يوم الجمعة العظيمة، 2003، الكردينال كارول فويتيلا

يوم الجمعة العظيمة

الكاردينال كارول فويتيلا
(البابا يوحنّا بولس الثاني)

مساء الجمعة، 18 نيسان الساعة 9،15 ليلاً، ترأّس البابا يوحنّا بولس الثاني درب الصليب في الكوليزه، في رومة، الموضع الذي يُذكر فيه الشّهداء في كلّ زمان. حمل الصّليب الكردينال كيلورويني، نائب البابا على أبرشيّة رومة، امرأة من كولومبيا، ثلاثة أشخاص من أفريقيا، إخوة من كنيسة من الأرض المقدّسة، عائلة الدكتور كارلو أورباني الّذي توفّي وهو يعتني بالمرضى في آسيا، عائلة عراقيّة. وفي المرحلة الأخيرة، حمل البابا الصّليب. هذا النصّ كتبه البابا سنة 1976، خلال الرّياضة الرّوحيّة التي وعظها في الفاتيكان بناء على طلب البابا بيّوس السادس.

دربُ الصَّليب دربُ اللِّقاء بينَ أورشليم ورومة، بينَ المدينةِ الَّتي أحبَّها يسوعُ وأعطى فيها حياتَه لخلاصِ العالم، والمدينةِ الَّتي يَعتبرُ فيها خلَفَ بطرس، الَّذي يترأّسُ المحبّةَ الأخويّة.

دربُ الصَّليب، دربُ الإيمان: في يسوعَ الَّذي حُكمَ عليه بالموت نتعرَّفُ إلى ديّانِ الكون. في ذاك الَّذي حمَلَ الصَّليبَ نتعرَّفُ إلى مخلِّصِ العالم. في ذاك الَّذي صُلب، نتعرَّفُ إلى ربِّ التَّاريخ، إلى ابنِ الله ذاتِه.

ليلةُ الجمعةِ العظيمة، ليلةٌ وديعةٌ راجفة، ليلةُ قمرِ الرَّبيع الأوّل. باسمِ الرَّبِّ اجتمَعْنا. هو معنا كما وعَد (مت 18: 20).

ومعنا أيضًا مريمُ العذراء. كانت على قِمّةِ الجلجلة كأمِّ ابنِها المائت. هي تلميذةُ معلِّمِ الحقّ، وحوّاءُ الجديدة الواقفةُ قُربَ شجرةِ الحياة، إمرأةُ الآلامِ الَّتي شاركَتْ "رجُلَ العذابِ ونسيبَ الألم" (أش 53: 3)، ابنةُ آدم، أختُنا، ملكةُ السَّلام.

هي أمُّ الرَّحمة تنحني على أولادِها الَّذين ما زالوا عُرضةً للأخطار والضِّيقات، لتنظُرَ إلى آلامِهم، لتسمعَ تأوّهاتِهم الصَّاعدةَ من شقائِهم، لتحمِلَ العزاءَ وتُنعِشَ الرَّجاء بالسَّلام.

أنظُرْ، أيّها الآبُ القدّوس، إلى الدَّمِ الَّذي يَجري من جنبِ المخلِّصِ المطعون.

أنظُرْ إلى الدَّمِ الَّذي تسفكُهُ ضحايا البُغضِ والحربِ والإرهاب. وامنَحْ في رأفتِكَ أن تكونَ مسيرةُ الأحداثِ في العالم بحسَبِ مشيئتِكَ، في العدالةِ والسَّلام فتتكرَّسَ كنيستُكَ في ثقةٍ وادعةٍ لِخدمتِكَ وتحريرِ الإنسان. لكَ المجدُ إلى الأبد. آمين

 


المرحلةُ الأولى: نتأمّلُ يسوعَ وقد حُكِمَ عليه بالموت

نسجدُ لكَ أيّها المسيحُ ونباركك، لأنَّكَ بصليبِكَ المقدَّسِ خلَّصْتَ العالم.

صاحَ الجمعُ أيضًا: "اصلُبْه"! أرادَ بيلاطسُ أن يُرضيَ اليهود. فأطلقَ برأبّا. وبعدَ أن جلدَ يسوع، أسلَمَهُ ليُصلَب (مر 15: 14-15).

*  *  *

تأمّل: أصدرَ بيلاطُسُ حُكمَهُ تحتَ ضغطِ عظماء الكهنةِ والجمْع. والحكمُ بالإعدامِ صَلْبًا سوفَ يهدِّئُهم في ما يَطلبون، ويكونُ جوابًا على صياحِهم: "اصلُبْهُ، اصلُبْهُ" (مر 15: 13-14). ظنَّ الوالي الرُّومانيّ أنَّهُ يَستطيعُ أنْ يَتفلَّتَ من هذا الحكمِ فغسَلَ يدَيه. كما سبقَ لَهُ وتفلَّتَ من كلماتِ يسوعَ الَّذي ماهى بين ملكوتِه والحقّ، بين ملكوتِه والشَّهادةِ المعطاةِ للحقيقة (يو 18: 38). في الحالتَين، أرادَ بيلاطسُ أن يُدافِعَ عن استقلاليّتِه، فحاولَ أن يقِفَ جانِبًا. ولكنَّ هذا كان في الظَّاهر. فالصَّليبُ الَّذي حُكِمَ به على يسوع (يو 19: 16) وحقيقتُه حولَ الملكوت (يو 18: 36-37)، لامسا الوالي في عُمقِ نفسِه.

تلكَ كانَتِ الحقيقة. وتلك هي الحقيقةُ الَّتي لا نَقدِرُ أن نقِفَ على حدَة، تُجاهَها. فأن يكونَ يسوع، ابنَ الله، قد سُئلَ عن ملكوتِه، فدِينَ بيدِ إنسانٍ وحُكِمَ عليه بالإعدام، يُشكِلُ مبدأَ الشَّهادةِ الأخيرةِ لله، الَّذي أحبَّ العالمَ حبًّا جمًّا (يو 3: 16). نحنُ أمام هذه الشَّهادة، ونعرِفُ أنَّه لا يحُقُّ لنا أن نغسِلَ أيدينا.

*  *  *

ابتهال: يا يسوعُ النَّاصريّ، يا مَن حُكمَ عليه بالمَوت على الصَّليب، يا شاهِدًا أمينًا لحُبِّ الآب، ارحمْنا.

يا يسوعُ ابنَ الله الَّذي أطاعَ مشيئةَ الآبِ حتّى الموتِ على الصَّليب، ارحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الثَّانية: نتأمّلُ يسوعَ وقد حُمِّلَ صليبَه

نسجدُ لك...

ولمّا هزِئوا منه، نزَعوا عنه الأرجوان، وألبَسوهُ ثيابَه، وخرجوا بِه ليَصلُبوه (مر 15: 20).

*  *  *

تأمُّل: بدأ تنفيذُ الحُكم. فيسوعُ الَّذي حُكمَ عليه بالموت، وُجِبَ عليه أن يحمِلَ صليبَه مِثلَ المحكومينَ الآخرينَ الَّذينَ يتحمّلون العقوبةَ عينَها. "حُسِبَ مع الخطأة" (أش 53: 12). اقترَبَ المسيحُ من الصَّليب، بجسدِهِ الممزَّقِ والمُثخَنِ بالجراح، بوجهِهِ المُدمّى بسبَبِ إكليلِ الشَّوك: "هذا هو الرَّجل" (يو 19: 5)! ففيه كلُّ الحقيقةِ حوْلَ "ابنِ الإنسان" الَّتي أعلنَها الأنبياء، الحقيقةِ حوْلَ "عابِدِ الرَّبِّ" الذي أعلنَه أشعيا: "طُعِنَ بسبب خطايانا... وبجراحِه شُفينا".

وفيه أيضًا مَنطِقٌ خاصٌّ يُحرِّكُ الدَّهشةَ لِما فعلَهُ الإنسانُ بإلهِه. قال بيلاطسُ: "هذا هو الرَّجل" (يو 19: 5)! "أنظُروا ما صنعتُم بهذا الرَّجل"! أمام هذا التَّعجُّب، ارتفعَ صوتٌ آخَرُ: "أنظُروا ما صنعتُم بإلهِكم، في هذا الرَّجل"!

مقاربةٌ لافتة. تداخُلٌ مدهِشٌ بينَ صوتِ ذاك الَّذي نسمعُهُ عَبْرَ التَّاريخ، وذاك الَّذي يصِلُ إلينا عبْرَ وِجدانِنا كمؤمنين. هذا هو الرَّجل! يسوعُ "الَّذي يقالُ له المسيح" (مت 27: 17) حمَلَ الصَّليبَ على كتفَيه (يو 19: 7). وبدأ تنفيذَ الحُكم.

*  *  *

ابتهال: أيّها المسيحُ ابنُ الله، يا مَن تكشِفُ للإنسانِ سرَّ الإنسان، ارحمْنا

يا يسوع، عابِدَ الرَّبِّ، بجراحاتِك شُفينا، ارحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الثَّالثة: نتأمّلُ يسوعَ وقد سقطَ مرّةً أولى

نسجدُ لك...

"حمَلَ عاهاتِنا وتحمَّلَ أوجاعَنا، فحسِبناهُ مَضروبًا من اللهِ ومَنكوبًا. وهو مجروحٌ لأجلِ مَعاصينا، مَسحوقٌ لأجلِ خطايانا. العِقابُ الَّذي به نالَ لنا السَّلامَ سقَطَ عليه، وبجراحِه شُفينا، كلُّنا كالغنمِ ضَلَلنا. مالَ كلُّ واحدٍ إلى طريقِه، فألقى عليه الرَّبُّ إثمَ جميعِنا" (أش 53: 4-6).

*  *  *

تأمّل: سقطَ يسوعُ تحتَ الصَّليب. سقطَ على الأرض. ما لجأ إلى قوى تفوقُ الطَّبيعة. ما لجأ إلى قوّةِ الملائكة: "أتظُنُّ أنّي لا أقدِرُ أن أطلبَ إلى أبي، فيُرسلَ لي في الحالِ أكثرَ من اثني عشَرَ جيشًا من الملائكة" (مت 26: 53)؟ لا، ما طلبَ هذا. بما أنَّه قبِلَ الكأسَ من يدِ أبيه (مر 14: 26وز)، أرادَ أن يَشربَها حتّى الثَّمالة. هذا ما أراد. ولهذا ما فكَّرَ بأيَّةِ قوّةٍ عُلويَّة، مهما كانتْ في مُتناولِ يدِه.

قد يُحسُّ بدَهشةٍ مُؤلمةٍ أولئكَ الَّذين رأوا سلطتَهُ على الضُّعفِ البشريّ، على التَّشوّهات، على الأمراض، على الإرهاق، بل على المَوت. هل يتخلّى عن ذلك؟ ومع ذلك "كنّا نَرجو". هذا ما قالَهُ بعدَ أيّامٍ التِّلميذان على طريقِ عمّاوس (لو 24: 21). "خلِّصْ نفسَكَ إن كنتَ ابنَ الله" (مت 27: 40). هذا ما هتفَ به أعضاءُ المجلس. وصاحَ الجمْع: "خلَّصَ آخرين وما استطاعَ أن يُخلِّصَ نفسَهُ" (مر 15: 31؛ مت 27: 42).

أمّا هو فقَبِل كلَّ هذه الهجماتِ الَّتي بدَتْ كأنَّها تُلغي مَعنى رسالتِه وكلماتِه ومعجزاتِه. قبِلَ كلَّ هذه الأقوال وما أرادَ أن يُعارضَها. أرادَ أن يُحتقَر. أرادَ أن يَسقُطَ. أرادَ أن يقعَ تحتَ الصَّليب. أراد. هو أمينٌ حتّى النِّهاية، حتّى أدقِّ تفاصيلِ قَولِ الكتاب: "لا ما أنا أريدُ، بل ما أنتَ تُريد" (مر 14: 36 وز).

من سقَطاتِ يسوعَ تحتِ ثقْلِ الصَّليب، استخرَجُ اللهُ خلاصَ البشريّة.

*  *  *

ابتهال: يا يسوعُ، يا حمَلاً وديعًا فاديًا، يا مَن تَحمِلُ خطيئةَ العالم، إرحمْنا.

يا يسوعُ، رفيقَنا في زمنِ الضِّيق والمتضامِنُ مع الضُّعفِ البشريّ، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الرَّابعة: نتأمّلُ يسوعَ حين التقى بأمِّه

نسجدُ لك...

قال سمعانُ الشَّيخُ لمريمَ أمّه: "هذا الطِّفلُ اختارَهُ اللهُ لسُقوطِ كثيرٍ من النَّاس وقيامِ كثيرٍ منهم. وهو علامةٌ من الله يُقاومونَها. وأمّا أنت، فسَيفُ الأحزانِ سينفُذُ في قلبِك..." وحفِظَتْ أمُّه هذا كلَّه في قلبِها" (لو 2: 34-35، 51).

*  *  *

تأمّل: الأمُّ. التقَتْ مريمُ ابنَها على طريقِ الصَّليب. صارَ صليبُه هو صليبَها هي. وذلُّ المسيحِ صارَ ذِلَّ أمِّه، وعارُه العلَنيُّ صارَ أيضًا عارَها. ذاك هو النِّظامُ البشريّ للأشياء. وهذا ما أحسَّ به الَّذينَ أحاطوا بمريم، وهذا ما أحسَّ به قلبُها: "سينفُذُ سيفٌ في نفسِك" (لو 2: 35). فالنبوءةُ الَّتي أُعلِنَتْ ساعةَ كان يسوعُ ابنَ أربعين يومًا، تمَّتْ في هذه اللَّحظة. ومنذُ الآنَ وصلَتْ إلى ملء أعماقِها. إذن، توجَّهَتْ مريمُ إلى هذا السَّيفِ الخفيّ، إلى جلجلةِ ابنِها، إلى جلجلتِها هي. تراها التَّقوى المسيحيّةُ مع هذا السَّيفِ في قلبِها، وهكذا تُصوِّرُها وترسمُها على أنَّها أمُّ الأوجاع.

"أنتِ يا مَن شاركتِه في آلامِه". هذا ما يُردِّدُه المؤمنون، وهم واعون في أعماقِ قلبِهم أنَّهم هكذا يُعبِّرون عن سرِّ هذا الألم. مع أنَّ هذا هو ألمُها الخاصّ الَّذي يُدركُها في عمقِ أمومتِها، إلاّ أنَّ التَّعاطُفَ هو ما يعبِّرُ عن ملء حقيقةِ هذا الألم. هذا التَّعاطفُ ينتمي إلى السِّرِّ عينِه، فيعبِّرُ في شكلٍ من الأشكال، عن اتّحادِها بألمِ ابنِها.

*  *  *

ابتهال: يا قدّيسةُ مريم، يا أمَّنا وأختَنا في حَِجَّةِ إيمانِنا، معكَ نَدعو ابنَكِ يسوع ونقولُ لهُ: إرحمْنا.

يا قدّيسةُ مريم، يا شجاعةً في صعودِكِ إلى الجلجلة، معنا توسَّلي إلى ابنِك يسوعَ فنقولُ لَهُ: إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الخامسة: نتأمَّلُ يسوعَ حين أعانَهُ سمعانُ القيرينيُّ ليَحمِلَ صليبَه

"وسخَّروا لحمْلِ صليبِه سمعانَ القيرينيّ، أبا اسكندر وروفس، وكانَ في الطَّريقِ راجِعًا من الحقْل. وجاؤوا بيسوعَ إلى المكانِ المَعروفِ بالجُلجثَة، أي مكانِ الجُمجُمة (الجُلجُلة)" (مر 15: 21-22)

*  *  *

تأمّل: دُعي سمعانُ القيرينيّ ليَحمِلَ الصَّليب (مر 15: 21؛ لو 23: 26). من المؤكَّدُ أنَّه ما أرادَ أن يحمِلَهُ. إذنْ فُرِضَ علَيه ذلِكَ فرْضًا. مشى بجانبِ يسوع وهو يَنحني تحتَ الثِّقلِ عينِه. قدَّمُ لَهُ كتفَيه، لأنَّ كتفَي هذا المحكومِ بدَتْ جِدَّ ضعيفَة. كان بقربِه، أقربَ من مريم، أقربَ من يوحنّا الَّذي ما طُلِبَ منهُ مساعدةٌ معَ أنّه رجُل.

دعُوه. فرَضوا عليه. كمْ طالَت مدّةُ هذا الإكراه؟ كمْ منَ الوقتِ مشى بجانبِه فأظهرَ بموقفِه أنَّ لا علاقةَ له مع المحكوم، ولا مع ذنبِه، ولا معَ عِقابِه؟ كمْ من الوقتِ سارَ هكذا، وهو مقسومٌ في الدَّاخل، مع حاجِزٍ من اللامبالاةِ يَفصلُه عن هذا الإنسانِ المُتألِّم؟ "كنتُ عريانًا، كنتُ عطشانًا، كنتُ سجينًا" (مت 25: 35-36). أنا حمَلتُ الصَّليب... وأنت، هل حمَلتَهُ معي؟ هل حمَلتَه حقًّا معي حتّى النِّهاية"؟

هذا ما لا نعرفُه. أعطانا مرقسُ فقط اسمَ ابنَي القيرينيّ. وأخبرَ التَّقليدُ أنَّهما انتَمَيا إلى جماعةٍ مسيحيّة تحلَّقَتْ حولَ القدِّيسِ بُطرس (روم 16: 13).

*  *  *

ابتهال: أيُّها المسيحُ، السَّامريُّ الصَّالح، صِرتَ قريبًا منَ الفقراء، منَ المرضى، منَ الصغار، إرحمْنا.

أيُّها المسيح، عابِدُ الأزليّ، أنظُرْ إلى كلِّ فِعلِ حُبٍّ يُفعَلُ للمنفيِّينَ والمُهمَّشين والغُرباء، كأنَّهُ يُفعَلُ لكَ، إرحمْنا

أبانا الذي...

 

المرحلةُ السَّادسة: نتأمّلُ فيرونيكا تَمسَحُ وجهَ يسوع

نسجدُ لك...

"لا شكلَ لهُ فنَنظُرَ إليه، ولا بهاء، ولا جمالَ فنَشتهيه. مُحتقَرٌ مَنبوذٌ من النَّاس، وموجَعٌ مُتمرِّسٌ بالحُزن، ومِثلَ مَن تُحجَبُ عنه الوجوهُ نَبذْناهُ وما اعتبَرْناه" (أش 53: 2-3).

*  *  *

تأمّل: حدَّثَنا التَّقليدُ أيضًا عن فيرونيكا. فقد تُكمِّلُ خبَرَ القيرينيّ. فمِنَ الأكيدِ أنَّها كامرأة، لم تكنْ لِتقدِرَ أن تحمِلَ الصَّليبَ على كتفَيها، وبالتالي، لم يُفرَضْ علَيها ذلك. ومع ذلك، حمَلَتِ الصَّليبَ، بلا شكّ، مع يسوعَ: حمَلتْهُ كما استطاعَت، وكما تمكَّنَتْ أن تَفعَل في هذه اللَّحظة، كما أملى عليها قلبُها. ومسحَتْ وجهَه.

هذا التَّفصيلُ الَّذي أوردَهُ التَّقليد، يبدو مِن السَّهلِ أن نشرَحَه: فعلى القِماشِ الَّذي استعملَتْهُ لِتَمسحَ وجهَ المسيح، تُرِكَتْ سِماتُه أثَرًا. وبما أنّه تَغطّى كلَّ التَّغطيةِ بالدَّمِ والعرَق، تُركَتْ آثارُه ومعالمُ وجهِه.

ولكنْ إنْ نظَرْنا هذا التَّفصيلَ على ضوء خُطبةِ يسوع في النِّهاية، نستطيعُ أن نُفسِّرَه في شكلٍ آخر. فكثيرون هم الَّذين سيسألون: "يا ربُّ، متى فعَلْنا لكَ ذلك"؟ فيجيبُ يسوع: "كلَّ مرّةٍ فعلتُموه لأحدِ إخوتي هؤلاء الصِّغارِ فلي فعلتُموه" (مت 25: 37-40). ويَطبَعُ المخلِّصُ شِبهَهُ على كلِّ فِعلِ محبَّة، كما على مَنديل فيرونيكا.

*  *  *

ابتهال: يا وجهَ الرَّبِّ يسوعَ الَّذي شوَّهَهُ الألم، وشَعَّ بمجدِ الله، إرحمْنا.

أيّها الوجهُ المُقدَّس، يا مَن طُبِعَ كخَتْمٍ على كلِّ فعلِ حُبّ، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ السَّابعة: نتأمّلُ يسوعَ يَسقُطُ للمرَّةِ الثَّانية

نسجدُ لك...

"أنا رجلٌ رأى البؤسَ تحت عصا غضبِه. قادَني وأدخلَني ظلمةً لم يكُنْ فيها نور. سدَّ طُرُقي بالحِجارةِ وعوَّجَ مَسالِكي... هشَّمَ بالحَصى أسناني، ومرَّغَني في الرَّماد. (مرا 3: 1-2، 9، 16)

*  *  *

تأمّل: "وأنا دودةٌ، لا إنسان. هزِئ بي النَّاس. ورذلَني الشَّعب" (مز 22: 7). هذا المزمورُ النَّبويُّ وَجدَ ملءَ تحقيقِه في شوارعِ أورشليمَ الضَّيِّقةِ والصَّاعدة، خلالَ السَّاعاتِ الأخيرةِ قبْلَ الفِصح. ونحنُ نعرِفُ أنَّ هذه السَّاعاتِ الَّتي تسبِقُ العيدَ حامية، والشَّوارِعَ مَليئةٌ بالنَّاس. في هذا السِّياقِ تمَّتْ كلماتُ المزمور، وإن لم يُفكِّرْ فيه أحد. ما وعى ذلك، أولئكَ الَّذينَ أظهَروا احتقارَهم، أولئك الَّذين صارَ لهم يسوعُ النَّاصريّ هزُءًا، ما عرَفوا ذاك الَّذي سقطَ للمرَّةِ الثَّانيةِ تحتَ الصليب.

ولكنَّهُ أرادَ ذلك. أرادَ أن تتِمَّ النُّبوءة. لهذا سقطَ وقد أنهكَهُ الجَهدُ. سقطَ بإرادةِ الآب الَّذي عبَّرَ أيضًا عن نفسِه في كلماتِ النَّبيّ. سقطَ بإرادتهِ الخاصَّة، وإلاّ "فكيفَ تَتِمُّ الكتُب" (مت 26: 54)؟ "أنا دودةٌ، لا إنسان" (مز 22: 7). إذَن، لا فقط "هذا هو الرَّجل"، بل أقلُّ من ذلك وأدنى.

الدُّودةُ تزحَفُ. تلتصِقُ بالأرض. أمّا الإنسانُ فهو ملِكُ الخليقة. يقفُ ويَمشي على الأرض. الدُّودة تنخرُ أيضًا الخشَب، والنَّدامةُ تنخُرُ ضميرَ الإنسان. ندامةٌ لسقطةِ المسيح الثَّانية.

*  *  *

ابتهال: يا يسوعُ النَّاصريّ، الَّذي صارَ عارًا للبشرِ لكَي يُعيدَ إلى جميعِ الخلائقِ نُبلَها، إرحمْنا.

يا يسوعُ، خادِمَ الحياة، يا مَنْ سحقَهُ البشرُ ورفعَهُ اللهُ، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الثَّامنة: نتأمَّلُ يسوعَ يَلتَقي بنساءِ أورشليم

نسجدُ لك...

"فالتفتَ يسوعُ إليهِنَّ وقال: "لا تبكَينَ عليّ، يا بناتِ أورشليم، بل ابكَينَ على أنفسِكنَّ وعلى أولادِكنّ. ستَجيء أيّامٌ يُقالُ فيها: هنيئًا للَّواتي ما حبَلنْ ولا أرضعْنَ! ويُقالُ للجبال: أُسقُطي علَينا! وللتلال: غطِّينا! فإذا كانوا هكذا يَفعلونَ بالغُصنِ الأخضر، فكيف تكونُ حالُ الغصنِ اليابس" (لو 23: 28-31).

*  *  *

تأمّل: ذاك هو النِّداءُ إلى التَّوبة، إلى التَّوبة الحقَّة، إلى النَّدمِ الَّذي يرى الشَّرَّ الَّذي اقترفناهُ في كلِّ حقيقتِه. قالَ يسوعُ لنساء أورشليم اللَّواتي بكَين حين رأينَه: "لا تبكَينَ عليّ، بلِ ابكَينَ على أنفسِكنّ وعلى أولادِكنّ" (لو 23: 28). لا نستطيعُ أن نبقى على سطحِ الشَّرّ، بل يجبُ أن نَمضيَ إلى جذورِه، إلى أسبابِه، إلى حقيقةِ الضَّميرِ في عُمقِه.

وهذا ما يريدُ يسوع أن يقولَهُ لنا حين حمَلَ صليبَه. هو الَّذي، منذُ البداية "عرِفَ بنفسِهِ ما في الإنسان" (يو 2: 25). والَّذي يعرِفُه دومًا. لهذا يجبُ أن يبقى، على الدَّوامِ، الشَّاهِدَ الأقربَ لأعمالِنا، ولأحكامِنا الَّتي نحكُمُ بها على هذه الأعمال، في ضميرِنا. وقد يُعطينا أنْ نفهمَ أنَّهُ يجبُ أن تكونَ هذه الأحكامُ هادئة، فِطنَة، موضوعيّة. قال: "لا تبكَين"! وفي الوقتِ عينِه إذ رآنا مربوطينَ بكلِّ ما تتضمَّنُ هذه الحقيقة، نبَّهَنا هو إليها لأنّه هو الَّذي يحمِلُ الصَّليب.

أتوسَّلُ إليك، يا ربّ. هبْني أن أعرِفَ كيف أعيشُ الحقيقةَ وأسيرُ في الحقيقة.

*  *  *

ابتهال: أيُّها الرَّبُّ يسوع، الحكيمُ والرَّحيم، يا حقيقةً تقودُ إلى الحياة، إرحمْنا.

أيُّها الرَّبُّ يسوعُ الرَّؤوف، حضورُكَ يُنشِّفُ الدَّمعَ في وقتِ الضِّيق، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ التَّاسعة: نتأمّلُ يسوعَ وقد سقطَ للمرَّةِ الثَّالثة

نسجدُ لك...

"خيرٌ للإنسانِ أنْ يحمِلَ نِيرَهُ منذُ صِباه. يجلِسُ وَحدَهُ ويسكُت عندما يضعُ نِيرَه عليه. يَنحني بفمِه على التُّراب آملاً أن يجدَ الرَّجاء. يُعطي خدَّهُ لمَنْ يَلطِمُه، ويقبَلُ أن يشبَعَ تَعييرًا. الرَّبُّ لا يتخلّى دائمًا إلى الأبد. فهو ولو عاقبَ يَحنو بحسَبِ كثرةِ رأفتِه" (مرا 3: 27-32).

*  *  *

تأمّل: "واضعَ نفسَهُ وصارَ طائِعًا حتّى الموتِ والموتِ على الصَّليب" (فل 2: 8). كلُّ مرحلةٍ على هذه الدَّرب، هي معلِّمٌ لهذه الطَّاعةِ ولهذا الامِّحاء.

ونحنُ نَعي مِقدارَ هذا الامّحاء حينَ نتبَعُ أقوالَ النَّبيّ: "ألقى عليه الرَّبُّ إثمَ جميعِنا... كلُّنا كالغنمِ ضلَلْنا، مالَ كلُّ واحدٍ إلى طريقه، فألقى عليه الرَّبُّ إثمَ جميعِنا" (أش 53: 6).

ونحن نعي مِقدارَ هذا الامّحاء حين نرى يسوعَ يسقُطُ للمرَّة الثَّالثة، تحتَ ثِقْلِ الصَّليب. ونحنُ نَعي ذلك حين نرى مَن هو ذاك الَّذي يَسقُط. ذاك الَّذي يُرمى على ترابِ الطريق، تحتِ الصَّليب، لدى أقدامِ أناسٍ مُعادين، ما تركوا إذلالاً ولا هُزءًا إلاّ وألقَوه عليه.

من هو ذاك الَّذي سقط؟ من هو يسوعُ المسيح؟ "هو الَّذي كان في صورةِ الله، فما اعتبرَ مُساواتَهُ للهِ غنيمة، بل أخلى ذاتَه واتّخذَ صورةَ العبد. صار شَبيهًا بالبشر وظهرَ في صورةِ الإنسان. تواضعَ حتّى الموت، الموتِ على الصَّليب" (فل 2: 6-8).

*  *  *

ابتهال: يا يسوعُ المسيح، عرفتَ مرارةَ أرضِنا لتُحوِّلَ تَنهّداتِ الألم إلى نشيدِ حمْد، إرحمْنا.

يا يسوعُ المسيح، يا مَن تنازلتَ فأخذتَ بشريّتَنا لتُعيدَ إلى الخليقة كلَّ نُبلِها، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ العاشرة: نتأمَّلُ يسوعَ وقد عُرِّي من ثيابِه

نسجدُ لك...

"ثمَّ صلبوه واقتسَموا ثيابَه بينهم بالقُرعة، ليعرِفوا حِصّةَ كلِّ واحد" (مر 15: 24).

*  *  *

تأمّل: على الجلجلةِ عُرِّي يسوعُ من ثيابِه (مر 15: 24 وز). عندما راحَتْ أفكارُنا إلى أمِّه، إلى أصولِ هذا الجسدِ نفسِه، الَّذي صارَ جِرحًا كبيرًا (أش 52: 14)، حين أُعِدَّ للصَّلب، في سرِّ التَّجسُّد، أخذَ ابنُ الله جسَدًا في حشا العذراء (مت 1: 23، لو 1: 26-38).

كلَّمَ ابنُ الله أباه بفمِ المُرتِّل: "ما طلبتَ محرقةً ولا ذبيحةً عن الخطيئة... بل صنعْتَ لي جسَدًا" (مز 40: 8، 7؛ عب 10: 6، 5). جسدُ الإنسانِ يُعبِّرُ عن نفسِه. وجسَدُ المسيحِ يُعبِّرُ عن حبِّه لأبيه: "حينئذٍ قلتُ: ها أنا آتٍ... لأصنعَ مشيئتَك، يا الله" (مز 40: 9؛ عب 10: 7). "أنا أعملُ دومًا ما يُرضيه" (يو 8: 29).

هذا الجسدُ المُعرّى يُتِمُّ مشيئةَ الابنِ ومشيئةَ الآبِ من خلالِ كلِّ جُرح، من خلالِ كلِّ وجَع، من خلالِ كلِّ عضلٍ تمزَّق، من خلال كلِّ نُقطةِ دمٍ سالَتْ، من خلال تَعَبِ اليدَين، وجراحِ العنُقِ والكتفَين، وشدِّ الوجهِ القاسي. هذا الجسدُ يُتمُّ مشيئةَ الآب ساعةَ يُعرّى ابنُهُ من ثيابِه ويُعامَلُ كموضوعِ عذاب، وهو يُخفي في ذاتِه العذابَ الكبيرَ للبشريّةِ المشوَّهة.

جسدُ الإنسانِ مشوَّهٌ بألفِ شكلٍ وشكل.

قُرْبَ هذه المرحلة، يجبُ أن نفكِّرَ بأمِّ المسيح، لأنّها عبدَتْ في قلبِها وبعينيها وبيدَيها، جسدَ ابنِ الله، مِلءَ العبادة.

*  *  *

ابتهال: يا يسوعُ، يا جسدًا مقدَّسًا، أنت مشوَّهٌ في أعضائِكَ الأحياء، إرحمْنا.

يا يسوع، يا جسدًا قُدِّمَ حبًّا، أنتَ مَقسومٌ بعدُ في أعضائِكَ، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الحاديةَ عشْرة: نتأمَّلُ يسوعَ مُسمَّرًا على الصَّليب.

نسجدُ لك...

"وكانتِ السَّاعةُ التَّاسعةَ صباحًا حين صلَبوه. وكتبوا في عنوانِ الحُكمِ عليه: "ملكُ اليهود". وصلَبوا معه لصَّين، واحدًا عن يمينِه، وواحدًا عن شمالِه" (مر 15: 25-27).

*  *  *

تأمّل: "ثقَبوا يديَّ ورِجليَّ وأحصوا كلَّ عظامي" (مز 22: 17-18). أحصوا: يا للكلامِ النَّبويّ! ومع ذلك، نحن نعرِفُ أنَّ هذا الجسدَ هو عربون، أنّ الجسدَ كلَّه عربون، أي اليدانِ والرِّجلانِ وكلَّ عظمٍ من العظام. الإنسانُ كلُّه في قِمّةِ الانشداد: الهيكلُ العظميّ، العضلات، الأعصاب. كلُّ عُضْو، كلُّ خليَّة، هذا كلُّه هو في قِمّةِ الانشداد. "وأنا إذا ما ارتفعْتُ عن الأرضِ جذَبْتُ إليّ النَّاسَ أجمَعين" (يو 12: 32).

تلكَ هي العبارةُ الَّتي تعبِّرُ ملءَ التَّعبيرِ عن واقِعِ الصَّلب. وفيه كجزءٌ لا يَتجزَّأ، هذا الانشدادُ القاسي الَّذي يجتاحُ اليَدينِ والرِّجلينِ والعِظام. إنشدادُ الجسدِ الَّذي صلبوه كشَيء على قائمتَي الصَّليبِ لمَحْوِهِ حتّى النِّهايةِ في حشرَجاتِ الموت. والعالمُ كلُّه دخلَ في هذا الواقعِ نفسِه، واقعِ الصَّلب. هذا العالَمُ الَّذي أرادَ يسوعُ أن يجتذِبَهُ إليه (يو 12: 32). ففي العالم، ثِقْلُ هذا الجسدِ الهامدِ الَّذي يشدُّهُ إلى أسفل.

إنّ ألمَ المصلوبِ هو نتيجةُ هذا الثِّقْل.

"أنتُم من أسفل وأنا من فوق" (يو 8: 32). على الصَّليبِ كانت أولى كلماتِ يسوع: "إغفِرْ لهم، يا أبي، لأنَّهم لا يعرِفون ما يفعَلون" (لو 23: 34).

*  *  *

ابتهال: يا مَسيحًا صلبَهُ البُغضُ فصارَ بحُبِّه علامةَ المصالحةِ والسَّلام، إرحمْنا

يا مسيحًا افتَدَيتَ بدمِكَ المسفوكِ على الصَّليب، الإنسانَ والعالمَ والكون، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الثَّانيةَ عشْرة: نتأمّلُ يسوعَ مائِتًا على الصَّليب

نسجدُ لك...

"وعندَ الظُّهر، خيَّمَ الظَّلامُ على الأرض كلِّها حتّى السَّاعةِ الثَّالثة. وفي السَّاعة الثَّالثة، صرخَ يسوعُ بصوتٍ عظيم: "إيلوي، إيلوي، لما شبقتاني" أي "إلهي، إلهي، لماذا تركتَني"؟... أمّا يسوعُ فصرخَ صرخةً عاليةً وأسلمَ الرُّوح... وكانَ قائِدُ الحرَسِ واقفًا تُجاهَ الصَّليب. فلمّا رأى كيف أسلَمَ يسوعُ الرُّوحَ، قال: "بالحقيقةِ كانَ هذا الرَّجلُ ابنَ الله" (مر 15: 33-34، 37-39)

*  *  *

تأمّل: ذاك هو أرفعُ عمَلٍ وأسماه قامَ به الابنُ المتَّحٍدُ بالآب. أجل، مُتَّحدًا أعمقَ اتّحادٍ كان، ساعةَ صرخَ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتَني" (مر 15: 34؛ مت 27: 46). وهذا العملُ عبَّرَ عن نفسِه بجسدٍ مَمدودٍ على قاعدةِ الصَّليبِ العَموديّة، وبيدَين مَمدودتَينِ على القائمةِ الأفقيَّة. فالإنسانُ الَّذي ينظُرُ إلى هاتَين اليدَين، يستطيعُ أن يَتخيَّلَ المجهودَ الَّذي قام بهِ الابنُ ليَضُمَّ الإنسانَ والعالَم.

هما يَتعانقان.

هذا هو الرَّجل. هذا هو اللهُ نفسُه: "فيه أُعطِي لنا أن نَحيا ونتحرَّكَ ونُوجَد" (أع 17: 28). فيه، بين هاتَين اليدَين الممدودتَينِ على قائمةِ الصَّليبِ الأفقيّة، سرُّ الفداء.

يسوعُ مسمَّرٌ على الصَّليب، جامدٌ في هذه الوقفةِ المريعة، يدعو الآب (مر 15: 34؛ مت 27: 46؛ لو 23: 46). كلُّ دعاءاتِه تدُلُّ على أنّه واحدٌ معَ الآب: "أنا والآب واحد" (يو 10: 30)، "مَن رآني رأى الآب" (يو 14: 9). "أبي يعملُ حتّى الآن، وأنا أيضًا أعمل" (يو 5: 17).

*  *  *

ابتهال: يا ابنَ الله، اذكرْنا في ساعةِ الموتِ الأخيرة، إرحمْنا

يا ابنَ الله، اذكرْنا، وجدِّدْ بروحِكَ وجهَ الأرض، إرحمْنا

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الثَّالثةَ عشْرة: نتأمَّلُ يسوعَ وقد أُنزِلَ عن الصَّليب

نسجدُ لك...

وكان المساءُ اقترب: فجاء يوسفُ الرَّامي، وكانَ من أعضاء مَجلسِ اليهود البارزين. وبين الَّذين ينتظرونَ ملكوتَ الله... فاشترى كفَنًا، وأنزلَ جسدَ يسوعَ عن الصَّليب (مر 15: 42-43، 46).

*  *  *

تأمّل: ساعةَ أُنزِلَ جسدُ يسوعَ عن الصَّليبِ ووُضِعَ بينَ ذِراعَي أمِّه، ظهرَتْ أيضًا أمامَ عيونِنا تلك اللَّحظةُ الَّتي فيها قبِلَتْ مريمُ تَحيّةَ الملاك جبرائيل: "ها أنتِ تَحبَلينَ وتَلدينَ ابنًا وتَدعَينَ اسمَهُ يسوع... الرَّبُّ الإلهُ يُعطيه عرشَ داودَ أبيه... ولا يكونُ لملكِه انقضاء" (لو 1: 31-33). فأجابَتْ مريم: "ليكُنْ لي حسَبَ قولِك" (لو 1: 38)! واكتَفَتْ. فكأنّها أرادَتْ أن تُعبِّرَ في ذلك الوقت عمّا تعيشُه الآنَ هنا.

في سرِّ الفداء نَلتقي النِّعمةَ أي هبةَ الله نفسِه، و"فداءَ" قلبِ الإنسان. في هذا السِّرِّ نتنعَّمُ بمَوهبةٍ آتيةٍ من العلاء (يع 1: 17). وفي الوقتِ عينِه افتَدانا ابنُ الله فصارَ فِديةً من أجلِنا (1 كور 6: 20؛ 7: 23؛ أع 20: 28). ومريمُ الَّتي غمرَتْها المواهبُ كما لم تَغمُرْ إنسانًا، دفعَتْ الثَّمنَ الأغلى، بقلبِها.

وارتبطَ بهذا السِّرّ، الوَعدُ العجيبُ الَّذي عبَّرَ عنهُ سِمعانُ في الهيكل: "وأنتِ سيَجوزُ في قلبِكِ سَيف، فتُكشَفُ أفكارٌ سِرّيَّةٌ عنْدَ الكثيرين" (لو 2: 35).

وهذا أيضًا تَمّ. كم هي القُلوبُ البشريّةُ الَّتي تتفتَّحُ أمامَ قلْبِ هذه الأمِّ الَّتي دفعَتِ الثَّمنَ الغالي:

يسوعُ هو، من جديد، كلُّه بين ذراعَيها، كما كان في مِذودِ بيتَ لحم (لو2: 16)، وخلالَ الهرَبِ إلى مصر (مت 2: 14) وفي النَّاصرة (لو 2: 39-40).

*  *  *

ابتهال: يا قدّيسةُ مريم، يا أمَّ التَّقوى العميقة، معكِ نفتَحُ ذراعَينا للحياة، ومعكِ نتوسَّلُ مُتضرِّعين: إرحمْنا.

يا قدّيسةُ مريم يا أمَّ الفادي وشريكتَه، نتَّحِدُ بكِ فنتقبَّلَ المسيحَ ونَدعوه، وملءُ قلبِنا الرَّجاء، إرحمْنا

أبانا الذي...

 

المرحلةُ الرَّابعةَ عشْرة: نتأمَّلُ يسوعَ وقد وُضِعَ في القبر.

نسجدُ لكَ...

يوسفُ الرَّامي جعلَ جسدَ يسوعَ في كفنٍ ووضعَهُ في قبرٍ مَحفورٍ في الصَّخر. ثمّ دحرجَ الحجرَ على بابِ القبر. وشاهدَتْ مريمُ المجدليّة ومريمُ أم يوسي أين وضعوه (مر 15: 46-47).

*  *  *

تأمّل: منذُ الوقت الَّذي فيه أُبعِدَ الإنسانُ عن شجرةِ الحياة بسببِ الخطيئة (تك 3: 23-24). صارَتِ الأرضُ قبرًا. عددُ النَّاسِ يُوازي عددَ القبور. كوكبٌ كبيرٌ في القبور.

قرْبَ الجُلجلة وُجِدَ قبرٌ خصَّ يوسفَ الرَّامي (مت 27: 60). بعد اتّفاقٍ مع بيلاطس، وُضِعَ هناك جسدُ يسوعَ بعد أن أُنزِلَ عن الصَّليب (مت 15: 42-46 وز). وُضِعَ هناك بسرعةٍ لكي يَنتهيَ كلُّ شيء قبْلَ عيدِ الفصح (يو 19: 31) الَّذي يبدأ في العشيَّة.

بينَ جميعِ القبورِ المُوزّعةِ على قاراتِ كوكبِنا، هناك قبرٌ فيه غلبَ ابنُ الله، الإنسانُ يسوعُ المسيح، الموتَ بالموت. فأين غلبتُكَ يا موت؟ وشجرةُ الحياة الَّتي أُبعِدَ الإنسانُ عنْها بسببِ الخطيئة، انكشفَتْ للبشَر، بشكلٍ جديد، في جسدِ المسيح. "مَنْ يأكلُ من هذا الخبزِ يَحيا إلى الأبد. الخبزُ الَّذي أُعطيه هو جسدي لحياةِ العالم" (يو 6: 51).

ومعَ أنّ كوكبَنا، أرضَنا، ما زال يَمتلئ بالقبور، فتحفَّرُ المدافنُ الَّتي إليها يعودُ الإنسانُ الَّذي خرجَ من التُّراب ليَعودَ إلى التُّراب (تك 3: 19)، فجميعُ البشر الَّذين ينظرونَ إلى قبرِ يسوعَ المسيح، يحيَون مع ذلك في رجاء القيامَة.

*  *  *

ابتهال: أيُّها الرَّبُّ يسوع، قيامتُنا تدمِّرُ الموتَ في قبرٍ جديد وتُعطي الحياة، إرحمْنا

أيّها الرَّبُّ يسوع، يا رجاءَنا، جسدُك المصلوبُ والمُنبعثُ هو شجرةُ الحياةِ الجديدة، إرحمْنا.

أبانا الذي...

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM