الفصل الحادي والعشرون: الصدقة والصلاة والصوم

الفصل الحادي والعشرون
الصدقة والصلاة والصوم   6: 1- 8، 16- 18

نصل في عظة الجبل إلى العواميد الثلاثة التي تشكّل بنية التقوى اليهوديّة، والتي قد يكون يسوع مارسها، شأنه شأن كل يهودكما: الصدقة (آ 1- 4)، الصلاة (آ 5- 8)، الصوم (آ 16- 18). ثلاثة تنبيهات تبدو بشكل نقائض، وهي تعود إلى التقليد كما احتفظت به جماعة متّى.
سمّيت الصدقة عمل "برّ" لدى الحكماء (سي 3: 3)، فكانت نظاماً يهودياً هاماً فحلّت محلّ "الضمان الاجتماعي اليوم، وترجمت الأخوّة التي يفرضها العهد: إن مساعدة الفقير تمحو الخطايا (طو 12: 9) وتساوي ذبيحة (سي 35: 2). ومن أغلق قلبه على المحتاجين، رأى صلاته غير مستجابة (سي 4: 6؛ 7: 10). لم يتنكّر يسوع لهذه الممارسة وما فيها من روحانيّة، بل ندّد بالمظاهر التي ترافق هذا العمل النبيل.
ويأتي التعليم عن الصلاة في ثلاثة أقسام: رفض لصلاة فيها المظاهر الخارجيّة والكلام الكثير. صلاة الأبانا. تفسير الطلبة الأخيرة في الأبانا. نتوقّف هنا عند القسم الأول، ونترك القسمين الآخرين إلى فصل لاحق. وبعد أن يُورد الكاتب صلاة الأبانا، بشكل معترضة كبيرة تقطع التناسق، يصل إلى العمود الثالث في التقوى اليهوديّة وهو الصوم. أخذه المسيحيّون عن اليهود، فلم يعارضه يسوع، ولكنه رفض "العلامات الخارجيّة" التي بها نبني لنا سمعة حسنة بدلاً من أن نطلب رضى الله.

1- فقاهة الكنيسة الأولى
الفقاهة هي ما يسمّى التعليم المسيحيّ الذي به نحاول أن نفهم إيماننا. والفقاهة التي نحن بصددها تدور حول "البرّ" في ملكوت الله. والنصّ الذي نقرأ، لا نجده إلا في مت، وهو جزء من أقوال (لوغيا) الربّ التي سمّيت تقليدياً عظة الجبل. تعليم بدأ مع المعلّم، فقبله التلميذ في الإيمان، وجعله في حياته حين بدأ يتبع يسوع. بعد هذا صار تذكّراً في الجماعات وكتاباً. وقد جعل مت الهدف الرعائي في هذه المسائل الدينيّة والأخلاقيّة داخل هذه الجماعات المطبوعة بالفكر اليهوديّ، هذه الجماعات المتهوّدة. إعتبر أن القارىء (أو التلميذ) قد اقتنع بالسلطة المطلقة والإلهيّة لأقوال يسوع، فطلب منه أن يتجاوب مع هذه الأقوال بسرعة فيجعلها تثمر أعمالاً صالحة يرى فيها الناس انعكاس مجد الآب (5: 16).
وما يُشرف على عظة الجبل هو صيغة "الأمر". يكرّر النصّ ويكثر من المتطلّبات، غير أن هناك "أمراً واحداً أساسياً: توبوا (4: 17). أما ما يشكّل العمود الفقريّ في هذه الخطبة فهو مفهوم البرّ. يجتذب يسوع التلميذ، الذي يعتبر نفسه سعيداً إن اضطهد من أجل البرّ (5: 6، 10). يقول لنا الانجيل كيف يتصرّف التلميذ المتعطّش إلى هذا البرّ، وكيف يحدّد نفسه بالنسبة إلى ملكوت السماوات (5: 3- 18)، إلى العالم (5: 13- 16)، إلى الشريعة (5: 17- 19). ويطرح مت متطلّبة أولى عن هذا البرّ: بما أنه يلج حتى أعماق القلب، فهو يطلب سخاء أكبر من البرّ الذي يشيد به "الكتبة والفريسيّون" (5: 30). وتأتي متتالية مؤلّفة من مجموعتين في ثلاثة بيوت (5: 21- 47). بدت وكأنها تورد عظة قيلت في المجمع. فيها يستعرض يسوع حالات تطبّق في مختلف المجالات الخلقيّة العمليّة، وينهيها بالنداء إلى الكمال على مثال الآب السماوي (5: 48).
وتأتي متطلّبة البرّ الثانية التي تنعش أعمال الحياة الدينيّة. هي لا تطلب رضى الناس، بل تشهد على صدق الإنسان العامل تحت نظر الله. وبعد أن وضع يسوع المبدأ العام (6: 1)، تفحّص ثلاث ممارسات تقوية معروفة في العالم اليهودي. هذا النص هو الذي سندرسه (6: 1- 8، 16- 18). وأخيراً، إذ يُعتبر البرّ في تساميه (6: 33)، يتضمّن متطلّبة ثالثة. البرّ يشرف على كل القيم وعلى كل المعايير وعلى أية خدمة وعلى أي اهتمام دنيويّ. على ضوئه ننظر إلى الباقي.
وإذا توقّفنا عند النصّ الذي ندرس، نرى المبدأ العام (آ 1) ثم ثلاث حالات ملموسة. وقد بُنيت كل حالة من هذه الحالات على أساس من التعارض، بشكل مماثل جداً. هناك الوجهة السلبيّة: لا تقتدوا بالمرائين (أي الفريسيين). ينتقد يسوع عملَهم مع بعض السخرية. ليس الله في الوسط بل الإنسان. وأجرُهم هو بعض المجد البشريّ العابر. وهناك الوجهة الإيجابيّة: يبدأ بتحريض في صيغة المخاطب (أنت) مع استعادة لمركزيّة الإنسان تتعلّق بمركزيّة الله. وهكذا نستحق الجزاء.

2- ممارسة البرّ أمام نظر الآب
أ- مثل أبناء الله
أبرز مت الوجهة الديناميكيّة والفاعلة والعمليّة للممارسة الانجيليّة. فنحن نترجم البرّ في أعمال. نحن نمارس البرّ. هنا لا ننسى أن هذه الأعمال هي ثمرة نعمة الله وانعكاس مجده، قبل أن تكون نتيجة مجهود الانسان. ولكن ما هو البرّ؟ هو المطابقة بين إرادة الإنسان الخاضعة لإرادة الله المتجسّدة في شريعته. هذه هي نظرة العهد القديم والعالم الرابانيّ. وستزيد المسيحيّة الوجهة الباطنية والسامية، فيفرض البرّ على الإنسان أن يرتفع عمّا يراه بعينيه ويسمعه بأذنيه. في هذا المجال قال مت إن يوسف كان باراً، لأنه حاول أن يرتفع إلى مستوى قصد الله فأخذ مريم كامرأته وتبنى هذا الولد الذي هو عمانوئيل أو إلهنا معنا.
إن البرّ يفترض الإيمان والأمانة للرب. وهو لا يستطيع أن يبقى مركزاً على الأنا بشكل مزيّة فلسفيّة. ليس في ذاته استقامة تمتدّ على المستوى البشريّ لكي تصل إلى سائر الناس، بل هو موقف يتركّز على الله ويوجّه الحياة البشريّة في وجهة عموديّة. وهذا البرّ هو على مثال برّ الله. ينزل من السماء ويفيض على الإخوة أعماله صلاح وخير كالشمس والمطر اللذين يمنحهما الله لنا (5: 44 ي).
إن مفهوم البرّ يتلاقى مع مفهوم الكمال والتمام والحكمة العمليّة والتقوى. وقد يُوجّه الحنان والرحمة. ففي أيام متّى، البارّ هو القديس كما يفهمه المسيحيّ اليوم. وحين يوصي الانجيل بممارسة البرّ، فهو يدعونا إلى القيام بأعماله القداسة. وألقى مت على هذا المفهوم التوراتي نور مثال خاص بيسوع، يجعلنا نعمل إرادة الآب. الله هو أبو الأبرار (13: 43 أ).
وإرادة الله يمكن أن تتمّ فرضاً أو خضوعاً أو إكراهاً. ولكن تتمة هذه الإرادة، إرادة الآب، يجب أن تكون ثمرة موقف بنويّ نستطيع أن نسمّيه: حبّ الطاعة أو طاعة الحبّ.
قلنا إن مفهوم البرّ هو العمود الفقريّ في عظة الجبل. ولكن مفهوم الله الآب يلقي عليه نوراً يسطع في كل الجهات، فيحوّل كل هذه "التعليمات" لتصبح "مسيحيّة، أي مرتبطة بالمسيح، ولتعلّم في أسلوب من له سلطان، لا في أسلوب قديم مثل أسلوب الكتبة والفريسيين. وهكذا، فالأعمال الصالحة مثل الصدقة والصلاة والصوم، لا تصبح عمل برّ مسيحي في حياة التلميذ إلا بقدر ما تمارسها يد إنسان هو ابن الله وقلب إنسان هو ابن الله.
ب- تحت نظر الآب
الأمثولة الرئيسية في هذا المقطع من عظة الجبل هو أن نتمّ "أعمال البرّ" بنيّة موجّهة حصراً إلى الله، تحت نظر الآب. هذا ما يتكرّر أربع مرات في شكل سلبيّ (لا لكي ينظر إليكم البشر، آ 1، 2، 5، 16) وثلاث مرات في شكل إيجابيّ (أبوك الذي يرى في الخفية، آ 4، 6، 18). ونجد ثلاث صور فيها بعض المبالغة: لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك (آ 3). صلاة في الخفية (آ 6 أ). صوم ترافقه مظاهر العيد (آ 17).
تجاه هذا، يقدّم النصّ ثلاث لمحات حول ممارسة المرائين: يقومون بالدعاية الساطعة لكرمهم وعطاياهم (آ 2). يلعبون (يمثّلون) دور "الرجل القدّيس" الذي يصلّي تظاهراً أمام أناس معجبين به (آ 5). يعرّفون الناس بنسكهم المثاليّ حين يبدون عابسين في صيامهم (آ 16). وتتكرّر سبع مرات كلمة "أجر". الله يمنح الأجر (آ 4 ب، 6 ب، 18 ب) لأنه يرى في الخفية. والله يعتبر أن لا أجر لنا عنده (آ 1 ب، 2 ب، 5 ب، 16 ب) إن نحن عملنا أعمال برّ لكي ينظر إلينا الناس.
إن توجيه العمل والعاطفة نحو الله، يشكّل جوهر عظة الجبل. فمن أراد أن يغامر نحو اللامحدود، لا تجتذبه إلاّ مشيئةُ الله التي صارت شريعة قلبه. فالله اللامحدود هو المطلق أيضاً، لا ذلك النسبيّ الذي نضعه مع شيء آخر أو شخص آخر. لا نضع مع الله إلاّ ما يرضي الله. كل ما نحتاج إليه هو نظرة رضى من أب يعرفه أبناؤه ويحبّونه بكل موارد حبّهم البنويّ التي لا تنضب.
تلك هي رغبة المؤمن من الكتاب المقدّس. رغبة ابراهيم الذي قال الله له: "سرّ أمامي (بحضرتي) وكن كاملاً" (تك 17: 1). وزكريا الكاهن يقول عَنه لو 1: 6 كما يقول عن زوجته اليصابات: "كانا كلاهما بارين أمام الله (أمام نظر الله)، سالكين بغير ملامة في جميع وصايا الربّ ورسومه". وقد أنشد زكريا مثال حياته عندما أنشد ابنه يوحنا: "نعبده بلا خوف بالقداسة والبرّ أمام وجهه" (لو 1: 74). فالبار (والقدّيس) هو الذي يكون صادقاً مع ضميره، واعياً لحضور الله، وسائراً تحت نظره "بقلب مستقيم وبسيط" (لو 8: 15). في هذا الخطّ الذي رسمه مثال قديم من "الكمال"، دعانا يسوع إلى الارتفاع فوق الذات في ضوء جديد هو اسم الله الآب.
تحدّثنا عن بعض العبارات وما فيها من مبالغة. فنحن لا نقرأها على حرفيّتها، بل نفسّرها في المعنى الروحيّ وفي تركيزها على حضور الله في حياتنا حضوراً تاماً ومطلقاً. ويبقى أن المطلوب هو قلب صادق. فإذا توصّل سامع خطبة الجبل إلى المحافظة على "نظره" الداخليّ محدّقاً بالله وحده، دون أن يحتاج كلام المديح من البشر الذين يحيطون به، لا شيء يمكن أن يؤثّر على حياته. فالأعمال الحسنة التي يمرض عليه أن يتمّها تحت نظر البشر (5: 16) تصبح مناسبة لتمجيد الله الذي في السماء.

3- جزاء المرائي وجزاء المؤمن
أ- المراؤون
إن الأساس السلبيّ الذي قد يرافق صدقاً مركّزاً على الله، هو هذا القناع من الروح الدينيّة السطحيّة الذي يسمّيه العهد الجديد عامّة ومتّى خاصة: الرياء. يرسم لنا هذا القسم من عظة الجبل لوحة معبرّة عن "المرائين" حين يقومون بأعمال البرّ: الصدقة، الصلاة، الصوم. وقد قال طو 12: 8: "الصلاة مع الصوم، والصدقة مع البرّ، خير من الغنى مع الإثم".
إن الرياء الديني يعاكس الروح الانجيليّة معاكسة تامة، كما يعاكس الكذبُ الحقيقةَ، والتزييفُ الواقع. الرياء كذب يظهر من خلال أعمالنا. وهو يقوم في تنافر بين طريقة نظهر فيها أمام الناس وطريقة نكون فيها أمام الله. أما أساس هذا التعارض، فهو أن "المرائي" ركّز في الطريقة الأولى مجمل أعماله وأقواله ونواياه، وما اهتمّ بالله أبداً، أو هو اهتمّ به كما اهتمّ بالبشر. فهل يرضى الله أن يكون له شريك في قلوبنا؟
وهكذا نلاحظ التناقض بين ظاهر "التقوى (تقوانا الظاهرة التي تغشّ الآخرين) وباطن "الكفر" وعدم التقوى (23: 25- 38). نحن أمام مهزلة لأعمال مصطلحة لا تعبرّ عن موقف عميق. أمام وقاحة معلّم يعلم الكمال، وفي الوقت عينه يعارض بسلوكه هذا الكمال بعين وقحة. الرياء هو جرثومة الأعمال الصالحة وكل أعمال البرّ، وهو يفسّر كل ما فينا من خير وكمال.
وما يميّز الرياء هو لا وعي لنقائصنا. هو أننا نؤخذ في كذبنا، وفي النهاية نعتقد أننا "أبرار". وهكذا لا يعود يتجلّى مجد الله في حياتنا التي تكشف عن شقائنا وعُجبنا الباطل بنفوسنا.
ب- الجزاء
في هذه الفقاهة التي تتوجّه إلى مسيحيّين متهوّدين، طُرحت الرغبة في الجزاء. فالذين يخدمون الرب "بحكم وظيفتهم" ولا يطمحون من خلال ممارستهم الأعمال الصالحة إلا أن يؤمّنوا لنفوسهم مجداً بشرياً باطلاً، لم يكونوا ينتظرون شيئاً بعد ذلك. فقد نالوا أجرهم وحصلوا على "إيصال" بذلك من البشر. لقد كان جزاؤهم تصفيقاً من قبل المعجبين بهم على مسرح هذا العالم.
ولكن الله نفسه يجازي (آ 4، 6، 18) أولئك الذين مارسوا أعمال البرّ من أجله وحده. فـ "البار" بحسب التوراة، ليس كائناً مطلقاً (لا يرتبط بأحد وكأنه إله في أعلى. سمائه) يعمل الخير بالنظر إلى صلاح يتعلّق بعمله الصالح. مثل هذه الميزة تخصّ اللامحدود وحده. وإن اعتبرها إنسان خاصّةً بها، سقط في تكبرّ جنونّي ومارس الروح الفريسيّة. فـ "البار" هو الذي يجد نفسه في خدمة الربّ ومنه ينتظر كل شيء: لا بسبب "عقد عمل" (كما بين العامل وربّ العمل) من النمط التجاريّ، بل على أساس من الثقة يلهمها إيمان بالله الذي هو إله وليس إنسان كما يقول الكتاب.
إن الإنجيل يحوّل أشكال الجزاء، فيعود بها بشكل نهائيّ إلى "السماوات" (5: 12؛ 13: 43؛ 25: 34، 46). بل يرفع العلاقة من مستوى "السيّد-العبد" إلى مستوى "الأب-الابن". فالتلميذ في عظة الجبل يخدم الآب السماوي خدمة الأبناء من أجل جزاء هو الله بالذات. فالجزاء الذي نناله في التطويبات مثلاً هو أن نكون أبناء الله، أن نرى الآب وجهاً لوجه، أن نناله المراحم، أن نجد العزاء في الحزن والشبع لرغباتنا في جوع وعطش إلى البرّ.

4- من العالم اليهوديّ إلى العالم المسيحيّ
"احترزوا" (بروساخاين). معنى الفعل معنى هجوميّ وسلبيّ: نحتفظ، نقطع كل علاقة، نترك عادة أو طريقة عمل. هذا ما يميّز المسيحيّة الناشئة التي وجب عليها أن تبتعد عن أشكال دينيّة تحيط بها. ونجد هذا الفعل أيضاً في الرسائل الرعائية التي تطلب من المؤمنين الاحتراز من الهرطقات الناشئة (1 تم 1: 4؛ 4: 1). وتأتي عبارة "أمام الناس" لتدلّ على أن عظمة الإنسان تُعرف بموقعه أمام الله، أمام دينونة الله. الإنسان ينظر إلى العينين، أما الله فينظر إلى القلب.
كانت الصدقة واجباً مقدّساً في اسرائيل، وقد قال تث 15: 11: "فالأرض لا تخلو من محتاج، ولذلك آمركم اليوم أن تفتحوا أيديكم لإخوتكم المساكين المحتاجين الذين في أرضكم". وفي زمن يسوع، كان التشريع اليهوديّ تجاه الفقراء واسعاً جداً. كانوا يجمعون في الهيكل المال للمحتاجين، وكان صوت البوق يعلن بداية هذه "اللّمة". ولكن جاءت الأقوال الرابانيّة تفرض الصمت. على العاطي: "خير لك أن تعطيّ شيئاً من أن تفرض على بائس أن يحمرّ خجلاً من عطاء يناله منك". وفي يوم من الأيام أحسن إليعازر بن يعقوب إلى أعمى، فقال له الأعمى: "أحسنت إلى شخص يراه الناس ولكنه لا يراهم. فالذي يرى الناس دون يروه يرحمك وينعم عليك".
تحدّث مت عن نوعين من المرائين: الذين يتظاهرون بالتقوى وما هم أتقياء (5: 7؛ 22: 18). والذين يقعون في لعبتهم، فلا يعودون واعين لعبادتهم الدينيّة الباطلة. طلبوا مجداً من الناس فنالوا هذا المجد. ولهذا قال لو 6: 26: "ويل لكم إذا ما الناس جميعاً قالوا فيكم حسناً". فلو طلبوا مجد الله، لعملوا ما عملوا في الخفية. لما اهتموا إلا لرضى الله.
أما في موضوع الصلاة، فنشير إلى ثلاثة أنواع من الصلاة لدى اليهود: صلوات في الهيكل، صلوات في المجامع وسائر الأماكن العامّة، صلوات في البيت مع العائلة أو بمفردنا. نلاحظ في هذه الصلوات طابعين أساسيين يبدوان متعارضين. الطابع الأول: تتغذّى الصلاة اليهوديّة من وعي عميق لرحمة الله. إذن، ستكون في جوهرها "مباركة". ستكون شكراً لله ومديحاً. قال رابى أليعازر وهو على فراش الموت لتلاميذه: "حين تصلّون فكّروا بالذي تقفون أمامه. هكذا تنالون الحياة الأبديّة. والطابع الثاني لهذه الصلاة هو اقترابها من الحياة اليوميّة الملموسة. فليس من ساعة في حياة اليهودي التقيّ إلا وترافقها صلاة "مباركة" ترفع القلب إلى الله.
"وفي الصلاة لا تكثروا الكلام" (آ 7). هنا ننتقل من عالم المرائين إلى العالم الوثني مع تكرارات كلماته. ولكن هذا التكرار نجده في العالم اليهوديّ كما في العالم المسيحيّ. وشرّه هو أن المصليّ يريد أن يمارس ضغطاً على الله ليحصل على ما يطلب. لا نطلب حينذاك أن تتمّ مشيئة الله فينا كما في السماء، بل أن تتمّ مشيئتنا، وهذا منتهى الكفر.
لا تكونوا معبّسين. هم لا يتظاهرون بأنهم حزانى بل هم حزانى حقاً، وحزنهم يدلّ على توبتهم. ولكنهم يستفيدون من هذا الوضع ليلفتوا الانتباه. إنهم ضحيّة تقواهم الفاسدة. وفعل "افانيزاين" يعني دور، خرّب ما كان مصنوعاً. سيرد أيضاً في آ 19 في معناه القويّ (رج أع 13: 41؛ يع 4: 14). لسنا فقط أمام حركات تدلّ على الحزن، بل أمام أساليب تقليديّة مثل رشّ الرماد على الوجه، عدم حلق اللحى. عدم الاغتسال... المهم أن يرانا الناس ويمتدحونا من أجل صيامنا. وهكذا يمجّدوننا بدلاً من أن يمجّدوا الله. ما يطلبه يسوع من الصائم هو أن يبدو طبيعياً، فلا يبدّل شيئاً من هندامه العاديّ. فالله يهتمّ بالصوم، لا بالصوم الخارجيّ. ما يهمّه مع الصوم هو موقف باطنيّ صريح يدلّ على أننا نصوم أمام الله لا أمام الناس.

خاتمة
ماذا يطلب يسوع من المؤمن؟ أن تكون صدقته في الخفية، حيث يصل نظر الآب. والصلاة كالصوم تتوجّه إلى الآب الذي في الخفية. وتأتي الردّة عينها: "وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك". والعمل في الخفية لا يعني "عملاً خفياً". بل يدلّ على كل عمل رآه الناس أو لم يروه، نعمله في الحقيقة أمام الآب وإكراماً للآب وحده. المهمّ هو النيّة العميقة، لأن الأجر يتحدّد موقعُه على هذا المستوى. فالذي يقف موقف الأبناء أمام الله، حتى لو كان في الساحة العامّة، يكتشف أن أجره هو في الواقع علاقة صريحة مع الآب. وهكذا لا يكون تعارض بين عمل في الخفية ووصيّة يسوع التي تقول: "ليضىء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماء". فالآب وحده هو مرجع التلاميذ سواء كان العمل في ظلمة غرفتنا أو على الطريق. وهكذا تكون علاقتنا حميمة مع الآب. قد يريد الإنسان أن يكون محور العالم. أما يسوع فدلّ على أن محور عالمه هو ملكوت السماوات حيث نجد الآب السماويّ. تلك هي عاطفة يسوع، وتلك تكون عاطفة التلميذ وإلاّ شابه المرائين والوثنيّين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM