السبّاق حين وضع هذين القولين في رأس الخطبة الرسولية. ونحن نجد فيهما تعبيرًا عن استعدادات عميقة كانت تحّرك قلب المعلّم حين اختار الاثني عشر وأرسلهم.
أولاً: شفقة الراعي الصالح
"ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، لأنهم كانوا منهوكين ومنطرحين، مثل غنم لا راعي لها" (آ 36).
ففي انطلاقة الاثني عشر المؤقتة، وفي كل رسالة تقوم بها الكنيسة، هناك شفقة يسوع. هناك عاطفة تحرّك احشاءه (مثل أم). هذه العاطفة ينسبها العهد القديم إلى الله نفسه (خر 6:34؛ مز 103: 8-13؛ هو 2:2-3؛ إر 20:31؛ أش 7:54). أما الاناجيل فتحصرها في يسوع (14:14؛ 15: 32؛ 20: 34؛ مر 6: 34؛ 8: 2؛ 9: 22؛ لو 13:7) أو في أشخاص أمثاليّة ترمز إلى المسيح أو إلى الآب السماويّ (18: 27؛ لو 15: 20؛ رج 10: 33).
ما يحرّك هنا حنان يسوع ورحمته هو حالة الجموع المعذّبة، الموجعة، الممزّقة (حرفيًا: التي سُلخ جلدها). الجموع الملقاة على الأرض من التعب والألم، المنهكة، الواهنة مثل خراف لا راعي لها. أخذت هذه الصورةُ الراعوية من العهد القديم. وأقرب النصوص اليها عد 27: 16-17: توّسل موسى فقال: "ليُقم الربّ على هذه الجماعة رجلاً يخرج ويدخل (يذهب ويجيء) على رأسها (يخرج من المدينة، ويدخل اليها). يخرجها ويدخلها، لئلا تكون جماعة يهوه كخراف لا راعي لها". فقطيع الله، على مدّ تاريخه، قد استُغلّ وحكم عليه بأن يشتت بسبب "تجّار" أدنياء (زك 7:11، 11؛ رج 1 مل 22: 17؛ إر 23: 1- 2؛ 50: 6؛ حز 34: 1- 10؛ أش 56: 11).
واليوم أيضاً هناك قوّاد عميان (15: 14؛ 23: 16، 24). يضلّون الشعب بخمير تعليمهم الكاذب (26: 12). هناك مرتزقة وقحون يقودونه إلى هلاكه (يو 10: 12-13). لهذا، فيسوع الراعي الملوكي الذي تحدّث عنه حزقيال (34: 23-24)، والرّاعي الشهيد الذي استشفّه زكريا الثاني (13: 7= مت 26: (31)، سيسلّم إلى الاثني عشر مهمّة جمعه من كل الحظائر (يو 10: 16). وذلك على مثال موسى، الذي سلمّ المهمّة في الماضي إلى تلميذه يشوع (عد 17:27).
نحن هنا أمام كرامة عظيمة ومسؤوليّات ثقيلة تُلقى على عاتق التلاميذ الضعفاء، تلاميذ يسوع (موسى الجديد) الاثني عشر. ولكن ماذا يقدرون أن يفعلوا بدون ذاك الذي يرسلهم، والذي يبقى دومًا راعي الخراف الحقيقي الوحيد (يو 10: 29؛ عب 13: 20؛ رج يو 21: 15 ي)، والذي دفع دمه ثمناً لخلاصهم (يو 10: 11, 15)؟
ثانيًا: بما أن الحصّادين قليلون، يحب على التلاميذ أن يصلّوا
"حينئذ قال لتلاميذه: ان الحصاد كثير والفعلة قليلون. فاطلبوا إذن إلى ربّ الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده" (آ 37-38).
إن صورة الحصاد معروفة في العهد القديم، وهي تدلّ على دينونة الله العظيمة (أش 27: 12؛ يو 13:4...). وتبرز في العهد الجديد حسب المسيرة الزمانيّة التي يدخلها يسوع في تحقيق الاسكاتولوجيا. ففي نهاية التاريخ، يجمع ابن الانسان الحنطة في أهرائه (13: 30)، ويحرق الزؤان (13: 30، 41-42). عند ذاك يكون الحصاد الأخير (مر 4: 29؛ رؤ 14: 14 ي)، "نهاية العالم" (مت 13: 29) والدينونة الأخيرة (25: 31-46). حينئذ يكون ربُّ الحصاد المسيح نفسه، الذي يساعده ملائكته (13: 39؛ رج رؤ 14:14-19).
ولكن بانتظار ذلك الوقت، ومنذ مجيء المسيح الأول، هناك "عمل" يبدو ضروريًا. إنه أيضًا حصاد، لأنه يميّز الحَبّ الصالح والحبّ الرديء، فيجبر البشر على الاعلان عن نفوسهم مع المسيح أو ضدّ المسيح (13:10-16، 40؛ رج يو 3: 18 ي). إنه عمل إعدادي يلعب فيه يسوع دور الزارع (13: 1-8 وز؛ 13: 37، يو 4: 36 ي). ويكون الاثنا عشر الحصّادين.
هذا هو الحصاد الاستباقي الذي يسلّمه يسوع إلى الاثني عشر في الجليل بعد النجاح الأول الذي حازه. وعلى هذا الحصاد ينطبق كلام يو 14: 31. "أرسلتكم لتحصدوا حيث لم تتعبوا. غيركم تعب، وانتم تجنون ثمر تعبه".
ولكن الرسالة الجليلية ليست في حدّ ذاتها إلاّ بداية وصورة عن الحصاد الوفير (مت 9: 37) الذي نضج (يو 4: 35). والرسل وسائر عملة الانجيل، سيستفيدون من أتعاب يسوع وثمار ذبيحته (يو 4: 6؛ 12: 24)، ليدخلوا القمح إلى الاهراء (يو 37:4-38؛ ق أع 8: 15 ي) بعد العنصرة. وحين تذكّر يسوع العمَلة العديدين الذين سيكونون ضروريين ليساعدوا الاثني عشر ثم يحلّوا محلّهم (أو محلّ السبعين)، أشار إلى عمل يتطلّب نفَسًا طويلاً. الدخول في "الورشة" عمل مستمرّ... ونحن لا نحصد اليوم ما زرعناه البارحة... ولا نحصد بضربة منجل واحدة حقول الربّ الواسعة.
وينبّهنا يسوع إلى هؤلاء العملة الذين هم قليلون مع أنّ وجودهم ضروريّ وعددهم ملحّ، ينبّهنا أننا نحصل عليهم بالصلاة. فبالصلاة نعرف أن الله هو "سيّد الحصاد"، أنه أراد أن يلجأ إلى عمل البشر. أنه يحتاج إلى البشر. وبالصلاة يبقى البحث عن الملكوت وطلب مقاصد الله والاهتمام بخلاص البشر، حيًا في قلب جميع التلاميذ.
ب- تكليف الاثني عشر (10: 1-4)
وجّه يسوع هذا القول عن الحصاد "إلى تلاميذه". وها هو يدعو "الاثني عشر تلميذًا" (10: 1). في الظاهر نحن أمام الأشخاص أنفسهم. فهم الحصّادون الاولون. وسيأتي آخرون فيسندونهم في العمل. وتنطلق كل رسالة الكنيسة من عملهم، قبل الفصح وبعده. لهذا، أدرج مت هنا لائحة الرسل بعد أن تحدّث عن سلطانهم.
أولاً: إعطاء السلطة للاثني عشر
"وإذ دعا تلاميذه الاثني عشر، قلدّهم سلطانًا على الأرواح النجسّة لكي يطردوها (وقدرة) ليشفوا كل مرض وكل سقم" (آ 1).
أشار مت اولاً إلى نداء الاثني عشر، وتقليدهم سلطانهم. أما مر 7:6 فأدخل بين الحدثين ارسالهم، وهذا ما يشير اليه مت في آ 5. اعتبر بعضهم أن مت ارتبط بمرقس فأعطى لنصّ مر ترتيبًا منطقيًا: يأتي الارسال بعد تقليد السلطة. أما آخرون فلاحظوا أن لو 9: 2 جعل هو أيضًا الارسال بعد تسليم السلطة، بحيث تبع لو ومت ينبوعاً يختلف عن ينبوع مر.
ومهما يكن من أمر، فالمسيرة تبدأ في نظر الازائيين الثلاثة، "بنداء" الاثني عشر (دعا). هو النداء الأول الذي يذكره مت. أما مر ولو فقد سبق وذكرا نداء آخر، ساعة اختار يسوع الاثني عشر على الجبل (مر 13:3 ي؛ لو 6: 12- 13). هل نستطيع القول بأن مت الذي لا يذكر مشهد الاختيار مع أنه عرفه، قد ضمّ في إطار واحد النداءين: نداء الدعوة، نداء إلى الحصاد؟ في هذه الحال، يكون الثاني الذي هو موضوع حديث مت، تذكيراً بالأول. فالثاني تضمّن الأول على ما قال مر 3: 14.
ولكن حين نتفحّص فعل "بروكلايستاي" في مت، يبدو أن الانجيليّ الأول يستعمل دومًا هذا الفعل في الصيغة عينها (كما في 10: 1)، وأنه لا يربطه أبدًا بحدث ينتمي إلى زمن من الماضي البعيد، كما لا يربطه بدعوة بالمعنى الحصريّ للكلمة. إن هذا المعنى الدقيق لا نجده حتى في مر 13:3. وهكذا يشير مت إلى نداء بسيط (رج لو 9: 1) من أجل الرسالة الجليليّة.
وبعد أن جمع يسوع الاثني عشر، قلّدهم سلطان طرد الشياطين واجتراح المعجزات. فقبل الانطلاق، يجب أن يُمنحوا سلطة يسوع نفسه (29:7؛ 9: 6-8). إذا كان يسوع يستطيع أن ينقل إلى الاثني عشر سلطانًا (اكسوسيا) على الأرواح النجسة، فهذا يعني أنه يمتلك هذا السلطان: "اكسوسيا" تدلّ على سلطان لا يقف في وجهه عائق، وهي تدلّ على مُلك الله المتسامي (دا 27:4، 31). وإن نعم البشر بمثل هذا السلطان، فهم ينعمون به حين يرتبطون بالله (مت 8:9).
في الواقع طرد يسوع الشياطين مرارًا (مت 8: 16). ووازى متى بين رسالة يسوع ورسالة الاثني عشر. كان يطوف في القرى "وهو يكرز بإنجيل الملكوت ويشفي كل مرض وكل سقم بين الشعب" (4: 23؛ 9: 35). والتلاميذ أُرسلوا مثله "ليكرزوا قائلين: لقد اقترب ملكوت السماوات" (10: 7). وأُرسلوا "ليشفوا كل مرض وكل سقم" (10: 1).
هذه العبارة الأخيرة التي تتكرّر ثلاث مرّات هي خاصة بمتّى، وهي تشير إلى الايراد الذي أخذه مت من أشعيا الثاني حول طرد الشياطين وشفاء الامراض على يد يسوع: "أخذ عاهاتنا وحمل أمراضنا" (17:8- أش 4:53).
كان يسوع عبد الله الحقيقيّ. وقد كلّف أن يكفّر عن خطايانا بموته الفدائي. أراد أولاً أن "يأخذها على عاتقه"، فوضع لها حداً بأشفيته وتقسيماته (لطرد الشمياطين)، ولا ننسى أن عددًا من الأمراض والسيطرات الشيطانية، هي نتيجة عمل الشيطان (لو 13: 16)، لأنها بنت الخطيئة (تك 3: 16-19).
لقد ضمّ يسوع الاثني عشر إلى هذا العمل الخلاصي الذي بدأه، فأعطاهم أن يشاركوه في سلطانه.
ثانيًا: لائحة الاثني عشر
"وهذه اسماء الاثني عشر رسولاً: الاول سمعان المدعوّ بطرس، ثم اندراوس أخوه. يعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه. فيلبس وبرتلماوس. توما ومتّى العشّار. يعقوب بن حلفى وتدّاوس. سمعان القانوي، ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه" (آ 2-4).
إذ أراد مت أن يجمع حالاً قبل خطبة الرسالة كل ما يتعلّق بحلقة الاثني عشر، أدرج هنا لائحته التي تبدو وكأنها قطعة آتية من سياق آخر (هناك وصلة في آ 5، هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم... ق لو 9: 2). يتفق الشرّاح على القول بأن هذه اللائحة كانت في البداية مرتبطة بالتأسيس الرسولي، كما في مر 3: 16-19 ولو 6: 14 ي. غير أن مت بدّل موضعها. ولكن ما زال الجدال قائماً لنعرف هل أخذها مت من مر بعد أن رتبها. هذا ما يدّل عليه توافق مر ولو ضدّ مت: وضعُ اسم متّى، غياب إضافات مثل "الاول"، "العشّار"، "كاي" (الواو) المتكرّر قبل كل اسم. أم هل أخذها من ينبوع قبل إزائي جعلها قبل المقدمة التاريخية التي سبقت عظة الجبل؟ هذا ما يدلّ عليه توافق مت ولو ضدّ مر: موضع اندراوس، غياب لقب ابني زبدى. كما يدلّ عليه أيضًا توافق مت ومر ضدّ لو. وضع "تداوس" بدل "يودا" أخ يعقوب (لا يَهوذا) (رج لو 6: 16).
تتحدّث أول وصلة متّاوية للائحة عن "الاثني عشر رسولاً". هذا هو الاستعمال الوحيد لهذه العبارة في مت. بعد هذا نجد: "الاثنا عشر" (10: 5؛17:20؛ 14:26، 20، 47). "الاثنا عشر تلميذًا" (10: 1؛ 11: 1؛ رج 28: 16). "التلاميذ" (13: 10؛ 14: 15؛ 26: 8. 56). فالانجيل الأول يخلط بين التلاميذ والرسل (أكثر مما يفعله لو ومر). أما العبارة الشّاذة في 2:10 فتستعمل لفظة "رسول" في معنى دقيق ستعرفه الكنيسة الأولى لتدلّ على الاثني عشر وبعض الشهود الرسميّين لقيامة يسوع.
لقد اعتُبر الاثنا عشر خلال رسالتهم الجليلية ك "السلّيحين" (شليحا في السريانية، وفي اليونانية: أبوستولوي). هنا قابل البعض بين رسل يسوع و"شليح" المرسل اليهودي. ولكن هذا التنظيم لم يكن بعد موجوداً في أيام يسوع. نحن نرى في لو 6 :13 اختيار الاثني عشر من بين التلاميذ. ويتحدّث مر في 13:3 ي عن الاثني عشر.
تبدأ اللائحة بالاخوة: سمعان الملقب بطرس وأندراوس أخوه (4: 18- 22). هما من أولى المدعوين (18:4-22). ثم يعقوب ويوحنا. لا يقوله مت، شأنه شأن مر ولو، إن يسوع جعل لسمعان اسم بطرس. ولكنه شدّد وحده على أن بطرس هو "الاول". وهو الاول في اللائحة. وهذا ما يتماشى مع موقعه المميّز في تأسيس الكنيسة (17:16 ي).
وزاد مت أيضًا: "العشّار" بجانب اسم متّى. إن الانجيل الأول الذي يرتبط برباط خاص بالرسول متّى، يحيلنا هنا إلى 9: 9 ودعوة العشار: كان الاسم لاوي في مر 2: 14؛ لو 27:5، فحلّ محلّه اسم متّى. ماثل مت التلاميذ مع الاثني عشر، فجعل اسماً مكان آخر، لأن لاوي لم يكن من مجموعة الاثني عشر.
أمّا تداوس في لائحة مت ومر، الذي يصبح لابى في عدة مخطوطات، فهو يقابل يودا في لو 16:6؛ أع 1: 13؛ يو 14: 22. قد نكون أمام اسماء عديدة لشخص واحد. ولكن قد يكون هناك تردّدٌ حول هويّة الاثني عشر الذين تشتّتوا ساعة كتب متّى انجيله. ولا ننس أنه كان ليسوع اصدقاء حميمون لم يكونوا من حلقة الاثني عشر: نتنائيل، لعازر... ويعتبر بعضهم أن "يودا" هو تكرار لاسم يهوذا (يوضاس) الاسخريوطي.
لا يقدّم مت أية تعليمات إلاّ عن ثلاثة رسل: متّى الذي كان عشارًا. سمعان الذي كان غيوراً متطرّفاً. أو ربما كان من "قانا". يوضاس الذي أسلمه. إشارات غير مشرفة. وستكون الطريق طويلة لكي يرتفع الرسل إلى مستوى المهمّة التي ستوكل إليهم. ولكن كلمة الله والروح القدس سيحوّلانهم إلى مشاركين ليسوع في عمله في تأسيس كنيسته. لهذا كرّمتهم الكنيسة دومًا تكريمًا يدلّ عليه وجود لائحة أسمائهم في الجماعات الأولى.

3- بداية الخطبة (10: 5-8)
بعد آيات ثمان من الاستعداد، نصل أخيرًا إلى واقع الارسال (آ 5 أ: أرسلهم يسوع) وإلى التوصيات من أجل الرسالة: "لا تسلكوا... انطلقوا بالحريّ... قولوا: إن ملكوت السماء قريب" هي جمل صغيرة متوازية وموزونة. تدلّ على أننا في أسلوب شفهيّ. يبدأ يسوع فيحدّد الاشخاص الذين يذهبون اليهم (آ 5 ب-6). ثم يعلن مضمون الرسالة (آ 7-8).
أ- المقصودين بالرسالة
"هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع بعدما أوصاهم قائلاً: لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين. بل انطلقوا بالحري إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل" (آ 5-6).
بعد أن تسلّم الاثنا عشر (حسب مت ولو 9: 2) سلطانهم، أُرسلوا في مهمة: إنه لوقت احتفالي يجعل من هؤلاء الرجال مشاركين للمسيح (الذي أرسله الآب 10: 40) في رسالته على الأرض، ويهيّئهم ليصيروا شهود الربّ القائم من الموت ومرسَليه إلى العالم أجمع.
لا شكّ في أن مت فكّر في هذه المهمّة البعد فصحية للاثني عشر، كما فكّر في مشاركيهم في العمل، وفي الذين واصلوا هذا العمل. غير أن تقريره عن التوصيات التي أعطاها يسوع لمرسليه، يبدأ بأوامر تحصر الرسالة في اسرائيل، وتستبعد الوثنيين وحتى السامريين. هم يفعلون مثل يسوع (24:15)، فيذهبون إلى مجموعة "الخراف الضالّة من بيت اسرائيل" (رج حز 34: 4؛ إر 50: 6). لا يميّزون بين أبرار وخطأة داخل هذا القطيع المنهك والخائر (9: 6)، الذي شتّته رعاة مرتزقة وتجّار.
قول قديم جداً، يعود إلى ينبوع سابق لمتّى، ويرتبط بخلفيّة آراميّة. "مدينة" السامريين، أي: مناطق السامريين. هذا القول لم يعرفه مر ولو. أو إن عرفاه، فقد ألغياه بالنظر إلى قرّائهما. احتفظ به مت فدلّ على الاهتمام التاريخيّ لدى المسيحيّين الأوّلين بالرسالة الجليليّة. كما دلّ على متانة تذكّراتهم.
لم يرَ الانجيلي في هذا القول إعلانًا عن مبدأ مستمر من أجل الرسالة. وإلاّ لعارض الوصيّة الاخيرة التي اوردها في 28: 19: "تلمذوا جميع الامم". بل رأى في هذا القول عن "استبعاد" الوثنيين والسامريين، تعبيراً عن تدبير موقت يشهد عليه تصرّف المسيح: بحسبه، يُحفظ إعلان الانجيل في زمان أولى إلى "أبناء الملكوت" (8: 12). ويبقى هذا التدبير حتى انتصار القيامة التي تشكّل أداة الخلاص من أجل جميع البشر ونقطة الانطلاق من أجل الكرازة في العالم. أجل، هناك ما يوافق الرسالة في الجليل، وهناك ما ينطبق على الكنيسة في كل زمان ومكان.
ب- مضمون الرسالة
"وفي الطريق بشّروا قائلين: إن ملكوت السماوات قريب! إشفوا المرضى أقيموا الموتى، طهّروا البرص، أخرجوا الشياطين. مجّانًا أخذتم، مجّانًا أعطوا" (آ 7- 8).
يقوم جوهر مهمّة المرسلين في اعلان البشارة على مثال المنادين (كما فعل يسوع، 4: 17) فيقولون: "ملكوت السماوات قريب". هل يعني: إن ملكوت الله هو هنا، هل يعني: صار قريبًا؟ إن كرازة يسوع وتلاميذه الجليليّة، قد وجّهت أنظار اسرائيل إلى تدخّل الله الحاسم والقريب جدًا، وهو تدخّل وعدَ به النبيّ في نهاية الأزمنة (أش 52: 7؛ زك 14: 9؛ دا 2: 44) ورافقته معجزات يسوع من أشفية وطرد شياطين، وكرازته بملكوت الله الخلاصي (23:4؛ 35:9؛ لو 9: 11). هذه الكرازة شكّلت بدايته (28:12؛ لو 9: 11؛ 17: 20) ودلّت عليه.
وهذا هو الدور الذي لعبه الاثنا عشر بعد أن نالوا أمرًا بشفاء المرضى وطرد الشياطين، فمارسوا هذا السلطان (اكسوسيا) الذي منحهم إياه يسوع (آ 2). وتحدّث مت أيضاً عن إقامة الموتى وتطهير البرص. وهكذا نكون في تعداد مسيحاني قريب جدًا مما نقرأ في جواب يسوع إلى يوحنا المعمدان (11: 14) ومن نصّ النبي أشعيا في رؤياه الصغيرة حول الدينونة الشاملة (أش 35: 5- 6). وأخيرًا، ذكر أن هذه العلامات لن تكون فاعلة الا بتجرّد المرسلين تجرّدًا تامًا: "مجّانًا أخذتم (دعوتكم إلى الملكوت والرسالة هي مجّانيّة)، مجّانًا اعطوا".
بعد ذلك، سيواصل الرسل التبشير بالملكوت (أع 8:19؛ 20: 25؛ 28: 23، 31). ويزيدون على هذا الاعلان (8: 12) اسم ذاك الذي مات لكي يخلّصنا من قبضة الشيطان والخطيئة والموت، وجلس في السماء كالربّ (أع 2: 30-36؛ فل 2: 11؛ رؤ 19: 16)، والذي سيأتي ليكملّ ملكه (1 كور 15: 20-28، 50؛ أع 3: 21). ويواصلون اجتراح المعجزات (أع 3: 1-10؛ 5: 15-16؛ 7:8؛ 9: 32-35؛ 19: 12) وإقامة الموتى (9: 36-42؛ 20: 7-12)، وطرد الشياطين (8: 7؛ 16: 16 ي) لكي يسندوا كرازتهم (مر 16: 15-18؛ أع 4: 29-30). ويدلّون في جميع تصرّفاتهم على تجرّدهم (1 تس 2: 2-12؛ أع 8: 19- 20) من أجل هذه الرسالة التي تواصلها الكنيسة حتى انقضاء العالم.

خاتمة
أشفق يسوع على الخراف الضالّة التي هي أمامه، وتلك التي استشفّها على مرّ العصور. وقبل أن يبذل حياته لكي تكون الرعية واحدة والراعي واحداً (يو 16:10)، اختار الاثني عشر وأرسلهم في مقدّمة سلسلة طويلة من خدّام الانجيل، لكي يحملوا البشارة ومنها خلاص الانسان نفسًا وجسدًا. والكنيسة هي المدينة المقدّسة التي يستند سورها إلى اثني عشر أساسًا، إلى أسماء رسل الحمل الاثني عشر (رؤ 12: 14). هذه الكنيسة مدعوّة حتى نهاية الأزمنة إلى متابعة حمل الانجيل والاهتمام بالمتألمّين. غير أن العملة قليلون. لهذا علّمنا يسوع قائلاً: أطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM