الفصل الثاني والعشرون: الصلاة الربّية

الفصل الثاني والعشرون
الصلاة الربّية
6: 9- 15

الصلاة الربّية هي صلاة تلاميذ يسوع. تبدو في مضمونها وشكلها الخارجيّ قريبة من الصلوات اليهوديّة التي تعلّمها يسوع وهو فتى وشاب. ولكنها تختلف عن هذه الصلوات ببساطتها الكبيرة، والحرّية التي فيها يتوجّه يسوع إلى الآب المساويّ. وترتيب الطلبات يبدو أصيلاً وهو يميّز تعليم يسوع. في البداية طلبة مثلّثة هي نداء إلى الله ليعمل من أجل مجيء ملكوته. واستبعد يسوع كل اهتمام بانتصار سياسيّ أو دينيّ. وبعد ذلك تأتي الطلبات التي تعبّر عن حاجات التلاميذ. بدأت الصلاة في صيغة المتكلّم الجمع (أبانا، نحن)، وانتهت كذلك (اعطنا نحن)، فجمعت المؤمنين من كل العالم في صلاة الجماعة. لقد صار جميع البشر كنيسة واحدة تتلو الصلاة الواحدة أمام الآب الواحد فتعبرّ عن الإيمان الواحد.
صلاة تتوجّه إلى آب واحد (23: 9) هو سيّد السماء والأرض. وهو قريب جداً من البشر. صلاة تتوجّه إلى اسم الله القدوس والداعي المؤمنين إلى القداسة. صلاة إلى صاحب الملكوت الذي تدشّن مع يسوع، وسيظهر في النهاية في مجد عظيم. صلاة هي نداء إلى الله لتتمّ فينا مشيئته. صلاة فيها الطلبات المتعلّقة بالله. وتلك المتعلّقة بحاجاتنا اليوميّة، من خبز نحتاج إليه، من مغفرة الخطايا، ومن نجاة من التجربة. وينهي مت هذه الصلاة بتعليم يرتبط بالغفران: "إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. ولكن، إن لم تغفروا للناس زلاّتهم، فأبوكم أيضاً لا يغفر لكم زلاّتكم" (آ 14- 15).
بعد دراسة سريعة لنصيّ مت ولو ولإطار الصلاة التي علّمنا إياها يسوع، نتوقّف عند الطلبات الأولى المتعلّقة باسم الله وملكوته ومشيئته، ثم نعود إلى الطلبات الأخرى المتعلّقة بحاجات الإنسان في حياته اليوميّة على مستوى الجسد والروح. ونبدأ بسياق الصلاة الربّية في الإنجيل.

1- نظرة عامة
صلاتنا هي صلاة المسيح المقيم فينا بروحه. ويسوع نفسه، حسب شهادة مت ولو، قد أراد أن يقدّم لنا عبارة صلاة هي قاعدة لكل صلواتنا. وأعطانا بشكل خاص روحه الذي يُدخلنا بالصلاة إلى موقف حميم هو موقف ابن الله أمام أبيه. تلك هي الصلاة الربّية، أبانا الذي في السموات.
نحن نفهم الصلاة الربّية أولاً في إطار تعليم يسوع المركّز على الملكوت الآتي. إذن، توجيهها في البداية توجيه اسكاتولوجي، يتطلّع إلى الآخرة، إلى نهاية العالم ومجيء الملكوت. فكل الطلبات تعني بشكل من الأشكال مجيء الملكوت القريب. ونحن ندرك تدريجياً بُعدها العميق في الخبرة المسيحية كما يقودها الروح: هو الموقف البنويّ الذي يتضمّنه هذ الانفتاح على عمل الآب، يحمل في ذاته قيمته الأخيرة.
نقرأ الصلاة الربّية في مت ولو، ولكن في شكلين مختلفين. بدا لو أقصر من مت. قال فقط: أيها الآب. ولم يقل مثل مت: أبانا الذي في السماوات. لم يذكر الطلبة الثلاثة التي هي "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". كما لم يذكر أيضاً نهاية الطلبة الأخيرة: "لكن نجّنا من الشرير". وأخيراً، نجد في الطلبتين الرابعة والخامسة بعض الاختلافات سنشير إليها في أوانها.
نقل إلينا مت ولو الصلاة الربّية كما كانت تُتلى في كنيسة كل منهما: كنيسة فلسطين وما يجاورها من عالم يهوديّ (مت). كنيسة أنطاكية وما يجاورها من عالم وثنيّ (لو). في أي ظرف علّم يسوع هذه الصلاة؟ كل انجيلي جعلها في إطار يهمّه بشكل خاصّ: أدرجها مت في عظة الجبل وسط تعليم حول الصدقة والصلاة والصوم، فجاءت بشكل "زيادة" في بنية مبنيّةّ بناء متوازياً. وحدّد لو موقعها خلال صعود يسوع إلى أورشليم، فلم ترتبط ارتباطاً حقيقياً بالسياق (لو 11: 1: وكان ذات يوم يصلّي في موضع ما). ثم زاد لو بعض التوصيات الآتية من مراجع متنوّعة، عن الصلاة. ولكن يبقى أن الظروف التاريخيّة المحدّدة لا تهمّنا بقدر ما يهمّنا مضمون الصلاة الربّية. نقول هنا إن هذا التعليم (بحسب لو) قد أعطي جواباً على طلب ملحّ مني التلاميذ الذين أشاروا إلى ما فعله يوحنا المعمدان: "يا رب، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا تلاميذه" (لو 11: 1).
أي صيغة هي أقرب إلى ما تفوّه به يسوع؟ صيغة مت. فبنيتها المتوازنة، وعباراتها الأمينة للغة المعاصرة ليسوع، تجعلنا قريبين من أقوال الرب. ثم إن نصّ مت هو الذي دخل في الاستعمال الليتورجيّ.
نلاحظ أولاً بناء هذه الصلاة. في البداية، نداء إلى الآب السماويّ، ثم ثلاث طلبات تتوجّه إلى الله: اسمك، ملكوتك، مشيئتك. ويتوسّع الكلام في الطلبة الثالثة (على الأرض كما في السماء) قبل أن تتوقّف الحركة. بعد هذا، نجد ثلاث طلبات مع صيغة المتكلّم الجمع (نحن): أعطنا، أغفر لنا، نجنا. وهناك توازٍ داخل كل جملة: اليوم واليوميّ. اغفر لنا ونحن نغفر. التجربة والشرّير. ويتوسّع النص شيئاً فشيئاً حتى يقترب من النهاية. وكل هذا في أسلوب شفهيّ يسهل حفظه في الذاكرة. أما عبارة هذه الصلاة فتستعيد مواضيع جوهريّة من الوحي. انطلقت من العهد القديم وحُفظت في تعابير من التقوى اليهوديّة التي وجدت كمالها في التدبير الجديد مع يسوع المسيح والكنيسة.
هنا نشير إلى اعتراض يقول إن الصلاة تبدأ وجيزة مقتضبة ثم تتوسّع شيئاً فشيئاً مع الاستعمال الليتورجيّ. أيكون لو هو الأول ومت هو الثاني؟ ولكن نصّ مت يبدو متوازناً جداً بحيث لا يمكن أن يكون نتيجة زيادات على نصّ لو الذي هو جافّ ومتقطّع. ونجد اعتراضاً آخر يقول إن لوقا هو انجيليّ الصلاة، فكيف لا يذكر صلاة الربّ كلّها؟ وإذا كان هذا الكلام هو كلام الربّ يسوع كما تفوّه به، فكيف يتجاسر أن يقتطع منه؟ لهذا نقول إن لوقا تبع التقليد الذي وصل إليه، وكذلك فعل متّى بالنسبة إلى كنيسة فلسطين التي عاش فيها. ونقدّم اقتراحاً يقول: قد لا تكون هذه الطلبات جاءت بطريقة متواصلة ومرّة واحدة. فقد يكون يسوع قال مرّة هذه الطلبة ومرّة أخرى تلك الطلبة، وجاءت الكنيسة وجمعت هذه الطلبات في صلاة واحدة كوّن إطارها كل من متّى ولوقا.

2- الطلبات الأولى (6: 9- 10)
يتضمّن القسم الأول (آ 9- 10) ثلاثة تمنّيات، ثلاث طلبات تلتقي في رغبتنا بأن نشاهد ملكوت الله. ويحيط بهذا القسم لفظة "السماوات"، "السماء". ولكن آ 10 تذكر أيضاً "الأرض" فتبدو كصلةَ وصل مع القسم الثاني وحاجاتنا الأرضيّة.
أ- أبانا الذي في السماوات (آ 9 ب)
حين ندعو الله أبانا نقول له إيماننا وحبّنا، نقول له إننا نؤمن بحبّه. لقد بدأ الله فكشف عن ذاته أنه أب بقدرته الخلاصيّة في شعبه: حرّره من عبوديّة مصر وسمّاه "ابنه البكر" (خر 4: 22؛ رج سي 36: 10)، وجعله شعبه الخاص حين أقام عهداً معه (تث 32: 6). وبواسطة الأنبياء، أعلن حنانه الذي لا ينفد (إر 31: 20؛ 11: 3). ما استطاع الربّ أن يتخلّى عن ابنه (شعبه) المتمرّد، فعزم على خلاصه مهما كان الثمن. فدعاه بدون كلل ليعود إلى العهد في حرارة حبّه الأوّل (إر 3: 14 ي). وفي أيام المنفى المظلمة، أثبت اللقب في صلاة تطلب إعادة بناء الشعب (أش 63: 8 ي: هم شعبي حقاً، ينون لا يغدرون، فصار لهم مخلّصاً). وعند اقتراب الحقبة المسيحيّة، وساعة صارت الديانة ديانة شخصيّة، أخذنا نستشفّ هذه البنوّة لدى الصدّيقين الذي يعيشون في حياة حميمة مع الله. "يعدّون من أبناء الله وحظّهم بين القدّيسين" (حك 5: 5؛ رج 2: 16: يتباهون بأنهم أبناء الله؛ 3: 9).
وجاء العالم اليهوديّ الفلسطيني، فضمّ إلى لفظة "الآب" عبارة "الذي في السماوات". وهكذا دلّوا على تسامي الله وتعاليمه، كما دلّوا على ثقة المؤمن بقدرة الله التي تعمل وحدها من أجل إنهاض الشعب "عن التراب". نشير هنا إلى أن عبارة "الآب الذي في السماوات" تدلّ على الله لكي تسمّيه. ولكنها لا تُستعمل في الصلاة الشخصيّة كما في الصلاة الربّية.
واستعاد يسوع كل هذه الأقوال وصبَّها في إطار جديد. فالله يتوق في حنانه العظيم، اليوم وكل يوم، أن يستعيد أولاده الذين ابتعدوا عنه. هو يريد أن يكون أباً لجميع البشر، لا أباً لشعب اسرائيل فقط. وهو يوجّه نداءه إلى الجميع ويفتح لهم ملكوته. كل ما يطلبه منهم هو أن يؤمنوا برحمته، بمحبته، وأن يعيشوا حنانه مع جميع البشر.
إن هذا الجديد في التدبير المسيحيّ قد بدأ مع يسوع خلال حياته على الأرض. فعلى مدّ تعليمه وعمله، جعلنا يسوع نستشفّ أنه ابن الله في معنى سّري وسامٍ جداً. كان يكلّم الله في صلاته كما يكلّم الابن أباه. "أحمدك يا أبتِ، رب السماء والأرض..." (11: 25= لو 10: 21). "يا أبتاه، إن أمكن فلتجزِ عني هذه الكأس" (مت 26: 39 وز)! "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46؛ رج مر 15: 34؛ مت 27: 46).
صلّى يسوع إلى الآب ببساطة الابن الحبيب، ببساطة الطفل، ولكنه لم يتحدّث بشكل واضح عن بنوّتنا الإلهيّة وعلاقتها ببنوّته. في لغته العادية ميّز بين "أبي" و"أبيكم". قال في يو 20: 17: "أنا صاعد إلى أبي أبيكم". فالذي هو أبي هو أبوكم. فقد نكون أمام تمييز وأمام تقارب أيضاً.
كيف يدعو يسوع الله؟ "الآب". أو: "أبي". ومرة واحدة: "الآب القدوس". مرة واحدة: "الآب العادل". ومرة واحدة: "إلهي لما حسب نصّ المزمور (27: 46= مر 15: 34). وهناك لفظة "أبا" (مر 14: 36) التي تعود إلى الأراميّة، فتدلّ على أن يسوع هو من داخل العائلة. لهذا، يستعمل صيغة التحبّب هذه التي يستعملها الطفل مع أبيه. ونلاحظ أيضاً أن يسوع لا يقول "أبانا" بل الآب، أبي، أبوكم. وقد تكون لفظة "أيها الآب" ما يقابل "أبا" مع تبسيط للفظة وتعميقها بفعل الروح القدس الذي يهتف فينا "أبَّا، أيها الآب".
بعد القيامة مارس يسوع في المؤمنين عملاً جديداً جداً: ضمّهم إلى حياته كالقائم من الموت، إلى وضعه كابن الله العائش قرب الآب. وأفاض عليهم روحه المحيي. والروح من جهته جعل منا أعضاء جسد المسيح، كنيسته وشعب الله الجديد. كوّننا كأبناء الله. كلنا متضامنون في المسيح. والكنيسة الأولى (كما يقول بولس ويوحنا) أدركت عن اختبار العمق الجديد لبنوّتنا الإلهيّة وعلاقتها ببنوّة يسوع التي هي ثمرة مجيء الروح. فالروح يحرّرنا من العبوديّة القديمة ويجعلنا نرسم في المحبة موقف المسيح البنويّ: يحرّك صلاتنا فيوصل إلينا نداء الآب الذي يستعيد نداء المسيح بالذات: "أبّا، أيها الآب" (روم 8: 15؛ غل 4: 6؛ رج مر 14: 36). يحضر في قلوبنا فيفيض فيها حباً للبشر وهو حبّ الله كما كُشف لنا في المسيح (روم 5: 5).
واتخذت الأبوّة الإلهيّة بالنسبة إلينا معنى انتقال حياة. فالله أبو يسوع المسيح وأبونا يحبّنا في ابنه، ويضمّنا إلى هذه البنوّة بعطيّة روحه. ويسير حبّ الله إلى هذا الفعل المؤلّه التي يتمّ جميع المواعيد والآمال ويتجاوزها. إن حالتنا الحاضرة تسبق وضعنا في السماء.
وحين علّم يسوع تلاميذه أن يقولوا "أبانا"، عرف ملء المعنى الذي ستأخذه هذه التسمية. فرمى أساس خبرة بنويّة وأخويّة ينيرها الروح ويقودها. وحين نقول الآن "أبانا" يجب أن نفكّر قبل كل شيء في وحدة الحياة التي لنا مع الله في المسيح بالروح: تلك هي موهبة حبّه العظمى.
ب- ليتقدّس اسمك (آ 9 ج)
الاسم هو الشخص حسب الطريقة الساميّة. ليتقدّس اسم الآب أي ليتقدّس الآب بالذات. وهذه القداسة تأتي معاً من الله ومنّا. وقد عرفت التوراة الموضوعين: فالله يتقدّس أو يقدّس اسمه حين يدلّ على قداسته. "أظهر لهم قداسته فيما بينهم" (عد 20: 13)، حين أظهر لهم رفضه للخطيئة وطول باله تجاه تمرّدهم (رج حز 28: 22، 25: أظهر قداستي على عيون جميع الأمم حين أجمع شعبي؛ 38: 16، 23؛ 39: 27). والإنسان يقدّس (أو: يمجّد) الله حين يقرّ بقداسته في شعائر العبادة، في عمل المديح والسجود، في الطاعة لوصاياه، في الأمانة لمتطلّبات كمال الله. "تمرّدتما عليّ... ولم تظهرا قداستي" (عد 27: 14) يا موسى وهارون. "خالفتماني فيما بين بني اسرائيل... ولم تظهرا قداستي فيما بينهم" (تث 32: 51؛ رج أش 8: 13: قدّس الربّ القدير وليكن هو خوفك؛ 29: 23: يقدّسون اسمي كما قدّسه يعقوب). ما نطلبه هو أن يظهر الله ويُعرف كما هو: القدوس، المتعالي، الذي يعود إليه كل مجد وإكرام وسجود.
وعن طريق المفارقة يدلّ الله على قداسته حين ينقلها إلينا، حين يشركنا فيها، حين يرفع البشر إلى "مستواه". مخلوقات اختارها وميّزها (كان الإله يبتعد عن البشر لئلا يتنجّس إذا لمسوه). وأعطى الله الشعب الذي أحبّه تكريساً يدلّ على انتمائه إليه. فالله الذي هو الآخر الآخر، الآخر البعيد، هو حقاً إله لشعبه وهو يحميه. مقابل هذا، يلتزم اسرائيل أن يقرّ بقداسة الرب سائراً بحسب شريعته التي هي قاعدة تصرّف سامٍ على مستوى الدين والأخلاق. "كونوا قدّيسن. لأني أنا قدوس" (لا 11: 44). "فاحفظوا وصاياي واعملوا بها. أنا الربّ (أقول وآمركم). ولا تدنّسوا اسمي القدوس فأتقدّس (بمعنى: أبقى مقدّساً، مكرماً) فيما بين بني اسرائيل، أنا الرب الذي قدّسكم" (كرّسكم، خصّصكم لخدمته) (لا 22: 31- 32).
في الواقع، تعدّى اسرائيل على هذا التكريس، على هذا الالتزام. ومرات عديدة "نجّس" اسم الربّ على عيون الأمم. حينئذ وجّه الأنبياء هذا الموضوع نحو البناء المسيحاني للشعب. فقال حز 36: 23- 28: "أقدّس اسمي (أظهر قداسة) اسمي العظيم الذي دنّستموه في الأمم، فتعرف الأمم أني أنا الربّ حين أظهر قداستي فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من كل البلدان وأجيء بكم إلى أرضكم. وأرشّ عليكم ماء طاهراً، فأطهّركم من جميع أصنامكم وما به تنجّستم، وأعطيكم قلباً جديداً. أجعل في أحشائكم روحاً جدياً وانزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم، وتكونون لي شعباً وأكون لكم إلهاً" (رج 20: 41؛ 28: 22- 26؛ 38: 23؛ 39: 29؛ أش 29: 23).
فتقديس الاسم الإلهي يتماهى بطريقة ملموسة مع مجيء الملكوت، وذلك بفضل اتجاهه المسيحانيّ.
يعبرّ الاسم الإلهي عمّا هو الله بالنسبة إلينا. في العهد القديم اسم يهوه هو رمز. وحين أعلن الله: أنا يهوه، أنا هو الذي هو، لم يكشف عمّا هو في ذاته، بل أشار إلى سرّ كيانه الذي لا يُدرك. وبيَّن ما يريد أن يكون من أجل شعبه: لقد كشف عن نفسه بحضوره الفاعل والخلاصّي، وعرّف عن ذاته عبر قدرته وحبّه. "فتعرفون أني أنا الربّ". في العهد الجديد، كشف الله عن ذاته كما هو في ذاته، في سرّ حياته الحميمة التي يريد أن يوحّدنا بها. هو أب وهو يجعلنا أبناءه الأخصّاء. وهكذا يصبح عمله الخلاصي عمل تقديس وعمل تأليه.
"ليتقدّس اسمك". نجد تعبيراً عن هذه الطلبة في صلاة التقوى اليهوديّة. نذكر هنا الصلاة التي تُتلى كل يوم "قديش" (أي قدوس): "ليتقدّس اسمك العظيم في العالم الذي خلقته، ليجعل ملكك يملك فينبت الفداء، ليقترب مسيحك ليفتدي شعبك". أما العهد الجديد فلا يتكلّم في مكان آخر وبألفاظ خاصّة عن تقديس الاسم الإلهي. بل يبيِّن كيف يتحقّق فيض القداسة الإلهية وتمجيدها في الكنيسة، بوساطة المسيح وحضور الروح الذي يحوّلنا.
ويسوع، قدّوس الله (كرّسه الآب ليتمّ قصده)، ضحّى بذاته لكي يقدّس الكنيسة (يو 17: 19؛ أف 5: 26؛ عب 9: 13؛ 10: 10، 14، 29؛ 13: 12). وإذ أتمّ الروح القدس عمله، أقام فينا بواسطة حضور يكرّسنا كهيكل لله، ويقودنا إلى ثمار القداسة التي بها يتمجّد الآب (5: 16؛ 15: 8). هكذا تُبنى الكنيسة، شعب الله الجديد، والنسل المقدّس (1 بط 2: 5)، ومملكة الكهنة (رؤ 5: 10) التي تنضمّ عبادتها الروحيّة إلى ليتورجيّة المسيح والكنيسة في السماء، فتعلن بلا انقطاع قداسة الله (رؤ 4: 8).
ج- ليأتِ ملكوتك (آ 10 أ)
تقابل الطلبةُ الثانية الموضوعَ الجوهريّ لتعليم يسوع وعمله. فلفظة "باسيلايا" (ملكوتا في الأراميّة) لها مدلول خاص بالنسبة إلى معاصري يسوع. تعود الفكرة إلى النظام التيوقراطيّ الذي أقامه العهد: يعترف اسرائيل بالربّ سيداً، ويُقسم أنه يخدمه وحده. والربّ يحمي شعبه ويغدق عليه عطاياه. ودخلت الألفاظ الملكية حين أقيمت المملكة الزمنيّة. فتذكّر المؤمنون أن الربّ وحده هو الملك الحقيقيّ. أما داود (وغيره) فهو يقوم مقامه. هو يمثّله. وجاءت السقطات المتتالية وغياب الملكيّة البشريّة، فجعلت الشعب ينقل إلى المستقبل رجاءه بمملكة تيوقراطيّة (يكون الحكم فيها لله) مثاليّة يكون فيها الله معروفاً كالملك في العالم كله، فيؤمّن لمؤمنيه حياة مليئة بكل الخيرات. وفي العالم اليهوديّ اللابيبليّ، تكوّنت عبارة "ملكوت الله" مع المعنى الذي نعرفه في الانجيل. أما الأوساط الجليانيّة (مثل سفر الرؤيا) فتمثّلت هذا الملكوت وكأنه موجود قبل العالم، وأنه أعدّ في السماء بخيراته وواقعه الخلاصّي التي ستنزل من السماء على الأرض. في هذا الخط يقع ابن الإنسان كما يحدّثنا عنه سفر دانيال.
في زمن يسوع تضمّنت لفظة "ملكوت" امتداد ملك الله فيعرفه البشر جميعاً. كما تضمّنت كل خيرات الملكوت، ووفرة السعادة، وملء الخيرات المنتظرة في الزمن المسيحانيّ (هناك أفعال مثل ورث، امتلك، أعطى، قبل، طلب، اغتصب). في هذا الإطار نفهم الإعلان الأول في الانجيل: "تمّ الزمان واقترب ملكوت الله" (مر 1: 15). ملكوت الله هو هنا بحضور المسيح نفسه. والمعجزات هي علامة تدلّ على هذا المجيء. إذن، انهار ملكوت الشيطان.
وحاولت الأمثال (مت 13: 1 ي وز) أن تكشف لمن يريد أن يفهم، سرّ الملكوت: الملكوت الاسكاتولوجي، ملكوت الأزمنة الأخيرة، هو حاضر هنا. وقد أعطي منذ الآن واقعُه الديني كما في آخر الأزمنة. ولكنه أعطي كنبتة، كبذار متواضع، ينمو على مهل وبشكل تدريجيّ إلى أن يصبح شجرة كبيرة. أو هو مثل خمير وضعته امرأة في العجين فطلع العجين كله. فالملكوت الذي أعطي منذ الآن في المسيح، ينتظر وقت كماله النهائي حين يأتي المسيح في المجد. إلى هذا المجيء الأخير توجّه الصلاةُ الربّية أنظارَنا. ونحن نصليّ من أجل هذا الملكوت، وكل ما يهيّئه ويحقّقه منذ الآن بطريقة أوليّة.
فإذا كان الملكوت في جوهره عطيّة الله، وموهبة مجانية تمنحها إرادته للمساكين والوضعاء والصغار، فهو يتطلّب مع ذلك مشاركة الإنسان الذي يتقبّل في الإيمان البذار الذي زرعه المسيح ويجعله يثمر أعمالاً توافق إرادة الآب (13: 2، 43). فمجيء الملكوت، شأنه شأن تقديس الاسم، هو عمل الله وعمل الإنسان معاً. هو عطيّة الله عبر مطابقة الإنسان له.
وهكذا استعاد المسيحيّون صلاة الرجاء اليهوديّ ولكن في منظار غير متوقّع: فالملكوت الذي تماهى مع "الخلاص" و"الحياة الأبديّة" (19: 16، 23- 25) قد بدأ يُعطى لنا. ونحن ننتظر ظهوره التامّ الذي بتهيّأ في الإيمان والتوافق مع عطيّة الله في المسيح عبر حياتنا وأقوالنا وأفعالنا.
د- لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض (آ 10 ب)
يجب أن نفهم الطلبة الثالثة حسب ذات الحركة الفكرية التي رافقت الطلبتين السابقتين. نحن ننتظر من الله ومن الإنسان أن تكمل المشيئة الإلهيّة. والموضوعان يتوزّعان الكتب المقدّسة كلها. هذا ما نجده في فعل "غانيتيتو" الذي يترجم: لتعمل، لتتحقّق. وهكذا لا يتوضّح "الشخص" الذي يُتمّ مشيئة الله.
الله يفعل ما يشاء، يتصرّف حسب إرادته، حسب مرضاته. كل ما يريده يصنعه في السماء وعلى الأرض (مز 115: 3؛ 135: 6؛ أي 23: 13... 1 كور 12: 11؛ عب 2: 4). هو يرفع من يشاء ويحطّ من يشاء (طو 4: 19). ويعطي الملك لمن يريد (دا 4: 14، 23، 29). وهكذا لا يستطيع أحد أن يقاوم إرادته أو يطلب منه حساباً عمّا فعل (روم 9: 18- 20). عند ذاك يُطرح السؤال: لماذا نطلب من الله أن يصنع مشيئته؟ لأن موضوع هذه المشيئة هو خلاصنا، والله يريد أن يرتبط خلاصنا هذه بصلاتنا وتعلّقنا بالربّ.
الله يفعل ما يشاء بقدرة مطلقة واستقلاليّة متعالية. والموضوع الأساسيّ لمشيئة الله كما كشفه العهد الجديد بشكل نهائيّ، يتضمّن بنوّتنا الإلهيّة وقداستنا وعطيّة الملكوت أو الحياة الأبديّة (يو 6: 39- 40؛ رج مت 18: 14). فنحن معاً أمام مشيئة محبّة، وأمام رضى بموجبه يقدّم الآب الملكوت للقطيع الصغير (11: 25- 26 وز؛ لو 12: 32). هنا نقرأ عن سرّ إرادة الله كما تنشده أف 1: 3- 10: "تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي غمرنا من علياء سمائه بكل بركة روحيّة في المسيح. اختارنا من قبل إنشاء العالم... على حسب مرضاة مشيئته... فيه نلنا الفداء... وقد أراد أن يعرّفنا إلى سرّ مشيئته، هذا القصد الذي سبق فقصده في نفسه ليحقّقه عند تمام الإزمنة أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل ما في السماوات وعلى الأرض".
وننظر إلى موضوع مشيئة الله حيث تحقّق بشكل نهائيّ. وهذه التتّمة الأخيرة والكاملة نسألها في الطلبة الثالثة ونحن عالمون أن قصد الله بدأ يتمّ منذ الآن. غير أن الله يريد أن يحقّق قصده عبر جوابنا المحبّ، وطاعتنا البنويّة، وارتباط حرّيتنا. يريدنا قدّيسين (1 تس 4: 3)، وأعضاء في ملكوته. ومثل هذا القصد الذي ترسله النعمة هو نداء متطلّب. وهو يوصينا بأن نتوافق مع هدف الله بالنسبة إلينا، كما نكتشفه من خلال وصيّة الآب أو من خلال الظروف.
وكما أن الله يتقدّس إذا نحن انفتحنا على فيض قداسته. وكما أن الملكوت يتحقّق بقدر ما نتقبّله فعلاً في قلوبنا، هكذا تتمّ مشيئةُ الله الخلاصيّة إذا صارت هذه المشيئة مشيئتنا في التعلّق بالله والطاعة له. ولا يدخل إلى الملكوت إلا الذين يعملون مشيئة الله (7: 21؛ 21: 31). هذا لا يعني أن الملكوت يصل إلينا كجزاء خارج عنا. بل إن الملكوت ينمو في قلوبنا في الأمانة لمشيئة الله المقدّسة والطاعة البنويّة له. وهذه الطاعة المُحبّة هي أيضاً عطيّة من الله ونعمة نطلبها لكل واحد منا ولنا جميعاً: فالله هو الذي يحرّك فينا التوافق مع إرادته (فل 12: 13؛ عب 13: 21).
وبمختصر الكلام، يطلب المسيحيّ أن تتمّ مشيئةُ الآب الخلاصيّة، وهو يحاول أن يتوافق مع هذه المشيئة في الصلاة والطاعة. أما المثال الأسمى عن هذه الصلاة فنجده لا يسوع ابن الله، عبد الربّ، والطائع الكامل (يو 4: 34؛ 5: 30؛ 8: 29؛ فل 2: 7- 8). ففي الجسمانيّة، وليلة آلامه التي كانت الساعة الحاسمة لتاريخ الخلاص، تلا يسوع صلاة (26: 42 وز) جعلت إرادته توافق إرادة أبيه الذي طلب منه الطاعة حتى الموت والموت على الصليب. ونحن نتقدّس بطاعة يسوع وإرادته الموافقة لإرادة الآب (عب 9: 9- 10)، إذا جعلنا بدورنا إرادة الله إرادتنا في الصلاة أولاً، وإذا دخلنا بمحبّة في طاعة ابن الله يسوع المسيح.
وهكذا نجد وحدة الطلبات الثلاث الأولى في الصلاة الربّية: تعبير واحد. حركة فكر واحدة (عطيّة الله وجواب البشر). موضوع واحد هو الخلاص في تحقيقه النهائي والكامل كما تدشّن منذ الآن وما زال يتدرّج يوماً بعد يوم. وأحاطت الطلبة الأولى والطلبة الثالثة بالطلبة الثانية، فاستعادتا موضوعاً رئيسياً في الانجيل: الملكوت هو قبل كل شيء عطيّة الأب. الملكوت هو المسيح نفسه الذي فيه صرنا أبناء (اوريجانس). الملكوت يأتي إلى قلوبنا فيجعل قداسة الله تجتاح قلوبنا وتكرّس كياننا وعملنا. والملكوت هو أيضاً تجسّد ملموس لمشيئة الأب التي تحرّك مشيئتنا.
وتأتي عبارة "كما في السماء كذلك على الأرض". فقد ترتبط بالطلبة الثالثة وحدها. وقد ترتبط بالطلبات الثلاث: نتمنى مجيء الملكوت على الأرض كما في السماء حيث الله ملك مع قديسيه الذين يتمّون إرادته كاملة. هنا نقرأ مز 103: 19- 21: "عرش الربّ ثابت في السماء، وملكوته يسود على الجميع. باركوا الربّ يا ملائكته أيها المقتدرون المطيعون أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الربّ يا جميع جنوده، يا خدّامه العاملين ما يرضيه".
هذه العبارة تنهي القسم الأول من الصلاة الربّية. فتكون تضميناً مع العبارة الأولى (أبانا الذي في السماوات). وهكذا تتركّز الصلاة على الملكوت ومجيئه في قلوبنا، في حياتنا، في العالم.

3- الطلبات الأخيرة (6: 11- 15)
عرف يسوع الصلاة اليهوديّة، ولكنه دشّن هنا صلاة جديدة دلّت على رغبته الحارة في أن يرى مجيء الملكوت. وهكذا حين نتلو الصلاة الربّية نقاسم يسوع إيمانه بمجيء الملكوت، ونسير في أثره فنسلّم ذواتنا إلى سلطة الله المتعالية في يوم يتمّ فيه كل شيء. وهكذا ينتعش رجاؤنا فنطلب ببساطةٍ الضروريَّ الذي نحتاج إليه: الخبز الكافي، غفران الخطايا، التحرّر من كل شرّ. هذه المواضيع الثلاثة تكوّن موضوع القسم الثاني من الصلاة الربّية (آ 11- 13). وتستعيد آ 14- 15 طلبة الغفران بشكل شرطيّ: إن غفرتم، إن لم تغفروا.
أ- أعطنا خبزنا كفافنا اليوم (آ 11)
إن كلمة اليوم تقابل في اليونانيّة "ابيوسيوس". هذه اللفظة هي نادرة وصعبة. ترجم البعض: "الخبز الضروريّ لكفافنا". أو: الخبز الجوهريّ. أو الخبز للغد، الخبز لليوم الحاضر: إذا أخذنا بالجوّ الاسكاتولوجيّ نفهم عبارة الخبز الآتي، الخبز الذي للغد. ولكن، هل نسينا ما قاله يسوع بعد هذا بقليل عن الاهتمام بالغد؟ أما لو فقالت: أعطنا كل يوم، يوماً بعد يوم.
نتعجّب أمام هذه الطلبة التي تبدو ذا طابع دنيويّ، زمني، إذا نحن قابلناها بسائر الطلبات. هذا يدلّ على أننا لم نعد ندرك الرنّة الدينيّة لمثل هذه الصلاة في فم المسيحيّين الأولين. فخبز كل يوم مثَل يصوّر خيرات الله. وهو عطيّة إلهيّة، ظاهرة ونموذجيّة، خلال الخروج (المن)، نراها في تكثير الأرغفة بيد يسوع. الخبز هو رمز متواضع ومعبرّ معاً لخيرات سامية يجعلنا الآب نرجوها.
الخبز، وبشكل عام الطعام، يجُمل في شكل من الأشكال، خيرات الأرض الضروريّة لحياتنا. غير أن التوراة ترى هنا عطيّة من السماء، وكرماً من الله يتوّج عملنا. وحين نطلبه بلا ملل في الصلاة، نتعلّم أن نقف بين يدي الله في الصلاة مثل أطفال ينتظرون كل شيء من أبيهم (7: 9 وز). وحين تقتصر رغبتنا يوماً بعد يوم على حصّتنا اليومية وحاجتنا، فنحن نجعل نفوسنا في موقف المساكين الذين يطلبون أولاً ملكوت الله ولا يهتمّون للغد، لأنهم يؤمنون إيماناً مطلقاً بعناية الآب بهم (6: 25- 34).
لقد بيّن لنا يسوع مرّات عديدة هذا الاهتمام وهذه العناية، فكثّر الأرغفة ساعة كانت الجموع تستمع إلى كلام الله. وحين نعبرّ عن هذه الطلبة من أجلنا جميعاً، نؤكّد استعداداتنا الأخويّة نحو القريب. فالخبز يُعطى لنا لكي نتقاسمه مع الآخرين. والتوراة تعتبره علامة الاتحاد ووسيلته، علامة المشاركة والحياة الحميمة والأخوّة. وإن كنا أبناء الله حقاً، لا نستطيع أن ننسى الإخوة العديدين في أنحاء الكون الذين يبدو الخبز اليومي بالنسبة إليهم قلقاً متواصلاً: فهم لا يستطيعون أن يحصلوا عليه إلا بمشقّة كبيرة.
وفي الإطار الاسكاتولوجيّ للصلاة الربّية، نستطيع أن نفكّر في حقبة الخروج النموذجيّة: هي زمن نعمة كان الله يمنح فيها يوماً بعد يوم، الطعام اليومي لشعبه السائر نحو ملكوت المواعيد (خر 16: 4؛ نح 9: 15؛ مز 78: 24- 25؛ 105: 40؛ حك 16: 20). فذكرى خروج الشعب كانت تملأ فكر المسيحيين الأولين الذين وعوا أنهم شعب الله الحقيقيّ والجماعة المسيحية في أواخر الأزمنة، أنهم يستعدون للدخول إلى الملكوت القريب.
وحين كثّر يسوع الأرغفة في البريّة، رفع فكر الناس إلى ذاك الخبز السماويّ الذي منحه الله في الماضي لابنه البكر، لشعبه. ولكن معجزة الأرغفة ترتدي في نيّة المخلّص بُعداً نبوياً ذا اتساع كبير. فهي تقودنا إلى شيء أسمى، إلى خبز السماء الحقيقيّ الذي يهيّئه الربّ للمؤمنين طعاماً للحياة الأبديّة. هو المسيح نفسه الذي يُعطى لنا من الآن في كلمته وفي سّره العظيم (يو 6) استباقاً لليوم القريب الذي "يأتي" فيه ليدعونا إلى مائدته في ملكوته (8: 11؛ 26: 29؛ لو 22: 29- 30؛ رؤ 3: 20).
وبانتظار المجيء، يبقى وضعنا الحاضر وضعَ مسافرين في طريقهم نحو الموعد. ولهم هذا الخبز الضروريّ الذي نالوه من الآب، والذي لا يمكن أن يكون إلا عربون هذه العطايا السامية التي يحتفظ بها الله للذين يحبّونه.
ب- اغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر لمن أساء إلينا (آ 12)
إن طلبة الاستغفار عن الخطايا تستقي لغتها من العالم اليهوديّ الذي يتحدّث بالأحرى عن الوجهة القانونيّة للخطيئة التي هي دين لا نستطيع إيفاءه بسهولة. هذا لا يعني أنهم نسوا وجهة الإساءة الشخصيّة لله، وهي وجهة يشدّد عليها العهد القديم تشديداً خاصاً، ويبرزها يسوع أيضاً إبرازاً. فعصيان إرادة الله، لا يسيء فقط إلى سلطان الله وحقوقه، بل هو يجرح حبّه كأب لأبنائه وعريس لعروسه (إر 2: 2- 3؛ 3: 7 ي؛ حز 16: 1 ي؛ 23: 1 ي).
إن الله يتألّم حين يرى الإنسان يرفض حبّه أو يعاند هذا الحبّ من أجل هلاكه. لهذا، فهو دوماً يدعونا إلى التوبة، ويعدنا بغفرانه (أش 55: 7- 9؛ إر 3: 12- 14؛ 25: 3- 6؛ حز 18: 31- 32؛ 33: 11؛ هو 2: 1؛ 14: 2- 9؛ زك 13: 1).
وأعلن تعليمُ يسوع أيضاً رغبة المغفرة التي تحرّك قلب الآب، وإرادته بأن يخلّص ما قد هلك، وفرحه بعودة الابن الضالّ (18: 11- 14؛ لو 15: 1 ي). ودلّ المخلّص في كل تصرّفه على محبّة الله للخطأة بعد أن عرف شقاءهم واستعدادهم للتوبة وانفتاحهم على حنان الله (9: 10- 13 وز؛ 11: 19 وز؛ لو 7: 36- 50، 19: 1- 10؛ يو 8: 11). وعلى الصليب، طلب يسوع الغفران لجلاّديه (لو 23: 34). وإذا كنا نرجو نحن غفران خطايانا، فلأن المسيح سفك دمه، دم العهد، من أجل الكثيرين لغفران الخطايا (مت 26: 28). لقد كشف لنا الصليب بشكل يذهلنا، عظمة محبّة الله التي تفوق بما لا يحدّ كثرة خطايانا. فإن ارتفعت خطايانا حتى الجبال، فرحمة الربّ أرفع من الجبال.
وغفران الله يعمل على تحويل قلوبنا، فيفيض فيها هذه المحبّة التي ظهرت في ذبيحة المسيح. والغفران لا يصل إلينا فعلاً إلا بقدر ما نترك رحمة الله الآتية من العلاء تجتاحنا، إلا بقدر ما نغفر بدورنا للآخرين ديونهم وإساءاتهم. علينا أن نحبّ الجميع، أن نغفر بدون حساب (18: 21- 22) لنكون حقاً أبناء الآب الذي في السماء (مت 5: 43 ي وز). ومثَل العبد الذي لا شفقة في قلبه (18: 23- 25) هذا المثل الذي يستعمل اللغة القانونيّة ليتحدّث عن ذنوبنا تجاه الله وديون القريب نحونا، يبيِّن لنا أن إساءات البشر تجاهنا ليست بشيء تجاه خطورة خطايانا ضد الله. كما يبيِّن لنا أن علينا أن نغفر لإخوتنا من كل قلبنا إذا أردنا أن يواصل الله فينا عمل رحمته.
في عبارة "كما نغفر" تبدو الأداة "كما" غامضة بعض الشيء (تقابل كدي في الأرامية التي فسّرها لوقا: لأننا غفرنا): لا نستطيع أن نعطي مثالا الغفران لله. والتفسير الذي يلي (آ 14) يبيِّن أن غفراننا هو شرط لغفران الله لنا: إذا غفرتم... إن لم تغفروا. والمثل الموسّع الذي نقرأه في 18: 23- 35 وأشرنا إليه أعلاه، يبيِّن أيضاً معنى الأداة "كما": لله كل مبادرة. ولكن إن أراد أن يبقى عاملاً فينا حتى النهاية، فهو يفرض كشرط ضروريّ استعدادنا لكي نغفر. وينتهي المثل بهذا التنبيه: "أما كان يجب عليك أن ترحم كما رحمت؟ هكذا يعاملكم أبي السماويّ إن لم يغفر كل واحد منكم".
وبشكل عام، نجد العبارتين في نصوص العهد الجديد، وقد نجدهما معاً: يجب أن نكون رحماء مثل الآب، أن نغفر بعضنا لبعض كما غفر الله لنا في المسيح (لو 6: 36؛ أف 4: 32؛ كو 3: 13). والله يغفر أيضاً كما نغفر نحن. فهو يرتّب غفرانه على غفراننا (5: 7؛ 6: 14- 15؛ 25: 31- 46؛ مر 11: 25؛ لو 7: 47). وتلتقي النظرتان في مثل الدائن الذي لا يرحم في مت 18، وفي لو 6: 36- 37: "كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم... اغفروا يغفر لكم".
ونستطيع القول حول ارتباط غفران الله بغفراننا كما يلي: إذا كنا لا نعرف أن نغفر للقريب، فهذا يعني أننا قساة القلوب، وبالتالي لا يستطيع غفران الله أن يخرق قلبنا. فمن كان رحيماً استطاع أن يعرف رحمة الله، ومن كان محبّاً عرف محبّة الله. وكذلك من كان غفوراً.
أشارت الصلاة الربّية هنا بشكل خاص إلى الغفران الذي يُعطى لنا ساعة الدينونة الاسكاتولوجيّة، كما قالت المواعيد القديمة. ويحذّرنا يسوع بمناسبة الحديث عن هذه الدينونة الأخيرة: سوف ندان حسب رحمتنا تجاه القريب (25: 31 ي؛ رج 7: 1- 2). وقالت الكرازة الرسوليّة: سنُدان كما ندين القريب (روم 14: 10؛ يع 2: 13). ولا تشكّل مغفرة الخطايا في شكل من الأشكال سوى الوجهة السلبيّة للخلاص والتقديس، أو المرحلة السابقة لإقامة الملكوت (3: 2؛ 4: 17؛ أع 2: 38). وبما أن الملكوت يتدشّن منذ الآن، يتدشّن كل يوم، نحن نواجه دينونة الله، فنخلص أو يُحكم علينا حسب استقبالنا للمسيح عبر حياة المحبّة أو عدم استقبالنا له. تلك هي بشكل خاص نظرة يوحنا في إنجيله.
سيُغفر لنا حقاً، سنخلص، سنكون أبناء الله في المسيح، إذا وسّعنا قلوبنا وسع محبّة الله حتى نشارك إخوتنا مشاركة صادقة لا تعرف الكلل لنطلب مغفرة الله لنا، وبعضنا لبعض، ولنغفر من كل قلوبنا لجميع الذين يحبّهم الآب كأبنائه.
ج- لا تدخلنا في تجربة، بل نجنا من الشرير (آ 13)
التجربة هي "بايرسموس". تعني أولاً المحنة والامتحان. الاختبار. التجربة هي شكل خاصّ من أشكال المحنة. نرى في عدد من النصوص البيبليّة أن الله "يمتحن" مختاريه: امتحن ابراهيم (تك 22: 1)، وبني اسرائيل في البريّة (خر 15: 25؛ 16: 4؛ 20: 20؛ تث 8: 2، 16)، والأبرار (حك 3: 5؛ رج تث 13: 4؛ قض 2: 22؛ 3: 1، 4؛ 2 أخ 32: 31؛ يه 8: 25 ي). وقد يكون لنا أن نعبر أوقاتاً من الضيق والألم ومختلف الصعوبات، حيث تبدو قوّة الله وكأنها تبتعد عنا. حينئذ تجتذبنا قوى متعارضة: من جهة نداء الله في نقاوته. ومن جهة ثانية: اجتذاب الشّر وسرابه.
فكما ينقّي الناسُ الذهب في البوتقة (حك 3: 6؛ رج مز 66: 10)، كذلك يفعل الله بهذه الظروف التي فيها يتثبّت إيماننا فيه وحده، ويتقوّى تعلّقنا بالله بالذات لا بعطاياه وتعزياته. وحين يكون الحديث عن خطر الوقوع في الخطيئة، تعني "بايرسموس" التجربة. وتُنسب إلى الشيطان (أو إلى الشهوة التي في داخلنا)؛ نال الشيطان أذناً بأن يجرّب أيوب. واقتاد الروح يسوع إلى البرية حيث جرّبه الشيطان. والتجربة لا تأتي من الله أبدا (يع 1: 13؛ رج سي 15: 11- 12).
أما في النصّ الذي ندرس، فاللفظة تعني التجربة (أي الوضع الذي فيه نجرّب من قبل الشيطان). وصاحبها هو الشرير. "لا تدخلنا". أي لا تسمح بأن ندخل، بأن نقع ونسقط. لا نستطيع أن نطلب من الله أن نُعفى من المحنة أو التجربة. فالكتاب كله يقول بضرورة المحنة ودورها المنقّي. ويسوع نفسه خضع لها في البرية بعد العماد (4: 1 ي وز)، وفي جتسيماني خلال نزاعه (26: 36 ي وز؛ 27: 46 وز)، وفي ظروف أخرى أيضاً (16: 22- 23 وز): جرّب لكي يتخلّى عن رسالته كعبد الله المتألّم. جرّب لكي يميل إلى نظرة مسيحانيّة زمنيّة. ويبقى أن طلبة الصلاة الربّية هذه تعني بشكل خاص المحنة العظيمة في نهاية الأزمنة.
إن التيارات الجليانيّة في التوراة وفي العالم اليهوديّ تتطلّع، في الأيام الأخيرة وقبل تدخّل الله الأخير، إلى اجتياح قوى الجحيم وازدياد الشر: انقلابات على مستوى الكون، اضطهاد. الشّر يتفاقم. رجاسة الخراب وفيها يريد الشيطان أن يحلّ محلّ الله بواسطة الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة. برودة المحبّة وجحود عدد كبير من الناس. هي تجربة غير عادية (24: 4 ي وز)، وقد تفصلنا عن ملكوت الآب إلى الأبد، وقد تستبعدنا عن السعادة معه. من مثل هذه التجربة نطلب النجاة لئلا نغرق في خضمّها.
إن محننا وتجاربنا الحاضرة هي إعلان ورسم عن هذه المحنة الأخيرة. فإن لم تكن لها قوّتها، فهي ترسم السمات التي تميّزها كما تتضمّن النهاية الحاسمة. وفي الوقت عينه هي تعود إلى المحن والتجارب التي قاساها المسيح من أجلنا لأنه رئيسنا (عب 2: 18 ي؛ 4: 14 ي). وفي الساعة الرئيسيّة لعمل يسوع الفدائيّ، فالمسيح الذي جاء يقلب مملكة الشيطان، قد عاش أول فصل في هذه الدراما الاسكاتولوجيّة: هي ساعة سلطان الظلمة (لو 22: 53)، بل هي الساعة التي فيها يُلقى سلطان هذا العالم إلى الأرض (يو 12: 31).
فيسوع غلب العالم وسلطان هذا العالم (يو 16: 33) بأمانته المطلقة لمشيئة الآب، في موته وقيامته. والزمن الذي يمتدّ الآن بين ذهاب المخلّص ومجيئه هو الوقت الذي فيه ينضمّ المسيحيّون إلى يسوع في حربه وانتصاره على الشيطان (1 بط 4: 12؛ رؤ 12: 9 ي). وأمام التجربة يوصي يسوع أحبّاءه بالسهر والصلاة (26: 41 وز؛ 1 بط 5: 8). وهذا السهر يجعلنا دوماً مستعدّين بانتظار مجيء الربّ (24: 42- 43؛ 25: 13؛ مر 13: 34- 37؛ لو 12: 37؛ 1 تس 5: 6؛ رؤ 3: 3؛ 16: 15). وتكون تجاربنا الخاصّة علامات سابقة للمجد الأخير. فالذين ظلّوا معه في محنه، قد وعدهم يسوع بصريح العبارة أنهم سيقاسمونه ملكوت الآب (لو 22: 28؛ رج يع 1: 12؛ رؤ 2: 10؛ 3: 21).
ويتضمّن الفعل الأخير بعض العنف: "ريساي": اقتلع. ففي الطلبة رنّة مأساوية ومصيرنا الأخير يرتبط بها. لقد استعمل بولس الفعل عينه في كو 1: 13: "اقتلعنا (انتزعنا) الآب من مملكة الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب". رج 1 تس 1: 10؛ 2 تم 4: 17- 18؛ 2 بط 2: 9. وفي أماكن أخرى، يتحدّث النص عن خطر الموت الذي نُنتزع منه (27: 43؛ روم 7: 24؛ 2 كور 1: 10). وقد ننتزع من أعداء الله أو من عمله (لو 1: 74؛ روم 15: 31؛ 2 تس 3: 2؛ 2 تم 3: 11).
وفي تعارض تام مع الدعاء الأولى للآب، تنتهي الصلاة فتذكر ذاك الذي نطلب أن ننجو منه: الشّرير أو الشّر. لقد سمّاه يسوع مراراً الشيطان، الخصم الأكبر لله ولمخطّط حبه، ذاك الذي يحاول أن ينتزع من قلوبنا بذار الملكوت (3: 19)، أو يخرج الزؤان مع القمح (13: 38). وليلة العشاء السرّي، طلب المخلّص من الآب أن يحفظ المؤمنين من الشرير ما داموا في العالم (يو 17: 15). وتلتقي صلاتنا مع صلاة يسوع من أجل كنيسته ومن أجل كل واحد منا.
في الواقع، إن الله لا يسمح، أمانة لحبّه، أن نجرَّب فوق طاقتنا، بل يوازي بين عونه وصعوباتنا (1 كور 10: 13؛ 2 تس 3: 3). في هذه الظروف الصعبة، يمنحنا نعمة ابنه الذي قاسمنا تجاربنا ليقودنا إلى المشاركة في بنوّته (عب 2: 10- 18). بعد هذا، فانتصار يسوع ينتهي في انتصار الكنيسة. ومنذ الآن صار هذا النصر حاضراً بالنسبة إلى كل واحد منا في إيماننا، في محبّتنا، في مشاركة حياة ذاك الذي هو مولود الآب. "كل من وُلد من الله لا يخطأ. لأن المولود من الله يصونه فلا يمسّه الشّرير" (1 يو 5: 18).
د- إن غفرتم للناس (آ 14- 15)
يبدو أن هاتين الآيتين لم تنتميا إلى السياق الانجيليّ. وقد جعلهما مت هنا ليبرز خطوة آ 12 ب (كما نغفر نحن). فمكانهما الأساسيّ هو في سياق آخر حسب مر 11: 25- 26: "وإذا قمتم للصلاة فاغفروا، إن كان لكم على أحد شيء، لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي زلاتكم. فإن لم تغفروا فأبوكم الذي في السماوات لا يغفر لكم أيضاً زلاتكم". غابت هاتان الآيتان (آ 14- 15) من لو، وكررهما مت 18: 35. إنهما تدلاّن على فكرة هامة في مت، ويجب أن تُفهما في خط مثَل العبد الذي لم يرحم رفيقه (18: 23- 35).
وتبقى المجدلة في آ 13 ج: "لأن لك المجد والقدرة...". لا نجدها في أقدم المخطوطات، ولا تظهر في التقليد المسيحيّ إلا في منتصف القرن الثاني، في صلاة الديداكيه. نرى في هذه المجدلة كل عناصر المجدلات اليهوديّة، وهي لهذا تشهد على تأثير عبادة المجمع على الصلاة المسيحيّة. لهذا، يجب أن نفهم هذه المجدلة كاعتراف إيمان، وتحدّ لخصوم الكنيسة، وفعل سجود أمام قدرة الله كما في سفر الرؤيا.

خاتمة
إن صلاة الرب تطلب الملكوت وما يوضحه وما يخضع له. وهي تشكّل ملخّصاً لتعليم يسوع بعد أن استنار بخبرة عاشتها الجماعة المسيحيّة الفتيّة. فالواقع العميق للملكوت يقوم في ارتباطنا بالمسيح. والخلاص المسيحاني الذي ترجّاه المؤمنون في الماضي وطلبه اليهود من أجل الأزمنة الأخيرة في صلاتهم، قد كُشف على أنه تأليهنا في ابن الله كما تدشّن منذ الآن. وهذا العمل يجد ذروته في الصلاة. والطلبات الأخيرة (الخبز، المغفرة، المعونة) تخلق فينا في النهاية وأمام الآب قلب طفل.
في هذا المنظار تبدو الصلاة الربّية صلاة المسيحيّين الجدد ساعة دخولهم إلى الملكوت بالمعموديّة. وساعة يكرّسون كأبناء الله ينعمون بقصد نعمته ويلبسون قوّة من العلاء لكي يتّحدوا مع المسيح في طاعته وانتصاره في حربه على الشّر والشّرير. ولكن على المعمّد كل يوم أن يقول هذه الصلاة خلال الاحتفال بالافخارستيا ساعة يضمّ المسيح صلاتنا المتواضعة إلى تقدمته، فيصبح غذاء حياتنا، ويختم جماعتنا كإخوة في المحبّة، إلى أن يأتي في نهاية تاريخ الخلاص فيضمنا إضمامة نهائية مع مديحه البنويّ في السماوات إلى أبد الآبدين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM