الفصل العشرون: من الانتقام إلى محبّة الأعداء

الفصل العشرون
من الانتقام إلى محبّة الأعداء 5: 38- 48

في 5: 17- 48، قدّم مت داخل خطبة الجبل، الشريعة الجديدة التي "تكمّل" القديمة، وقدّم لهذه المقطوعة بأربعة أقوال ترى في 5: 17- 20. كان متّى سيّد الفقاهة، فأعطى مسبقاً المفتاح الذي يتيح لنا أن نفهم النصّ فهماً أفضل. قال لنا متّى إن يسوع لم يأتِ ليلغي الشريعة (وتعاليم) الأنبياء، بل جاء ليكمّل.
ويبدو 5: 21- 48 بشكل احتفالي جداً. في ست نقائض "أكمل" يسوع الشريعة القديمة. وطالت التكملة النقاط التالية: القتل والغضب (آ 21- 26). الزنى والشهوات الرديئة (آ 27- 30). الطلاق وعدم انحلال الزواج (آ 3- 32). الحلف (آ 33- 37). شريعة المثل أو الأخذ بالثأر (آ 38- 42). محبّة الأعداء (آ 43- 47).
شرحنا في فصل سابق النقاط الأربع الأولى (آ 21- 37). وها نحن نتوقّف عند شريعة المثل ومحبّة لأعداء. ونعرف أن ما قدّمه مت هنا هو بعض أمثلة، وقد يكون هناك غيرها الكثير الكثير. فالمهمّ هو المبدأ المسيحاوي الذي يتيح لنا أن ننتقل من الشريعة القديمة إلى الإنجيل. فالمسألة المطروحة هي مسألة الجديد في الإنجيل وموقف يسوع بالنسبة إلى العهد القديم.

1- شريعة المثل (5: 38- 42)
أ- قيل، أما أنا فأقول لكم
تبدأ هذه النقائض الست بعبارة واحدة: "سمعتم أنه قيل لكم، أما أنا فأقول. تأكيد قويّ جداً. لم يُسمع به من قبل. وصيغة المجهول (تتجنّب التلفظ باسم الله. المجهول اللاهوتي) تدلّ على أن الله هو الذي قال. ولفظة "سمعتم" تدلّ على قراءة الشريعة في احتفال المجمع، كما تدلّ على صلاة "شماع" التي يتلوها اليهودي التقيّ كل يوم، فيعدّ قلبه لسماع كلمة الله.
هذه الشريعة المقدّسة التي يحيط بها مجدُ سيناء، كما بهالة من النور، ها هو يسوع يعارضها بقوله: "أما أنا فأقول لكم". استعمل الرابانيون العبارة لا ليعارضوا كلام الله، بل تفسير أحد الرابانيين الذين سبقوهم. هم ظلّوا على المستوى البشريّ. أما يسوع فوقف على المستوى الإلهيّ ودلّ على أنه مساوٍ لله في إعطائه شريعة جديدة تقابل الشريعة القديمة التي وصلت إلى الشعب بواسطة موسى.
إن موقف يسوع هذا دلّ على دعوته المسيحانيّة. فالآب قد مسحه وأرسله. انتظرت جماعة متّى الفلسطينية موسى جديداً حسب نبوءة تث 18: 15: "الرب الهك يقيم لك من وسطك بين اخوتك نبياً مثلي، فله تسمعون". لقد تحقّقت النبوءة في يسوع. بل هو تجاوزها. فإن كانت بعض التأكيدات "تكمّل" الشريعة وتقف في امتدادها، فهناك أقواله تدلّ على نظام جديد يجعل شريعة موسى باطلة.
نلاحظ أن عبارة "قيل لكم أما أنا فأقوله لكم" غير موجودة في نص لو الموازي 5: 38- 42= لو 6: 29- 30؛ 5: 43- 48= لو 6: 27- 36. قد يكون لو ألغاها، لأنه لم يعتبر تقديم يسوع كمسيح الشريعة اليهوديّة، مُهماً من أجل قرّائه. وقد نستطيع أن نفترض أن مت انطلق من عبارة أولانيّة تعود إلى يسوع نفسه، وقد قيلت في جوّ "هجوميّ". فصاغ هذه النقائض بين الشريعة القديمة والشريعة الجديدة، وأدخل العبارة حيث لم تكن موجودة. هذا يوافق كل الموافقة عبقريّته ككاتب، كما يوافق أسلوبه في كتابة الانجيل. ويدلّ هذا العمل التدويني على أن متّى جعل نفسه في خدمة الجماعة مشدّداً بكل قواه على الجديد الذي يتضمّنه الإنجيل.
ب- عين بعين، سن بسن (آ 38)
أعلنت العادات في الشرق القديم أن عقاب المخطىء يجب أن يوازي خطيئته. هذا ما يسمّى شريعة المثل التي نجدها في قانون حمورابي ثم في دستور العهد (خر 21: 24- 25؛ رج لا 24: 20؛ مت 16: 31). "نفس بنفس، عين بعين، سنّ بسن، يد بيد، رجل برجل، حرق بحرق، خدش بخدش، جرح بجرح".
لا نتأثّر بمثل هذه الطريقة، منطلقين من الإنجيل. فتصرّفاتنا اليومية لم تبتعد كثيراً عن هذا القول. وقد أرادها المشترع لكي يحدّ من ردّة الفعل والانتقام. فقد كانت القبيلتان تتقاتلان حتى تفني الواحدة الأخرى. وقد أورد تك 4: 24 شريعة "الوحوش." التي انشدها لامك: يُنتقم لقايين سبع مرات، وللامك سبعين مرة سبع مرات.
الحركة الأولى لدى الذي يُهان هي أن "ينتقم"، أن "يستردّ" ما حسبه حقّه. ولكن شريعة المثل وضعت حداً لتبادل الضرر. هناك خطايا قد تكون أرادية أو عن غير عمد. لهذا تكوّنت مدن الملجأ التي يهرب إليها القاتل الذي لم يفعل ما فعل عمداً (خر 21: 12- 13؛ عد 35: 9- 29؛ تث 4: 41- 42؛ 19: 1- 3).
من الصعب أن نقول إن هذه الشريعة (المثل) كانت مطبّقة في زمن المسيح في كل قساوتها. فإذا جعلنا جانباً حالة الشهادة بالزور (حيث يقاسي الكاذب العقاب الذي تجرّه شهادتُه)، يبدو أن الإنسان الذي نالت الاساءة ينال تعويضاً مالياً إذا شاء. وإلا تطبّق شريعة المثل.
ج- لا تقاموا الشرير (آ 39 أ)
طلب يسوع في الشريعة الجديدة أن نتخلّى عن كل حقّ بالانتقام، أن لا نقاوم الشرير. هو لا يعلن مبدأ قضاء رسمي يؤمّن للمعتدي تهرّباً من العقاب: إن فعل كذلك كافأ خير مكافأة العنف والإجرام. إنه يشّرع فقط من أجل ملكوته الذي هو ملكوت الغفران والمحبّة. في الواقع، سيقود الشريعة القديمة إلى كمالها النهائي في الخطبة الكنسيّة، فيحدّد أن على المؤمن أن يغفر 70 مرة سبع مرات (مت 18: 22). إن مقياس الانتقام عند لامك، صار مقياس الغفران في الشريعة الجديدة، وهكذا نجد التدرّج التالي:
- نشيد لامك: الانتقام 70 مرة سبع مرات.
- شريعة المثل: الانتقام مرة واحدة.
- العظة على الجبل: لا تقاوم الشرير.
- الخطبة الكنسيّة: الغفران 70 مرة سبع مرات.
ونجد صورة عن مبدأ "لا تقاوم الشرير" في ثلاثة تطبيقات ملموسة (5: 39 ب، 40، 41) تتبعها توصية إيجابيّة (آ 42). قدّم لو في 6: 29- 30 نصاً موازياً للمثلين الأولين، وقد بدا تعبيره أقدم من تعبير مت.
إن مت يحبّ التجمّعات العدديّة، وخاصة التجمّع المثلّث. وهكذا يعدّد ثلاثة أمثلة من العشور: النعنع، الشبث، الكمون، التي لا يجب أن تنسينا العدل والرحمة والأمانة (23: 23). وقدّم أيضاً ثلاثة أقوال عن الشجرة وثمرها (7: 17- 19). وثلاثة أقوال ترتبط "باسمك" (7: 22). وثلاثة أقوال تبدأ مع "من حلف" (23: 20- 22). ونتذكّر أن سلسلة نسب يسوع تضمّنت ثلاثة أقسام، وكل قسم من 14 جيلاً (1: 1- 14). وفي عظة الجبل، تحدّث عن ثلاثة أعمال تقوية: الصدقة، الصلاة، الصوم (16: 1- 6، 16- 18).
إذن، يعود التجمّع في ثلاثة أمثلة (آ 39- 41) إلى مت. هو لم يستنفد كل شيء. وقد كان بإمكانه أي يقدّم أمثلة أخرى. المهمّ أن يبرز الروح التي كُتبت فيها، روح تلميذ المسيح.
د- قدّم له الوجه الآخر (آ 39 ب)
هذا هو المثل الأول. من فهم أنه يجب عليه حقاً أن يقدّم الوجه الآخر لمن لطمه، يدلّ على أنه لا يعرف أن يقرأ الكتاب المقدّس. فقد اختار يسوع هذا المثل عمداً. نحن هنا أمام مفارقة كما في قول العين التي يجب أن نقلعها واليد التي يجب أن نقطعها. مثل هذا الفعل لا ينفع في الممارسة اليوميّة. فالعين المقلوعة واليد المقطوعة لا تحميان المؤمن من أن يعثر بالعين الأخرى واليد الأخرى. واللطمة الثانية لا تحمينا من لطمة ثالثة ورابعة وخامسة. وعدم المقاومة لا يقود الشرير إلى عواطف خيرّة.
وقد أعطى يسوع نفسه أفضل تفسير لهذا القول: لم يقدّم الوجه الآخر لعبد رئيس الكهنة الذي لطمه، بل لامه بقساوة: إن كنت تكلّمت بسوء، فبيّن أين هو السوء. وإن بصواب فلم تضربني (يو 18: 23)؟
غير أننا نزيد أن الأناجيل الإزائية لم تحتفظ بهذه الحاشية في خبر الحاش. وقد استطاع المؤمنون أن يروا هنا صورة عن عبد الله المتألم الذي لم يقاوم هو أيضاً أولئك الذين أهانوه. "لم أقاوم. لم أرجع إلى الوراء. مددت ظهري للذين يضربونني وخدي للذين ينتفون شعر لحيتي. لم أبعد وجهي عن التعيير والبصاق" (أش 50: 5- 6).
إن صورة عبد الله المتألم تشرف على خبر الحاش، وقد أشار مت 26: 27 إلى هذا المشهد وما فيه من هزء. وهي تشرف أيضاً على المثل الوارد هنا: فعلى التلاميذ أن يقتدوا بتصرّف يسوع في ألامه وموته.
هـ- خلّ له الرداء (آ 40)
هذا هو المثل الثاني. إنه يقدّم لنا الشرير الذي يشتكي على المؤمن ويجرّده من ثوبه (خيتون، الثوب التحتي، "القميص") كما يقول مت أو من معطفه كما يقوله لو 6: 29 ب. إن تعبير مت هو أقدم من تعبير لو. نحسّ في مت أن الشرير يريد قميص المسكين. فيطلب منه يسوع أن يزيد فيعطيه الرداء. رأى لو الصعوبة بأن نجرّد الانسان من قميصه قبل أن نجرّده من معطفه، فصحّح النصّ من أجل القارىء: "من أراد أن يأخذ لك معطفك، لا ترفض له قميصك".
يتجذّر هذا المثل، شأنه شأن سابقه، في الكتاب المقدّس. وهو يشدّد على فعلة الشرير وما يميّزها من عنف. فمعطف المسكين خير لا يمكن أن يؤخذ منه لأي سبب كان. نقرأ في خر 22: 25- 26: "إذ ارتهنت معطف قريبك، تردّه إليه قبل غياب الشمس، لأنه غطاؤه الوحيد والرداء لجلده، فكيف ينام؟ إن صرخ إليّ سمعته، لأني أنا رحيم" (يعني: أنت لم تعامله بالرحمة، رج تث 24: 13).
إذا أخذت معطف الفقير، فالبرد سيلسعه خلال الليل. حينئذٍ يقف الله بجانب الفقير (مز 109: 31). هو يترك تدبير الكون وتحرّك النجوم وهتافات "أبناء" الله (أي 38: 7)، ويأتي إلى معونة البائس، لأنه رحيم. عرف مؤمنو مت أنهم حين تركوا الآخر يأخذ معطفهم كانوا من الرابحين، لأن رحمة الرب تكسوهم.
و- امشِ معه ميلين (آ 41)
هذا هو المثل الثالث. إنه خاص بمتّى. يقدّم لنا الإنجيليّ وضع تسخير طوله ميلاً واحداً (تقريباً 1480 متراً، أو 8 غلوات). وهنا أيضاً لا يقاوم المؤمنُ الشرير. طلب منه ميلاً، فليقدّم له ميلين.
"اغاراوو". يعود إلى "اغاروس" الذي يدلّ على السعاة في بلاد فارس (يحملون البريد). كان يسمح لهم بأن يأخذوا سخرة كل وسائل النقل. ثم عنى الاسم كل "سخرة". يستعمل متّى (خارج هذه المقطوعة) الفعل مرة أخرى في إنجيله، حين يتحدّث عن الجنود الذين سخّروا سمعان القيريني لكي يحمل صليب يسوع (27: 32). في الجماعة المسيحية الأولى، رمز سمعان إلى التلميذ الذي يحمل صليبه ويسير وراء يسوع (10: 38 وز؛ 16: 24 وز).
ز- من سألك فاعطه (آ 42)
تبدو التوصية في هذه الآية بشكل جملتين متوازيتين وشبه مترادفتين، لأن الاقتراض يقابل الصدقة. قال سي 29: 1: "من أقرض المسكين مارس الرحمة معه". وداخل الشعب الاسرائيلي لا يرافق الاقتراض فائدة تُدفع (خر 22: 24؛ لا 25: 35- 37؛ تث 15: 7- 11؛ 23: 20- 21). وكانت السنة السبتيّة تفرض (أقله نظرياً) الاعفاء من كل الديون ومن كل القروض (تث 15: 1 ي). لقد أراد بنو إسرائيل أن يظلّوا شعب إخوة.
غير أن يسوع وسّمع هذه الشريعة. لم يُرد أن يشجّع الاستعطاء. بل هو يصل بالمبدأ (لا تقاوم الشرير) حتى آخر متطلّباته. عند ذاك نقابل الشرير بعطف يسبق المحبة. وهكذا نغلب الشّر بالخير كما يقول بولس الرسول (روم 12: 21).
إن هذه الآية تختتم المقطوعة عن شريعة المثل. وقد بدا الرباط مع البداية متراخياً. قد يكون هذا القول انتمى في الأصل إلى سياق آخر. ولكن لو 6: 29- 30 يقدّم السلسة عينها. إذن، وُجد هذا التسلسل في المرجع المشترك القديم قبل أن يأخذه مت ولو.
إن هذه الاخلاقيّة التي يكرز بها يسوع لا تجعل المؤمن على مستوى العبيد الذين لا حرّية لهم ولا إرادة. ولا على مستوى الذين يبحثون عن الألم. بل ترفعه إلى مستوى أبناء الملكوت. فيقتدي بعبد الله المتألم الذي تمجّد بعد أن أذلّ. وهو يترك معطفه لمن يريد أن يجرّده منه، لأنه الرب يكسوه برحمته. وحين يمشي مع أخيه، دهان كان شريراً، فهو يعرف أنه يحمل صليباً يجعل منه تلميذ يسوع.

2- محبّة الأعداء (5: 43- 48)
إن الكلمة السادسة والأخيرة للشريعة القديمة، تتحدّث عن محبّة الاعداء (5: 43- 48؛ لو 6: 27، 28، 32- 36).
أ- أحبب قريبك وأبغض عدوك (آ 43)
أولاً: أحبب قريبك
إن القسم الأول من الوصيّة يستعيد لا 19: 18: "أحبب قريبك كنفسك". في منظار العهد القديم، كان مدلول القريب ضيّقاً: فالقريب هو الإسرائيلي. أما الآخرون فيرُذلون من جماعة "أبناء الشعب" (لا 19: 18).
أراد لا 19: 34 أن يوسّع مدلول القريب، فأوصى بمحبّة القريب الذي يقيم وسط إسرائيل، والذي تبنّته الجماعة تبنياً. والعلة المعطاة سامية جداً: "الغريب الذي يقيم معكم يكون لكم مثل ابن البلد، وتحبّه كما تحبّ نفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (رج تث 10: 19). إذن، الحبّ الذي انتزع في الماضي إسرائيل من القيود المصريّة، الذي حرّره من أسمال العبودية وألبسه معطف الحرية، يتطلّع هو أيضاً إلى "الآخرين". ولكننا لا نستطيع القول إن هذا النصّ فتح قلب اسرائيل ليقبل الغريب في بيته.
وفي زمن المسيح ربطوا مدلول القريب بالذين قبلوا عماد المرتدين والختان. بل إن الغريب الذي أقام 12 سنة في وسط إسرائيل، ولم يتبنّ الديانة اليهوديّة، كان يعتبر دوماً كالوثني الذي لا يجب أن نحبّه. وهذا ما يعارض معارضة واضحة لا 19: 18؛ تث 10: 19. ولقد قال بعض المعلّمين: إن الوثنيين يستحقّون الموت. وتساءلوا بقلب ناشف: هل يمدّون يد العون لوثنيّ في خطر الموت؟ وكان الجواب: كلا. أما الجاحدون فنجلبهم إلى الفخاخ ونأخذهم فيها.
مثل هذه الأمور عرفها سامعو يسوع، وبشكل خاص سامعو متّى الذين توجّه إليهم الإنجيل الأول. كانت هناك شواذات، ترتبط بحبّ أعمى للشريعة يفسّرونها تفسيراً ضيّقاً. وكانت شواذات على مستوى الاتساع.
ثانياً: أبغض عدوّك
لا نجد عبارة "أبغض عدوك" حرفياً في العهد القديم. قد نكون أمام قول شعبي استعمله الناس في زمن المسيح. ونجد ما يقابله في لفيفة القاعدة. إن التلميذ الذي يتجنّد في جماعة قمران يعد "بأن يحبّ كل أبناء النور، كلاً حسب مقامه في مجلس الله، وأن يبغض كل أبناء الظلمة" (قاعدة الجماعة 1: 10)
ويفسّر "بغض" الاعداء هذا بتاريخ الشعب المختار، ولا سيّما في حقبة قاسية هي حقبة الإقامة في كنعان. إسرائيل هو شعب الله. والحروب التي يقوم بها هي حروب الله. والانتصارات التي يحرزها هي انتصارات الرب نفسه. لهذا فرضت عليه محبّة الله الواحد بغض الأوثان. وبالتالي بغض الوثنيين الذي يتعبّدون لها. لهذا يبرّر تث استئصال الأمم التي تقيم في أرض كنعان، ويعتبر أن هذا العمل يُتمّ فريضة إلهيّة وعمل تقوى تجاه الربّ (تث 7: 1- 6؛ رج 20: 13- 18؛ 25: 19). أرادوا أن يحافظوا على المونوتاوية (عبادة الله الواحد) من كل نجاسة غريبة. فاتخذوا الوسائل الجذرية وحرّموها، أي اعتبروا قتلها حلالاً. مثل هذا الاسلوب كان فيه بعض الربح والكثير من الخسارة. لم يعد إسرائيل نور الأمم بل جلاّدها.
وكان الخطر في أن تطبّق هذه المبادىء الحربيّة (الحرب المقدسة) على المستوى الفردي، أي أن نخلط بين قضيّتنا وقضيّة الله، وأن نحسب أن أعداءنا هم أعداء الله. وكان هذا الخطر واقعياً. فهناك مزامير (35؛ 54؛ 58؛ 69) تشتمل على الكره واللعنة والانتقام والبغض، فتبدو بعيدة كل البعد عن نور الإنجيل. ومزامير سليمان التي تتضمّن نداءات إلى البغض، تدّلنا على أن هذه الملاحظات تنطبق أيضاً على الناس في زمن المسيح.
والمسيحية عرفت حقبات سيطر فيها البغض على قلوب المسيحيين، فنسوا نور الإنجيل. إذن، تتوجّه كلمات المسيح لا إلى سامعيه وحسب، بل إلى جميع المؤمنين وإلينا نحن أيضاً. إن يسوع هو معاصر لكل واحد منا، بكلامه يبقى حياً في عصرنا وفي كل العصور.
إذا توقفنا فقط عند آ 43، نجد أن العبارة "أبغض عدوك" هي حاشية على هامش "أحبب قريبك". فحسب عادة المدارس، كان الشرح يتبع الايراد الكتابي، فلا يتميّز عنه في شيء. ثم إن لفظة "أبغض" في العبرية تعني "أحب أقلّ" (10: 37؛ ق لو 14: 26). وقد يكون المعنى: تحبّ عدوّك أقلّ ممّا تحب قريبك. ولكن التوازي النقائضي في آ 43- 44، يفرض المعنى القوي لفعل "أبغض". ويبدو أيضاً أن يسوع يندّد بالتعليم التقليديّ الذي ينصح المؤمن بأن يبغض بغضاً خاصاً أولئك الذين يجهلون الشريعة أو يتهاملون في ممارستها.
ب- أقول لكم: أحبوا أعداءكم (آ 44، 46، 47)
واجه يسوع المحبة التي تفصل القريب عن "العدو" وتحتفظ بالخير "لأبناء الشعب"، بالمحبة الشاملة التي تزيل حواجز الأعراق وحدود العشائر وتتجاوز المحاجر الدينية. حتى الآن، كانوا يصلّون "ضدّ" أعوانهم، يتمنّون لهم الشّر (مز 17: 13؛ 28: 4؛ 69: 23- 29). بعد الآن يجب أن نصلّي "من أجل" أعدائنا. حتى الآن كانوا يحصرون أعمال المحبة بالصالحين والابرار، بالذين يحبّونهم. بعد الآن، تمتد المحبّة إلى الأعداء والمضطهدين، إلى الأشرار والكفار، إلى العشّارين والخطأة.
وشدّد مت بشكل خاص على الصلاة من أجل المضطهدين. فموضوع الاضطهاد يرد مراراً في إنجيله. استعمله في التطويبات (5: 10- 11). في الخطبة الرسولية (10: 23) وفي 23: 34 (= لو 11: 49). يشير الموضوع إلى الحالة المؤلمة التي تعيشها كنيسة فلسطين بوجه المتهوّدين الذين يضطهدونها ساعة كان متّى يدوّن إنجيله. ويكشف لنا أع حماس هؤلاء المتشيّعين للشريعة، الذين اتهموا يسوع بأنه جاء ينقض لا يكمل... وقد لاحقوا بولس خلال رحلاته الرسوليّة. حين تحدّث مت مراراً عن هذه الاضطهادات، فسّر لقرّائه أن لا يخافوا من هذا الأذى الدموي. فقد سبق يسوع وأعلن عنها. وحين يطلب منهم مت أن يصلّوا من أجل مضطهديهم، فقد أراد من قلوب المؤمنين (الذين يمارسون الشريعة ممارسة تامة) أن تبقى منفتحة على اليهود الذين يرفضون الانجيل. أما هذا الذي فعله يسوع في آلامه (لو 23: 34) فتبعه اسطفانس في استشهاده (أع 7: 60).
إن النصّ الموازي في لو 6: 27- 35 مطبوع بطابع الإنجيلي الثالث. فالألفاظ "خاريس" (نعمة، فضل، عرفان جميل) (6: 32، 33، 34) و"خراستوس" (منعم، آ 35)، و"اخارستوس" (غير الشاكرين، لا عرفان جميل عندهم) (آ 35) و"هيبسستوس" (العلي، آ 35)، تدلّ على أنه أعاد صياغة نصّه. وبدّل مت 5: 47 ب (أوليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟) إلى: "الخطأة أنفسهم يفعلون ذلك" (آ 33 ب). لم يقل لو "الوثنيين". فهو إليهم يكتب، بل قال: الخطأة. هكذا لا يستاء أحد. فالخطأة موجودون في جميع الفئات. ثم قلب الجملة من استفهامية إلى تأكيدية. فقد تضمّ الاستفهامية تفسيراً خاطئاً. أما التأكيدية فتقدم الجواب القاطع.
وشدّد لو في آ 34- 35 (ليس ما يوازيها في مت) على ضرورة الإقراض والعطاء دون أن ننتظر شيئاً، أن نتأمل شيئاً (آ 35). فلوقا يطالب المسيحيّ بأن يهتم بأخيه الذي هو في حاجة. "أعطوا تعطوا" (آ 38). أعطوا والله يعطيكم في يوم عودته (ولماذا ليس الآن). نحن في اتجاه اسكاتولوجي (رج مت 25: 31- 46 ومثل الدينونة الأخيرة). وقال لو في خطبته ضد الفريسيين في 11: 41. "تصدّقوا بالحري، بما في وسعكم. وكل شيء يكون لكم طاهراً". لا علاقة بالطاهر والنجس على مستوى الفريسيين. ولكن الطهارة الحقيقيّة، كما قال الأنبياء، تعني أيضاً الاحسان إلى الفقراء.
قال مت 6: 19: "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض" (طريقة سلبية). فقال لو 12: 33 بشكل إيجابي: "بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة". ودعانا لو 14: 13- 14 إلى أن نُدخل بيتنا "الفقراء، والعرج، والجدع، والعميان" لأنهم لا يستطيعون أن يكافئونا. وبدا زكا نموذج المؤمن: أعطى نصف أمواله للفقراء.
نجد في كل هذه النصوص صدى للممارسة في الجماعة الأولى كما صوّرها لنا لوقا في أع 2: 44- 45؛ 9: 36؛ 10: 31. فجماعة لوقا المسيحاوية هي جماعة تجاوزت مستوى الغفران للاعداء في أبسط مظاهره. فانفتحت على الاخوة التي تنعقد حول المسيح يسوع. أجل، يجب أن تقود محبة الاعداء إلى مقاسمة الخيرات. هذا هو رمز إلى اتحاد قلوب تتقاسم الأفراخ والأتراح.
ج- لتكونوا أبناء أبيكم (آ 45)
ما هو الأساس الذي يرتكز عليه حبّ الأعداء هذا؟ في الماضي، ارتكز حبّ القريب على رباط اللحم والدم (القرابة). أما الآن، فقد أسّسه يسوع على اقتداء المؤمنين بالآب. هكذا تكونون أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الأبرار والاثمة" (آ 45). فحبّ المؤمن للمسيح هو حب يقتدي بحبّ الآب ويدلّ عليه. والحال أن الله هو حنان شامل وحبّ لا حدود له. أنت تشفق علينا. تغلق عينيك عن خطايا البشر لكي يتوبوا. تحبّ جميع الخلائق. هكذا ينقلب بغض الأعداء إلى حبّ بين الأخوة، لأن جميع البشر هم في عهد رحمة الآب وهم في بيت هذه الرحمة يلتقون جميعاً كإخوة.
د- مثل أبيكم (آ 48)
يختتم مت 5: 48 لا هذه المقطوعة عن حبّ الاعداء وحسب، بل القسم كله المتحدّث عن الشريعة الجديدة (5: 17- 48). يستلهم هذا القول لا 19: 2: "كونوا قديسين لأني أنا قدوس". وتث 18: 13: "تكون كاملاً أمام الرب إلهك".
إن المثال الذي عرضه الرب هو كمال الله بالذات. ونحن نعرف أهمية لغة الكمال في نصوص قمران (ترد اللفظة أكثر من 20 مرة في قاعدة الجماعة) وفي التعليم الرسمي. تجاه هذا التأكيد البورجوازي الراضي عن نفسه (كل هذا حفظته منذ صباي، مر 10: 10؛ رج مت 19: 20) يقدّم يسوع مثالاً عن كمال لا حدود له، لأنه يصل إلى كمال الله غير المحدود. تفرّد مت فاستعمل كلمة "كامل" (تالايوس). وقد ارتبطت بلفظة "البرّ": فالكامل هو الذي يتمّ ملء الشريعة الجديدة كما يحدّده يسوع (في 19: 21 ترد لفظة كامل في سياق مماثل).
واحتفظ لو بتعبير مختلف، "كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم". أية العبارتين أقدم؟ هذا ما لا نستطيع أن نقوله. إن عبارة لو تليق بالسياق المباشر الذي يتحدّث عن حبّ لله لجميع البشر، وتليق بالإنجيل الثالث كله (نشير إلى أن ر ح م تعني المحبة والرحمة). وعبارة مت تليق بالسياق العام الذي يتحدّث عن الشريعة الجديدة، وتليق بالإنجيل الأول. على كل حال، كمال الله هو كمال حبّه. وفي خر 34: 6 يحدّد الله نفسه: إله المراحم. وتصرّف المؤمنين هذا يكشف طبيعة الآب الحميمة: الله هو محبّة.

3- الشريعة الجديدة والشريعة القديمة
إن نص 5: 17- 48 يطرح بشكل ملحّ سؤالاً حول قيمة العهد القديم بالنسبة إلى العهد الجديد. نجد اليوم في الإنجيل شريعة يسوع المسيح. فلماذا الاحتفاظ بشريعة موسى؟ حين يُشرق نور المسيح على العالم، فهل من الضروريّ بعدُ أن نشعل سراج الأنبياء؟ حين يكلّمنا الله مباشرة بابنه (عب 1: 3) هل نستعيد كلمات حواره في الماضي مع الآباء. وحين تلتقي الجماعة المسيحية عريسها يسوع المسيح (رج مر 2: 19)، وترتدي لباس العرس، هل من الضروري أن تحتفظ بـ "وزرة" التلميذ في مدرسة المجمع (الشريعة هي المؤدّب)؟
بمختصر القول، هناك نصوص من العهد القديم لم تعد لها قيمة لمن يسمع الإنجيل. هذا هو وضع الفرائض الدقيقة في سفر اللاويين (الذبائح وغيرها). ولوائح ضبّاط داود. كل هذا يدلّ على تاريخ مضى فعفّى عليه الزمان.
ليس السؤال جديداً. فتفكير مرقيون (سماه أفرام: السمّ: رفض العهد القديم. إنفصل عن الجماعة المسيحية سنة 144) ما زال حاضراً في قلوب المؤمنين عندنا. وهو يقدم لهم طريقاً قصيراً به يصلون بسرعة إلى المسيح، فلماذا التيهان في برية العهد القديم وفيافيه، إذا كان الإنجيل يكفي؟
ها نحن نقدم بعض العناصر التي تساعدنا على التفكير، وقد تقدّم لنا الجواب.
أ- جديد الإنجيل
من الخطأ أن نقول إن نور العهد الجديد كسف نور العهد القديم. يقول فاتيكان الثاني: "إن أسفار العهد القديم تنير وتفسرّ العهد الجديد". لا شكّ في أن هناك عناصر بطلت وزالت. ولكن أموراً أخرى وصلت إلى بعض الكمال، بقدر ما تستطيع كلمة بشريّة أن تحدّثنا عن الله. ونأخذ من أجل ذلك مثلين:
الأول: اسم الله
كيف نكشف عن اسم الله في ذاته، الحب الإزلي؟ نقرأ خر 34: 6- 7 الذي يميّز كل تاريخ إسرائل: إله الحنان والرحمة. طويل الأناة غنيّ بالمراحم والأمانة. يحفظ رحمته وأمانته لأجيال وأجيال. ونجد هذا التعبير عينه في هو 2: 21- 22؛ أش 49: 14- 16؛ مز 145: 8- 9. هذا الوحي الذي يتجاوز كل ما عند البشر، سيأتيه نور حاسم وفريد وهو يشرف على كل التوراة: انكشف حب الله وحنانه ورحمته في يسوع المسيح. إنه حبّ الله للبشر كما قالت الأسفار القديمة.
ثانياً: التصرّف المسيحيّ
حين طرحوا على الربّ سؤالاً حول الوصية الأولى، تلا صلاة "شماع" كما يتلوها اليهودي المؤمن ثلاث مرات في النهار. وقد أخذت من تث 6: 4- 5: "إسمع يا إسرئيل: الرب إلهنا هو الرب الواحد. تحبّ الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك" (رج مر 12: 29- 30). وسيقول العهد الجديد إن نموذج هذا الحبّ الساميّ نجده في يسوع المسيح الذي فيه نحبّ الآب الآن.
إذن، الجديد الذي يحمله الإنجيل إلى العهد القديم هو المسيح نفسه. سماه اوريجانس: "الملكوت بالذات". نحوه تتجّه كل خطوط العهد القديم. إنه تيوفانية الآب. إنه كلمة الآب وفيه يصبح كل كلام في العهد القديم كلمة ترتقي إلى كرامة الإنجيل.
إذا أردنا أن ندرك تجلّي الكتب بالمسيح، نعود إلى السنوات التي تفصل قيامة الرب عن أول تدوينات العهد الجديد (هذا مع العلم أن الإنجيل كان قد أعلن في الجماعات المسيحيّة، أقلّه بطريقة شفهيّة). فالإنجيل الذي أعلنه بطرس في خطبه، والمبشِّر فيلبّس أمام وزير ملكة الحبشة، وبولس في المجامع، كان العهد القديم كما تجلّى بحضور الربّ فيه. في الظهور لتلميذي عماوس، كتب لو 24: 27: "وإذ بدأ (يسوع) بموسى وجميع الأنبياء، فسّر لهم ما يعنيه". وفي خبر الظهور على الرسل في أورشليم، قال يسوع نفسه لأخصائه: "كان يجب أن يتمّ كل ما قيل عني في شريعة موسى والأنبياء، والمزامير" (لو 24: 44). إذن، قرأت الجماعة الأولى تاريخ يسوع في كل سفر من أسفار العهد القديم.
هذا الاعتبار مهمّ على المستوى الرعائي. قال ايرونيموس: "من جهل الكتب المقدّسة جهل المسيح". فالكتب هي الطريق المفروضة لفهم سرّ المسيح.
ب- لا أبطل بل أكمّل
تحدّثنا عن حضور المسيح في العهد القديم. ومقابل هذا نقول بحضور العهد القديم في سرّ المسيح. والنصّ الذي يعبّر أفضل تعبير عن هذا السرّ هو مت 5: 17: "لا تظنّوا أني جئت لأبطل الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمّل".
إن قصة هذا النصّ الذي يعود إلى سياق هجومي، متشعبة جداً. كيف نفسّره؟ نستطيع أن نعتبر الكتب المقدسة إما مجموعة النبوءات التي جاء المسيح يكملها، وإما مجموعة الشرائع التي تعبرّ عن إرادة الله، وقد وصل بها يسوع إلى كمالها النهائي.
أولاً: تكملة النبوءات
نقرأ في أحد أقدم الاعلانات الايمانية، وقد يعود إلى سنة 35- 40، ما يلي: "المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. ودُفن وقام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1 كور 15: 3- 5).
يتجذّر هذا اليقين القائل بأن يسوع يكمّل الكتب، في عمق الوجدان المسيحي. إنه يشكّل إيمان الجماعة الأولى وهو في قلب فهمها للكلمة. وبفضل هذه التكملة تحدّد الكنيسة موقعها في نهاية حركة التاريخ كما يقوده الله. ويدلّ المسيح على أنه في قلب الكتب وهو الذي يؤمّن لها وحدتها. هو ذاك الذي تكلّمت عنه "شريعة موسى والأنبياء" (يو 1: 45). فمن آمن بالكتب آمن بالمسيح. "فموسى كتب عني" (يو 5: 45).
ولقد بدت بعض صفحات الإنجيل قراءة "تاريخيّة" للنبوءات (على ضوء تاريخ المسيح). ووُجدت في الجماعة الأولى مجموعة الشهادات الرابية التي تساعد الكارز بالكلمة على الحديث عن المسيح انطلاقاً من الكتب. وهكذا لا نستطيع أن نقرأ خبر الحاش (الآلام) دون أن نعرف أش 53 (عبد الله المتألم)، مز 22؛ 69. ولا نستطيع أن نقرأ أناجيل الطفولة (ولا سيما لو) دودن أن نعرف الخلفيّة البيبلية التي تكوّن لحمة هذه الأخبار. ونقول الشيء عينه عن حدث دخول يسوع إلى أورشليم في يوم الشعانين (21: 1- 9؛ مر 11: 1- 10؛ لو 19: 28- 40؛ يو 12: 12- 19). وصل يسوع إلى بيت فاجي، فأرسل اثنين من تلاميذه يأتيانه بجحش يركب عليه. أهتم مر 11: 4 بالتفصيل، فلاحظ أن الجحش كان مربوطاً قرب الباب، في الخارج، على الطريق. حلاّه، وجاءا به إلى يسوع، وجعل الناس عليه ثيابهم. جلس يسوع على الحمار ودخل إلى أورشليم في هذا الشكل المتواضع. فالجماعة الأولى (21: 5؛ يو 12: 15) رأت في هذا الحدث تحقيق نبوءة زك 9: 9 التي يوردها مت على الشكل التالي: "قولوا لابنة صهيون. ها هو ملكك يأتي إليك وديعاً يركب اتاناً وجحشا ابن اتان".
ولكن إذ تحدّث مر ولو عن جحش واحد، تحدّث مت 21: 2 عن أتان وجحش. وشدّد في 21: 7 على أن يسوع ركب عليهما (كيف؟). في الواقع تكلّم نصّ زك عن حمار وجحش، ولكن كان هذا اسهاباً في الحديث عن حيوان واحد. وقد أراد الحدث في مت بأن يلتصق التصاقاً مادياً بالنبوءة. ماذا يعني هذ؟ هل كتب مت التاريخ انطلاقاً من النبوءة أم من الحدث؟ في النهاية، أن يكون هناك حيوان أو حيوانان، فهذا أمر ثانوي. فمتّى يكتب إنجيلاً أي خبراً سعيداً. وهذا الخبر الطيّب الذي يحمل السعادة إلى البشر هو: يسوع هو هذا الملك الوديع المتواضع، الذي يأتي إلى شعبه.
إذن، إن كانت الجماعة المسيحية تائقة إلى التعرّف إلى وجه المسيح يسوع في النبوءات، فليس توقها اهتماماً ابولوجياً. ليس لأنها رأت فيه مسيح النبوءة اليهوديّة (هذا هو مستوى الله)، بل لأنها حاولت أن تلج سرّ شخصه كما تكشفه الكتب المقدّسة. إذن، لن نترك العهد القديم من أجل الجديد. بل بقدر ما نعرف العهد القديم نستطيع أن نفهم العهد الجديد. فإذا كان بالإمكان أن نقرأ العهد القديم وحده (كما يفعل اليهود اليوم)، فلا يمكن أن نفهم الجديد من دون العهد القديم.
ثانياً: تكملة الشريعة
ونستطيع أن نعتبر الكتب أيضاً كمجموعة شرائع تدلّ على إرادة الله. وهي شرائع أوصلها يسوع إلى كمالها. هذا هو معنى مت 5: 38- 48 كما فسّرناه: فيسوع "يكمّل" هنا الشريعة إذ يوصلها إلى كمالها الإنجيلي.
هل نؤكّد أنه يعطي شريعة جديدة، هي شريعة إنجيله؟ هذا ما يؤكده الشرّاح. ولكن ماذا نفهم بالشريعة الجديدة؟ إن المسيح قد قاد الشريعة إلى كمالها النهائي بمسيرة طبيعيّة جداً. إنها مسيرة الزهرة إلى الثمرة، المسيرة التي تقود الطفل إلى حالة النضوج والبلوغ. نستطيع القول إن الثمرة شيء جديد بالنسبة إلى الزهرة. ونستطيع القول أيضاً إنها تقف في خط تطوّرها.
إن بطلان بعض الشرائع الخاصة بالعهد القديم لا يأتي من ضعفها الخاص وعجزها، بل من الكمال السامي الذي يحمله يسوع المسيح. لم نعد نحتفل بذبائح العهد القديم، لأن ذبيحة المسيح الفريدة قد تجاوزتها وحلّت مكانها. لا نعيد بناء هيكل أورشليم، لأن حضور الله الذي يقيم في كل مؤمن وفي كل جماعة (إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي)، لم يعد مرتبطاً ببناء من حجر. وكذلك لن نتوقف عند شريعة المِثل، لأن المسيح طلب منا أن نذهب أبعد من ذلك، حتى محبّة الأعداء بحبّ يشبه حبّ الآب لجميع البشر.
نستطيع أن نؤكد أن هذه الشريعة هي جديدة، بمعنى أنها وصلت مع المسيح إلى عتبة لا تستطيع أن تتجاوزها بقدرتها الخاصة. فأرضُ العهد القديم لا تستطيع أن تعطي ثمار العهد الجديد إلا بالمسيح يسوع. فمملكة نسل داود "ابن" الله لا تستطيع وحدها أن تدرك كرامة أبن الله (يسوع المسيح) المتسامية: ففي يسوع المسيح وحده يدرك نسل داود شواطىء أبديّة الله. وكذا نقول عن كهنوت لاوي الذي حلّ محلّه كهنوت العهد الجديد. ففي يسوع صار العهد السينائي العهد الجديد الأبدي. هناك عتبة لا يمكن عبورها إلا بواسطة المسيح.
وفي النهاية، إن سر الكتب المقدّسة هو سرّ المسيح نفسه. فيسوع يبدو في خاتمة التاريخ كابن ابرهيم وداود، كزهرة في غصن يسّى، وثمرة أجيال عديدة تربطه بأصول البشرية. وكل هذه الأجيال هيّأت ميلاده بحسب الجسد، ولكنها لم تكن تقدر أن تحقّق سّره الخاص الذي هو حضور ابن الله في حشا امرأة.
وبدا يسوع أيضاً في نهاية الأزمنة. غير أن جميع القرون والسنين لم تكن تستطيع أن تحمل إلينا حضور الأزل في زمننا، واللامتبدّل في الصيرورة البشرية. يسوع هو حقاً ابن الوعد. ولكن الحقيقة تتجاوز هنا الوعد. نحن أمام جديد. نحن أمام واقع يتجاوز كل ما يتصوّره البشر.
الله وحده يستطيع أن يرتّب مسيرة الأجيال التي تبدأ مع آدم لتصل إلى المسيح. وحده يستطيع أن يجعل العهد القديم يتجاوز العقبة التي توصله إلى العهد الجديد. حينئذٍ يصبح العهد القديم إنجيلاً، ويتمزّق الستار على قدس الأقداس، على حضور يسوع المسيح في عالم البشر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM