الفصل الثالث والعشرون: الكنز الحقيقي

الفصل الثالث والعشرون
الكنز الحقيقي 6: 19- 24

هذا القسم الأخير من خطبة الجبل يجمع تقاليد عديدة نجدها هنا وهناك في لو، فيعيد مت صياغتها ويكمّلها. وهكذا ترتسم خمس موجات متلاحقة نتعرّف إليها مع فعل الأمر الذي يدلّ على بدايتها ويقدّم معناها. لا تكنزوا لكم كنوزاً يأكلها الصدأ... لا تقلقوا قائلين: ماذا نأكل... لا تدينوا لئلا تُدانوا... لا تعطوا القدس للكلاب... لا تطرحوا جواهركم قدّام الخنازير...
أما نحن فنتوقّف عند القطعة الأولى (6: 19- 24) وفيها موضوع الكنز (آ 19- 21) والتعليمات حول سراج الجسد (آ 22- 23)، وأخيراً النداء لكي نعبد الله ولا نعبد غيره 247). فعلى التلميذ أن يختار. والعين التي تساعدنا على التوجّه في الخطّ المطلوب، تدلّ على هذا التمييز الذي يمنعنا من السير في الظلام. ويُطرح السؤال: لماذا نختار بين كنزين؟ أما يمكن أن نساوم؟ يقول لنا يسوع: هذا مستحيل. حينئذ تكونون في وضع العبد الذي يخدم سيّدين. سينال العقاب مت هذا وذاك.

1- كنوز وكنوز (6: 19- 21)
قد تكون هذه المقطوعات الثلاث (آ 19- 21، آ 22- 23، آ 24) كوّنت وحدة تامّة وجاءت في خدمة فكرة واحدة: اتخاذ القرار الضروريّ. قرار الالتزام بلا تردّد ولا تحفّظ. وننظر إليها ثالثاً من زاوية الله وحده وقد نتخيّل متّى ذاك المعلّم الذي يجمع هذه المقطوعات في مجموعة كما فعل في حالات أخرى. أما لو فقد حدّد موقع هذه المقطوعات في أماكن أخرى من إنجيله، ولم يرَ أنه من المناسب أن يجمعها.
تشكل آ 19- 21 وحدة ذات بنية أصيلة. ونجد في آ 19- 20 توازياً تاماً بين العبارات. فالألفاظ عينها تظهر في كل جزء ما عدا التعارض "على الأرض"-"في السماء". لما نكن نتوقّع آ 21. أما معناها فهو كما يلي: من الأهميّة بمكان أن نجعل كنزنا في السماء، لا سيّما وأن الانسان (قلبه) يتعلّق بكنزه. وقد أخبرنا الرابانيون عن ملك ارتدّ إلى الديانة اليهوديّة في القرن الأولى المسيحيّ، فأعطى كل أمواله للفقراء، وإذ لامه بعضهم بسبب هذا التبذير أجاب: "جمع أبائي لأخرين وأنا جمعتُ لنفسي. آبائي جمعوا من أجل هذا الدهر وأنا جمعت للدهر الآتي. هذا لا يعني أن المحبّة تنجّي من الموت، بل انها تمنحنا أن لا نموت في الدهر المقبل".
فالفكرة القائلة بأن الأعمال الصالحة تشكل كنزاً (ا و ص ر في العبريّة) أمام الله، كانت فكرة معروفة في العالم اليهوديّ القريب من المسيح. بل كانوا يحدّدون أن الفوائد تعود إلى المؤمنين بشكل سعادة منذ هذه الحياة. أما الرأسمال فيُحتفظ به للدينونة الأخيرة. "قذر صدقتك على قدر غناك. إن كان لديك الكثير فتصدّق منه بالكثير. وان كان لديك القليل فلا تخجل أن تتصدّق بالقليل. بهذا تدخّر لك كنزاً إلى زمن الضيق، لأن الصدقة تنجّي من الموت، وتمنع من الذهاب إلى الظلمة (في الشيول) قبل الأوان" (طو 4: 8- 10؛ مزامير سليمان 9: 9).
ظهر موضوع الكنز في العهد القديم، كما ظهر في نصوص العهد الجديد. هناك مثل الرجل الغنيّ الذي قال له يسوع: "إذهب وبع كل ما تملكه ووزّع ثمنه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماء. وتعال اتبعني" (مر 10: 21). وحدّثنا بولس الرسول عن "المسيح الذي تكمن فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة" (1 كو 2: 3). وإذ تحدّث بولس عن خدمة العهد الجديد قال: "ما نحن إلاّ آنية من خزف تحمل هذا الكنز، ليظهر أن تلك القدرة الفائقة هي من الله لا منا" (2 كور 4: 7). وتحدّث صاحب الرسالة إلى العبرانيين (11: 26) عن "عار المسيح" الذي هو "أغنى من كنوز مصر". سوف يشدّد العالم الغنوصيّ بشكل عام على هذا الكنز الذي يرتبط بعالم السماء والنور حيث تقيم النفوس.
"لا تكنزوا لكم كنوزاً" (آ 19). توسّع مت في الفكرة اليهوديّة التقليديّة. أما لو 12: 33- 34، فقد حوّلها تحويلاً عميقاً وجعل منها حضّاً خاصاً على الصدقة. وقد نستطيع أن نربط نصّ مت بالمقطوعات التي تسبقه بشكل مباشر. حينئذ يكون المعنى: جمعُ الكنوز على الأرض يوازي القيام بأعمال حسنة أمام الناس لكي يمدحونا (6: 1- 8، 16- 18). جمع الكنوز في السماء يوازي إتمام الأعمال الحسنة أمام الله، في الخفية، لكي ننال جزاءنا منه وحده. في هذه الحالة، يصبح العثُّ والصدأ واللصوص صوراً تدلّ لا على الطابع الزائل للخيرات الماديّة، بل على ضعف وبطلان تقديراتنا البشريّة على المستوى الدينيّ. إن لفظة "بروسيس" تعني بشكل عام الطعام (يو 4: 32؛ 6: 27، 55؛ روم 14: 17) وبشكل أدقّ "فعْل الأكل". في ملا 3: 11 (حسب السبعينيّة) هو يدلّ على دودة قاضمة أو غيرها من القواضم.
"اكنزوا لكم كنوزاً في السماء" (آ 20). إذا قبلنا بالفرضيّة التي قدّمناها في آ 19، حينئذ توافق عبارة "في السماء" الفكرة التي نجدها في المقطوعات السابقة: لا أن نجمع الاستحقاقات كما، في "مصرف" سماويّ، بل أن نعمل أعمالاً ولا نهتمّ إلا بمجد الله.
"حيث يكون كنزك" (آ 21). لقد سبق وتحدّثنا عن ارتباط هذه الآية بالآيتين اللتين سبقتهما. ولفظة "غار" (لأن) مهمّة جداً. لسنا فقط في رأي مت أمام كلمة منفصلة عن سياقها وصلت إلينا من يسوع، ولا أمام خاتمة مقطوعة نستخلص منها العبرة، بل أمام إعلان عامّ وأساسيّ من الانتروبولوجيا البيبليّة، وهو يبرز آ 19 و20. فإن "التصق" قلب الإنسان بكنزه، فمن الضروريّ أن يكون هذا الكنز موضوعاً في المكان الأصلح وفعل "استاي" (يكون) لا يتضمّن أي لوم: من الطبيعيّ أن يتعلّق القلب (يعني الانسان كله) بكنز اختاره اختياراً حراً. فما يميّز الانسان البيبلي هو ما إليه يتوق. ما عنه يبحث، ما إياه يطلب. ولا جدال في أن لكل قلب كنزه. المهم أن لا يكون لنا إلا كنز واحد. وهكذا يكون معنى هذه الآية شبيهاً بمعنى آ 24: لا يستطيع الانسان أن يكون مقسوماً بين كنوز عديدة، كما لا يستطيع أن يعبد سيّدين.

2- سراج الجسد العين (6: 22- 23)
هذه المقطوعة تبقى غامضة بعض الشيء بالنسبة إلينا. سبق لنا وجعلناها في سياقها وفسرّناها في خطوطها الكبرى. هي مثل سابقتها ولاحقتها، نداء إلى التزام دون تحفّظ في خدمة الله. في آ 21، كان تعلّق القلب بكنوز حقيقيّة أو مزيّفة يجتذب الشخص كله إلى الموت أو إلى الحياة. وهنا تلعب العين الدور ذاته بالنسبة إلى الجسد، بالنسبة إلى الانسان في حياته اليوميّة. في الحالتين، نحن أمام انتروبولوجيا توراتيّة: فالقلب والعين ليسا صالحين بحدّ ذاتهما. إنهما مهمّان للشخص بالخيار الذي يسمحان به ويشرفان عليه.
لسنا هنا أمام مثل، بل أمام استعارة. فالايتان اللتان تكوّنان هذه المقطوعة (آ 23- 24) تجدان نواتهما المركزيّة في آ 23 أ: إن كانت عينك عليلة. إن كانت عينك شرّيرة، فالانسان كله يغرق في الظلمة. ولقد عرفت الأناجيل عدداً من أقوال يسوع بذات الخط الأدبيّ. مثلا 5: 13: "أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح". مر 3: 24: "إذا انشقّت مملكة على نفسها، فتلك المملكة لا يمكن أن تثبت" (رج 4، 21؛ لو 11: 33). أما آ 23 ب (وإذا كان النور الذي فيك ظلاماً) فلا نحاول أن "نضغطها". فمعناها يرتبط بما سبق. أما لو 11: 35 فقال: "فتبصّر إذن، لئلاّ يكون النور الذي فيك ظلاماً".
"السراج" (القنديل، المصباح، الضوء) في اليونانية: "لخنوس" كما في 5: 15 (لا يوقد سراج)؛ لو 8: 16 (ما من أحد يوقد سراجاً)؛ 12: 35؛ 15: 8؛ يو 5: 35 (كان يوحنا سراجاً)؛ رؤ 18: 23 (لن ينير فيك من بعد مصباح). ليس السراج نوراً داخلياً و"جذوة" إلهية في قلب الإنسان. بل هو المصباح الذي يتيح للإنسان أن يتوجّه في الحياة، في ظلمات هذا العالم. والمضاف إليه "الجسد" (سوماتوس) لا يتحدّث عن السراج الذي هو الجسد، ولا عن السراج الذي يخصّ الجسد، ولا عن السراج الذي يضيء الجسد، بل عن السراج الذي يتيح للجسد (أي الانسان كما نراه) أن يجد طريقه.
"الجسد". لا احتقار ولا ازدراء في هذه الكلمة. حين نقول الانسان هو من نفس وجسد، فنحن لا نقسمه قسمين: قسم ماديّ (ضعيف محتقر) وقسم روحيّ (هو وحده يذهب إلى السماء ويبقى الجسد في القبر عرضة للدود والفساد). عبارة النفس والجسد تعني الانسان كلّه بعنصره المادي وعنصره الروحيّ اللذين لا ينفصلان الواحد عن الآخر ولا يوجد الواحد بدون آخر. فالانسان هو واحد من الوجهة الروحيّة لأنه نسمة من الله، ومن الوجهة الماديّة لأنه مأخوذ من التراب.
لا يقابل النصّ بين الجسد الذي هو عنصر ماديّ (وبالتالي محتقر كما يقول الغنوصيون) والسراج الذي هو مبدأ روحيّ. الجسد هو الشخص كلّه وهو يتلمّس طريقه في العالم لكن يلتقي بأخيه ولكي يتمّم مشيئة الله (5: 29- 30؛ 6: 25؛ 10: 28؛ 26: 12، 26).
في العهد القديم، يتركّز الانسان كله في عينه. نقرأ في إر 24: 6: "أجعل عيني عليهم للخير وأعيدهم إلى هذه الأرض". أي أنا انظر إليهم، اهتمّ بهم. وفي تث 15: 9: إحذر أن تصرف "عينك عن أخيك الفقير ولا تعطيه، فيصرخ إلى الربّ". رج تث 28: 54- 56؛ عا 9: 4 (استتروا أمام عينيّ، أي أمامي). فالعين، شأنها شأن القلب، تجمع الانسان وتوجّهه في الوجهة الصالحة أو الطالحة.
والصفة "ابلوس" (بسيطة، سليمة) لا تظهر في العهد الجديد إلا هنا وفي النص الموازي من لوقا (8: 16). أما الاسم الذي يقابلها فنجده في روم 12: 8 (سلامة النيّة)؛ 2 كور 1: 12 (سلامة القلب والاخلاص)؛ 8: 2؛ 9: 11، 13؛ 11: 3؛ أف 6: 5؛ كو 3: 22 (بسلامة القلب وخشية الربّ). في مت كما في لو، تقابل "ابلوس" الصفة "بونيروس" (شّريرة، عليلة). فالمقابلة تدلّ على معنى الصفة وما تجاهها. في السبعينية يرد الاسم (ابلوتس) مرتين (1 صم 15: 1؛ 1 أخ 29: 17) والصفة مرة واحدة (أم 10: 9: من سار بالاستقامة). أما الصفة فتقابل العبرية "ت م-ت م ي م" (في العربيّة، تمّ، كمل، ضد نقص): التام، الكامل، غير المنقسم، ولا سيّما في العلاقة مع الله (مز 15؛ 101؛ 119؛ أم 28: 18؛ تث 32: 3، 4).
وازدهر موضوع "البساطة" بشكل خاصّ في "وصيات الآباء الاثني عشر" حيث تصوّر استقامة الانسان الذي تجنّد كلّه تلبية لنداء وصايا الله. وعينُ ذلك الرجل هي بسيطة بمعنى أنها لا تبحث عن طريق أخرى سوى طريق الطاعة. وفكرة بولس عن الكمال قريبة من هذا الموضوع البيبليّ (فل 3: 15؛ كو 1: 28؛ رج أع 2: 46؛ روم 12: 28 أ). حين يتوجّه نظر (انتباه) الانسان كلّه إلى الله وشريعته، يتوحّد الانسان، ويصبح بسيطاً وبعيداً عن كل تعقيد. يظلّ في النور.
هنا نقرأ بعض ما ورد في وصيّة رأوبين (4: 1) (من وصيّات الآباء): "لا تهتم لجمال النساء... بل اسلك في نقاوة القلب في مخافة الربّ". وفي وصيّة شمعون (4: 5): "فاحذر الغيرة والحسد، واسلك في بساطة النفس وفي قلب صالح متذكّراً حالك، لكي يعطيك الرب نعمته ومجده". وفي وصيّة لاوي (13: 1): "والآن أوصيك بأن تخاف الرب إلهك من كل قلبك وأن تسير في بساطة القلب بحسب شريعته كلّها". أما وصيّة يساكر فمكرّسة كلها لهذه البساطة والنزاهة. "أسلك في بساطة القلب، لأني رأيت أنها تحصل على رضى الربّ".
"وإن كانت عينك شريرة" (عليلة). نحن لا نتحدّث فقط عن العين الشّريرة التي "تصنع" الشّر كما يقولون (تصيب بالعين، تسحر). ولا عن العين التي هي مريضة. بل العين التي تحيل إلى الشّر وتجرّ الانسان في الطرق الملتوية. إذن، لسنا هنا أمام الشهوة بنوع خاص في خطّ 5: 28 (من نظر إلى امرأة). فالجزء الثاني من الآية يكرّر بعبارة أخرى ما قاله الجزء الأول: ويل للإنسان الذي لا تبقى عينه معلّقة بعين الله، بمشيئة الله. مثل هذا الرجل سينحدر إلى الظلمة، إلى ظلمة الخطيئة.

3- لا تعبدوا ربّين (6: 24)
حين فسّرنا المقطوعتين السابقتين (آ 19- 21، 22- 23)، جعلنا من هذه الآية ملخّصاً لكل آ 19- 24: إن خدمة الله تفرض تجرّداً من الكنوز الوهميّة (آ 19- 21)، تفرض قراراً لا لُبس فيه (آ 22- 23)، والتزاماً ينفي كل خدمة سوى عبادة الله (آ 24).
وتطرح هذه الآية على مستوى الفنّ الأدبي السؤال الذي طرحناه مع المقطوعتين السابقتين. نستطيع أن نعتبرها مثلاً من أمثال يسوع. في هذه الحالة، يلمّح الجزئان الأولان في الآية (لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين، فإنه إما يبغض الواحد ويحبّ الآخر) إلى الوضع الصعب الذي يعرفه عبد يخصّ سيّدين في الوقت نفسه. أما الكلمات الأخيرة (لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال) فتطبّق الصورة على خدمة الله.
ولكننا نستطيع أيضاً أن نفعل كما فعلنا في آ 22- 23، فنعتبر الآية كلها مثلاً يعبرّ في ثلاث مراحل وبسلسلة من التعمّقات المتتالية، عن فكرة وردت في الكلمات الأولى: "لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين" (يعبد ربّين). لهذا يقول البعض إن هذه الآية هي في محلّها في هذا السياق. وذكر "مامون" (المال الذي هو أماننا. هو ثابت نستند إليه) يدلّ على سيد آخر لا نستطيع أن نتعبّد له حين نتعبّد للمال. ويرى البعض الآخر أن لا شيء يربط هذه الآية بالسياق الذي وردت فيه. لذلك يجب وضعها في مجمل التعليمات عن المال كما فعل لو 16: 9، 13.
"لا يستطيع، لا تقدرون". فعل "دينستاي". يصوّر هذا الفعل إمكانيّة حقيقيّة وملموسة بأن نعمل شيئاً، لا سلطة نظريّة ولا سماحاً مبدأياً (يسمح لنا). رج 3: 9؛ 7: 18؛ 8: 2؛ 12: 34؛ 17: 16. لا شكّ في أن بعض الناس يتخيّلون أنهم يستطيعون أن يخدموا سيّدين. ولكنهم يغشّون نفوسهم. أو أنهم لا يخدمون هذا ولا ذاك. غير أن هذه الامكانيّة تبدو غير معقولة. فحسب الانتروبولوجيا البيبليّة، الانسان هو كله في خدمة أحد.
إمّا أن لا يخدم أحداً... وإمّا يخدم واحداً ويترك الآخر. هو ينتمي إلى الآخر، يخصّه كما يخصّ العبدُ سيّده. لسنا فقط أمام عمل محدّد نقوم به، بل أمام جهوزيّة تامّة هي جهوزيّة العبد (أو: الخادم) تجاه سيّده. ويشدّد ولْي الآية على هذه الحصرية. نحن نرتبط بسيّد أو لا نرتبط به. "أبغض" (ميساين) يعني ابتعد، صار لا مبالياً، لم يعد يحبّ. وإن لم يكن هذا البغض عنيفاً، إلا أن العهد القديم لا يعرف انقطاعاً تاماً بين شخصين (5: 43؛ 10، 12؛ 24: 9؛ 1 يو 2: 9، 11؛ 3: 15؛ 4: 20).
في النصوص اليوحناوية ترتدي الكلمتان "أحب؛ أبغض" المدلول عينه، ولكن على مستوى العلاقات بين الاخوة. وفعل "أحبّ" (اغاباوو) (5: 43؛ 19: 19؛ 22: 39) ليس تكملة اختياريّة لفعل "خدم" (دولاوو). ففي لغة التوراة، أحبّ يعني خدم، عبد... والفعل "انتخستاي" (1 تس 5: 14؛ ثي 1: 9) يعني التصق، ارتبط، تعلّق، لزم. هو لا يصوّر هنا تعلقاً عاطفياً أو سيكولوجياً. نرتبط بهذا المعلّم أو ذاك، نحب هذا أو ذاك، نخدم هذا أو ذاك.
هل يسيطر التلميح إلى "مامون" على كل هذه المقطوعة. بل نحن بالأحرى أمام حالة خاصّة نطبّق عليها المبدأ العام: هناك فكرة عامة حول خدمة محصورة في الله. ماذا نقول إن أردنا أيضاً أن نخدم المال، نتعبّد له، نتركه يسيطر على حياتنا وتفكيرنا وتصرّفاتنا.
نلاحظ أن هذه الآية توحي بالتجرّد عن كل ملكيّة، كما كان يفعل الاسيانيون: يعطون كل ما يملكون للشيعة القمرانيّة التي كانت غنيّة جداً. نلاحظ هنا بطريقة عابرة أن الكنيسة الأولى حاولت أن تسير في خطّ قمران، ثم تعلّمت طريقاً آخر للمشاركة تقوم بأن نعطي، بأن لا نتنعّم وحدنا بخيرات وضعها الله في أيدينا لكي نستثمرها من أجل الآخرين. ولكن إن كان النصّ لا يطلب التخليّ، إلا أنه يطلب الكثير. فهل نستطيع أن نمتلك المال دون أن نترك المال يمتلكنا؟ دون أن نحبه ونتعبّد له؟

خاتمة
اكتشفنا هنا بعض أقوال يسوع وما فيهان جذريّة في التزامنا من أجل الملكوت. نحن نخدم الله (ونعبده) ولا نخدم سواه. ولهذا يكون قرارنا موقفاً يبحث عن الجوهريّ في الأمور ليترك ما هو ثانويّ. موقفاً يقارن بين أمور الأرض (في المعنى الرمزي. هي عابرة) وأمور السماء لأنها ثابتة. ولا نستطيع أن نستند إلى "مامون" الذي نعتبره ثابتاً. لا نستطيع أن نستند إلى الربح الحرام. لا نستطيع أن نستند إلاّ إلى الله. هنا نحتاج إلى عين سليمة، إلى عين صحيحة. إلى عين تميّز الطريق الذي نسير فيه. تميّز النور من الظلمة، والله من سائر الآلهة. ونحتاج إلى أن نصعد الجبل لنسمع كلمة تقال لا كأنها ذكرى من الماضي، ولا كأنها تعليم يأتي من خارج الزمن، بل كأنها حضور داخليّ يفعل في قلب المسيحيّ ويدعوه إلى موقف ملموس يسير به في طريق السعادة كما وعد بها يسوع منذ بداية عظة الجبل، منذ التطويبات.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM