الفصل الثامن عشر: ملح الأرض ونور العالم

الفصل الثامن عشر
ملح الأرض ونور العالم 5: 13- 16

إن هذه القطعة التي تؤلّف مع التطويبات مدخلاً إلى العظة على الجبل، تكمّل ما سبق على سبيل التعارض. فقد رسم الإنجيل للمؤمنين برنامج التصرّف المتواضع والوديع. وذكّرهم أيضاً أن الانتماء إلى المسيح يعني احتمال العار والاضطهاد والألم من أجله. بعد هذا، لم يبقَ إلا أن ندلّ على كرامة المؤمن التي لا تضاهى: إنه ملح الأرض، ونور العالم. غير أن مت لا ينسى هدفه الأول، فيدعو القارىء الذي صار ما صار إليه بنعمة الله، لكي يتصرّف حسب هويّته الجديدة.

1- "ملح الأرض" (5: 13)
أ- في التقليد الإنجيليّ
قدّم مر 9: 5 أ ولو 14: 34 نسختين مستقلتين عن القول على الملح. استقى لو من الينبوع الذي استقى منه مت، معارضاً مر، وعبرّا عن الملح الذي يخسر طعمه بفعل "موراينستاي". وزادا توسيعاً قصيراً عن مصير الملح الفاسد (مت 5: 13 ج؛ لو 14: 35). وهكذا خفّفا من التباس عبارة صارت قولاً مأثوراً.
وهيّأت فقاهة الكنيسة الأولى لهاتين النسختين سياقين مختلفين، وهذا ما جعل بُعد النسخة الأولى يختلف عن بُعد النسخة الثانية. وإذا أردنا أن نحصر ذواتنا في مت، نكتشف مبادرته الشخصيّة في البداية: "أنتم كونوا ملح الأرض". هذا ما يحلّ محلّ عبارة قديمة يقدّمها مر ولو بطريقة مستقلّة: "الملح جيّد"، الملح شيء صالح. رأى مت في هذا "الصالح" تلاميذ يسوع. وهكذا انتقل من الصورة إلى الواقع. ولكنه انتقل فقط جزئياً، لأنه يجب علينا أن ننقل في كلمات خاصة، الاستعارةَ التي تحدّد دور المسيحيين.
ب- رمزيّة الملح
يجب قبل كل شيء أن نجمع مختلف استعمالات الملح ومدلولاتها الرمزية في عالمنا الشرقي، ثم نختار المعنى الرمزي الذي نحتفظ به هنا. ولكن تتعقّد الأمور حين تتداخل العلاقات داخل الاستعارة الواحدة. فعبارة "عهد الملح" (لا 2: 13؛ عد 18: 19؛ 2 أخ 13: 5) قد ترتبط بأهميّة هذا العنصر في الطعام وبما يتضمّنه هذا العمل من خطورة (رج عز 4: 14؛ أي 6: 6؛ سي 39: 6). وقد ترتبط بقوة الحفظ التي يمتكلها الملح، وهذا ما يدلّ على التزام لا تراجع عنه. وقد يدلّ على طقس تملّح فيه القرابين (لا 2: 13). وقد يدلّ على الدور المعقّم (قاتل الحياة) الذي يلعبه الملح في إلقاء الحرم على المدن المحتلة: قض 9: 45؛ رج تث 29: 22؛ إر 17: 6؛ صف 2: 9؛ مز 107: 34؛ أي 39: 6. نجد عبارة "اللعن" الممزوج بالكره ضد مدينة متمرّدة هي وتوابعها: "ليزرع فيها هدد (إله الآراميين) الملح... فلا يتحدّث عنها أحد".
هناك شرّاح يحتفظون بالنسبة إلى المقطع الذي ندرس، بهذه الوجهة الأخيرة. ويرون في الملح صورة عن روح التضحية التي يتحلى بها تلاميذ المسيح حسب التطويبتين الأخيرتين (اضطهدوكم). أو يفكّرون بالذبيحة التي يجب أن تقدّمها الجماعة لتهدىء غضب الله على العالم الخاطىء: حينئذٍ تمارس أقسى الوصايا.
غير أن سياق مت لا يقدّم السند الذي يطلبه هؤلاء الشرّاح، فلا نجد أي تلميح إلى الدور التكفيري في الطاعة لإرادة المسيح. ثم، إن التوازي الذي يضمّ هنا "ملح الأرض" إلى "نور العالم" يفرض علينا أن نرى في الصور الأولى واقعاً لا يكتفي التلاميذ بأن يجسّدوه في ذواتهم، بل يوصلونه إلى الآخرين، وهذا واجب عليهم.
نحن نعلم أن الملح استُعمل كسماد عند الأقدمين. إذن، نتوقّف عند هذه الوظيفة بالنسبة إلى "ملح الأرض". وخصوصاً إذا عدنا إلى النصّ العتيق في لو 14: 35: "لا يصلح للأرض ولا للمزبلة". زالت "المزبلة" من مت فضعف ارتباط الصورة بعالم الزراعة وهكذا تصل الاستعارة إلى الواقع، وتصبح "الأرض" موازية لـ "العالم" (آ 14). لا نعود نتكلّم عن "أرض نزرعها" بل "عن البشرية في الكون".
ج- الحكمة البشرية: نعمة وواجب
ولكن كيف نتصوّر هذه الأرض التي تخصب، كيف نتصوّر أرض التلاميذ؟ قد نعود إلى مقال يهودي متأخّر (سوفريم 15: 8) يقابل الشريعة بالملح الذي يتيح للعالم بأن يثبت فلا يزول. وهكذا نكون أمام عمل مماثل يقوم به تلاميذ يسوع. وإذا أردنا أن ندرك هذا المعنى، نعود إلى ولي النصّ: إذا خسر الملح طعمه (فسد)، فبماذا "يملّح"؟ هي صيغة المجهول. كل إنسان. عكس مر 9: 48؛ لو 14: 34: الحديث هو عن إمكانيات الملح، أي عمل التلاميذ الذين وإن امتلكوا مواهب المسيح لا ينفعون في شيء إذا كانوا مسيحيّين بالإسم فقط.
كتب مر في 9: 50 أ: يصبح بلا طعم (أنالوس). وجعل مت ولو الفعل: فسد (صار سمجاً، تافهاً، موروس). نجد موروس في اليونانية وهي تقابل "تفل" في العبريّة وتدلّ على المبتذل والمجنون. قد نكون هنا في أساس استعارة. فما يجعل من التلاميذ "ملح الأرض" هو حكمة زمن التتمة (تمّ الزمان واقترب ملكوت الله). ثم إن التقارب بين الملح ونور الوحي (آ 14) يثبت هذا التفسير. وبولس نفسه يسير في هذا الاتجاه حين يقول في كو 4: 6: "ليكن كلامكم لطيفاً على الدوام، مصلحاً بملح".
إذن، ليبقَ المسيحيون على ما هم، وهم الذين نالوا معرفة مشيئة الله في المسيح، بحياة تتوافق مع ما نالوا. وإلاّ "فبماذا نملّحهم"؟ هي مسألة ذات بُعد سلبي: فالمسيحي الذي خسر عزمه لا يستطيع أن يمارس الوظيفة الموكلة إليه بالنظر إلى العالم. إنه مثل "عضو الشرف" في مجتمع ينتمي إليه: هو لا يستطيع أن يفعل في العالم. لا يستطيع أن يحوّل العالم.
فلا يبقى له إلاّ أن "يُطرح خارجاً". هناك عبارة أخرى: "يدوسه الناس". يُداس بأرجل البشر. هذا جزء من المثل، ولا نستطيع أن نطبّق كل ما فيه على المصير النهائي للتلميذ الخائن. ومع ذلك فعبارة "يُطرح خارجاً" تعني شيئين: نجدها كما هي هنا في مت 13: 48 (السمك الرديء طرحوه خارجاً). ونجدها في شكل قريب في مقاطع أخرى (من مت) تدلّ على الهلاك الأبدي بالنسبة إلى الأشرار. في 8: 12، تدلّ على اليهود. وفي ما عدا ذلك تشير إلى البشرية الخاطئة بشكل عام (13: 42) أو إلى المسيحيين الذين لا يستحقّون هذا الاسم (7: 19؛ 13: 48، 50؛ 18: 8، 9؛ 22: 13). هنا يحذّر المسيح تلاميذه، ويدعوهم ألا يخونوا دعوتهم في توجيه العالم، وإلا طُرحوا خارجاً، وقاسوا العقاب القاسي.
د- على شفتي يسوع
إذا جعلنا هذا القول المأثور خارج السياق الإنجيلي، فهو يدلّ على استحالة مطلقة لشيء من الأشياء. هنا نعود إلى التلمود الذي يجعل أمامنا بغلاً صغيراً. سمع فلاسفة رومة الوثنية فرأوا أن هذا معقول وطرحوا السؤال: إذا خسر الملح طعمه. فبماذا يملّح؟ أجاب الراوي: بمشيمة بغلة. فهل يستطيع الملح أن يخسر طعمه؟ فيبدو أن الملح لا يخسر طعمه على مستوى علم الكيمياء. وذلك، كان القدماء، يرمونه بعد أن استعمل في الأفران وإن مُزج مع أجسام أخرى، خسر طعم الملح فيه.
إن استعماله هذا القول يوافق كل الموافقة طريقة تعليم يسوع. ولكن أي معنى أعطاه؟ نلاحظ أولاً أن القول على الملح يبدو قريباً جداً من مقابلة العين والنور التي نقرأها في مت 6: 22- 23 ولو 11: 34- 35. فللقطعتين بنية مماثلة، وإن اختلفتا في الطول: فبعد تأكيد (سراج الجسد العين. الملح جيّد)، تأتي فرضية مزدوجة في مت 6: 22 ب- 23 أ وز، وبسيطة في مت 5: 13 وز، يليها تأكيد مقابل. في الجهتين نستطيع أن نستشف نداء لكي نجعل غنانا الديني يثمر: ملح فاسد، عين بدون نور: هذا هو المؤمن الذي لا يعيش حسب متطلّبات الله. هذا هو التلميذ الذي يتبع يسوع دون أن يرتبط حقاً بتعليمه. إنه بعيد عن الخلاص.

2- نور العالم (5: 14- 16)
أ- مثل السراج (القنديل)
تمتلك الدرفة الثانية من هذه الدبتيكا عنصراً تقليدياً هو أولاً مثل السراج الذي يورده مر 4: 21، والذي نجده أيضاً في المعين الذي استعمله لو ومت. نجده مرتين عند لوقا (8: 16: ما من أحد يوقد سراجاً؛ 11: 33)، وفي كل مرة يعود إلى نسخة من النسختين. أما مت فيبدو أنه يرتبط اساساً بالنسخة الثانية.
هذه الحاشية الصغيرة التي جعلها مر 4: 12 في "خطبة الأمثال" تصوّر موضوع الوحي المسيحاني الذي كان خفياً في البداية، ثم أعلن فيما بعد على الملأ. أبقى لو 8: 16 القطعة في السياق عينه، وجعلها في مقدّمة تحريض إلى المسيحيين حوله ضرورة التنبّه إلى التعليم الإلهي. في 11: 33، قد يكون السراج المخلّص نفسه وهو الذي تحدّث عنه النص السابق بشكل خفي، أما النور فيرمز إلى حقيقة الإنجيل.
ولكن، ماذا كان الأمر في البداية؟ هناك من حدّد موقع المثل بين التعليمات الإنجيلية إلى العالم الاسياني: عارض يسوع الاسيانيين الذين شكّلوا جماعة مغلقة. واتخذوا لقب "أبناء النور". ولكن هذه الفرضيّة لا تفرض نفسها. ورأى آخرون جواب يسوع إلى الذين ينصحونه بالفطنة: لا نستطيع أن نخفي النور ساعة يشعّ. هذه الفرضيّة تلتقي ويقين يسوع الحميم بالنظر إلى رسالته. يسند هذا اليقين مجملُ الإنجيل، وخصوصاً يو 9: 4 (ما دام النهار، ينبغي أن نعمل أعمال من أرسلني) الذي يتوسّع في الموضوع عينه.
ب- في إنجيل متّى
في مت، لا تدلّ الاستعارة على يسوع. ولكن يسوع يستعلمها ليدلّ على الوظيفة التي يسلّمها إلى تلاميذه. هذا التطبيق الجديد ينبع من مجموعة يبدو فيها المثل بين أقواله أخرى يوردها مت وحده. لا نستطيع القول بأن يسوع أخذ قولاً دنيوياً وحمَّله معنى روحياً (كما قالت بعضهم). نشير إلى أن القول وُجد في "لوغيا (أقوال) بهلنسة" (1: 7) كما في الإنجيل حسب توما (القول 32). ولكن هذا لا يعني أن مت استنبطه، بل هو أخذه من التقليد المرتبط بالمسيح. وقد تكون مجموعة "اللوغيا" وإنجيل توما عادا إليه.
هناك تقليد مستقل عن "مدينة قائمة على جبل". وإعلان البداية (آ 14 أ) يلتقي مع إعلان آ 13، فترتبطان بالهمّ التعليميّ الذي يدفع الإنجيلي إلى توضيح بُعد النصّ الذي ينقله، وذلك بواسطة تطبيق استعاري. ورغم بعض التردّد، قد يكون هذا وضع آ 16 التي ترتبط في النهاية بكاتب الإنجيل الأول. إن عبارة "قدام الناس" و"أبوكم الذي في السماوات" هي عبارات متّاوية وإن وردتا في 1 بط 2: 12.
ج- النور والمدينة الشاملة
حين أكد المسيح أن التلاميذ هم "نور العالم"، كرّمهم أعظم تكريم. أما هكذا كان يسمّي الرابانيون شريعةَ موسى وهيكل أورشليم؟ في خبر من تلمود بابل، سأل هيرودس الكبير الذي أخطأ حين أباد المعلّمين اليهود، سأل واحداً منهم: "أي عون لي بعد الآن"؟ فأجيب: "أطفأت نور العالم لأن الوصية سراج والشريعة نور (أم 6: 23). فاذهب واهتمّ بنور العالم (الهيكل الذي جمّله هيرودس) الذي كُتب عنه (أش 2: 2؛ مي 4: 1): إليه تتوجّه جميع الأمم". ثم إن إسرائيل اعتبر نفسه "نور العالم". فأقوال أشعيا الثاني النبوية (42: 6؛ 49: 6؛ 6: 3) قد كوّنت هذا اليقين عند اليهود. وقد قال بولس فيهم: بما أنه يمتلك الشريعة، اعتبر أنه "قائد العميان ونوراً للذين يسيرون في الظلمة" (روم 2: 19). وقال الرابانيون في هذا المعنى: "كما أن الزيت يحمل النور إلى العالم، هكذا إسرائيل هو نور الأمم" (مدراش نش 3: 1).
حسب مت، أُخذ هذا الدور من اليهود، وسُلّم اليوم إلى المسيحيين. "أنتم (يبدأ الضمير في البداية ليبرز الفكرة) تكونون نور العالم". "العالم" (مثل "الأرض" في آ 13) يدلّ على البشرية التي تقيم في الكون (13: 28؛ 18: 7؛ روم 3: 19؛ 1 كور 4: 13). ولكن حسب المدراش، أورشليم هي أيضاً نور العالم، بحيث نفكّر فيها حين نتحدّث عن "مدينة قائمة على جبل". هذا الموضوع يرجع إلى نبوءة تتأمل في صهيون، في نهاية الأزمنة، صهيون "التي تقوم على قمة الجبال" (أش 2: 2؛ ي 4: 1) وتجتذب الأمم إلى ضيائها (أش 60: 1- 3؛ طو 13: 1؛ اخنوخ، اليوبيلات، عزرا الرابع). ولكن متّى لا يهتمّ بأورشليم التي كانت مدمّرة ساعة كتب إنجيله: فهذا الدور المجيد يعود منذ الآن إلى جماعة المسيحيين.
د- "ليضيء نوركم"
ليس للمسيحيين أي سبب للافتخار (روم 2: 19). فالنور الذي به يضيئون العالم هو الوعي المسيحاني. هو نعمة مجانيّة لا يحقّ للإنسان أن "يفتخر بها" (روم 3: 27). قال كيرلس الاسكندراني: "لستم انتم الذين تحيون، بل النور يحيا فيكم، المسيح الذي يستطيع بكلمته أن ينير العالم كله". ثم (وهذا هو التعليم الرئيسي) إن هذه النعمة يرافقها واجب تعبّر عنه صورتان متوازيتان نجدهما هنا: المدينة القائمة في العلاء تراها الأنظار من بعيد. والنار التي فوق المكيال لا يمكن أن تختفي.
ولكن السراج الذي تحت المكيال لا يمكنه أن يواصل اشتعاله. مثل هذا الوضع يطفئه. من هنا، حين استعمل مت هذه المواد، لم يخلق توازناً تاماً بين الصورتين: بين صورة المدينة التي لا يمكن أن نخفيها. وصورة النار التي قد نطفئها. ولكن إذا استندنا إلى المعطيات الاركيولوجية، نستطيع أن نعتبر المكيال لا إناء به نطفىء السراج، بل طاولة صغيرة. إن عبارة "تحت سرير" (مر 4: 21؛ لو 8: 16) توجّه نظرتنا إلى الوضع عينه.
مهما يكن من أمر، يتوخّى هذان التشبيهان أن يعبرّا عن وضع شاذ يصوّر سلبياً واجباً اخلاقياً: لا يحقّ للتلاميذ أن يمنعوا الوحي الالهي من أن يدرك البشر. بل عليهم أن يكونوا مثل مدينة تُرى من البعيد، مثل أورشليم المضيئة كما صوّرها الأنبياء. مثل سراج يوضع على مكيال "فيضيء لجميع من في البيت".
هذه العبارة تجعلنا في جوّ بيت فلسطيني مع قاعة واحدة. إفترض لو 11: 33 (رج 8: 16) أننا أمام بيت روماني أو يوناني يتضمن الرواق والقاعة. فحين يضيء السراج، فهو يضيء "للذين يدخلون إلى البيت". وقد أضاف مت لفظة "جميع" فدلّ على هذا النور الذي يعمّ الكون كما في 28: 19: على التلاميذ أن يحملوا الإنجيل "إلى جميع الأمم".
هـ- لمجد الآب السماوي
ولكن الإنجيلي لا يفكر الآن بالكرازة الرسولية، بل بنوع آخر من الاشعاع: "هكذا فليضىء نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة، ليروا ما تعملون من الخير" (آ 16). تعود عبارة "الأعمال الصالحة إلى اللغة الدينية في العالم اليهودي. هي تتميّز عن فرائض الشريعة (كان عددها 613 فريضة) فتضمّ الصدقة وسائر أعمال المحبّة: الإحسان إلى الفقراء، الضيافة، الاهتمابم بالايتام، افتداء السجناء، حضور حفلات الزواج والجناز، العناية بالموتى. كل هذا ينال جزاء عظيماً، لا في هذا العالم وحسب، بل في الآخر أيضاً. ولم يكن هذا الوعد حرفاً ميتاً. فالكاتب المسيحي ارستيدس يقرّ بحق أن اليهود "يقتدون بالله بالمحبة التي يكنّونها للبشر: يمارسون الرحمة تجاه الفقراء، يفتدن السجناء، يدفنون الموتى، ويقومون بأعمال مماثلة يرضى عنها الله ويقدّرها البشر".
ولكن حين يسمّي كما "الأعمال الصالحة" التي تُفرض على التلاميذ، فهو يوسّع المدلول اليهودي: إنه يدلّ على السلوك المسيحي كله، على ما تقول خطبة الجبل. ثم إن "الأعمال الصالحة" تخسر هنا طابعها الاختياري (نقوم بها أو لا نقوم، بل هي مفروضة على التلميذ) والجزاء الذي ننتظره يرجع إلى المقام الثاني. فما يهمّ بالدرجة الأولى هو مجد الله.
هذا المجد يبرز بشكل غير مباشر بواسطة البشر الذين أمامهم تتمّ هذه الأعمال. هذا لا يعني أننا نعمل "لكي يرانا الناس" (لكي نُرى من الناس، 6: 1، 16، 18؛ 23: 5، 28).: فتلميذ المسيح يتحفّظ من كل تظاهر وتباهٍ. يكفيه أن يكون أميناً. فالجملة تبدو في قراءة حرفيّة: "حتى، إذا رأوا أعمالكم الصالحة، مجّدوا...). نحن نعمل ببساطة ونترك الله "يهتمّ" بمجده الخاص.
هذه الفكرة تلتقي والتقليد البيبلي: ننتظر إعجاب الوثنيين ومديحهم، حيث يرون العظائم التي يحقّقها الله في شعبه. يقولون: "الله هو عندك وحدك، وليس أحد سواه. لا آلهة غيره! حقاً الله يختفي عندك، إله إسرائيل المخلّص" (أش 45: 14- 15؛ رج تث 4: 6- 7؛ يش 2: 10- 11؛ أش 42: 11- 12؛ 49: 7؛ 60: 6. وهناك العكس: خطايا إسرائيل تجعل الوثنيين يجدّفون على اسم الله: مز 79: 10؛ أش 52: 5؛ حز 36: 20؛ روم 2: 24). وتنقل الخلفيّة اليهوديّة الموضوع إلى مجال الطاعة للوصايا: "إذا فعلتم ما هو صالح، يا أبنائي، بارككم البشر والملائكة وتمجّد الله وسط الأمم (الوثنية) بسببكم" (وصية نفتالي، 8: 4). ويقول مدراش مز 67: 6: "الأمم يمدحونك، لماذا؟ لأن القدوس، تبارك اسمه، يُبرز برّ بني إسرائيل".
والهمّ ذاته يحزك كتّاب العهد الجديد (1 تس 4: 12؛ كو 4: 5). غير أن فكرة مديح الله التي "يسبّبها" سلوك المسيحيين الصالح، لا تظهر إلا هنا وفي 1 بط 3: 12 الذي يقدّم مقطعاً مماثلاً لما في مت. "لأن عيني الرب إلى الصديقين". يزيد الرسول نظرة اسكاتولوجية (أش 10: 3؛ إر 6: 15؛ 10: 15؛ رسالة اكلمنضوس الأولى) لا نجدها في مت الذي يجعل الجزاء محصوراً في الزمن الحاضر.
إن ارتداد الوثنيين الذي هو الهدف الجوهري في المسيحيّة الرسوليّة، يبدو هنا كمحطة متوسّطة. لا شك في أنه وُجد بشكل خفيّ في هذا التعليم، ولكنه اختفى شيئاً فشيئاً ليترك المكان لمجد الله. وهذا ما يؤدّي إلى استنتاجات عمليّة: يقوم هدف خدمتنا بأن نُذكّر الناس بالله، بأن نجعل صلاح الله منظوراً، بأن ندعوهم إلى امتداح نعمة الله امتداحاً يرافقه عرفان الجميل. فإن طلبنا "مجدنا" الخاص، نكون قد أضعنا خدمتنا. فالنجاح الحقيقي الوحيد يقوم بأن ينتج عن عملنا مجدُ الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM