الفصل الرابع: خطبة الرسالة

الفصل الرابع
خطبة الرسالة
ف 10

1- وضع الخطبة
يبدو هذا الفصل كخاتمة المراحل السابقة التي فيها تتوضّح وتمتدّ "سلطة" يسوع الفريدة بالأقوال (خطبة الجبل، ف 5-7) والأعمال (عشرة أقوال قوّة ليسوع، ف 8-9). وهذه السلطة ستنتقل إلى مجموعة الاثني عشر الذين سمّوا هنا فقط "رسلاً" (10: 2). لقد جمعهم يسوع ودعاهم شخصًا شخصًا، فصار لهم المرجعَ التعليميّ والمرجع الحياتيّ، وهكذا تميّز دوره الجديد عن دوره كمجترح معجزات في ف 8-9. فإلى جماعة هؤلاء المشاركين في العمل الذين اجتمعوا حوله وارتدوا سلطانه، قد أعطى يسوع تعليماته من أجل الرسالة.
غير أننا لا نجد هولاء المرسلين الاثني عشر ينطلقون إلى الرّسالة كما عند مرقس (6: 12-13) وعند لوقا (6:9). فلوقا تحدّث أيضًا عن بعثة من 72 تلميذاً (10: 1) ذهبوا إلى الرّسالة وعادوا فرحين بسبب النجاح الذي نالوه (17:10). أما عند متّى، فالتلاميذ لا يذهبون إلى الرسالة، بل يسوع نفسه: "وحصل أنه لما فرغ يسوع من إعطاء تعليماته إلى تلاميذه الاثني عشر، انتقل من هناك ليعلّم ويبشر في مدنهم" (11: 1). تستعيد خاتمة خطبة الرسالة هذه ألفاظاً عديدة هامّة قرأناها في إجمالة 9: 25 (وكان يسوع يجول، يعلّم ويكرز بإنجيل الملكوت). هذا الواقع يلفت انتباهنا، ويفرض علينا أن نفهمه حقًا في منظار إنجيل متّى: إذا كان يسوع نفسه قد انطلق إلى الرسالة، فهذا يعني أن تلاميذه ليسوا بعد مهيّأين لذلك. لم يتكونّوا بع حقاً كجماعة رسولية. وسوف نتظر القيامة وخطبة الارسال القصيرة التي تختتم الإنجيل (18:28-20) لنراهم ينطلقون بدورهم في الرسالة، وسيكونون فقط أحد عشر تلميذًا (28: 16) لا اثنا عشر بسبب تراجع واحد منهم.
تحتلّ الخطبة الثانية، خطبة الرسالة، الفصل العاشر كله. كانت الخطبة الاولى عظة الجبل (ف 5-7) قد توّجهت إلى الجموع والتلاميذ معاً (5: 1؛ 28:7). وقد ظهر التلاميذ للمرة الاولى في هذا المكان على مثال الشيوخ حول موسى على جبل سيناء. "ولما جلسَ دنا تلاميذه" (5: 1). أما خطبة الرسالة التي ندرسها الآن فتوجهّت بشكل خاص إلى التلاميذ الاثني عشر الذين ذُكرت اسماؤهم في 10: 2- 4 (سمعان، اندراوس، يعقوب، يوحنا). نجد لفظة الاثني عشر للمرّة الاولى هنا. تارة هم التلاميذ الاثنا عشر (10- 11- 1)، وتارة هم الرسل الإثنا عشر (10: 2)، وطورا هم الاثنا عشر (10: 5). ففي هؤلاء الاثني عشر، نجد جميع الذين سيصيرون شهوداً لبشارة الملكوت على خطى يسوع.
ونجد مقابلة ثانية مع عظة الجبل، هي تكرار ذات المقدمة حول نشاط يسوع (4: 25 و9: 35) مع ذكر "الجموع" التي تتراكض وتتبعه بكثرة، وهي جموع رآها يسوع قبل أن يكلّمها (5: 1؛ 36:9). يذكر 4: 25 و8: 1 "الجموع الكثيرة" التي تتبع يسوع. في خطبة الرسالة، تحرّك هذه الجموعُ الشفقةَ عند يسوع: "خراف لا راعي لها". وهي تطلب العناية والاهتمام. ولكن الرب يريد من تلاميذه أن يقاسموه هذا الاهتمام تحت نظر الآب. ولهذا دعاهم إلى أن "يصلّوا إلى ربّ الحصاد" (9: 38) ليرسل فعلة إلى حصاده.
أما اللفظة التي تدلّ على هذا الارسال، فهي تُستعمل عادةً في مت لتدلّ على طرد الشياطين: رمى خارجاً (اكبالاين). ذاك هو الوضع في 14 من أصل 28 استعمالاً لهذه الكلمة. أما في الاستعمالات الاخرى، فنحن أمام طرد عنصر رديء أو ليس في محلّه: الخشبة أو القشّة التي ننتزعها من العين (7: 4- 5)، الجموع عند رئيس المجمع (9: 25)، الباعة في الشكل (21: 22)، ما يخرج من الجوف (15: 17)، الوارث الذي يُطرد خارج الكرم (21: 39)، المدعوّ (22: 13)، العبد البطّال (25: 30) الذي يُطرد إلى الظلمة البرانيّة. ويستعمل مت ايضاً فعل "اكبالاين" عمّا يخرج من الكنز من صالح او طالح (12: 35)، جديد أو قديم (13: 52)، وفي 12: 20 مع ايصال الحقّ إلى الغلبة. كل هذا "الطرد" يشرف عليه مجيء الملكوت.
استعمل مت هنا فعل "اكبالاين" ليدلّ على الملحاحيّة التي يفرضها مجيء الملكوت. فحين وضع التلاميذ نفوسهم بين يدي الآب في صلاة ظهر معناها في الخطبة على الجبل (9:6-13)، أدركوا مجانيّة تسليمهم "سلطتهم" الرسوليّة (10: 8). إنها عطيّة الآب وتبقى كذلك حتى نهاية العالم. فمن أدرك ذلك، قدّم نفسه للعمل بتواضع وجرأة (إذن، اسألوا، 9: 38).
يسوع هو إسرائيل الحقيقيّ، والبرّ التام (3: 18). لهذا فجماعة التلاميذ تحدّد نفسها بدورها كجسد إسرائيل الحقيقيّ. فأسباط إسرائيل الاثني عشر التي حملت أسماء أبناء يعقوب الاثني عشر، كوّنوا جماعة العهد وهم حاضرون في سيناء (خر 24: 4؛ تث 1: 23؛ يش 3: 12، 4: 2). فعددهم هو رقم مقدّس يرتبط بالخدمة العباديّة على مدى أشهر السنة الاثني عشر. وهكذا كان الرسل اثني عشر.
جماعة التلاميذ هي إسرائيل الحقيقيّ بقدر ما دُعيت لتكون مثل معلّمها (10: 24)، وارتدت سلطة ربّها (وإن عارضها الناس) لتقول ذات الكلمة (10: 7= 4: 17)، لتقوم بذات الأعمال (10: 1، 6، 8= 4: 23؛ 9: 25) من أجل ذات "الخراف الضالّة من بيت إسرائيل" (10: 6= 15: 24). إذا أردنا أن نفهم خطبة الرسالة، نحدّد معنى هذه العبارة الاخيرة (الخراف الضالة...).


2- بنية خطبة الرسالة
حين نقابل خطبة متّى مع ما يوازيها في مرقس (7:6-13) ولوقا (3:9-6؛ 10: 2-16)، حيث نجد معظم عناصر مت ما عدا آ 5-8، ندرك إدراكًا أفضل أصالة الانجيل الاول في ترتيب مواده. نحن أمام بناء محكم لمعطيات متشعّبة تعود إلى تقاليد مختلفة. هل نستطيع أن نحدّد ببعض الدقّة بنية متّى هذه؟
هناك خصائص تلفت النظر حالاً. أولاً، عودة العبارة "الحق أقول لكم" (10: 15، 23-42) والتي نجدها أيضًا في عظة الجبل (18:5، 26؛ 6: 2، 5، 16)، وبمناسبة الحديث عن دهشة يسوع أمام إيمان قائد المئة (8: 10): "الحق أقول لكم. لم أجد مثل هذا الايمان...". استعمل لوقا هذه العبارة مرّة واحدة بدون "الحق" (10: 12). واستعاد مرقس العبارة عينها في سياق مختلف (9: 14: فالحق أقول، إنه لا يضيع أجره). بالإضافة إلى ذلك، استعمل متّى عبارة "ما أقوله لكم" (27:10) حيث يكتب لوقا: "ما تقولون" (3:12) في مقطع يتحدّث عن الاعتراف بالمسيح أو إنكاره بشكل نهائي. إن اعلان يسوع هذا الذي يبدأ خاتمة وحدات صغيرة، يترافق عند متّى مع ذكر يوم الدينونة أو يوم مجيء ابن الانسان. ومع تكرار هذا الاعلان ثلاث مرات في الخطبة، نلاحظ أيضاً مرّتين موضوع السلام المرتبط بالاستقبال الذي يلقاه التلاميذ (10: 12-14؛ 10: 34-42)، وموضوع الاضطهاد الذي يجب أن ينتظروه (10: 17-27) دون أن يخافوه (10: 26- 31). كل هذه العناصر تتيح لنا أن نبرز الايتين المركزيّتين (10: 24-25) اللتين تشدّدان على ضرورة التوافق بين العبد وسيّده، بين التلميذ ومعلّمه.
وهكذا ترتسم بنية دائرية نقدّمها على الشكل التالي:
* خاتمة بشكل انتقالة: يسوع يجول في المدن (9: 35-38).
نداء وارسال الاثني عشر (10: 1-5 أ).
أ- إعلان السلام ودينونة المدن التي لا تستقبل المرسَلين (10: 5 ب- 15).
ب- وعد بالاضطهاد ومجيء ابن الانسان (10: 16-23).
ج- توافق بين التلميذ ومعلّمه، بين العبد وسيّده (10: 24- 25).
ب ب- اضطهاد لا نخاف منه، وثقة لدى الآب (10: 26-33).
أ أ- السلام أو السيف، وأجر استقبال المرسَلين (10: 34- 42).
* خاتمة بشكل انتقالة: بعد أن أعطى يسوع وصاياه للاثني عشر
أخذ يعلّم ويبشر في المدن (11: 1).
ونزيد على هذه اللوحة الاجمالية، تأكيدًا لنظرتنا، بعضَ التفاصيل التي توضح بنية النصّ: إن لفظة "سلام" (13:10 مرتين، 34 مرتين) لا تظهر إلاّ هنا في مت. والصفة "مستحقّ" (اكسيوس، 10: 10, 13.11 مرتين، 37 مرتين، 38) وفعل "قبل" (استقبل، ديخستاي، 10: 14, 40 اربع مرات، 41) يشدّدان على التقابل بين أ وأأ. أما موضوع الاضطهاد مع ذكر "الموت" (تناتوس، 10: 21 مرتين، ابوكتايناي، 10: 28 مرتين)، و"الاهتمام" (مار منان، 10: 19) أو "المخاوف" (فوبايستاي، 10: 26- 28 مرتين، 31)، و"البشر" (10: 17، 32، 33)، والله (10: 20، 29، 32، 33)، كل هذا يُبرز التوافق بين ب وب ب. حينئذ يبدو المحور ج (10: 24-25) بوضوح تام. فهو يكشف موقع الخطبة: فالتلميذ يرتبط بمعلمه، والعبدُ بسيّده. إن آ 24-25 تبرزان لفظة "تلميذ" التي نقرأها في بداية الفصل العاشر (آ 1) وتعود في 11: 1 بشكل تضمين. كما نجد "تلميذ" في 42:10 (على أنه تلميذ) من دون "الاثني عشر". غير أن هناك مسيرة من البداية إلى النهاية. ننتقل من "الاثني عشر رسولاً"، إلى التلاميذ بشكل عام. هذا يعني أن ترتيب الخطبة ليس ترتيبًا جامدًا، بل هناك تطوّر لا بد لنا من توضيحه الآن.
إن البنية الدائرية تبُرز العلاقة الفريدة التي تربط التلميذ المرسل إلى المعلّم الذي يرسل (المرسل). وهكذا تتأسسّ جذريّة الالتزام الرسوليّ. فيسوع الذي هو "سيّد البيت" (ربّ البيت) (25:10) يدعو تلاميذه، يدعو أهل بيته (10: 25-36)، ليتشبّهوا به رغم قوى الشرّ التي تهاجم من داخل "البيت" كما من خارجه. فسلطته صارت سلطتهم، ورسالته صارت رسالتهم، ومصيره صار مصيرهم، مع اختلاف جوهريّ يقول إن وجودهم ومصيرهم يرتبطان بمبادرة يسوع الذي فيه صار ملكوت الله قريبًا. هذا الارتباط الاساسيّ يعطي أهمية كبرى للعبارة التي يكرّرها متّى ثلاث مرّات في خطبته: "من أجلي" (10: 18، 29)، "من أجل اسمي" (10: 22).
وهذه البنية الدائرية توضح في الوقت عينه الاقطاب الثلاثة الكبرى التي تعطي الخطبة ديناميّتها الخاصة:
* شموليّة الرسالة وواقع إسرائيل. نجد هذا الموضوع بشكل خاص في أ وأأ.
* مجانية الرسالة وتشبّه التلميذ بمعلّمه، في قلب الخطبة، في ج.
* الجذريّة الاسكاتولوجيّة للرسالة وآنيّتها. يُطرح هذا الموضوع بشكل خاص في ب وب ب.
وهكذا تظهر ثلاث وجهات في هذا التأليف المتّاوي: الوجهة الاسكاتولوجيّة والتشديد على نهاية العالم. الوجهة الكرستولوجيّة والتشديد على شخص يسوع المسيح. الوجهة الاكليزيولوجية والتشديد على وجه الكنيسة. كل من هذه الوجهات حاضر في كل الخطبة، وإن شدّد هذا القسم على هذه الوجهة، وذاك القسم على تلك. غير أننا نكتشف في خطبة الرسالة، حركة عامة تنطلق من الوجهة الكنسيّة إلى الوجهة الاسكاتولوجيّة مرورًا بالوجهة الكرستولوجيّة. تلك هي المواضيع الثلاثة التي نعالجها في ما يلي.

3- تحليل خطبة الرسالة
أ- شموليّة الرسالة وواقع اسرائيل
ويُطرح سؤالا أول: إلى من أرسل التلاميذ؟ كيف نفهم توصية يسوع لهم: "اذهبوا بالاحرى إلى الخراف الضالة من بيت إسرائل (10: 6)؟ كيف نفهم معارضته لمحاولة اتخاذ "طريق الامم" أو "الدخول في مدينة للسامرين" (10: 5)؟ يبدو للوهلة الاولى أنّ لا تماسك في نصّ متّى. فقد رأينا رسالة يسوع التي انحصرت أولاً في الجليل (4: 23) تنفتح على جميع المدن والقرى (9: 35)، مع ذكر "في مجامعهم"، وصولاً إلى الوثنيين مثل قائد المئة (8: 5- 13)، ومتشيطن (فيه شيطان) الجداريّين في المدن العشر أو الدكابوليس (8: 28-34) الذين عرفوا قدرة كلمته. إذن، توجَّه يسوع أيضًا إلى الوثنيين. وإذا تابعنا قراءة الخطبة، نجد أن يسوع يدعو التلاميذ لكي يحذروا "الناس" (17:10) دون أن يحدّد هويّة هؤلاء الناس (هم من اليهود أم من الوثنيين). أما إعلان الشهادة التي سيشهدون بها أمام "الحكام والملوك"، "من أجل الأمم" (18:10) فتوسّعٌ في المعنى الذي بدأ حصريًا، ليتجاوز الرسالة أرض إسرائيل.
وهذا ما يدفعنا إلى أن نحدّد مدلول لفظة "إسرائيل" عند مت، وهي ترد 12 مرّة في انجيله. المعنى الأول والطبيعي هو المعنى الاثني والجغرافي: شعب كوّنه العهد في البريّة، وفي أرض الميعاد التي امتلكوها (2: 6، 20، 21). ويرتبط معنى ثان بهذا المعنى الأول: إسرائيل هو الشعب المقدّس (أي المكرّس لله)، موضوع اختيار الله وقصده. هذا المعنى الاسكاتولوجيّ يتجاوز التاريخ فيصل بشكل أو بآخر إلى جميع الذين يرون في يسوع تتمّة مشيئة الله الخلاصية (28:19). وأخيرًا، يقول لنا متّى (2: 15) إن يسوع نفسه دُعي اسرائيل لأنه يؤسّس في شخصه الجماعة الكنسيّة التي ما زال يحييها بحضوره كقائم من الموت (28: 19-20). نستطيع أن نستعيد ذكر اسرائيل (12 مرّة) في إنجيل متّى، فنبيّن كيف تنتظم هذه المعاني. يكفي هنا أن نشدّد على التدرّج المتصاعد في آ 5-6: طريق، مدينة، خراف. فالنص يهتمّ بالاشخاص أكثر مما يهتّم بالمساحة الجغرافيّة.
حاول عدد من الشرّاح أن يكتشفوا في التقليد الانجيليّ آثارًا لهذا التطوّر اللاهوتيّ عبر تاريخ الجماعات. ونسب بعضُهم كلمات يسوع (ولا سيما 10: 5-8؛ 28: 19) إلى المدوّن المتّاوي الذي ارتكز على طريقة عمل المرسلين في أيامه على مثال بولس الذي توجّه أولاً إلى اليهود ثم إلى المسيحيين (أع 28: 23-28). أما البعض الآخر، فأعاد هذه الكلمات إلى يسوع الذي منع تلاميذه خلال حياته من إعلان الانجيل على الوثنيين، بانتظار اندماجهم في شعب الله كعمل اسكاتولوجي تقوم به قدرة الآب. وحين وعى المسيحيون أن قيامة يسوع دشنّت الحقبة الاسكاتولوجيّة، توجهوا إلى الوثنيين في منظار اتسع شيئًا فشيئًا فشمل المسكونة كلها.
مهما يكن من أمر هذا النضوج التاريخيّ المعقول، نستطيع القول إن كاتب الانجيل الاول، سبق له وقدّم شميلة لاهوتيّة. وإن لفظة "اسرائيل" دلّت عنده لا على شعب الاختيار والعهد وحسب، بل على التتمة الاسكاتولوجيّة والآنيّة في يسوع وفي جماعته التي هي في ذاتها شاملة. إذن، دلّت عبارة "بيت اسرائيل" على الشعب الذي ورث العهد والمواعيد، والذي إليه أرسل يسوعُ تلاميذه، موسّعًا نظرته لتضمّ جميع الذين سيصيرون فيه اسرائيل الحقيقيّ. إذن يتحدّد البشر بالنسبة إلى يسوع، لا بالنظر إلى أمانتهم لشعب جغرافي. عندئذ، جميع الذين لم يكتشفوا في يسوع مفتاح حياتهم الخاصة، هم "خراف ضالة من بيت اسرائيل" الذي يكوّنه يسوع في شخصه.
أما عبارة "لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين"، فتدلّ على مستوى أول من قراءة نصّ متّى، على منع على مستوى جغرافي. وهكذا يبقى التلاميذ في أرض اليهوديّة. وهناك مستوى ثان: فحين نتجنّب طريقًا، فنحن نتجنَّب طريقة حياة وعمل وحضور. وحين نبتعد عن مدينة، نبتعد عن طريقة عيش مشتركة. مثل هذا الطريق وهذه المدينة يعارضان اسرائيل الحقيقيّ، يعارضان يسوع. فمن رفض أن يستقبل ملكوت السماوات الذي اقترب في يسوع (17:10؛ رج 10: 14)، يكون وكأنه سلك طريق الأمم وتوجّه إلى مدينة السامرييّن. يعني بعبارة أخرى، أنه تعبّد في قلبه لأصنام محرّمة في اسرائيل (6: 7؛ رج تث 7: 1-8).
إن يسوع الذي هو اسرائيل الحقيقيّ، لأن فيه تجسّدت كل كلمات العهد القديم، قد بدأ رسالته في التاريخ، فوجّه أولاً كلامه إلى شعب الوعد، وضمَّ إليه تلاميذ. وتوسّعت مهمّته، أوسع من حياة بشريّة عاديّة، فصار بقيامته الشعب المقدّس السائر إلى الملكوت. فشعب اسرائيل قد توسّع وسع البشريّة كلها حين اكتشف كماله في يسوع. وهكذا يكون عمل يسوع الرسولي على طرق اسرائيل نموذج كل عمل رسوليّ.
نحن نبحث عن مبدأ تفسير هذه الخطبة في الطابع الاسكاتولوجيّ للرسالة. وهذا واضح في آ 15، 23، 32، 33، 42 التي تتوزعّ المجموعات الأربع (أ- ب وأأ- ب ب) التي تحيط بالآيتين المركزيتين (10: 24). وهذه النظرة تستبعد تفسيرًا حرفيًا وقراءة للنص شبيهة بقراءة تقرير "صحفي". قراءة تحصر في الزمان والمكان معنى لفظة "اسرائيل". فنحن لن ننتهي أبدًا من التجوال في مدن اسرائيل (23:10) على خطى يسوع (9: 35؛ 11: 1) ما دام ابن الانسان لم يُنه مجيئه. إذن الرسالة شاملة مسكونية، ولكنها تتبع بالضرورة مسيرةً أرضيّة وتاريخيّة.
أما تكوين مجموعة الاثني عشر، فيسير في النمط عينه: إنهم يمثّلون الاسباط الاثني عشر في شعب الله، أي كل اسرائيل النهائي الذي به أدرك خلاصُ الله جميعَ البشر. نتذكّر هنا أن خطبة متّى تقابل التوصيات التي أعطاها يسوع في لوقا (10: 1-12) للاثنين وسبعين تلميذًا الذين يمثّلون جميع الأمم الوثنيّة. وسيطلب من الاثني عشر أن يدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر (28:19). فإن كان لهؤلاء الناس من اسم فهو يرتبط باسم يسوع. هـان كانت لهم رسالة فهي ترتبط برسالة يسوع. فما هو شامل يمرّ عبر ما هو تاريخيّ، لأنه ملموس، لأنه يتسجّل في تاريخ واقعيّ.
في نظرة متّى، لا تستطيع الشموليّة أن تعبّر عن نفسها إلا بواسطة لفظة اسرائيل: فرسالة يسوع قد انطلقت من اسرائيل فوصلت إلى جميع الأمم. وقد وصلت إلى سورية (أي سورية ولبنان وفلسطين) شهرته، فجاء الناس إليه من كل مكان (4: 24). وحقلُ عمله العادي هو الجليل، غير أن متّى شدّد في خطّ أشعيا على أن هذا الجليل هو "جليل الأمم" (15:4). ونقول الشيء عينه عن عبد الله المتألم (أش 53: 11-12) الذي رأى متّى كماله في شخص يسوع (17:8؛ 17:12- 21). إنّ حصريّة آ 5 (لا تسلكوا طريقًا...) تُفهم على ضوء آ 14 (وإن لم تُقبلوا... إن لم يستقبلوكم). فلا حدود للرسالة إلاّ رفض الناس أن يتقبّلوا في شخص يسوع ملكوت السماوات.
وهكذا لا يكون بُعد الرسالة محصورًا، ولا يُفهم عن طريق الاستعارة. إنه مطلق وشامل. مطلق لان يسوع قد أعطى حقًا كل سلطته إلى الاثني عشر، وبهم إلى جميع التلاميذ الذين سيأتون بعدهم. وشامل لأن الاثني عشر الذين اختارهم لن يكملوا مدن اسرائيل الحقيقيّ (23:10): سيبقى هناك أناس يحتاجون إلى أن نقودهم إلى الراعي الحقيقيّ الوحيد (حز 34: 23-24). أجل، لن تنتهي الرسالة ما زال هناك بغض بين الاخوة (10: 21)، ما زالت هناك اضطهادات من أجل يسوع (10: 22). فنموّ الملكوت حتى المجيء النهائي لابن الانسان، هو الذي يدين البشر على استقبالهم ليسوع (10: 15، 40-42؛ رج 31:25-46).
ب- مجانيّة الرسالة وتشبّه التلميذ بمعلمه
إن موضوع المجانيّة الذي دلّ الله عليه باهتمامه وحنانه وحبّه، قد ظهر منذ بداية الخطبة، خطبة الرسالة (9: 35-38). تحرّكت أحشاء يسوع كالأمّ تجاه أولادها. كانت عاطفته كعاطفة الله من أجل شعبه (رج إر 31: 20؛ أش 54: 7) حين رأى الجموع الضالّة كخراف لا راعي لها. كما صلّى موسى إلى الرب ليعطي جماعته رجلاً يحافظ على تماسكها (عد 27: 16-17)، كذلك دعا يسوع تلاميذه ليصلّوا إلى ربّ الحصاّد ليرسل عملة إلى حصاده. فالمناسبة تعود إلى الربّ وعلى التلميذ أن يقدّم نفسه "للجنديّة"، أي أن يقدّم نفسه للربّ الذي يختار. ويسوع دعا تلاميذ مستعدّين، وقلّدهم سلطانه، وأعطاهم توصياته (11: 1). إذن، نال التلاميذ كل شيء مجاناً. وبهذه المجانيّة سيعطون ذواتهم لأولئك المحتاجين إلى هذه المجانيّة (10: 8). على ضوء هذه المجانيّة، نستطيع أن نفهم "الكرامة" التي تتحدث عنها آ 10-13. ففي آ 10 لسنا أمام "استحقاق" بحصر المعنى، أمام أجرة يحقّ للتلميذ أن يطالب بها، أمام "إكراميّة" يطالب بها الرسول احتراماً لشخصه أو لعمله. وفي آ 11، 13 لسنا أمام صفات بشريّة، شخصيّة أو اجتماعيّة. فالرسالة هي عطيّة: من أدرك مجانيّتها، أقرّ بها كما هي، وتقبّلها بروح مجانيّة. ومن قبل الرسول، وتعليمه، اتحد معه في تقبّل هذه العطيّة. لأن من قبل الرسول، قبلَ الآب الذي أرسل يسوع (10: 40). و"المستحق"، هو من يضع يسوع فوق كل شيء (10: 37-38) ويقبل أن يخسر حياته من أجله (10: 39). هذا هو تقبّل النعمة في جذريّته. نقبلها مهما كلّفنا ذلك. نقبلها تجاه "لا شيء" (مجانًا). نقبلها بطريقة متجرّدة.
إن ارتباط التلميذ الجذري بمعلّمه، تعبّر عنه آ 24-25 اللتين هما محور الخطبة. وهذا الارتباط يجعل الخادم يقتدي بسيّده. لهذا تصوّر مهمّة التلاميذ بالكلمات التي صوّرت مهمّة المعلّم. أرسلوا "ليشفوا كل مرضٍ وكل علّة" (10: 1= 35:9)، كي "يعلنوا أن ملكوت الله اقترب" (7:10-17:4). وهكذا استعاد التلاميذ أعمال يسوع (10: 8 هو ملّخص من 8-9) حين ساروا في المدن والقرى (10: 11، 23= 9: 35). غير أن هذا التشبّه يجب أن يمرّ في الامتحان والخبرة. لهذا لا نجد في مت 10 إشارة إلى انطلاق التلاميذ إلى الرسالة.
فعلى التلميذ أن يتألّم، شأنه شأن المعلّم. إن آ 25 تذكر الاتّهامات التي أصابت يسوع، وفي النهاية قادته إلى الموت. وأعلنت آ 17-18 المصير الذي ينتظر التلاميذ على مثال معلّمهم: "من أجلي" (10: 18). وهذا الالم هو ثمن الشهادة (10: 18) والكلمة التي تُعلن "في النور"، في وضح النهار. و"على السطوح" في العلن (27:10). ولكنهم ينعمون في ذلك الوقت بعطاء المعلّم. "فمتى أسلموكم فلا تهتمّوا لما تقولون... ما ينبغي أن تقولوه يُعطى لكم في تلك الساعة، لأنكم لستم أنتم المتكلّمين، بل روح أبيكم هو المتكلّم فيكم" (10: 19- 20). الروح هو عطيّة الآب المجانيّة. هو يلهم التلاميذ و"يحلّ عليهم" كما حلّ في العماد على الابن الحبيب (3: 16-17). والثقة التي تجعل التلميذ لا يخاف (10: 26 ,28 ,31) هي ثمرة عناية مجانيّة من الآب الذي هو رب الحصاد.
ثقة لها أساسها، لأن التلميذ هو الذي يتقبّل في الفقر والفرح، التعليمَ الذي يتجاوزه ويعلنه بكل طمأنينة على السطوح (10: 27). وهو الذي يسلّم نفسه كنعجة (أش 7:35) وسط الذئاب (16:10). هو يستحق معلّمه لانه يترك سلطة هذا المعلّم السامية تفعل عبر كلامه وعمله وحياته. والبيت الذي ينفتح لاعلان الملكوت، فيقبل التلميذ قبولاً مجانيًا، يدخل هو أيضًا في هذه المجانيّة، فيصبح بدوره "مستحقاً" السلام الذي يحمله هذا الملكوت. هذا السلام الصعب الذي يجعل السيف في قلب أعزّ العلائق البشريّة (10: 34- 39). وهكذا يُحكمُ على كل موقف، على كل حياة بشريّة، تجاه قبول هذا الملكوت أو رفضه (10: 40-42).
ج- الجذريّة الأسكاتولوجيّة للرسالة وآنيتها
تتسجّل مجانيّة الرسالة في الجذريّة الاسكاتولوجيّة للشهادة المطلوبة. وهذه الشهادة تقود التلميذ إلى التخلّي عن كل همّ يتعلق بحياته (39:10؛ رج 5: 11-12) لأن الآب هو سيّد حياته (10: 29- 31؛ رج 25:6، 32، 33).
نستطيع أن نتكلّم هنا حقًا عن جذريّة اسكاتولوجيّة في الرّسالة، لأن يسوع هو هنا. ففيه صار ملكوت الله قريبًا حقًا (7:10)، وعلامة هذا القرب هي تماهي التلميذ مع المعلم (آ 24-25) في شهادة تقوده إلى الموت (10: 16- 23، 26-31). وقبول التلميذ كعلامة لحضور الملكوت الآني في العالم، ينتمي إذن منذ الآن إلى الدينونة الاسكاتولوجيّة بمعنى أنها تتطلّب توافقًا جذريًا مع سلام الملكوت (10: 5-15، 24-42). فهذا السلام له متطلّبات تتعدّى متطلّبات التوافق بين الشعوب. بل هو يتجاوز تجاوزًا بعيدًا محاولة البشر للتفاهم والتعاضد. بل هو يتضمن العذاب لان كلمة الله سيف (10: 34-35؛ رج أش 49: 2؛ إر 8:20-9؛ عب 4: 2) تفرض عليه خيارًا حاسمًا: أن يكون للمسيح أو ضد المسيح (37:5). ولا يستطيع أحد أن يخدم سيديّن (6: 24). لا ننسى أنه حين كتب متّى إنجيله، حرّكت استمالة الجماعة المسيحية المتهوّدة، المؤمنين الجدد، حربًا قاسية داخل الشعب اليهوديّ.
وقصارى الكلام، إن حضور الملكوت في شخص يسوع، يخلق تمزّقًا في قلب العالم كما في كل جماعة مؤمنة. يخلق هوّة بين الاشخاص، لان النداء الذي أطلقه هو جذريّ على مستوى الحريّة في كل انسان.
فالخيانة والبغض والحرم المتبادل التي تحرّكها الخلافات حوله الكلمة، هي أمر عادي. فنحن مزيج من الخراف والذئاب، ما دام التماهي بين التلميذ والمعلّم لم يتمّ بعد. وموضوع الجماعة الممزقة والتي تسير رغم ذلك في طريق الملكوت، نجده في لفظة "طريق"، "مدينة"، "بيت" (منذ آ 5). فالملكوت هو "طريق"، طريق العطاء المجانيّ (9:10). وهو يقترب من كل مدينة أو قرية (10: 11؛ رج 9: 35)، من العالم الذي يتّخذ موقفًا بالنسبة إليه (10: 14- 15). وعلى كل جماعة وكل "بيت" أن يدلاّ على طريقتهما في تقبّل الكلمة (10: 12- 14). "فالبيت" الحقيقيّ ليس العيلة الطبيعيّة (10: 21). إنه بيت المعلّم والربّ المضطّهد (10: 25). وهو لا يرتبط "بمدينة"، بمساحة جغرافيّة، ولا بزمن محدّد، لأن التلاميذ لن يستطيعوا أن يُتمّوا مدن اسرائيل قبل أن يأتي الملكوت (10: 23). وموضع التجمع هو اهتمام الآب السماويّ (10: 32- 33) بأهل بيته الذين بدأوا يستقبلونه حين استقبلوا واحدًا من اخوته الصغار، فأطعموه وسقوه (10: 42؛ 25: 31- 46).
إنّ آنيّة الرسالة هي حضور في قلب العالم. هي مجيء يسوع بيننا بطابعه الحاسم والاسكاتولوجيّ، الذي يتمّ مع مجيء ابن الانسان (10: 23). والصراعات التي تجعل الاخوة يتقاتلون باسم يسوع، هي علامة سلام يتجاوزنا ويُولد في الألم عبر تاريخ حريّات البشر.


4- التفسير اللاهوتي للخطبة
إن الميزات الجوهريّة الثلاث للرسالة التي اكتشفناها في هذه الخطبة، قد تركّزت على اختيار الاثني عشر وإرسالهم. فيسوع "عبد الله" الحقيقيّ الذي كُلفّ بأن يكفر خطايانا ويضع حدًا لها بموته الفدائي، أراد أولاً أن يأخذ جزءًا من أمراضنا، بل موتنا، ولا سيّما حين شفى المرضى وأقام الموتى. وها هو قد ضّم إلى عمل الرسالة هذا الذي بدأه، الرسل الاثني عشر فجعلهم مشاركين له في سلطانه.
هؤلاء الاثنا عشر هم أناس من الشعب. ما اختارهم الله بسبب مزاياهم أو امكانيّاتهم البشريّة، بل اختارهم اختياراً مجانياً بنعمة من لدنه تعالى. ذكر متّى أسماءهم اثنين اثنين (10: 1)، وقال إن سمعان الذي سمّي بطرس هو "الاول" (10: 2). هناك أخوان أولان بحسب الجسد، سمعان واندراوس. وأخوان آخران: يعقوب ويوحنا. وميّز بين يعقوب بن زبدى ويعقوب بن حلفى. وقيل عن متّى أنه كان عشّارًا (رج 9: 9) يعتبره الفريسيون من الخطأة المعروفين (9: 10-13)، ومن الخونة للقضيّة اليهوديّة لأنه يتعامل مع العدوّ ويظلم إخوته.
هناك عشّار، وهناك غيور، سمعان القانويّ. وهناك يهوذا الاسخريوطي، رجل كريوت (يش 15: 25)، أو من أصحاب الخناجر القصيرة (سيكا). هذه الجماعة مؤلّفة من بشر. قد يعارضون، قد لا يفهمون، ولكنهم أعطوا سلطة الابن. إنهم صورة ملكوت السماوات الذي جاء يسوع يتمّه رغم تقلّبات تاريخ البشر. وستكون صعبة الطريق التي يتّخذونها لكي يحملوا الرسالة التي كُلِّفوا بها. لهذا ربطهم يسوع بشخصه (10-24-25)، ودعاهم إلى الاقتداء به بشكل يتجاوزهم. كما طلب منهم أن يتابعوا تعليمه (11: 1). وسوف ننتظر الآلام والقيامة لكي ينطلق الرسل حقًا في طريق الرسالة التي تقودهم إلى العالم كله (19:28-20).

خاتمة
تشكّل هذه الخطبة "رسامة" وإرسالاً في مهمّة. في هذا المعنى، هي تقدّم الخطبة الرسولية التي تختتم الاحتفال الافخارستي في الجماعة المسيحيّة، حين ترسل الاخوة إلى العالم وتطلب منهم أن يعيشوا تعلّقهم بالمسيح.
وخطبة الارسال هي في الوقت عينه دعوة جديدة تتوجّه إلى الجماعة الكنسيّة (10: 1-4) كمجموعة رسل يُطلب منهم أن يتقبّلوا الكلمة ويتعمّقوا فيها، فتأخذ بمجامع قلبهم وتحمّلهم سلطة الملكوت ومسؤوليته مهما كلّفهم ذلك من تضحيات.
وهكذا تكون أمام احتفال جديد يحرّكه نداء عميق وملّح. نداء جذري لأنّه يطلب من التلميذ أن يتماهى مع معلمّه والعبد مع سيّده (24:10- 25). يذهبون إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل، ولكنهم لا ينسون السامريين ولا الوثنيين. هذا ما سيكتشفه الرسل شيئًا فشيئًا. ويكتمل اكتشافهم بعد القيامة ساعة يقول لهم يسوع إنه أعطي كل سلطان في السماء والأرض. فبقى عليهم أن يتلمذوا جميع الأمم ويعلموهم وصايا يسوع، متأكدين أن الربّ معهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM