الفصل السادس عشر: يسوع يعلّم بسلطان

الفصل السادس عشر
يسوع يعلّم بسلطان
ف 5- 7

1- موقع العظة على الجبل
إن يسوع الذي دُعي المسيح، الذي سمّي عمانوئيل، أي الله معنا، قد وُلد في بيت لحم. من هناك مرَّ إلى الناصرة، وجاء إلى الأردن لكي ينال المعموديّة كالابن الحبيب الذي دلّ عليه الصوت الآتي من السماء. ثم عاد إلى الجليل فجعل من كفرناحوم مركز نشاطه التعليميّ. إنه يحمل كلمة سيعلنها على الجميع، يحمل الإنجيل أي الخبر الطيّب.
وتوجّه إلى الجموع التي جاءت إليه فأظهر سلطة مدهشة. كشف لهم بقوّة متطلّبات حياة يعيشها الأبناء مع الله، والأخوة بعضهم مع بعض. وهكذا قاد الشريعة اليهوديّة إلى ملئها وكمالها. هذا هو البرنامج التي تتوسّع فيه الخطبة الشهيرة التي تسمّى "عظة الجبل". والتي قد نسمّيها: "أقوال يسوع الإنجيليّة".
هذه الخطبة المتّاويّة الأولى هي من تأليف الإنجيليّ. كانت هناك مواد تتردّد في الجماعة فجمعها متّى بطريقته. فإذا ألقينا نظرة إلى الإزائية نكتشف أن النصوص الموازية في لوقا وفي مرقس، وإن كانت أقلّ مما في مت ولو، ترد في أماكن أخرى، وفي أطر مختلفة. فتنظيم هذه الخطبة وموقعها في بداية حياة يسوع العلنيّة يتجاوبان مع اهتمامات خاصّة بمتّى.
تحدّث لوقا ومرقس أيضاً عن "الجبل". ولكنهما ربطاه بنداء الاثني عشر. فعند لوقا، يذهب يسوع إلى الجبل، وبعد أن يقضي ليلته في الصلاة إلى الله، يختار لنفسه اثني عشر رسولاً. ثم نزل معهم وتوقّف في "السهل". وإذ رفع عينيه إلى التلاميذ ألقى خطبة تبدأ بأربع "تطويبات" تتبعها أربع "تويّلات" (لو 6: 12- 26). وتحدّث مرقس أيضاً عن الاثني عشر الذين دعاهم يسوع على الجبل (مر 3: 13- 19). ولكننا لا نجد أثراً لخطبة ولا لتعليم يُلقى على الجمع.
هذه التوازيات تُبرز أصالة المتتالية المتّاوية. أورد متّى نداء الأخوين الأولين ثم الأخوين الآخرين على شاطىء البحر (4: 18- 22). ووصول الجموع الكثيرة (4: 25) التي تبعته كما تبعه التلاميذ. وها هو يزيد الآن: "فلما رأى الجموع، صعد إلى الجبل". لم يقل هذا لكي يجعلنا نشهد صلاة يسوع أو اختيار الاثني عشر، بل ليجعلنا نسمع التعليم الذي يُلقيه على الجميع. "ولما جلس دنا إليه تلاميذه، ففتح فاه وجعل يعلّمهم قائلاً" (5: 1- 2).
نلاحظ أن متّى يذكر هنا وللمرة الأولى ذكراً واضحاً "التلاميذ" دون أن يكون قبل ذلك قد حدّد هويّتهم. يقول لنا النصّ فقط إنهم يشكّلون مجموعة قريبة من يسوع ومتميّزة عن الجموع. وإذ حدّد مت خطبة يسوع على الجبل (لا في السهل، كما قال لو)، فقد أراد أن يذكّر القرّاء بعطيّة الشريعة على جبل سيناء. يقول التقليد اليهودي إن موسى صعد إلى الجبل برفقة هارون وناداب وابيهو وسبعين من شيوخ إسرائيل (خر 24: 9). أما الشعب فظلّ في أسفل الجبل (خر 24: 1- 2).
جلس يسوع حين كان يعلّم، وجلوسه يذكّرنا بما يفعله الرابي حين يفسرّ الكتب المقدّسة (كان الخطيب اليونانيّ يقف حين يعلّم). نستشفّ هنا صورة عن الجماعات الأولى التي تضمّ التلاميذ إلى الجموع التي لم تصر بعد مسيحية. كلهم يجتمعون لكي يسمعوا إعلان الكلمة بفم رئيس الجماعة وإمامها.
ذكر مت الجموع في البداية (5: 1)، وسيذكرها في النهاية (7: 28)، فيبرز بشكل خفر البُعد الشامل لتعليم يسوع الذي كان يشفي "كل مرض وكل سقم في الشعب" (4: 23). نجد الكون كله في عظة الجبل: الأرض (5: 4، 13، 18، 35؛ 6: 10، 19)، والسماء (5: 18، 34؛ 6: 10، 20، 26)، والعالم (5: 14)، والنور (5: 14، 16؛ 6: 23)، والظلمة (6: 23)، والشمس والمطر (5: 45). وهكذا نلتقي بإطار جغرافي اكتشفناه في ف 3 و4، فنفهم البعد الشامل لكلام يسوع. غير أن التلميح إلى جبل سيناء يدلّ على أن هذه الشموليّة تنطلق من وضع محدّد هو ماضي شعب إسرائيل. فكلام متّى يتوجّه أول ما يتوجّه إلى هؤلاء المسيحيين الآتين من العالم اليهوديّ. فلا بدّ من ربط الإنجيل بالعهد القديم، ويسوع بموسى، وهكذا يفهمون أنهم حين ينتقلون من العالم اليهوديّ إلى العالم المسيحيّ، لا يتنكّرون لماضيهم، بل يرفعون هذا الماضي إلى مستوى الحاضر، والقديم إلى مستوى الجديد، وموسى إلى المسيح. إن ديانتهم تجد كمالها في المسيح كما النهر يصبّ في البحر مع غيره من الأنهار فيصل إلى الهدف الذي لأجله خُلق.

2- بنية العظة على الجبل
إن غنى المواضيع التي تتلاقى في هذه العظة، لا تتيح لنا بأن نرى تصميماً إجمالياً يوافق التناسق والمنطق معاً. لهذا، لن نعجب حين لا نرى الاجماع حول التصميم الذي يقدّمه هذا الشارح أو ذاك. لن نتوقّف عند تنوّع هذه التصاميم، بل نلاحظ ثلاث مراحل كبيرة في هذا النصّ كما حمله إلينا التقليد، ونتجنّب تفتيت النصّ إلى مقاطع وجمل صغيرة كما يفعل أصحاب التاريخ التكويني (يدرس كيف تكوّنت النصوص على مدّ السنين).
أ- المرحلة الأولى: مقدّمة الخطبة (5: 3- 16)
تقدّم التطويبات على أنها كمال الشريعة. في هذه المجموعة نرى الأفعال تنتقل من صيغة الغائب (طوبى لهم لأنهم يعزّون، هم) إلى صيغة المخاطب (أنتم ملح الأرض). وهذا ما يساعدنا على اكتشاف وحدتين اثنتين:
- الوحدة لأولى: التطويبات. ترد في صيغة الغائب. ضمّت بعضها إلى بعض داخل تضمين يبدأ في آ 3 وينتهي في آ 10: "طوبى للمساكين... فإن لهم ملكوت السموات... طوبى للمضطهدين من أجل البرّ، فإن لهم ملكوت السموات" (5: 3- 10).
- الوحدة الثانية: التطويبة التاسعة التي ترد في صيغة المخاطب (طوبى لكم أنتم)، ويتبعها تحريضان يدعوان التلاميذ والجموع لكي يكونوا ملح الأرض ونور العالم (5: 11- 16).
ب- المرحلة الثانية: جسم الخطبة (5: 17- 7: 12)
نحن هنا أمام توسّع طويل حول "برّ" ملكوت السموات، الذي كُشف لنا في شخص يسوع. إنه يُتمّ كل برّ، ويحدّد موقع الإنسان حقاً أمام الآب وأمام اخوته، ويدلّ على متطلّبات الالتزام الذي يدعونا إليه. تتحدّد هذه المجموعة بتضمين كبير يبدأ في 5: 17 (لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس أو الانبياء) وينتهي في 7: 12 (ذلك هو الناموس والأنبياء) مع موضوع الشريعة الانبياء، وهو يشمل مقدمة وثلاثة توسّعات:
- المقدّمة (5: 17- 20). فيها يحتلّ يسوع المكانة الأولى (تصبح الأفعال في صيغة المتكلّم المفرد: لا تظنّوا أني جئت أنا لأكمّل أنا). فهو الذي "يكمّل الشريعة". وفي الوقت عينه، هو يعلن الشرط الضروريّ للدخول إلى "ملكوت السماوات": برّ "فيّاض" يتجاوز برّ الكتبة والفريسيين.
- التوسّع الأول (5: 21- 48). يوضح الطريقة التي بها يجب أن تتمّ الشريعة عبر مختلف العلاقات التي توحّد جماعات البشر وتبنيها: العلاقات بين الإخوة (القتل، الغضب، الكلام القاسي). موقف الرجل تجاه امرأته (الزنى، النظرة الرديئة... وما يُقال عن الرجل يُقال عن المرأة). الحقيقة وعدم الكذب في كل حوار بشريّ، الموقف الذي نتّخذه تجاه "الاشرار". تصرّفنا تجاه الأعداء. ويتوزّع هذا التوسّع تكرارُ عبارة "سمعتم أنه قيل". ويقابلها إعلان يسوع: "أما أنا فأقول لكم" (في صيغة المتكلّم المفرد. أنا). وينتهي هذا المقطع الكبير بنداء إلى الكمال على مثال الآب السماويّ. "كونوا كاملين كما أن اباكم السماوي كامل هو".
- التوسّع الثاني (6: 1- 18). انتهينا في التوسّع الأول مع النداء إلى الكمال. وها نحن نتعرّف إلى ما يتضمّنه هذا الكمال في حياة المؤمن اليوميّة مع ثلاث ممارسات من التقوى في العالم اليهوديّ: الصدقة، الصلاة، الصوم. يجب أن نكون في الحقّ، فنرذل كل خبث ورياء. فالمهم هو نظرة الله في الخفية، لا نظرة البشر في الساحة العامة. هنا نفهم لماذا احتلت "الصلاة الربّية (أبانا الذي في السموات) قلب هذ التوسّع، بل قلب عظة الجبل كلها.
- التوسّع الثالث (6: 19- 7: 12). يدلّ على الأبعاد الملموسة للبرّ. كيف نمارسه، في واقع حياتنا اليوميّة؟ يجب أن يكون التزام التلاميذ في خدمة الله، تاماً كاملاً ومحصوراً في الله. هذا يعني أنه يُشرف على السلوك الذي نسلكه تجاه الإخوة على أساس من التفاهم والاحترام والثقة. وهكذا تمتدّ أبعاد البرّ المسيحيّ فتصل بنا إلى ما يسمّى "القاعدة الذهبيّة" (كل ما تريدون أن يفعله الناس لكم، فافعلوه أنتم أيضاً لهم) التي تستضيء في بساطتها بمجمل العظة على الجبل.
ج- المرحلة الثالثة: ختام العظة (7: 13- 27)
نستطيع أن نعنون هذا المقطع: من القول إلى الفعل. نحن هنا أمام نداء ملحّ لكي نتّخذ قراراً يتجسّد في حياتنا، فتظهر حقيقته في ثمر نثمره وفي أساس متين يسند "بيتنا"، كنيستنا وحياتنا.
د- كلمات تكرار
* إذن
حين نقرأ العظة الأولى من عظات يسوع كما أوردها متّى، نلاحظ أهمّية الأداة "إذن" (اون). إنها ترد ثلاث عشرة مرّة. في 5: 19 وبعد الحديث عن مكانة الناموس نقرأ: "إذن، كل من يتعدّى واحدة من هذه الوصايا". وفي 5: 23 وبعد الحديث عن القتل والغضب: "إذن، إن قدّمت قربانك على المذبح". وفي نهاية التوسّع الثاني حول البرّ الذي يُطلب من المؤمنين تأتي النتيجة طبيعيّة: "إذن، كونوا كاملين كم أن اباكم السماوي هو كامل" (5: 48. وتعود "إذن" في 6: 2، 8- 9، 22، 23، 31، 34؛ 7: 11، 12، 24).
إن استعمال هذه الاداة له معناه في إظهار البنية. فهو يشرف على منطق الخطبة. كما يدلّ على جدّية الالتزام الذي يطلبه يسوع. وهذا ما نراه بوضوح في الآيات التي تختتم المقاطع. في 5: 48: "إذن، كونوا كاملين..." في 6: 34: "إذن، لا تهتمّوا للغد". في 7: 12: "إذن، كل ما تريدون أن يفعله الناس لكم". في 7: 24: "إذن، كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها". هذا دون أن ننسى النصّ الذي يتصدّر خطبة الجبل. "إذن، أنتم صلّوا هكذا" (6: 9 وجاءت الصلاة الربّية).
* الآب
في قلب عظة الجبل قال يسوع باسمنا: "أبانا الذي في السماوات". فلفظة "آب" تدلّ على الله، تدلّ على أبي يسوع وتدلّ على أبي البشر. يقول يسوع: أبي، أبي السماويّ. ويقول مراراً: أبوك، أبوكم. "أبوك الذي يرى في الخفية يجازيك علانية" (6: 4). "كونوا كاملين كما أن أباكم" (5: 48). "أبوكم يعلم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (6: 8). "إن غفرتم للناس، يغفر لكم أبوكم السماويّ" (آ 14). وهكذا ترد لفظة "آب" 17 مرة في عظة الجبل، فتدلّ على الرباط الجديد بين المؤمن وربّه. لم نعد عبيداً وخدماً، بل صرنا أبناء الآب السماوي مع الابن الوحيد.
* ملكوت السموات
تتكرّر هذه العبارة ثماني مرات في عظة الجبل، فتدلّ على أن ذلك الذي يقيم في السماء يملك على الأرض. على أن ملكوت السماء حلّ على الأرض كما نقول في الصلاة الربّية. لا يقول متّى "ملكوت الله" هنا (رج 12: 28؛ 19: 24؛ 21: 31- 43)، بل ملكوت السماوات، لأن اليهود كانوا يتحاشون التلفّظ باسم الله.
تبدأ أول تطويبة مع "ملكوت السماوات" (5: 3) وتنتهي مع "ملكوت السماوات" (5: 10). وحين يتحدّث يسوع عن الوصايا يقول إن من يتعدّاها "يُدعى الاصغر في ملكوت السماوات" (5: 19). ويتابع في آ 20 مميزاً بين برّ الشخص المسيحيّ الذي يعيش حقاً كتلميذ المسيح، وبين الكتبة والفريسيين. "إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات".
هـ- رسمة سريعة
(1) المدخل: تطويبات ملكوت السماوات (5: 3- 16)
(أ) تطويبات الملكوت (5: 3- 10)
(ب) التطويبة التاسعة، الملح والنور (5: 11- 16).
(2) برّ ملكوت السماوات (5: 17- 7: 12).
مقدمة: يسوع كمالا الشريعة والأنبياء (5: 17- 20)
(أ) تتمّ الشريعة ببرّ فيّاض (5: 21- 48)
- العلاقات بين الاخوة (آ 21- 26)
- وضع الرجل والمرأة (آ 27- 32).
- الصدق في كلامنا (آ 33- 37)
- موقفنا من "الشرير" (آ 38- 42)
- تصرّفنا تجاه الأعداء (آ 43- 47)
خاتمة: كونوا كاملين (آ 48)
(ب) نعيش البرّ في الخفية أمام الآب (6: 1- 18)
مقدمة: الآب أم الناس (آ 1)
- الصدقة في الخفية (آ 2- 4)
- الصلاة في الخفية (آ 5- 8)
- الصلاة الربية (آ 9- 15)
- الصوم في الخفية (آ 16- 18).
(ج) الالتزام الذي يفرضه برّ الملكوت (6: 19- 7: 11)
- التزام التلميذ في خدمة الله.
القرار الضروري: كنزان (آ 19- 21)
طريقتان (آ 22- 23)
خدمتان (آ 24)
طلب الجوهريّ دون قلق ولا همّ:
الملكوت وبرّ الآب (آ 25- 34).
- السلوك مع الاخوة:
لا تدينوا لئلا تدانوا (القشة والخشبة) (7: 1- 5)
لكل انسان مسيرته (الجواهر والخنازير) (آ 6)
نطلب بثقة عن الآخرين (آ 7- 11)
خاتمة: القاعدة الذهبيّة هي خلاصة الشريعة والأنبياء (آ 12)
(3) الخاتمة: ننتقل من الكلام إلى العمل (7: 13- 27)
(أ) الخيار الضروري (7: 13- 23)
- طريقان (132- 14)
- نوعان من الأنبياء (آ 15- 20)
- نوعان من التلاميذ (آ 21- 23)
(ب) نتائج الخيار الذي نتخذه: البيتان (آ 24- 27).

3- تحليل النصّ
أ- المدخل: تطويبات ملكوت السماوات (5: 3- 16)
اسمع المعمدانُ (3: 2) ثم يسوع (4: 17) اعلانهما في ذات الكلمات: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات". هذا ما يدلّ على نظرة فريدة إلى مخطّط الله الخلاصّي عبر تواصل الحركة النبويّة حتى تتمّتها في شخص يسوع بشكل ننتظره ولكنه يحيرّنا.
وهنا، علّم يسوع على الجبل أن ملكوت الله قد اقترب، قد صار حاضراً في التطويبة الأولى والتطويبة الثامنة. كما علّم أن هذا الملكوت قد وُعد به المؤمنون في الأيام المقبلة، وذلك في التطويبات الست الباقية. وهذا الانشداد الذي يظهر منذ البداية في قلب هذه التتمة، يدلّ على الطابع المطلق والتاريخيّ معاً لهذا الملكوت. استعاد متّى العبارة من العالم اليهوديّ، وأعلن أنه "من السماوات" مع أنه ينتشر على الأرض في شخص يسوع. إن هذا الانشداد يبيّن الطابع الاسكاتولوجي لملكوت الله: إنه في نهية الزمن.
تتردّد لفظة "طوبى" (هنيئاً) تسع مرات. فنحن أمام سعادة في المعنى الدينيّ. وهي سعادة تحدّد موقع الانسان في علاقته الحقيقيّة مع الله، وبالتالي مع الواقع الذي يعيشه. وهذه السعادة ترتبط بحقيقة ملكوت السماوات.
أولاً: ثماني تطويبات (5: 3- 10)
"التطويبة" فن أدبي عرفه العهد القديم. نجد هذه اللفظة 48 مرة في التوراة العبرية، 26 مرة في سفر المزامير: "طوبى للرجل الذي لا يسير في طريق الأشرار" (مز 1: 1). ونجد هذه "الطوبى" 60 مرة في التوراة اليونانيّة السبعينيّة. أما ما نقرأه هنا في متّى، فنجده قريباً مما توسّع فيه مز 41: 2: "طوبى لمن يراعي المساكين". ثم إن ما نجده في مز 1؛ 119 يرتبط بالشريعة وممارستها، وهذا ما يقرّبنا من مواضيع متّاوية.
نستطيع أن ندرس التطويبات فنتوقّف عند التي تربطنا بالله، والتي تعني القريب، أو تتعلّق بالإنسان في فقره، أو تدلّ على موقف إيجابي عنده. وهناك من حاول أن يجد التعبير الأول للتطويبات انطلاقاً من مقابلة بين نصّ متّى ونصّ لوقا. وهناك من يسترعي انتباهه التضمينُ فيرى في هذه التطويبات الثماني واقعاً واحداً وحيداً.
نلاحظ أولاً التعليل "لأن". "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات". في آ 3، 10، نجد الفعل في صيغة الحاضر: المساكين هم سعداء. وأساس سعادتهم مجيء ملكوت السماوات أي حضور المسيح. بعد ذلك، سيكون الفعل في صيغة المضارع فيدلّ على المستقبل: سوف يعزّون، سوف يُشبعون، سوف يُدعون أبناء الله. فسعادة الإنسان "التعيس" لا تكشف عن أساسها إلا في ضوء التتمة التي يحملها مجيء المسيح.
إذن، كل شيء أُعطي منذ الآن في يسوع المسيح. وإن كان الملكوت قد أعطي الآن في يسوع، فهو لم يصل بعدُ إلى كماله فينا. وتأتي التطويبة الثامنة في صيغة الحاضر أيضاً، شأنها شأن التطويبة الأولى. وهي ترتبط بالبرّ "للمضطهدين من أجل البرّ". أي: الذين عاشوا بحسب إرادة الله. الذين حاولوا أن يدخلو في مشروع الله وبناء ملكوته على الأرض. هؤلاء لن يقبلهم الناس.
ثانياً: التطويبة التاسعة والملح والنور (5: 11- 16)
تبدو التطويبة التاسعة تكراراً للثامنة. ولكن متّى يؤوّنها بالنسبة إلى كنيسته. فالمؤمنون يُضطهدون الآن. وفي هذا الوقت بالذات يكتشف التلاميذ حقاً أنهم تلاميذ. كما يكتشفون سعادتهم حين يُضطهدون على مثال الرسل الذين أوسعوا ضرباً من قبل رؤساء المجلس (أع 5: 41).
"إفرحوا وابتهجوا". فعلان يستعملهما العهد القديم ليحتفل بخيرات الله المخلّص (حب 3: 8) في أواخر الأزمنة. فعلان يعودان أيضاً في 1 بط 1: 8؛ 4: 13- 14، ليدلاّ على فرح المسيحيّين المضطهدين. فحين يحس المؤمن بالفرح يوم يشارك في آلام يسوع مشاركة حميمة، يدرك أن ملكوت الله قد جاء حقاً. لهذا، سيكون أجره عظيماً في السماء.
ويأتي الكلام عن الملح والنور. هما عنصر أساسي في حياة الإنسان. بدونهما لا طعم للعيش ولا لون. الملح يطهّر ويحفظ، والنور هو ما يعطي الحياة معناها. الجماعة هي ملح الأرض، لأنها تعطي البشريّة قيمتها الحقيقيّة. والملكوت هو نور العالم بواسطة كل واحد منا.
ب- برّ ملكوت السماوات (5: 17- 7: 12)
يسوع هو كمال الشريعة والأنبياء. إذن، لا بدّ من المرور به لندخل إلى ملكوت السماوات، لأن فيه تأخذ أصغر الوصايا كل معناها. يسوع هو المقياس. فالواحد منا يكون كبيراً أو صغيراً بقدر ما "يمسك" به من هو كمال الشريعة والانبياء. والشريعة والبرّ والانبياء، كل هذا يأخذ بُعده الحقيقيّ من يسوع. في العهد القديم كان انفصال بين هذه الثلاثة: دلّت الشريعة على إرادة الله كمبدىء العهد وسيّد التاريخ البشريّ. وكان البرّ طريق المجهود البشري لكي يطيع الإنسان هذه الإرادة كما تسجّلت في الشريعة. وكمال النبوءات عبّر في التاريخ البشريّ عن أمانة الله التي أعلنها الأنبياء حين فسّروا الشريعة.
والآن، تكلّم يسوع بسلطان مطلق. "الحق أقول لكم". ترد هذه العبارة 30 مرة في مت، 14 في مر، 7 في لو. وقابلها في يوحنا "آمين أقول لكم" 25 مرة. لا شيء يقابلها في العهد القديم. لهذا اعتبر الشرّاح أنها خاصة بيسوع. نقرأ في 5: 18: "الحق أقول لكم: إنه إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول من الناموس ياء واحدة". ونقرأ في آ 20: "إني أقول لكم: إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيّين". إن يسوع يكمّل الشريعة، ويكفل كل برّ. وإذ يكمّل الكتب معطياً إيّاها تفسيراً جديداً، فهو يحقّق ما كتبت عنه.
أولاً: تتمّ الشريعة حين يزيد برّنا (5: 21- 48)
إن يسوع يُتمّ الشريعة على المستوى التعليميّ حين يفسّرها لا كما يفسّرها الكتبة، بل يعطي رأيه الشخصيّ. بل إن تفسيره هو من مستوى آخر. فهو يجعل فيها حياته وموته. هو لا يُحلّ فرائض جديدة محلّ الفرائض القديمة، ولا يجعل شريعة جديدة مكان شريعة قديمة. هو ما جاء يلغي الشريعة التي أعطيت للآباء، منذ أيام البرية، بل جاء يعيد للشريعة مكانها في وضعها الأصيل والجذريّ معاً.
كمال الشريعة على مستوى الأخوّة لا يتوقّف عند القتل، بل يذهب أبعد من ذلك. وعلى مستوى الزواج والطلاق. سيجعل السامعين يستصعبون مثل هذا الكلام ويقولون: "إن كانت تلك حالة الرجل مع امرأته فافضل له أن لا يتزوّج" (19: 10). والمثل الثالث يمنع كل قسَم... وفي النهاية يدعونا يسوع إلى محبّة الأعداء لكي نتشبّه بالآب السماوي.
وينتهي كلام يسوع: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ هو كامل". كونوا كاملين بالكمال الذي يميّز الآب السماويّ. ولكن تبقى العبارة محيرّة لأن الكتاب لا يقول إن الله كامل. بل إن أعماله كاملة (تث 32: 4). طرقه كاملة (2 صم 22: 31). شريعته كاملة (مز 19: 8). في هذه الخلفيّة البيبليّة نفهم كمال الله حباً مجانياً شاملاً يمنح خيراته للجميع. وعمل الله هو كامل حين يصل إلى هدفه.
ثانياً: نكون أبراراً في الخفية، أمام الله (6: 1- 18)
نجد هنا مثلّئاً يسبقه مبدأ عام: من أراد أن يلاحظه الناس، خسر كل "جزاء" لدى الآب الذي في السماء. إن هذه اللفظة (مستوس) قد استعملها مت 5: 12 متحدّثاً عن الفرح الذي يشعر به التلميذ في قلب الاضطهاد. لسنا أمام أجر لمجهود قمنا به، بل وحي يدلّ التلميذ على ما أتمّه يسوع في حياته.
أراد يسوع أن يشدّد على بطلان عمل بشريّ لا يتعدّى العلاقات الطبيعيّة (5: 46). وهو الآن يأمرنا بأن لا نصوم ونصليّ لكي يرانا الناس، كما يفعل المراؤون. فعلى المستوى الذي يقفون، قد نالوا أجرهم وهو رضى الناس. الرياء يقوم بأن نحوّل العمل عن وجهته الأخيرة. نعمله إكراماً لله فيصبح إكراماً للناس. فليعطنا الناس أجر ما عملناه لأجلهم.
ما الذي يجب أن نعمله بشكل إيجابي؟ تكون الصدقة في الخفية، حيث يلج نظر الآب. والعمل في الخفية لا يعني العمل الخفيّ. فالعمل العلنيّ قد يكون عملاً في الخفية: يجب أن يجعلنا في الحقيقة أمام الآب. فالذي يتّخذ موقفاً نبوياً أمام الله وسط الجموع الغفيرة، يكتشف أن أجره يقوم في هذه العلاقة الصريحة مع الآب. وهكذا لن يكون تعارض بين "عمل في الخفية" و"ليضيء نوركم أمام الناس".
ويُدرج متّى في قلب هذا المثلّث الصلاة الربّية. طلبات ثلاث تعني اسم الله وملكوته وإرادته. وهي تبدو بشكل تمنٍ والتزام. فالابن الذي يصليّ إلى أبيه يتوجّه إلى "اسمه" أي كائنه الحميم، وإلى قداسته، ويدرك حضوره كقوّة لا حدود لانتشارها. ويبدو له "ملكوته" ككمال يحمله يسوع، وارادته كحركة عميقة من حبّه (من روحه) يُدعى إلى أن يرتبط بها في عمق كيانه. تلك هي الأبعاد الأولى للصلاة المسيحيّة: إقرار بقداسة الآب، دخول في حركة ارتداد دشّنها يسوع بكلامه، إدراك أنيّ وفاعل لـ "سرّ" الله. وإذ تخضع السماء في طبيعتها للخالق، يُعطى للإنسان أن يدخل بملء حريته في إرادة الآب.
مع الطلبة الرابعة ندخل في الحياة الماديّة الملموسة، ونطلب من الرب أن يغفر لأننا نحن غفرنا. فمن لا يغفر لا يستطيع أن يتمتّع بغفران الله له. وتأتي الطلبتان الأخيرتان منذ الآن على الواقعيّة التي يعيش فيها المسيحيّ: إن الشّر حاضر في العالم، وكل منا يدركه في أعماق قلبه كما في أعماله اليوميّة.
ثالثاً: الالتزام الذي يفرضه برّ الملكوت (6: 19- 7: 11)
هنا يبدأ توسّع ثالث يتعمّق في أبعاد البرّ المسيحيّ الذي يجعلنا متّى نكتشفه في عدد من أقوال يسوع تبدو للوهلة الأولى مبعثرة. أما هدفه فهو إبراز جذريّة الالتزام من أجل الملكوت. فعمق العلاقة البنويّة يحوّل العلاقات الأخويّة، وصحّة هذه العلاقة تقاس بالأعمال وليس فقط بالأقول والنيّات.
تتكرّس المجموعة الأولى (6: 19- 34) لدعوة التلاميذ لالتزام حصريّ في خدمة الله. وتنقسم إلى وحدتين: الأولى توضح القرار الذي هو في أساس هذا الالتزام. والثانية تتوسّع في هذا الموقف الذي يميّز طلبنا لما هو ضروريّ: نبعد عنا كل همّ.
هناك خيار حاسم لا بدّ منه، وهو يقف على ثلاثة مستويات: نتخلىّ أولاً عن كنوز سرابيّة ونتعلّق بالكنز الحقيقيّ. ثم نختار النور لا الظلمة، فتكون عيننا سليمة صحيحة لا عليلة. وأخيراً يُطلب من المؤمن أن يخدم (يتعبّد) المعلّم الحقيقيّ، السيّد الحقيقيّ، فلا يبحث عن طمأنينة كاذبة، ولا يعتبر أنه يستطيع أن يستند إلى "مامون"، إلى ماله وغناه. هو لا يستطيع أن يعبد الله والمال.
وحين يطلب الإنسان ما هو جوهريّ، أي ملكوت الله وبرّه، لن يبقى عليه أن يترك هموم الأرض تسيطر عليه. ويستعيد مت ستّ مرات فعل "مارمنان" (اهتمّ) (آ 25، 27، 28، 31، 34 مرتين). هو نداء أن نترك كل قلق عميق، لأننا أمام نظر الآب الذي يعرف ما نحتاج إليه (6: 8؛ 6: 32).
وتحدّد مجموعة ثانية (7: 1- 11) السلوك الواجب اتخاذه تجاه الاخوة. في هذا لمقطع المبنيّ بشكل مثلّث، يحذّر يسوع سامعيه من بعض تفسيرات خاطئة للشريعة. الأول: "لا تدينوا". هذا لا يمنعنا من أن نعطي رأينا، ولكنه يمنعنا من احتقار القريب والحكم عليه. فالله وحده هو الذي يدين في النهاية. التحذير الثاني: "لا تعطوا الأشياء المقدّسة للكلاب". الكلاب هم اعدء البار (مز 22: 17). ونحن حين ننقل التعليم، نحترم مسيرة كل إنسان، ولا نستبق "تدخل" الله. فمن أسرع في عرض الإنجيل، عرّضه لأن لا يُفهم ويُعادى.
والقول الثالث: "أطلبوا يُعطى لكم". فالطلب يجعلنا في علاقة بنويّة مع الآب. وحين ننفتح على صلاحه، نبدأ بتقبّل خيراته، نتركه يأتي إلينا. وتأتي خاتمة هذه المجموعة في القاعدة الذهبيّة. هذه القاعدة التي عرفها العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ، قد استعادها الإنجيل بشكل نداء نتجاوز فيه ذواتنا يوماً بعد يوم. لم نعد أمام حسابات مذمومة: تعطيني فأعطيك. بل أمام نداء حبّ الله الذي يفرض علينا أن نكون اخوة للجميع.
ج- ليس من يقول: يا رب، بل من يعمل (7: 13- 27)
تتركّز نهاية الخطبة على فعل "بوياين" عمل، صنع. هو يرد 11 مرة من آ 12 إلى آ 26. وقد جمع متّى هنا ثلاثة أقوال ليسوع. وكل قول يتضمّن نقيضة تدعونا إلى أن نتخذ قرارنا بالنسبة إلى الملكوت. هناك الباب الواسع والباب الضيّق، الطريق الرحبة والطريق الحرجة (آ 13- 14). والنقيضة الثانية: الانبياء الكذبة والانبياء الصادقون، الشجرة الجيّدة والشجرة الرديئة، الثمر الجيّد والثمر الرديء (آ 15- 20). والنقيضة الثالثة: من يقول ومن يعمل. الأولى لا يعرفه الله. والثاني وحده يدخل إلى الملكوت (آ 21- 23). وتنتهي كل هذه المجموعة بمثَل البيتين والنداء إلى العمل لا الاكتفاء بالسماع. فكلمة الله ليست فقط خطاباً نسمعه ونفسّره. إنها شخص نجعله حياة في حياتنا وعملاً في عالمنا. الحكيم الحكيم هو من يسمع كلام المعلّم ويعمل به. أما الجاهل فهو وإن سمع يتصرّف وكأن الله غير موجود، وكأن وصاياه لا قيمة لها. هو يشبه صاحب المزامير (53: 2) الذي قال: "ليس إله". الله غير موجود.
ويختم متّى هذه الخطبة (عظة الجبل) باعتبار حول تأثير كلمة يسوع في قلوب سامعيه، في كل زمان ومكان. كشف لنا يسوع كيف يفعل فينا حبّ الآب. وحين نعيش تحت نظره، تتبدّل نفوسنا، وتتحوّل علاقاتنا مع اخوتنا، كما يتجلّى نظرنا إلى الأمور المادية من مال وخيرات وأعمال. بعد هذا نفهم أن يسوع استطاع أن يعطينا تعليماً "بسلطان" عن الشريعة، وفرض علينا التزاماً لا مساومة فيه في خدمة هذا الآب، "الذي في السماوات". كما فرض علينا أسلوباً جذرياً تجاه الاخوة، فلا نعاملهم كما يعاملوننا وحسب، بل نحبّهم كما يحبّ الآب الأخيار والاشرار معاً. هذه السلطة أدهشت الجموع كما ادهشت التلاميذ، لأن تعليم يسوع كان أبعد ما يكوّن عن تعليم الكتبة والفريسيّين. دُهش الجميع، فما بقي لهم إلا أن ينزلوا من الجبل على خطى يسوع ويتبعوه، فيكتشفوا فيه أكثر من شخص يشفيهم من كل مرض وعلّة. أن يكتشفوا فيه ذاك الذي يدعوهم إلى الايمان به على أنه المسيح ابن الله الحيّ.

4- التعليم اللاهوتي في عظة الجبل
قرأ الشرّاح التطويبات وحاولوا أن يكتشفوا ما جاء قبلها، أن يكتشفوا الوثيقة الأولى التي ألهمتها، ليحدّدوا مرمى كل إنجيليّ (متّى، لوقا) بالنظر إلى هدفه والمحيط الكنسي الذي إليه يتوجّه. وهكذا اكتشف بعضهم في هذا الينبوع المشترك، مدلولاً مسيحانياً للتطويبات: الفقراء والجائعون والحزانى والمضطهدون هم المميّزون الذين حمل إليهم المسيح البشارة مدشّناً العهد المسيحانيّ.
أوضح لوقا هذ المرجع الأولاني فطبّقه على مسيحيّة متطوّرة وعُرضة للصراع الاجتماعيّ. حينئذٍ يصبح الفقراء الأعضاء المتألمّين في الجماعة، الذين يسحقهم الأغنياء، ولكنهم وُعدوا بالخلاص بقدر ما يختارون يسوع من دون قيد ولا شرط.
وحدّد متّى بدوره النداء الحاسم في تعليم اسكاتولوجيّ في منظار عمليّ وحسيّ. نحن أمام برنامج عن البرّ المسيحي والحياة بحسب وصايا الله. نحن أمام موقف دينيّ نعبر عنه بالأعمال. نحن أمام أخلاقيّة للملكوت صاغها متّى انطلاقاً من كلام المسيح من أجل جماعته.
ويُطرح السؤال: على ماذا يشدّد متّى في النهاية؟ هل يقدّم توجّهاً كرستولوجيا أم تعليماً أخلاقياً؛ لا نستطيع أن نفصل بين الإثنين. لأن البشارة التي حملها يسوع تطرح متطلّبة قاسية وتحرّك التزاماً لا مساومة فيه. فالكرستولوجيا ليست غريبة عن الأخلاقيّة. والأخلاقيّة هي امتداد الكرستولوجيا. وما دمنا لا ندرك أن الشريعة قد تمّت في الإنجيل الذي هو يسوع، فهي تبقى حملاً لا يُطاق، وتظلّ خارجة عنا.
ولكن الله وحده هو الذي يجعلنا سعداء. والإنسان يحتاج إلى عطيّة الله لكي يقبل بنفسه فقيراً وسعيداً. وفي الوقت عينه، وبفضل الملكوت الذي اقترب، يأتي الله فيملأ فراغاً في قلب الإنسان، ويلبّي استعداداً لقبول متطلّبات الله. فحين يكتشف الإنسان أنه ابن الآب السماويّ، يستطيع أن يتجاوب ونداء المسيح الذي يحرّك فيه التزاماً خلقياً جذرياً وحراً. هذا هو السبب الذي من أجله انتقل مات من إعلان التطويبات (5: 3- 16) إلى التأمّل في يسوع الذي يكمّل الشريعة والأنبياء (5: 17) إكمالاً يصبح حقيقياً في كل أبعاد حياة التلميذ (5: 18- 7: 27).
أعلنت التطويبات منذ ألفَي سنة، ولكن العالم لم يتبدّل. أما يدهشنا هذا الأمر ويجعل بعض اليهود يرون في ذلك برهاناً أن ملكوت السماوات لم يأتِ بعد؟ أتكون هذه التطويبات نوعاً من السراب أو أفيوناً للشعب؟ كلا ثم كلا. فيسوع هو الذي يكمِّلها، وهو الواقع الأخير الذي ينيرها. فإن كان لم يضع حداً للتاريخ البشريّ، فقد اختبر نهاية هذا التاريخ ساعة يجمع ملكوتُ السماوات كل أبناء الآب. وحين ندرك أن يسوع هو التتمّة، ندخل حقاً في أرض الميعاد ونرثها، نناله التعزية والشبع والرحمة، نُدعى أبناء الله ولو كلّفنا ذلك اضطهاد وآلام بها نقاسم يسوع حياته.
منذ ألفَي سنة لم يتغيّر شيء. هذا صحيح إن نظرنا إلى الأمور من الخارج. لأن الله ليس بساحر. غير أن البرّ الذي تمّ بواسطة يسوع قد حمل إلى العالم سعادة كبيرة، فقدّم له رجاء يتجاوزه ويتجسّد حقاً في تصرّفات البشر. فالعنف قد يحلّ محلّه قبول الآخر. والحوار المستحيل يجد له موضع لقاء مع الله... وهكذا يتحدّد موقع الاخلاقيّة المسيحيّة: هي كمال الله السائر في تاريخ البشر. يبقى علينا أن نكتشفه بنظرة جديدة تبعث فينا السعادة.
هذه النظرة الجديدة تكوّن الأجر الحقيقيّ لتلميذ الملكوت، حين يُتمّ "في الخفية" أعماله التقويّة: يراعي أولئك العائشين على هامش المجتمع. يقبل في صلاته صمت الله في العالم فيدرك عمل قدرته الذي لا نراه دوماً. يكون صومه وحرمانه من الطعام فعل إيمان ومشاركة، لا ممارسة خارجيّة وحسب... وهذه الصلاة التي تتواصل عبر أعماله البشر تصبح التزام الحياة كلها وتصبح لقاء مع الله والموضع الذي فيه تتجلّى نعمته.
يبقى في نهاية هذه العظة أن الأعمال هي التي تدلّ على المؤمن. فهناك مسيحيون سمعوا أقوال المسيح ولكنهم لم يعملوا بموجبها. وهناك "وثنيّنون" أدركوا هذه الكلمات في حياتهم دون أن يسمعوها. فالبشريّة كلها مجتمعة على الجبل، تلاميذ وجموعاً. والله هو الذي يدين البشر. هو الذي يعرف الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة، هو الذي يعرف بيتاً بُني على الصخر أو على الرمل. الله هو الذي يعرف خاصته، وهو لا يحابي الوجوه. هنيئاً لنا إن عرفنا الباب الضيّق، هنيئاً لنا أن كنا تلك الشجرة الصالحة، هنيئاً لنا إن عشنا التطويبات في حياتنا اليوميّة، فملكوت الله يُعطى لنا، الله يعطى لنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM