الفصل السابع عشر: التطويبات

 

الفصل السابع عشر
التطويبات     5: 1- 12

في بنية الانجيل الأولى هنا تبدأ الخطبة الأولى بين الخطب الخمس التي تكوّن اللحمة الأساسيّة في إنجيل متّى. هذه الفصول الثلاثة (5- 7) تنتهي بعبارة (7: 28) تشبه ما في نهاية الخطب المتاوية (ولما فرغ يسوع من كلامه... رج 11: 1؛ 13: 53؛ 19: 1؛ 26: 1)، وترتبط بما نقرأه في العهد القديم حسب السبعينيّة (يش 11: 4؛ قض 3: 18؛ 1 صم 13: 10). إذن، لا نجعل من هذه الفصول الثلاثة ملخّصاً لانجيل متّى، إنها بالأحرى جزء منه.
وفعلَ يسوع مثل الرابانيّين في عصره. ابتعد عن المدن والقرى. ابتعد عن المجامع وأماكن التعليم المختلفة، ليحدّث تلاميذه في هدوء الطبيعة. ولم يحصر يسوع تعليمه في تلاميذه، بل وسّع حلقة "المتعلّمين" فوصل إلى كل الذين يريدون أن يسمعوا كلامه. إلى جموع جاءت من الجليل واليهوديّة... إلى جموع جاءت إلى الكنيسة في أيام متّى. إلينا نحن اليوم.

1- طوبى، طوبى
دشّن يسوع ملكوت الله بالأشفية والتعليم في المجامع. وتبعه بعض التلاميذ. وهكذا لم تكن عظة الجبل بداية مطلقة: فيسوع يتوجّه إلى أناس أدركتهم نعمة الابن وسحرهم مجيء الملكوت فقبلوا متطلباته. وهذه العظة ليست تنظيماً بسيطاً للحياة اليهوديّة، ولا مثالاً لا يتحقّق، ولا نظاما شاذاً يتوجّه إلى البعض أو بمناسبة اقتراب الدينونة. هذه العظة هي خطبة تتوجّه إلى التلاميذ، وبالتالي إلى جميع المسيحيّين. تتوجّه إلى مسيحيّين جاؤوا بأكثريتهم من العالم اليهوديّ فعرفوا شريعة موسى والممارسات الكبرى من صدقة وصلاة وصوم.
نبدأ دراستنا لهذه العظة التي تعكس زمن يسوع وزمن متّى، بالتطويبات، بسعادة التلاميذ الذين تبعوا يسوع وأخذوا بمتطلّباته.
أ- مقدّمة عظة الجبل (5: 1- 2)
إن آ 1 تدلّ على إطار الخطبة: الجبل في المعنى الأول هو جبل قريب من كفرناحوم، قد يكون المسيحيّون اعتادوا أن يحجّوا إليه. لهذا ورد مع أل التعريف (تو اوروس. رج لو 6: 12 ومر 3: 13 الذي هو أساس النصّ المتاوي). وفي المعنى الثاني يلمّح مت إلى الجبل الذي عليه تقبّل موسى الشريعة من أجل شعبه (خر 19- 24). فيسوع هو موسى الجديد. هو النبيّ والمشترع الذي يعلن البشارة ويقدّم شرعة الملكوت التي تستعيد الشريعة القديمة لكي تصل بها إلى كمالها. هنا يحارب متّى على جبهتين. الأولى، هناك بعض المسيحيّين اليهود يظنّون أن الإيمان بالمسيح يلغي الشريعة ومتطلّباتها كما عُرفت في العهد القديم. الثانية: هناك آخرون يعتبرون الكنيسة كالوارثة والحافظة لكل الممارسات المدوّنة في الشريعة (حتى ما نجده في سفر اللاويين حول الذبائح والأطعمة الطاهرة! حينئذ تصبح الكنيسة شيعة يهوديّة).
غير أن حرب الانجيليّ هي أكثر تشعّباً: فإذا كان "المحافظون" يرون في الكنيسة اليهوديّة الحقّة، فقد يضمّون إليهم الحلقات اليهوديّة التي عرفت انطلاقة جديدة بعد دمار أورشليم (70 ب م)، أو يستبعدون الوثنيين الذين يجتذبهم المسيح لا العالم اليهوديّ. لهذا كان مت قاسياً على "الكتبة والفريسيين". مقابل هذا هناك تيّار يودّ التخلّص من الشريعة فيشوّه وجه يسوع، مسيح اسرائيل الحقيقيّ، ويغلق الباب على اليهوديّ الحقيقيّ، ويجعل اليهوديّ الذي صار مسيحياً يشكّ في تجذّر الكنيسة في الكتاب المقدّس. هنا يُفهمنا مت الأمانة للعهد القديم فهماً يتجاوز العالم اليهوديّ.
ويتجاوز مت هذه التوتّرات دون مساومة. بل يتجاوزها فيقول: لا يُلغى شيء من الشريعة. ولكن الشريعة كلها قد خضعت للتفسير الذي يعطيه يسوع في تعميق لأخلاقيّة العهد القديم. ففي هذه السلطة المعترف بها ليسوع، يكمن الخيار الحاسم لتلميذ الملكوت، وليس في خلاف بين اليهوديّ والمسيحيّ على نوعيّة التعليم الأخلاقيّ.
تميّز التلاميذ عن الجموع فاقتربوا من يسوع وكوّنوا حول المعلّم حلقة حميمة. كان مت حتّى الآن قد تحدّث فقط عن اختيار الأربعة الأولين. أما تسمية الاثني عشر فستكون في ف 10. هنا نفهم ما هو التلميذ في نظر متّى: سامع خاضع لكلمة يسوع. مستعدّ لأن يتبعه ويوافق حياته مع تعليمه. وهؤلاء التلاميذ سيعملون في ما بعد لكي يتلمذوا جميع الأمم.
إن آ 2 التي تبدو "حشواً ولغواً" للوهلة الأولى (فتح فاه، علّم، قال) هي في الواقع تعبير بيبليّ (دا 10: 16: فتحت فمي، وتكلّمت، وقلت؛ أي 3: 1؛ أع 8: 35) مع تشديد على أهميّة الخطبة التي سوف نقرأ. "جعل يعلّمهم" (مبدأياًّ: التلاميذ). والتعليم وجهة أساسيّة من خدمة يسوع بحسب مت (كرازة، تعليم، شفاء، 4: 23). وهي تنعم بالسلطان الإلهي، شأنها شأن الوجهتين الأخريين (7: 29: يعلّمهم كمن له سلطان؛ 8: 19: يا معلّم، أتبعك إلى حيث تذهب).
ب- وحي التطويبات
التطويبات أو الطوباويات الانجيلية (ما أسعد، ما أهنأ، هنيئاً) ترتبط بفنّ أدبي قديم. ففي اليونانيّة الكلاسيكيّة، تُحفظ الصفة "ماكاريوس" (سعيد) بشكل عام للآلهة لأنهم يمتلكون الخلود. وقد تدلّ على سعادات بشريّة كرّستها الحكمة الشعبيّة: سعادة الزوج بزوجته. سعادة العازب الذي يحبّ العيش وحده. سعادة الوالدين بأبناء عديدين. سعادة الحكيم. وبعد ذلك، سعادة المتدرّج الذي يدخل في "أسرار" ديانته. "ماكاريوس" تعبرّ عن سعادة الذي يعرف ارتياحاً في المجتمع وفي العالم.
كانت هذه السعادة قد دخلت دخولاً عميقاً إلى العالم اليهوديّ في زمن يسوع فامتزجت بمواضيع توراتيّة. "طوبى لمن تزوّج امرأة عاقلة. طوبى لمن وجد الحكمة. ولكن لا أحد يتفوّق على من يخاف الربّ" (سي 25: 7- 11). أما سعادة صاحب المزامير فتختلف عن سعادة الحكيم اليونانيّ. هي ثقة شخصيّة بالله يسخر منها المترفّعون. هي تعلّق بوصاياه.
لا نجد "ماكاريوس" عند مر. أما مت ولو فقد أوردا اللفظة بعض الشيء. وبفضل السياق الذي وردت فيه، نستطيع أن نكتشف السمات الكبرى للتطويبات الانجيليّة. مت 11: 6= لو 7: 23. "طوبى لمن لا يشكّ فيّ". طوبى لمن لا يتعثّر (يسقط) بسببي. ما هو الموقف الذي يتّخذه من يسوع؟ مت 13: 16: "طوبى لعيونكم لأنها تُبصر، ولآذانكم لأنها تسمع" (رج لو 10: 23: طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنتطرون). أجل، أنتم سعداء. هنيئاً لكم. مت 16: 17: "طوبى لك يا سمعان بار يونا"؛ 24: 46: "طوبى لذلك العبد الذي، إذا جاء سيّده، وجده يفعل هكذا"؛ رج لو 12: 37 (العبيد الساهرون)، 38، 43؛ رج أيضاً 1: 45 (كلام اليصابات لمريم: طوبى لتلك التي آمنت)؛ 11: 27- 28 (طوبى للبطن الذي حملك... بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها)؛ 14: 14، 15 (طوبى لمن له نصيب في ملكوت الله).
نلاحظ توجّهات أساسيّة أربعة في هذه الطوباويات. الأول: يتصوّر سعادة تجد ينبوعها في حضور يسوع ونشاطه. وهو يتركّز على المسيح. الثاني: هذه السعادة هي اسكاتولوجيّة، أي ترتبط بنهاية الأزمنة، ولكنها تبدأ منذ اليوم. قالت التقوى اليهوديّة: "طوبى لمن له نصيب في وليمة ملكوت الله" (قريباً جداً). فتحدّث يسوع عن سعادة حاضرة، ولكنها ما زالت خفيّة، وستسطع في كل جمالها في الملكوت الآتي: "طوبى لأعينكم لأنها ترى (الآن) ما ترون".
التوجّه الثالث: ليست هذه السعادة معطية ملموسة من معطيات الخبرة، ولا انصياعاً هادئاً لنصيب أعطي لكل مائت (لا يستطيع أن يفعل شيئاً فيتقبل حظّه وكأنه القدر!). هذه السعادة قد أعلنها يسوع، وعد بها، وأعطاها للذين يسمعون كلمته ويعملون بها بإيمان وسط الواقع القاسي والظروف الصعبة. هي سعادة تبدو بشكل مفارقة: فرح مع الألم والفقر. التوجه الرابع: إن لهذه السعادة طابعاً كونياً. ما يحدث في العالم، ما تراه العيون وتسمعه الآذان، يُفرح قلب تلاميذ يسوع. لسنا فقط على مستوى الفكر والعواطف. هي الخليقة تُسعد المؤمن، ولكن الخليقة بعد أن أصلحها المسيح وأعادها إلى وجهتها الأولى.
ج- تعليم خلاص ومثال حياة
أولاً: نظرة عامة
تتضمّن هذه المقطوعة التي ندرس (5: 1- 12) تسع تطويبات. تسير الثماني الأولى بشكل منتظم: هي قصيرة ومتوازية، وتؤلّف مجموعة متراصّة. كل منها تتضمّن عنصرين اثنين: من تتوجّه إليه، والوعد. "طوبى للفقراء... لأن لهم". إن التطويبة الأولى تُشرف على السبع الباقيات فتقدّم لنا المناخ الروحيّ الذي فيه نقرأ كل التطويبات. وفي بداية السلسلة وفي نهايتها يلفت أنظارنا الوعدُ بملكوت السماوات. وهذا الوعد سوف نسمعه على مدّ التطويبات. والمستفيدون من هذه "السعادة" يرتبطون بـ "الفقراء"، بـ "المساكين" من قريب أو بعيد.
وتأتي التطويبة التاسعة مختلفة كل الاختلاف. تبدو في صيغة المتكلّم الجمع (أنتم، تتوجّه إلى المسيحيّين المضطهدين). هي تتوجّه إلى سامعين وتطلب منهم موقفاً. ترد في جملة واسعة فتبدو قريبة من التطويبة الثامنة. إنها تعني المضطهدين وتعدهم بأجر في السماء. وهكذا تتوافق كل الموافقة مع مجمل التطويبات بعد أن ترتبط بها بواسطة التطويبة الثامنة.
ثانياً: تعليم خلاص
التطويبات هي قبل كل شيء إعلان الانجيل، إعلان البشارة. فبسبب حضور المسيح "اقترب ملكوت السماوات". هذا هو الخبر الطيّب والسعيد. ويكرّر المعمدان ويسوع والتلاميذ العبارة ذاتها في ألفاظ مماثلة (3: 2؛ 4: 17؛ 10: 7: ملكوت السماوات قريب). سوف يتحقّق موضوع مواعيد الله. الخلاص هو قريب. بل هو هنا.
وحدّدت التطويبات في مدخل العظة على الجبل منذ الآن من هم أولئك الذين ينعمون بالموهبة الإلهية التي يحملها يسوع. الملكوت هو هنا بالنسبة إلى الفقراء والحزانى والجياع والمضطهدين. وهكذا يحدّد يسوع على عتبة تعليمه طبيعة مسيحانيّته. أي مسيح هو؟ مسيح الأقوياء والعظماء والأغنياء كما قالت شريحة واسعة من العالم اليهوديّ. أم مسيح يعرف الضعف والألم ويتوجّه إلى الفئات المهمّشة في المجتمع؟ هذه الناحية الثانية قد نساها الفكر المسيحانيّ الذي نجد جذوره في التوراة.
هنا نسمع ما قاله أشعيا عن زمن الخلاص وعمل عبد يهوه (عبد الله) وسط شعبه، بل وسط الشعوب. "وفي ذلك اليوم يسمع الصمّ أقوال الكتاب، وتُبصر عيون العمي بعد انغلاق على السواد والظلام. يزداد المساكين فرحاً بالرب ويبتهج البؤساء بقدّوس اسرائيل" (29: 18- 19). وحدّث الرب عبده وعابده فقالت له: "أجعلك نوراً للأمم وخلاصاً يصل إلى أقاصي الأرض... فتقول للأسرى: اخرجوا. وللذين في الظلام: إظهروا (تعالوا إلى النور بعد أن اختبأتم)... لا يجوعون ولا يعطشون... لأن الربّ يعزّي شعبه ويرحم البائسين" (49: 6- 13). ونقرأ في 61: 1- 3: "روح السيّد الربّ عليّ، لأن الربّ مسحني. أرسلني لأحمل البشارة (بشّر، أنجل أي حمل الانجيل والخبر الطيّب) إلى المساكين، لأنادي للمسبّيين بالحرية... لأعزّي جميع النائحين".
ارتبط يسوع بهذه النبوءات الكبيرة، فأعلن أنها تمّت الآن. ودلّ على نفسه أنه المسيح الذي يدشّن أزمنة الخلاص التي وُعد بها المساكين والحزانى. وسيعود يسوع أيضاً إلى أقوال أشعيا في جوابه إلى مرسلي يوحنا الذين سألوه: "أأنت هو الآتي"؟ قال: "العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيّ".
يتضمّن الاتجاه الخاص بالنظرة المسيحانيّة وحياً رئيسياً سيشدّد عليه يسوع بطرق مختلفة. جاء إليه الأولاد، فقال كما قال عن المساكين: "ملكوت السماوات هو لهم". توسّل المرضى إلى حنانه فشفاهم. عاشر الخطأة ودلّهم على رحمة الله. ففي المسيح قدّم الله خلاصه لكل الذين لا يملكون شيئا فلا يستطيعون إلا أن يفتحوا أيديهم. الله هو الربّ المتسامي ولا يستطيع إلا أن يُعطي. وتقول لنا التطويبات بكلمات بسيطة وأخّاذة سخاء حبّ الله ومجانيّته.
ثالثاً: مثال حياة
إذا عدنا إلى المضمون الأولاني للتطويبات، فهمنا أنها تعني المساكين والحزانى والجياع والمضطهدين. ويسوع يتطلّع إلى كل هؤلاء في خطّ التقوى اليهوديّة: فمع استعداداتهم الحميمة، موقفهم هو موقف فقراء أمام الله. فالوضع الماديّ يدفعهم إلى أن يتوجّهوا إلى الله كمخلّصهم الوحيد. والله لا يطلب إلا هذه العاطفة منهم لكي يغمرهم بعطاياه. فموقفهم من التقبّل والتواضع يوافق كل الموافقة مبادرته المطلقة من أجل "المساكين" وعظمة عطاياه من أجل "المحتاجين" من كل نوع.
هنا نأخذ بموقف الأب "دوبون" الذي يرى في أساس مت 5: 1- 12 ولو 6: 20- 23، وثيقة سابقة موجزة يمكن أن نعيد تكوينها كما يلي: "طوبى للمساكين (للفقراء) لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى لأنهم يُعزَّون. طوبى للجياع (والعطاش) فإنهم سيُشبعون. طوبى لكم إذا أبغضوكم وطردوكم وأهانوكم وعيرّوكم بسبب ابن الإنسان: افرحوا وابتهجوا لأن أجركم عظيم في السماوات. فهكذا اضطهدوا الأنبياء الذين كانوا قبلكم". فهذا "المصدر" الذي حمله التقليد الشفهيّ وحياة الكنيسة، يستطيع وحده أن يفسّر التشابهات والاختلافات بين مت ولو. أبرز لوقا الظروف الملموسة (الفقر الحقيقيّ) التي فيها يتجذّر الاستعداد الروحيّ. وأوضح متّى المواقف الداخليّة (الفقر الروحيّ) التي تؤمّنها مثل هذه الأوضاع.
كما أن المعجزات تُمنح للمرضى بالنظر إلى استعداد إيمانهم، كذلك يُعطى الملكوت للذين تجعلهم استعدادات قلبهم كالأطفال والصغار (18: 1- 4؛ 19: 4). لقد جاء يسوع من أجل الخطأة المستعدين للتوبة، وللارتداد الذي يفتح الملكوت.
فبفضل الاستعدادات الدينيّة والخلقيّة، يمثل هؤلاء المساكين الذين يريد الله أن يغمرهم بخيراته، مثالاً يجب أن يقتدي به كلُّ الذين يريدون أن ينعموا برضى الله وخلاصه. فالتطويبات التي عبرِّ عنها بشكل شامل، تتضمّن نداء يُسمعه يسوع إلى كل الذين يريدون أن يكونوا تلاميذه على هذا الشكل.
وهذا النداء الذي انتقل عبر حلقة السامعين الأولين، قد أعيدت كتابته في مت مع تشديد على الاستعدادات الروحيّة. لا يتكلّم الانجيل الأول فقط عن الفقراء أو الجياع، بل عن الفقراء بالروح أو عن الجياع إلى البرّ والعيش حسب مشيئة الله. وزاد النداء إلى الوداعة والرحمة ونقاوة القلب وعمل السلام. وهكذا صرنا على المستوى الأخلاقيّ. صرنا أمام لائحة من الفضائل، أمام برنامج كمال.
غير أن هذا البرنامج يبقى خاضعاً لوعد الملكوت، لإعلان الخلاص (يدلّ على شروط لبلوغه هي في متناول كل إنسان). ويتجاوب مع نيّة المعلّم الذي وجّه تعليمه إلى كل الأمم. كما يستعيد تعاليم ليسوع جاءت من قرائن أخرى أو قيلت في ظروف مختلفة، فدوّنها على ضوء الممارسة التي عرفتها الكنيسة في نهاية القرن الأول المسيحيّ.

2- من المساكين وإلى الجياع والعطاش (5: 3- 6)
أ- طوبى للمساكين بالروح (آ 3)
إن لفظة "مسكين" (أو: فقير) تدلّ في نظر سامعي يسوع على حالة حقيقيّة من البؤس، وعلى استعداد نفسيّ خاص. فالمساكين (ع ن و، ع ن و ي م) في العهد القديم هم المحرومون من خيرات الأرض، هم الذين لا يملكون إلا القليل من أجل "عيالهم" فيتألّمون من هذا الوضع. هم "الوضعاء" في المعنى الاجتماعيّ للكلمة. ففقرهم يجعلهم في المستوى الأدنى فيحتقرهم الآخرون ويضايقونهم.
وقد هاجم الأنبياء بقوّة ضيق الفقراء على يد الأغنياء، كما أعلنوا بقوة أن الله يفضّل الفقراء والوضعاء. قال الربّ لشيوخ الشعب وحكامه: "ما بالكم تسحقون شعبي وتدوسون كرامة البائسين" (أش 3: 15). وقال أيضاً: "أنا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والذي يخاف كلمتي" (أش 66: 2). وفي سفر المزامير نسمع صراخ المساكين في ضيقهم، ونداء به يعبّرون عن ثقتهم بالله الذي يخلّصهم. "إسمع آهات المساكين، وقوِّ قلوبهم يا رب" (10: 17). "تخلّص القوم المساكين وتُخفض عيون المتكبرّين" (18: 28).
مساكين ووضعاء أمام الله. وهكذا سيطرت النفحة الدينيّة على معنى الكلمة. و"مساكين الرب" يتميّزون خصوصاً بوعيهم لضعفهم، وبانفتاح تامّ على الله وحده، وباشتياقهم إلى خلاصه، وبثقة كبيرة بحبّه. ونرى التوراة تماهي بين المساكين والصدّيقين أو الأتقياء (يخافون الله، يرجونه)، وتجعلهم تجاه الأغنياء بما فيهم من كبرياء بالخلاص المسيحاني (صف 3: 11- 12؛ أش 26: 6؛ 41: 17).
هؤلاء هم مساكين التطويبة الأولى. وحين يوضح متى فيقول "المساكين بالروح"، فهو يستخلص بالنسبة إلى الذين يتوجّه إليهم اليوم التعليم الانجيليّ، المضمون الجوهريّ للكلمة حسب التوراة وفكر يسوع. وهكذا يعير الانتباه إلى هذا الاستعداد النفسيّ الأساسيّ الذي يحدّد موقع الفقر أمام الله، والذي نسمّيه الفقر الروحيّ أو التواضع. هذا ما يفترض الفقر المادّي، كما يفترض التجرّد من الخيرات الزمنيّة (رج 6: 19- 33).
المعنى الحقيقيّ للفقر هو هذا التعلّق بالله وحده، هذا التسليم المطلق للربّ. لقد طلب يسوع من الشاب الغني، كما طلب من التلاميذ، أن يترك كل شيء. ولكنه مضى حزيناً، لأن غناه أسر قلبه فمال به عن الله. والتجرّد المطلوب ليس إلا شرطاً يستند إليه الموقف الداخليّ. أتخلّى عن ذاتي وعن وسائلي الخاصة، وأستعدّ لأن أنتظر كل شيء من الله وحده.
كل الذين يريدون أن يسمعوا هذا النداء إلى الفقر في الروح، نالوا وعداً بخيرات الملكوت. والملكوت هو خلاصة الخيرات المسيحانيّة. هو الغنى الحقيقيّ، واللؤلؤة الفائقة الثمن، والكنز المخفيّ الذي لا يقابله شيء (13: 44- 46). وهو يسمو على جميع قيم هذا العالم، لأنه يرتبط بنظام آخر. وحين نعمّق الخبرة المسيحيّة، نفهم أن الملكوت (والحياة الأبديّة، والخلاص) هو أن "نمتلك" الله نفسه الذي يعطي ذاته لنا في المسيح.
ب- طوبى للودعاء (آ 4)
هذه التطويبة خاصّة بمتّى. في الواقع هي تستعيد بألفاظ أخرى، تطويبة المساكين. والتعبير عنها يستلهم مز 37: 11: "المساكين يرثون الأرض". فالمزمور كلّه يحدّثنا عن موقف يفرض نفسه على مساكين الربّ تجاه غنى الأشرار: الصبر والهدوء، الاستسلام المتواضع لله والاتكال على حبّه. أما الخلاص فيأتي في أوانه. ويعود الوعد بامتلاك الأرض أربع أو خمس مرات. "لا تغر من أهل السوء... سلّم إلى الربّ أمرك واتّكل عليه وهو يدبّر... انتظر الربّ واصبر أمامه... فالودعاء يرثون الأرض وينعمون بسلام عميم... الصديقون يسندهم الربّ" (مز 37).
حين ترجمت السبعينيّة "عناويم" (الفقراء، الوضعاء) بلفظة "براوس" (ودعاء) أبرزت هذا الموقف المليء بالسلام والأمان أمام الله. وفي الانجيل، ترتبط هذه التطويبة بتطويبة الرحماء ومحبّي السلام، فتدلّ على موقف دينيّ من الوداعة واللطف والدماثة والحنان تجاه الآخرين، كما ترفض القساوة والعنف والتمرّد.
اهتمّ مت بشكل خاصّ بهذه الفضيلة. فعظة الجبل تطلب منّا أن لا نقاوم الشرير، أن لا ننتقم وإن صُفعنا (5: 39 ي). ولقد قدّم يسوع نفسه علي أنه مثال الوداعة فقال: "تعالوا إليّ أيها المتعبون والثقيلو الأحمال... تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (11: 28- 29). ويوم دخل يسوع إلى أورشليم دخولاً احتفالياً، تفرَّد مت فأورد كلام زك 9: 9 عن المسيح الذي يأتي في الوداعة لا في العنف الذي تشير إليه الفرس وعجلة الحرب. "ها ملكك يأتي إليك. إنه وديع ويركب حماراً، على جحش ابن آتان. يزيل من افرائيم عجلات الحرب ومن أورشليم الجياد. تزول قوس الحرب. هو يعلن السلام للأمم" (رج مت 21: 5).
"الودعاء يرثون الأرض". يمتلكون الأرض حقاً كميراث لهم، ولا يأخذها أحد منهم. إن عبارة "ورث الأرض" تعود إلى مواعيد الله للآباء (تك 15: 7) بأن يعطيهم نسلاً، ومع النسل أرضاً لأبنائهم: أرضاً تدرّ لبناً وعسلاً، أرضاً فيها كل خير. وفي هذه الأرض الموعودة، تكون لكل قبيلة حصّة خاصّة بها. بعد القرن الثامن ق م وخصوصاً بعد المنفى، انتقلت فلسطين إلى الوثنيين، فتجدّدت المواعيد الإلهيّة في منظار اسكاتولوجيّ. حُفظ ميراث الأرض للأبرار وحدهم، لبقيّة المخلّصين (أش 57: 13؛ 60: 21؛ 65: 9). وصارت العبارة تدلّ على وفرة الخيرات المسيحانية، على عظمة السعادة التي يتمتّع بها الشعب في نهاية الأزمنة.
وفي العهد الجديد تطوّر الموضوع. فموضوع الميراث هو الملكوت (25: 34؛ 1 كور 6: 9- 10؛ 15: 50؛ غل 5: 21؛ أف 5: 5)، الحياة الأبديّة (19: 29؛ مر 10: 17؛ لو 10: 25، 18: 18؛ تي 3: 7)، الموطن السماوي (عب 11: 8- 16). وهو يُعطى للمسيحيّين الذين صاروا وارثين لأنهم أبناء الله في المسيح (غل 4: 7؛ روم 8: 17). وعربون هذا الميراث يُعطى لنا في موهبة الروح القدس (أف 1: 14). والوعد بالميراث في هذه التطويبة يوازي الوعد بالملكوت ويبدو قريباً جداً من الوعد بأننا أبناء الله.
ج- طوبى للحزانى (آ 5)
هذه التطويبة تجد ما يقابلها في لو 6: 21. يبدو تعبير مت أقدم من تعبير لو. لا نجد هنا انتقالاً من مستوى ماديّ إلى مستوى روحيّ. ولسنا أمام فضيلة نقتدي بها كما في الفقر الروحيّ والوداعة. بل نحن أمام وضع صعب وحالة من الامتحان نمرّ فيها. ولا شيء يعبرّ عن البعد الدينيّ إلا إطار التطويبات واستلهامها نبوءة أشعيا ودورها في الوحي الذي يحمله المسيح.
مع هذه التطويبة، ما زلنا في عالم فقراء يهوه، وكل الذين يتطلّعون في ضيقهم إلى الربّ، ويستسلمون إلى حبّه. إنهم ينضمّون إلى شعب الله في أعظم محنة عرفها تاريخه، وهي محنة دلّت على ساعة عودته الأخيرة إلى الله. حينئذ أسمعه الله صوته، صوت الحنان والأمومة. "عزّوا، عزّوا شعبي" (أش 40: 1). "الربّ عزّى شعبه، ورحمه مشفقاً على بؤسه. قالت صهيون: تركني الربّ! تركني ونسيَ السيّد! فأجاب الربّ: أتنسى المرأة رضيعها؟ ألا تعود ترحم ثمرة بطنها؟ لكن ولو أنها نسيت، فأنا لا أنساك يا أورشليم. ها على كفّي رسمتك" (49: 13- 16). "وكما تعزّي أم ابنها أنا أيضاً أعزّيكم" (66: 13).
إن العودة بعد المنفى كانت مخيّبة للآمال. وظلّ الناس دوماً يرجون العزاء الحقيقيّ، والخلاص الاسكاتولوجيّ الذي يحمله عبد الرب للحزانى (أش 61: 2: أعزي جميع النائحين في صهيون). وعلى عتبة العهد الجديد، انتظر الأتقياء مثل سمعان الشيخ عزاء اسرائيل. انتظروا مسيح الربّ.
وقد أخذ يسوع على عاتقه مهمّة عبد الربّ: بكرازته للوضعاء، بندائه للمتعبين، بمعجزاته من أجل البؤساء، بذبيحته من أجل جميع البشر. وساعة انطلاقه سيعد تلاميذه بمعزٍّ آخر، الروح القدس، روح الحق الذي لا يستطيع العالم قبوله. وهذا الروح سيبقى معهم إلى الأبد (يو 14: 16- 17).
د- طوبى للجياع والعطاش (آ 6)
حين دوّن متّى هذه التطويبة، طبعها بطابعه الخاص. "فالجوع" الذي تحدّث عنه يسوع (لو 6: 20) انتقل إلى مستوى روحيّ محض، إلى المستوى الباطنيّ. وهكذا دلّ الجوع على تشوّق النفس إلى "البرّ" الذي هو موضوع اهتمام الانجيليّ الأول.
عنى تعليم يسوع في انطلاقه الأول، الجياع، المساكين الذين لا خبز لهم يأكلونه. والجوع هو وجهة تدلّ على فقرهم. ونتذكر ويتذكرون أيضاً ما نقرأه في التوراة: الطعام عطيّة من الله. فالله أطعم شعبه وسقاه في البرّية. وحين نتلو الصلاة الربيّة نطلب من الآب السماوي خبزنا كفاف يومنا (6: 11). فكل خير هو عطيّة من الآب الذي به يرتبط الإنسان في حياته كلها. والجائعون هم "مطوَّبون"، لا لأنهم جائعون، بل لأنهم مدفوعون، أكثر من سواهم، لكي يتطلّعوا إلى الربّ صاحب كل عطيّة.
إذا عدنا إلى الكتب المقدّسة، نرى أن الجوع والعطش (وكل طعام) هما صورة تدلّنا على شيء آخر: جوع وعطش إلى كلمة الله (تث 8: 3). جوع وعطش إلى الله نفسه. وتتواصل هذه الصورة في العهد الجديد: فيسوع كسرّ الأرغفة للجائعين، ووزّع كلمته، وجعلنا نستشفّ خبز الله الحقيقيّ (يو 6: 1 ي)، ووعدنا بالماء الحيّ الذي هو الروح القدس (يو 7: 37- 39؛ رج 4: 10- 14).
وصوّرت الكتبُ السعادةَ الاسكاتولوجيّة بشكل وليمة غنيّة (أش 25: 6؛ 55: 1؛ 56: 13). وليمة تدلّ على الوفرة والارتياح، حيث تشبع كل رغبة. وليمة وُعد به الفقراء بصريح العبارة (مز 23: 1 ي؛ أش 55: 1). وارتبطت صورة الوليمة المسيحانيّة (في الانجيل) بموضوع الملكوت والعيد مع المسيح. "كثيرون يأتون من المشرق والمغرب ويتّكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات" (8: 11). وقال يسوع: "وأنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي، فتأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي" (لو 22: 29- 30). ونقرأ في رؤ 3: 20: "ها أنا ذا على الباب وأقرع، فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه فأتعشّى معه وهو معي".
هذا هو اتجاه تعليم يسوع. لقد وعد المساكين بالغنى الحقيقيّ. ووعد الجياع والنفوس الراغبة بسعادة حقيقيّة يعطيها الله نفسه خلال الوليمة المسيحانيّة وضمّ الانجيلي إلى هذا القول الأولاني، تعليماً وصل إليه من المسيح فأثّر فيه تأثيراً كبيراً. في عظة الجبل، احتفظ متّى وحده بقول من أقوال يسوع يقول: "إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (5: 20). ويفسَّر هذا المبدأ في سلسلة طويلة من الكمالات جاء بها يسوع إلى الشريعة وفصّل مضمون البرّ المسيحيّ (5: 21- 48). واحتفظ مت أيضاً وحده بهذه الفريضة: "احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس" (6: 1). وسيحدّد الانجيل الأول هذه العاطفة في ممارسة الصدقة والصلاة والصوم في الخفية، أمام الله وحده (6: 2- 18).
ونجد في العظة نفسها: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه" (6: 33). أجل، نطلب الملكوت في الفقر. والباقي يأتي زيادة. قبل كل شيء نتوافق مع متطلّبات البرّ أي القداسة، أيّ مثال الكمال الذي تقدّمه عظة الجبل. والوعد: الله سيشبعنا نحن الذين طلبنا منه. الله يعزّينا نحن الذين نبكي. الله يشركنا في وليمة الملكوت في السعادة المسيحانيّة شرط أن نكون من هذه النفوس المغرمة بالمسيح وبالمثال الذي تركه لنا.

3- من الرحماء إلى المضطهدين (5: 7- 12)
أ- طوبى للرحماء، (آ 7)
هذه التطويبة الخاصة بمتّى، تُترجم تعليماً ليسوع يرد مراراً في الأناجيل وفي تعابير قريبة من هذه الآية: واجب الرحمة على مثال الله نفسه، لكي ننال الرحمة في اليوم الأخير.
نفهم هذه التطويبة في ارتباطها بالتطويبات السابقة. فالوضعاء في اختبارهم للفقر والجوع والألم، في وعيهم لضعفهم، هم مهيّأون أكثر من غيرهم وفي وجوه عديدة لأن يتطلّعوا إلى الله، ويفتحوا قلبهم لآب المراحم، كما هم مهيّأون ليشاركوا إخوتهم في شقائهم ويعينوهم على قدر إمكاناتهم. وما يشجبه العهد القديم والعهد الجديد عند الأغنياء، ليس فقط تكبرّهم ورضاهم عن ذاتهم أمام الله، بل وأيضاً قساوة قلوبهم تجاه الفقراء وغياب كل رحمة تجاه الوضعاء.
والكتاب المقدس يُنشد من أقصاه إلى أقصاه الحنان العظيم الذي يحرّك قلب الله، وأمانة حيّه الأزليّة، وغفرانه الذي لا يتعب، ورحمته التي لا حدود لها. فالله يحبّ كما الأب يحبّ. وما يريد أن يراه عند أبنائه أكثر من التقوى والذبيحة، هو الرحمة (هو 6: 6). ولقد ردّد يسوع نصّ هوشع هذا مرتين كما يقول متّى. مرة أولى حين لامه الفرّيسيون لأنه يعاشر الخطاة وجباة الضرائب (9: 13). ومرة ثانية حين اتّهم تلاميذه الذين اقتلعوا سنبلاً يوم السبت وأكلوا (12: 7). فالمسيح يكشف في شخصه عن رحمة الآب. وهو يتأثّر أمام الجموع التي تتبعه كخراف لا راعي لها، ويهتمّ بتعليمها. ومن طلب منه الرحمة، منحه عطاياه بلا حساب.
ونعبرّ نحن عن الرحمة في غفران الإساءات، في اللطف مع الضعفاء، في خدمة الوضعاء، في الصدقة تجاه المحتاجين. ونجدنا لو مثل السامريّ الصالح الذي تحنّن على رجل غريب، على عدوّ، في ضيقه. واستعادت عظة الجبل بعض فرائض الشريعة القديمة، بل طلبت محبّة الأعداء... لنكون كاملين كما أن أبانا في السماء كامل هو (5: 48). من يغفر يغفر له الآب (مت 6: 12). من يرحم يرحمه الآب. وعلى تلميذ يسوع أن يغفر سبعين مرّة سبع مرّات (مت 18: 22). والمثل الذي يتحدّث عن هذه "الوصيّة" يبيِّن كيف أن الديون التي نعفو عنها لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى تلك التي يعفو عنها الآب في رأفته (18: 23- 25).
وفي يوم الدينونة، سينال الرحماء الرحمة. يباركهم الآب فينالون ميراث الملكوت لأنهم أعانوا الجياع والمرضى والبؤساء وكل المتألمين (25: 34- 36). لقد رأوا في أصغر الصغار وجه الرب نفسه، فكيف لا يتعرّف الربّ إليهم في يوم الدين!
ب- أنقياء القلوب (آ 8)
هذه التطويبة الخاصة بمتّى، تستلهم مز 24: 4- 6 الذي يقول: "النقيّ اليدين، الطاهر القلب، الذي لا يميل إلى السوء، ولا يحلف يميناً كاذبة... هكذا يكون من يطلب الربّ"
النقاوة في التوراة هي غياب النجاسة والقذارة، والمناعة المطلوبة لكي نلمس الأشياء المقدّسة ونقترب من الله في هيكله ونشارك في أعمال العبادة. هذه النقاوة (أو: الطهارة) التي نحصل عليها بواسطة الامتناعات وطقوس الاغتسال، ظلّت مدلولاً قانونياً وخارجياً وصل بالمؤمنين إلى التوقّف عند الشكليّات ونسيان ديانة القلب.
وقد وقف الأنبياء بقوّة ضدّ هذا الخطر. ما يطلبه الربّ من ذاك الذي يقترب منه في شعائر العبادة، هو استقامة عميقة للإرادة، عطاء صادق للقلب، والعبادة الباطنيّة. ففي القلب نجد النقاوة (لانجاسة) لتي تجعل العمل بلا عيب، والأيدي بريئة، ويتيح للمؤمن أن يحضر أمام الله في معبده. أنقياء القلوب (تك 20: 15) هم أصحاب القلوب المستقيمة والنوايا الطاهرة الذين لا التباس في مواقفهم، والذين يتوجّهون بملء إرادتهم إلى الله.
ويتعمّق موضوع الطهارة أيضاً عند الأنبياء وصاحب المزامير الذين يدلّون على أن ما ينجّس القلب هو الخطيئة ومقاومة مشيئة الله. ولهذا، فتطهير القلب لا يأتي إلا من الله، من غفرانه، من روحه القدوس (مز 51: 12- 13). ويستعيد يسوع تعليم الأنبياء هذا ليحارب الديانة الشكليّة لدى الفريسيّين (15: 18- 20؛ 23: 25- 26).
الله لم يره أحد قط، ولا يستطيع أحد أن يراه. هذا ما قاله العهد القديم وردّده العهد الجديد (يو 1: 18؛ 1 تم 6: 16؛ 1 يو 4: 12). وإذا حدّثتنا اللغة العباديّة عن رؤية الله في معبده، فهي تريد أن تصوّر مجيء المؤمنين إلى الهيكل. ومع ذلك فعبارة "رأى الله" تترجم لدى الكثيرين رغبة عميقة في اللقاء بالله في أعماق قلوبهم. "كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله. ظمئت نفسي إلى الله، إلى الإله الحيّ، متى آتي وأرى وجه الله" (مز 42: 2- 3). "إلهي، أنت إلهي، وإليك آتي سحراً. نفس ظمأى إليك. أريد أن أشاهدك في معبدك لأرى قدرتك ومجدك" (مز 63: 2).
وتتحدّث النصوص أيضاً عن مشاهدة وجه الربّ، فتعني التنعّم برضاه (مز 27: 8). هي صورة شبيهة بالصورة السابقة. غير أن هناك نصوصاً من العهد الجديد تقول لنا بأن ذاك الحلم المستحيل قد تحقّق. "طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يعاينون الله"، يرونه بعيونهم. وقالت عب 12: 14: "سالموا جميع الناس وعيشوا حياة القداسة التي بغيرها لن يرى أحد الربّ". ونقرأ في رؤ 22: 4: "يشاهدون وجهه ويكون اسمه على جباههم". حينئذ ندرك بوضوح واقعيّة هذه العطيّة التي لا تصدّق كما ندرك تساميها. فرؤية الله (وجهاً لوجه) التي تأتي بعد الإيمان وتتوّج المحبّة، تعني أن الله يجعلنا شبيهين به. إنه يؤلّهنا في ابنه ويفيض روحه في قلوبنا لكي "نعرفه" حقاً في عطاء شخصّي وحيّ، في عطاء متبادل.
قال بولس الرسول: "ما نراه اليوم هو صورة باهتة في مرآة. وأما في ذلك اليوم فسنرى وجهاً لوجه. اليوم أعرف بعض المعرفة، وأما في ذلك اليوم فسأعرف كما عُرفت" (تكون معرفتي كاملة لله كمعرفة الله لي) (1 كور 13: 12- 13). وقال يوحنا: "يا أحبائي، نحن الآن أبناء الله، وما انكشف بعد ماذا سنكون. نحن نعرف أن المسيح متى ظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. ومن كان له هذا الرجاء في المسيح تطهّر كما أن المسيح طاهر" (1 يو 3: 2- 3).
ج- طوبى لفاعلي السلام (آ 9)
وهذه أيضاً تطويبة خاصّة بمتّى. الكلمة اليونانيّة المستعملة هنا (ايرينو بويوس) تدلّ على الذين يعملون من أجل السلام. ونحن لا نجدها إلا هنا في الكتاب المقدّس كله. أما الفعل المقابل فهو "هدّأ، صنع السلام" الذي يقابل في العهد الجديد "صالح" (كو 1: 20؛ أف 2: 15- 16)، أعاد التفاهم بين الشعوب والأفراد. لا نتكلّم هنا عن السلام في المعنى الواسع، عن السعادة المسيحانيّة التي هي خلاصة كل الخيرات. السلام هو ما يعارض الحرب وكل نزاع. يجب أن يملك هذا السلام بين البشر. وإذا كان هذا السلام فقط عنصراً من عناصر السلام التام الاسكاتولوجيّ، فمع ذلك هو ينبثق من الله وحده بواسطة المسيح.
صانعو السلام هم الذين امتلكوا سلام الله في قلوبهم، فنشروه حولهم. نحن ننطلق دوماً كما في تطويبة الودعاء والرحماء، من موقف روحيّ لدى مساكين البرّ، لنصل إلى وجهة تدل على إشعاع هذا الموقف. فالوضعاء والودعاء والمسالمون يعملون بكل سلوكهم على إقامة الوئام بين البشر. ويسعون لكي يجعلوا الحبّ الأخوي يتملّك فيهم ويوجّههم إلى الله.
لقد رأى أش 9: 5 المسيح كأمير السلام. وأعطى يسوع حياته من أجل عمل التهدئة هذا وإحلال السلام. "فالمسيح هو سلامنا، جعل اليهود وغير اليهود شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة... ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين، بعد أن أحلّ السلام بينهما، إنساناً واحداً جديداً ويصلح بينهما وبين الله بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسداً واحداً" (أف 2: 14- 16).
طلب يسوع من تلاميذه في عظة الجبل محبّة شاملة تجعلهم يتصرّفون كأبناء للآب السماويّ (5: 45). ويبيّن لنا مجمل العهد الجديد كيف استلهم المسيحيون دوماً هذا المثال: فسعوا لكي "يكونوا في سلام"، لكي "يعيشوا في سلام". لكي "يطلبوا السلام مع الجميع" (روم 12: 18؛ 14: 19؛ 2 كور 13: 11؛ 2 تم 2: 22؛ عب 12: 4). وهم يحاولون، شأنهم شأن الرسل، بكلامهم ومثلهم وعملهم، أن يحملوا إلى الذين حولهم حتما الله الذي ينعشهم، وسلام المسيح الذي يقيم في قلوبهم.
ويصبح المسالمون حقاً أبناء الله (1 يو 3: 1)، ويعرفهم الله كذلك في يوم الدينونة. نجد في العهد القديم إشارات حول أبوّة الله والبنوّة الإلهيّة. ولكننا نبقى على مستوى الاستعارة، فتدلّ العبارات على امتياز من يتصرّف الله معه كأب، ويحبّه ويحميه كالأب مع ابنه: الشعب المختار هو ابن الله. وكذلك المسيح، والبار الذي هو عضو حقيقيّ في شعب الله.
في العهد الجديد كشف يسوع عن نفسه أنه ابن الله. وستكتشف الخبرة المسيحيّة الطبيعة الحقيقيّة لبنوّة الله التي وُعد بها المسالمون وجميع المسيحيين. والحضور الحميم للروح القدس يشركنا في حياة المسيح ابن الله. نحن نستبق المجيء فننعم منذ الآن بامتياز ابن الله: أعطي لنا أن يكون موقف يسوع أمام الآب هو موقفنا، فنشارك من الداخل في خبرته البنويّة (غل 4: 6- 7؛ روم 8: 15؛ مر 14: 36).
د- المضطهدون من أجل البر (آ 10)
توجّهت هذه التطويبة إلى المضطهدين. وزاد مت "من أجل البر". أي يكونون في عملهم موافقين لمشيئة الله. إن الضيق حلّ بمساكين الربّ، كما حلّ بهم الاضطهاد: إيليا، إرميا... والذين اضطهدوا في أيام أنطيوخس ابيفانيوس. أرادوا أن يكونوا أمناء لله ولشريعته، فذاقوا الاضطهاد وربّما الموت. غير أن إرميا عرف أن الله معه لكي ينجّيه (1: 8، 19). والمساكين الذين تذكرهم المزامير يعبرّون دوماً عن رجائهم (7: 2؛ 31: 6؛ 9: 15). في عهد المكابيّين أعلن دا 7: 25- 27 أن أمانة الشهداء هذه تستدير الدينونة ومجيء الملكوت.
إن البرّ الذي تتكلّم عنه هذه التطويبة هو ذاك الذي أشارت إليه التطويبة الرابعة. فالمسيحيون سيكونون عرضة للاضطهاد بسبب تعلّقهم بالمسيح، وبالمثال الذي جعله المسيح أمامهم. وهذه المحنة الأخيرة تعلن قرب تدخّل الله الحاسم من أجلها. فملكوت الله هو هنا من أجلهم. وهكذا نعود إلى وعد التطويبة الاولى، وهو يتضمّن ما تعد به سائرُ التطويبات.
هـ- المضطهدون من أجل المسيح (آ 11- 12)
إختلفت هذه التطويبة عن الثماني الأولى التي تكوّنُ وحدة متماسكة، ولكنها جاءت قريبة بموضوعها. نحن معها ننتقل من المضطهدين من أجل البرّ إلى المضطهدين من أجل المسيح. وتبدو هذه التطويبة قريبة ممّا نقرأ في لو 6: 22- 23.
التعيير، الاضطهاد، الافتراء. لكل كلمة رنّتها في العالم المسيحيّ الأوّل. ولكن الكاتب كدّسها ليدلّ على اتساع الاضطهاد. وزاد لوقا على هذه اللائحة بعض الأمور وهو الذي كتب "تاريخ" الكنيسة الأولى في سفر الأعمال ورأى يعقوب واسطفانس يموتان، وبطرس يُسجن، والرسل يُجلدون... أما نهاية النصّ فسوف تتحدّث فقط عن الاضطهاد: "هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم" (آ 12).
"من أجلي". هذه هي العبارة المهمّة، هذه هي الذروة التعليميّة التي ترفعنا إليها هذه التطويبة الأخيرة. فموضوع الاضطهاد من أجل المسيح يرد مراراً في العهد الجديد وبألفاظ قريبة جداً مما نجد هنا. فإنباء يسوع نفسه يرد في خطبة الرسالة (10: 17- 25)، وخصوصاً في الخطبة الجليانيّة (24: 9- 13)، وفي الحوار بعد العشاء السرّي في يو 15: 18- 21. إذا كانوا قد اضطهدوا المعلّم فسوف يضطهدون تلاميذه. وهذا ما تحقّق منذ الأيام الأولى للكنيسة. امتلأ الرسل من الروح القدس ففرحوا لأنهم أهينوا من أجل الاسم، اسم يسوع (أع 5: 41). وقالت بولس: "إني أسرّ بالأوهان والإهانات والضيقات والاضطهادات والشدائد من أجل المسيح، لأني متى ضعفت فحينئذ أنا قويّ" (2 كور 12: 10). وعلى كل المسيحيّين (2 تم 3: 12) أن يعرفوا هذا الاضطهاد من أجل المسيح، كما يعرفون فرح الروح الذي يستبق تطويبة الملكوت القريب. "أيها الأخوة لا تستغربوا الحريق المضطرم في ما بينكم لاختباركم... إفرحوا بمقدار ما تشتركون في آلام المسيح، حتى تفرحوا أيضاً وتبتهجوا في تجلّي مجده. إذا ما أهنتم من أجل اسم يسوع فطوبى لكم، لأن روح المجد الذي هو روح الله يستقرّ عليكم" (1 بط 4: 12- 14؛ رج عب 10: 32- 38).
هذا الرجاء يملأ سفر الرؤيا كله. فتاريخ الخلاص قد وصل إلى النهاية. ويسوع هو الذي يضطهدونه في تلاميذ يسوع كما في الأنبياء قبلهم (أع 9: 4- 5، 1 تس 2: 15- 16). فالاضطهاد يجعلنا شبيهين بالمسيح في سرّ موته وقيامته، في سرّ مجده في السماوات قرب الآب. فرح وبهجة على أمل أن ننضمّ قريباً إلى الربّ. والرجاء لا يخيب. ففي قلب الضيقات يُعطى لنا عربون المجد بالروح القدس الذي يفيض في قلوبنا حبّ الله (5؛ 2- 5). وهذا الحبّ ليس من اضطهاد يستطيع أن يفصلنا عنه (8: 35- 36). بل إن يد الله تقوى فتؤمّن لنا الغلبة. وكما أن حضور روح الله لا يزول، وكما أن المحبة لا تعبر، ففرح المسيحيّين ينتمي إلى عالم آخر، وهو يستبق التطويبة حول الأبديّة.

خاتمة
التطويبات التي هي إعلان خلاص ونداء إلى القداسة، قد وصل صداها إلينا عبر السامعين الأولين. فالجماعة المسيحيّة التي التأمت بكلمة المعلّم وانتعشت بروحه، قد اختبرت جذريّة متطلّبات يسوع وعظمة مواعيده. عبر كرازة الكنيسة وحياتها، توضّح المعطى الأولاني توضيحاً تدريجياً. فشدّدت نسخة مت على ظروف الخلاص كما فرضتها فقاهة أخلاقيّة. وعبرّت كذلك عن الوعد في فكر لاهوتيّ بدأ يتكوّن. وبلغت متطلّبة التجرّد والمحبّة حتى استعدادات القلب الحميمة. وأرادت نفوساً متجرّدة، بسيطة، مشعّة. كما طلبت عطاء الذات بدون تحفّط، لأن الوعد لا يقاس بأفراح الأرض، ولأن الله يريد شخصياً أن يعطي ذاته لنا.
"إقترب ملكوت السماوات". هو حاضر منذ الآن وقد بدأ مسيرته مثل بذار في الأرض. إن كلمة يسوع، بذار الملكوت، قد أفرخت وما زالت تنمو وتثمر في قلب تلاميذ خرجوا من جميع الأمم. هؤلاء يشكّلون اليوم كنيسة الأرض والسماء التي هي أمينة للنداء، مالكة للوعد، ومنتظرة كمال الملكوت حيث يكون الله في كل شيء وفي كل إنسان.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM