درب الصليب
اجتمعنا اليوم كي نتبعَ الربَّ يسوع على الطَّريق الَّتي تقودُ إلى الجُلجلة. سنجدُ هناك أشخاصًا تبِعوه حتّى النَّهاية: أمَّه، التِّلميذَ الحبيب، النِّسوةَ اللَّواتي سِرنَ وراءَه وحمَلنَ الإنجيل. ثمّ جميعَ الَّذين أحسّوا بالشَّفقة فسَعَوا أن يُعزَّوه ويُخفِّفوا عذاباته. ونلتقي أيضًا جميعَ الَّذين قرّروا موتَه فمنحَهم غفرانَه في حبِّه العظيم.
نطلبُ إليه أن يفيضَ في قلوبِنا العواطفَ الَّتي كانَتْ عواطفَه (فل 2: 5) لكَي نعرفَ المسيحَ ونختبرَ قُدرةَ قيامتِه ونُشاركَه في آلامهِ ونتشبَّه به في موتِه، على رجاء البُلوغِ إلى القيامة من بين الأموات" (فل 3: 10-11).
(بعد دقيقة صمت)
يا يسوعُ، يا ضحيّةً بريئةً من الخطيئة، تقبَّلْنا لنكونَ رفاقَك على طريقِ الفِصح الَّتي تقودُ من الموتِ إلى الحياة. وعلِّمْنا أن نحيا الزَّمنَ الَّذي نعيشُه على الأرض، مُتجذِّرينَ في الإيمان بك، أنتَ يا من أحببتَنا وسلّمتَ ذاتَك عنّا (فل 2: 20).
أنتَ أيّها المسيح، أنتَ الرَّبُّ الوحيد، الحيُّ والمالكُ إلى دهرِ الدُّهور. آمين
المرحلةُ الأولى: يسوعُ في بستانِ الزَّيتون
نسجدُ لك أيُّها المسيحُ ونُباركك، لأنّكَ بصليبِكَ المقدَّس خلَّصْتَ العالم.
ثمّ خرجَ يسوعُ وذهبَ... لئلاّ تَدخلُوا في تجربة (لو 22: 39-46).
تأمّل: وصلَ يسوعُ إلى عتبةِ الفِصح، ووقفَ في حضرةِ أبيه. كيفَ يُمكِنُ أنْ يكونَ الوضعُ إلاّ هذا الوضع، لأنَّ حِوارَ الحُبِّ الخَفيِّ مع أبيه ما تَوقَّف يَومًا. "أتتِ السَّاعة" (يو 16: 32). السَّاعةُ الَّتي استَشفَّها الابنُ منذُ البداية، وأعلنَها التَّلاميذ. هذه السَّاعةُ الَّتي لا تُشبِهُ ساعةً أخرى، الَّتي تتضمَّنُ جميعَ السَّاعاتِ وتُوجِزُها، وهي ساعاتٌ تَنتهي بين يدَيْ الآب. وها هي هذه السَّاعةُ تُصبحُ فجأةً مَثارَ خَوفٍ ورِعدة. وما أخفيَ شيء عنّا من هذا الخوف. وهناك، في قلبِ الضِّيق، لجأ يسوعُ إلى الصَّلاة، لَدى أبيه.
في الجسمانيّة، في تلك الليلة، كانَتْ حربٌ قاسية، مُنهِكَة، مُتلِفة، فتحوَّلَ العرقُ على وجهِ يسوعَ إلى دم، وتَجرّأ يسوعُ مرّةً أخيرة، تُجاهَ أبيه، فعبَّرَ عن القلقِ الَّذي يَجتاحُه: "يا أبي، إنْ شِئتَ، فأبعِدْ عنّي هذه الكأس! ولكنْ لِتَكُنْ إرادتُك لا إرادتي" (لو 22: 24). مشيئتان تتصادمان في لحظةٍ من اللَّحظات. لِتلتقيانِ في استِسلامِ حبٍّ أعلنَهُ يسوعُ فقال: "يجبُ أن يعرِفَ العالمُ أنّي أُحبُّ أبي، وأنّي أعمَلُ كلَّ ما يأمرُني أبي" (يو 14: 31).
* * *
صلاة: يا يسوع، يا أخانا، أردتَ أن تعرِفَ التَّجربةَ والخَوف، لتفتحَ لجميعِ البشرِ طريقَ الفِصح، فعلِّمْنا أن نَلتجئَ إليك وأنْ نُردِّدَ كلماتِكَ الَّتي فيها استَسلمْتَ إلى مشيئةِ الآبِ وقبِلتَ إرادتَه. فهذه الكلماتُ الَّتي قيلَتْ في الجسمانيّة، أعطَتِ الخلاصَ للعالَم. إجعَلِ العالمَ يعرِفُ، عبْرَ تلاميذِكَ، قوَّةَ حبِّكَ الَّذي لا حدودَ لَهُ (يو 13: 1)، قوَّةَ الحُبِّ الَّذي يَقومُ بأنْ نُعطيَ حياتَنا من أجلِ أحبّائِنا (يو 15: 13).
هتاف / دعاء
يا يسوعُ، في بستانِ الزَّيتون، كنتَ وحدَكَ أمامَ أبيك، أعلنْتَ مرّةً أخرى مُوافقتَكَ لمشيئتِه، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الثَّانية: القبضُ على يسوعَ بعدَ أن خانَهُ يهوذا
وبينما هو يتكلَّم، ظهرَتْ عصابةٌ يقودُها المدعوُّ يهوذا، أحدُ الاثنَي عشَر. فدَنا من يسوعَ ليُقبِّلَه. فقالَ لهُ يسوع: "أبِقُبلة، يا يهوذا، تُسلِّمُ ابنَ الإنسان" (لو 22: 32-48).
تأمّل: أوّلَ مرّةٍ ذُكِرَ فيها اسمُ يهوذا، قيلَ عنه: "ذاك الَّذي سوفَ يُسلِمُه" (مت 10، 4؛ مر 3: 19؛ لو 6: 16). هذا الاسمُ المأساويّ، اسمُ الخائن، يبقى مُرتبطًا إلى الأبدِ بذِكراه. كيف استطاعَ أن يصِلَ إلى هذا الدَّرَكِ إنسانٌ اختارَهُ يسوعُ لكي يتبعَه عن قرب؟ هل سيطَرَ على يهوذا حُبٌّ خاب أملُه تُجاهَ يسوع، فانقلَبَ شُكوكًا وغَيظًا. وجعلَتْه القبلةُ يظُنّ أنَّه يقدِرُ أن يُحوِّلَ علامةَ الحُبِّ إلى إشارةٍ تدُلُّ العصابةَ على يسوع.
أو قد يكونُ يهوذا تأكَّلتْهُ خيبةُ الأملِ أمامَ مسيحٍ يَتهرَّبُ من دورٍ سياسيّ فيه يُحرِّرُ شعبَهُ من التَّسلّطِ الأجنبيّ؟ ولكنَّهُ ما عتَّمَ أن لاحظَ أنّ هذا الابتزازَ الدَّقيقَ تحوَّلَ إلى كارثة. ما أرادَ أن يَموتَ المسيح، بل أن يَستيقِظَ، ويتصرَّفَ تصرُّفَ من شَدَّ عزيمتَه. ما حدثَ ما أرادَ فتأسَّفَ لِما فعل، وتركَ أُجرةَ الخيانة (مت 27: 4)، وأغلقَ على نفسِه في اليأس. وحين تحدَّثَ يسوعُ عن يَهوذا على أنَّهُ "ابنُ الهلاك" حصرَ كلامَه بالتَّذكيرِ أنّ الكتابَ قد تمّ (يو 17: 12). هو سرُّ الإثمِ يَتجاوزُنا فلا نَفهمُه. ولكنَّهُ لا يستطيعُ أنْ يتغلَّبَ على سرِّ الرَّحمة.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا هديّةَ البشر. جئتَ على الأرض ولبِستَ جسدَنا لكَي تتضامَنَ مع إخوتِكَ البشر وأخواتِك. يا يسوعُ الوديعُ والمتواضعُ القلب، جئتَ لكَي تحمِلَ الرَّاحةَ إلى جميعِ المتعبينَ والثَّقيلي الأحمال (مت 11: 28-29). ومع ذلك، نرفضُ مرارًا ما تُقدِّمُه لنا من حُبٍّ وحتّى بين الَّذين قبلوك، هناك من أنكروك، وآخرون خانوا التزاماتِهم. ولكنّك ما توقَّفْتَ يومًا عن حبِّهم حتّى تركتَ الآخرينَ كلَّهم ورُحتَ تَطلبُهم كالرَّاعي الَّذي يَطلبُ الخروفَ الضَّالّ، وأنت تَرجو أن تُعيدَهم إليكَ فتَحمِلُهم على كتفَيك (لو 15: 5). وفي النَّاحية استَنَدوا إلى صدرِكَ كالتِّلميذِ الحبيب.
نسلِّمُ إلى رحمتِكَ اللامحدودة أولادَكَ الَّذينَ يتربَّصُ بهم القنوطُ واليأس، أعطِهم أن يَجِدوا ملجأً لدَيك، وأن لا ييأسوا يومًا من مراحمك.
هتاف: يا يسوع، أنتَ تواصِلُ حبَّكَ للَّذينَ يَرفضون حبَّك وتطلُبُ الَّذين يخونونَك ويتركونك، ولا تتعب، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الثَّالثة: المحكمةُ العليا تَحكُمُ على يسوع
ولمّا طلعَ الصُّبح... (لو 22: 66-71)
تأمّل: وقفَ يسوعُ وحدَه مع المحكمةِ العليا لدى اليهود، وقد تألّفَتْ من 71 عضوًا. تلاميذُه هربوا، عاشوا الضَّياعَ حين قُبضَ على مُعلِّمِهم، وبعضُهم حاولَ الرَّدَّ بالعنف. وهربَ ذاك الَّذي، قبْلَ وقتٍ قليل، هتفَ: "نمضي نحنُ أيضًا ونموتُ معه" (يو 11: 16). تغلَّبَ الخوفُ علَيهم. وقساوةُ الحدَثِ سيطرَتْ على عطوبةِ عزْمِهم. تراجَعوا بعدَ أن اجتذَبَهم تيّارُ الجبانة، فتركوا يسوعَ وحدَه يُواجهُ مصيرَه.
ومع ذلك، كوَّنوا حلقةَ أصدقائِه الحميمين. دعاهم يسوعُ "أحبّاءَه" (يو 15: 15). والآن، لا حبَّ حوْلَهُ بعدُ، بل جماعةٌ تحمِلَ العَداء، وقد التحمَتْ في ساعةٍ كانَ يُلمِّحُ إلى أصلِه الإلهيّ. مرّاتٍ عديدة، قبْلَ الصَّلب، حاولَ سامعوه أن يرجموه. قالوا: "نحنُ لا نرجِمُكَ للعملِ الصَّالح، بل لأنَّكَ تُجدِّف، فأنتَ إنسانٌ وتحسَبُ نفسَك الله" (يو 10: 33). والآن، أمَرَه عظيمُ الكهنةِ أنْ يُعلِنَ أمام الجميعَ على السَّحاب. وإذ فعلَ هذا وقَّع حُكمَ موتِه.
* * *
صلاة: يا يسوع، الشَّاهدُ الأمين (رؤ 1: 5)، أمام الموتِ أعلنْتَ بهدوء هُويّتَكَ الإلهيّةَ وأخبرْتَ عن عودتِكَ المجيدةِ في نهايةِ الأزمنة لكَي تُكمِّلَ العمَلَ الَّذي كلَّفَكَ به الآب. نُسلِّمُ إلى رحمتِكَ شكوكَنا ورواحَنا المتواصِلَ ومَجيئَنا بين دَفعاتٍ منَ السَّخاء وأوقاتٍ من الجبانة. ساعةَ نتركُ "همومَ العالمِ وإغراءاتِ الغنى" (مت 13: 22) تخنِقُ الشُّعلةُ الَّتي فجَّرَها نظرُكَ أو كلمتُكَ في قلوبِنا القاسية. أعطِ الَّذين بدأوا يَتبعونك، الشَّجاعةَ لئلاّ يَخافوا أمامَ الصُّعوباتِ وما يُواجِهُهم من تَجرُّدٍ عن الذَّات. ذكِّرْهم أنّكَ الوديعُ والمتواضعُ القلب. وامنَحْهم أن يَختبِروا هذه الرَّاحةَ الَّتي تستطيعُ وحدَك أن تُقدِّمَها (مت 11: 28-30).
هتاف: يا يسوع، كنتَ هادِئًا أمامَ موتِكَ القريب، وأنتَ البارُّ وحدَكَ أمام ظُلمِ المحكمةِ العليا. لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الرَّابعة: سمعانُ بطرسُ يُنكِرُ يسوع
وكانَ بطرسُ يتبعُه عن بُعد. وأوقدَ الحرس... (لو 22: 54-62)
تأمّل: بين التَّلاميذِ الهاربين، عادَ اثنان أدراجَهُما وتبِعا مِن بعيدٍ الفِرقةَ وسجينَها. امتزجَ عندَهما الحبُّ والفُضول. ماذا سوف يحدُث: كأنَّهم ما وَعَوا الخطرَ الَّذي يَتهدَّد. وعُرِفَ بطرسُ سريعًا. لهجتُهُ الجليليَّةُ خانتْهُ، وشهادةُ الَّذي رآهُ يَمتشِقُ السَّيفَ في بستانِ الزَّيتون. لجأ بطرسُ إلى الكذب. أنكرَ كلَّ شيء جُملةً وتَفصيلاً. وما دَرى أنَّهُ بهذهِ الطَّريقةِ يُنكِرُ ربَّه. وبالتَّالي ما فهِمَ أنّه تنكَّرَ لِهويَّتِه. ولكنْ صاحَ الدِّيك، فالتفَتَ يسوعُ وألقى نظرةً على بطرس فأعطى صياحَ الدِّيك هذا مَعناه. فهِمَ بطرسُ وأخذَ يَبكي.
دموعٌ مُرَّة. ولكنْ حوَّلَها تذكُّرُ كلماتِ يسوع: "ما جئتُ لأدينَ العالَم، بل لأخلِّصَ العالَم" (يو 12: 47). والآن، تَكرَّرَ هذا الكلام، نَظرةُ حنانٍ ورأفة، نظرةُ الآبِ عينِه "البَطيء على الغضبِ والمليء بالحبّ" "الَّذي لا يُعامِلُنا بحسَبِ خطايانا ولا يُجازينا حسَبَ ذنوبِنا" (مز 103: 28، 10). لجأ بطرسُ إلى هذه النَّظرة. وفي صباحِ الفِصح، تحوَّلَتْ دموعُه إلى دُموعِ فرَح.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا رجاءً وحيدًا للَّذين يسقُطونَ بعدَ أن مزَّقَهم ضُعفُهم. أنتَ تعرِفُ ما في الإنسان، ما في كلِّ إنسان (يو 2: 25). ضُعفُنا يَجعلُ حبَّكَ يَنمو ويُحرِّكُ غفرانَك. عرِّفْنا، على ضوء رحمتِكَ، خُطواتِنا المُتعثِّرَة، وحين نَخلُصُ بحبِّك، إجعَلْنا نُعلنُ مُعجزاتِ نعمتِك. أعطِ الَّذين مُنِحوا بعضَ السُّلطةِ على إخوتِهم أن لا يَتشامَخوا لأنَّهم اختيروا، بل أنْ يَجعَلوا افتخارَهم في ضُعفِهم، لكَي تسكُنَ قِدرتُكَ فيهم (2 كور 12: 9).
هتاف: يا يسوع، يا مَنِ التَفتَّ إلى بطرسَ ونظرْتَ، ولِّدْ فينا دُموعَ التَّوبةِ المُرَّةِ الَّتي هي يَنبوعُ سلامٍ في مَعموديّةٍ جديدة. لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الخامسَة: بيلاطسُ يُحاكِمُ يسوع
فدعا بيلاطسُ ... (لو 23: 13-25)
تأمّل: رجلٌ بريءٌ أمام بيلاطس. تراجعَ الحقُّ والعدلُ أمام اعتباطيّةِ سلطةٍ دكتاتوريّةٍ تطلبُ موافقةَ الجموع. في عالمٍ جائِر، لا يكونُ البارُّ إلاّ مَرذولاً فيُحكَمُ علَيه. ليَحمِيَ قَتلُ الإنسان! ليَمُتْ إلهُ الحياة! ليُحرَّرَ برأبّا، ذاك اللِّصَّ المَشهور، وليُصلَبْ ذاك الَّذي أخبرَنا عن الآبِ وهو الابنُ الحقيقيّ للآب.
غيرَ أنَّ السُّلطانَ يَخافُ على سلطتِه الخاصَّة، تخلّى عن سيادةٍ يَمنحُهُ إيّاها تحقيقُ العدالة، واستَسلم. بيلاطسُ هو السُّلطةُ، الَّذي في يده الحياةُ والموت. بيلاطسُ الَّذي ما تردَّدَ فخرجَ أمامَ النَّاسِ بدِماء ذبائِحِهم (لو 13: 1). بيلاطسُ الَّذي حكمَ بقبضةٍ حديديّةٍ مُقاطعةً وضيعةً في الإمبراطوريّة الرُّومانيّة. وهو يحلُمُ بسلطانٍ أوسَع. بيلاطسُ هذا استقال، استسلمَ وسلَّمَ إلى الجموعِ الصَّائحةِ شخصًا بريئًا، وسلّمَ معه سلطتَهُ الخاصّة. ذاك الَّذي استَسلمَ صامتًا، إلى مشيئةِ الآب، يُسلَّمُ الآنَ لمشيئةِ أولئكَ الَّذينَ يَصيحون ويَرفعونَ الصَّوتَ عاليًا.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا حملاً بريئًا اقتيدَ إلى الذَّبح (أش 53: 7) ليرفعَ خطيئةَ العالَم (يو 1: 29). ألقِ نظرةَ حنانٍ على جميعِ الأبرياء المُضطهَدِين. على السُّجناء النَّائحينَ في حبوسٍ لا نقدِرُ أن نَذكُرَ اسمَها. على ضحايا حبِّهم للمظلومينَ وللعدالة، على الَّذينَ لا يُشاهدون ولو بَصيصَ أمَل، نهايةَ عقوبةٍ طالَتْ ولا شيءَ يُبرِّرُها. ليُحِسّوا بحضورِك الخَفيّ، الَّذي يُملِّي مَرارتَهم ويُبدِّدُ ظلامَ سجنِهم. ولا تسمَحْ يَومًا أن نقبلَ بأنْ تُقيَّدَ الحرِّيَّةُ الَّتي أعطيتَها لكلِّ إنسان. فهو مَخلوقٌ على صورتِكِ ومثالِك.
هتاف: يا يسوع، يا حَكَمًا وديعًا في ملكوتِ العدالةِ والسَّلام. أنتَ مُشِعٌّ في ردائِكَ الأرجوانيّ، في دمِكَ المُراقِ حبًّا بنا، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ السَّادسة: يسوعُ يُجلَدُ ويكلَّلُ بالشَّوك
وأخذَ الَّذينَ يَحرسونَ يسوعَ يَستهزِئون بهِ ويَضربونَه. ويُغطّونَ وجهَهُ ويسألونَهُ: "مَن ضربَك؟ تنبّأ". زادوا على ذلك كثيرًا من الشتائم. (لو 22: 63-65).
فأخذَ بيلاطسُ يسوعَ وأمرَ بجلدِه، وضفَرَ الجنودُ إكليلاً من شوكٍ ووضعوهُ على رأسِه، وألبسوهُ ثَوبًا أرجوانيًّا. وأحاطوا به يَلطمونه ويقولون: "السَّلامُ يا ملِكَ اليهود" (يو 19: 1-3).
تأمّل: وأضافوا إلى الحُكمِ الجائرِ ذِلَّ الجلْد. وأُسلِمَ جسدُ يسوعَ إلى أيدي البشر فتَشوَّهَ بحيْثُ لم نَعُدْ نعرِفُه. هذا الجسدُ الَّذي أخذَهُ يسوعُ من العذراء مريم، والَّذي جعلَهُ "أجملَ أولادِ البشر". الَّذي به فاضَتِ النِّعمةُ على شفتَيه (مز 45: 3) بسمةَ كلِمة. هذا الجسدُ هو الآنَ مُمزَّقٌ بالسِّياط. الوَجهُ الَّذي تَجلّى على جبلِ طابور تشوَّهَ في دارِ الوالي. وجهٌ أُهينَ فما أجابَ على الإهانة، ضُربَ فقدَّمَ الغفران، صارَ عبدًا لا اسمَ له فحرَّرَ العائشينَ في العبوديّة.
وسار يسوعُ بِعزمٍ على طريقِ الألم هذا، فأتمَّ في لحمِه الحيّ، بشكلٍ حَرْفيّ، نبوءةَ آشعيا الَّتي صارَتْ كلمةً حيَّة: "أُديرُ ظَهري للضَّاربين، وخَدَّيَّ لناتِفي اللِّحى، وما سترْتُ وجهي مِنَ التَّعييرِ والبَصْق" (أش 50: 6). هي نبوءةٌ تُنبِئ بمُستقبلٍ يعرِفُ التَّجلّي والمَجْد.
* * *
صلاة: يا يسوع "يا بهاءَ مجدِ الله وصورةَ جوهرهِ الكاملة" (عب 1: 3). قبِلْتَ أنْ تتحوَّلَ إلى حالةِ أثْمالٍ بشريَّةٍ لا فائدةَ منها، إلى محكومٍ علَيه بالإعدام يَتسوَّلُ الشَّفقَة. هي آلامُنا الَّتي تَحمِلُها، عذاباتُنا الَّتي ترفَعُها. وبسببِ مَعاصينا طُعنْتَ (أش 53: 5). بجراحِكَ إشفِ جِراحًا سبَّبتْها خطايانا، وهبِ الَّذينَ يُهانونَ ظُلمًا أو الَّذينَ يَتخلّى الجميعُ عنهم، هبِ الَّذينَ شوَّهَهم التَّعذيبُ أو المرض، أنّهم مَصلوبون للعالمِ معكَ ومِثلَكَ (غل 2: 19) وأنّهم يُكمِّلونَ في جسدِهم ما يَنقُصُ من آلامِكَ من أجلِ خلاصِ الإنسان (كو 1: 24).
هتاف: يا يسوع، يا بشريّةً مُمزَّقَة، مُشوَّهة، فيكَ يَنكشِفُ طابِعُ الإنسانِ المُقدَّس، يا خزنةَ حُبٍّ يُحوِّلُ الشَّرَّ إلى خير، لكَ المَديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ السَّابعة: يسوعُ يَحمِلُ صليبَه
وعندما استهزَأوا بهِ. نزَعوا عنهُ الأرجوان، وألبَسوهُ ثيابًا وخرَجوا بهِ ليَصلُبوه (مر 15: 20).
تأمّل: أخذُوا يسوعَ إلى الخارج. فالبارُّ الَّذي حُكمَ علَيه ظُلمًا، يجبُ أنْ يموتَ في الخارج. في خارجِ المُخيَّمِ، في خارِجِ المدينةِ المُقدَّسة، في خارجِ المجتمَعِ البشريّ.
نزعَ عنهُ الجنودُ رِداءَ الأرجوان وأعادوا إليه لباسَه. فلا يَحقُّ لَهُ أن يَتصرَّفَ حتّى بجسدِهِ الخاصّ. وجعَلوا على كتِفِهِ خشبةَ الصَّليب، علامةَ اللَّعنةِ وأداةَ تَنفيذِ مَوتٍ مُريع. هي خشبَةُ العار، وثِقْلٌ ينوءُ تحتَهُ الإنسان. كلُّ هذا فَوقَ جِراحِ يسوعَ على كتِفَيه. والبُغضُ الَّذي يتشرَّبُه هذا الصَّليبِ يجعَلُ حِملَهُ لا يُطاق.
ومع ذلك فخشَبُ الصَّليبِ هذا، قد افتداهُ يسوع، فصارَ علامةَ حياةٍ عاشَها يسوعُ وقدَّمَها من أجلِ البشر. يقولُ التَّقليدُ إنَّ يسوعَ سقطَ ثلاثَ مَرّاتٍ تحتَ هذا الثِّقْلِ ولكنَّ يسوعَ لا يضَعُ حُدودًا لِحُبِّه: "أحبَّ خاصَّتَهُ، أحبَّهُم إلى الغاية" (يو 13: 1). وأطاعَ كلامَ الآب، كما يقولُ الكتاب: "أنْ تُحبَّ الرَّبَّ بكلِّ قُدرتك" (تث 6: 5). أحبَّ اللهَ وأتمَّ مَشيئتَهُ إلى النِّهاية.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا ملِكَ المجدِ المكلَّلَ بالشَّوك، السَّاقطَ تحتَ ثِقّلِ صليبٍ هيّأَتْهُ لكَ أيدي البشر، إطبَعْ في قلوبِنا صورةَ وجهِكَ المُغطّى بالدَّم، فنَتذكَّرْ أنَّكَ أحببْتَنا حتّى أسلمْتَ ذاتَك عنّا (غل 2: 20). لا تسمَحْ أن يَتحوَّلَ نظرُنا أبدًا عن هذه العلامة، علامةِ خلاصِنا، المُرتفعةِ في قلبِ العالَم. وإذْ نتأمَّلُ في الصَّليبِ ونحنُ مؤمنونَ بكَ، لا نَهلِك، بل تكونُ لنا الحياةُ الأبديّة (يو 3: 14-16).
هتاف: يا يسوع، تَحمِلُ كتفاكَ المُمزّقتان عارَ الخشبَة، وبعطاءِ ذاتِكَ صارَ الصَّليبُ مجموعةَ حجارةٍ كريمَة؛ وشجرةُ الفردَوس عادَتْ شجرةَ الحياة، لكَ المديحُ والمَجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الثَّامنة: سمعانُ القيرينيّ يُعينُ يسوعَ في حَملِ صليبِه
وبينما هم ذاهبون به، أمسكوا سمعان، وهو رجلٌ قيرينيّ كانَ راجِعًا من الحقل، فألقَوا علَيه الصَّليبَ ليَحمِلَهُ خلْفَ يسوع (لو 23: 26)
تأمّل: ما شعَّتْ بعدُ النَّجماتُ الأولى الَّتي تُعلِنُ السَّبت. ومعَ ذلك، عادَ سمعانُ من عملِه في الحقل، راجِعًا إلى بيتِه. فأوقفَهُ الجنودُ الرُّومانُ الَّذين لا يعرِفون شيئًا من راحةِ السَّبت. وألقَوا على كتفَيهِ القَويَّتَينِ هذا الصَّليبَ الَّذي وعدَ آخَرون بأنْ يحمِلوهُ كلَّ يومٍ ويَمشوا وراءَ يسوع.
ما اختارَ سمعان: أُمِرَ أمْرًا وما عرِفَ بعدُ أنّه تسلَّمَ عطيَّةً، هديَّة. ذاك هو وَضْعُ الفُقراء، الَّذين لا يحُقُ لهم أنْ يَختاروا حتّى ثِقْلَ عذابِهم. ووَضْعُ الفُقراء أيضًا هو أن يُعينوا فُقراءَ غيرَهم. ولكنْ هنا مَن هو أفقرُ مِن سمعان، وهذا الفُقير الَّذي لا يَملِكُ حجَرًا يُسنِدُ إليه رأسَه، يَستعدُّ لأنْ يُحرَمَ من حياتِه.
نساعدُ، لا نطرَحُ سؤالاً ولما نقولُ لماذا؟ الحِملُ ثَقيلٌ للآخَر، أما كتِفاي فما زالَتا قَويَّتَين. هذا يكفي. وسيأتي يومٌ يَقولُ فيه أفقَرُ الفُقراء لِرَفيقِه: "تعالَ يا مُباركَ أبي، أُدخُلْ إلى فَرحي: كنتُ مُنسحِقًا تحتَ الصَّليبِ فأرحتَني".
* * *
صلاة: يا يسوع، صلَّبْتَ وجهَك (لو 9: 51) كالصَّوّان وسِرتَ في طريقِ أورشليم. آلامُكَ جعلَتْ مِنكَ قائِدَ البشرِ في درْبِ الخلاص (عب 2: 10). وسبقتَنا أيضًا في دربِ الفِصح (عب 6: 20). فتعالَ إلى مَعونةِ جميعِ الَّذينَ يَسيرون في خُطاكَ سِواءَ علِموا أو جَهلوا أحداثًا لبِثَ معناها خَفيًّا علَيهم. فأنتَ قلتَ: "هنيئًا للباكينَ فإنَّهم يُعزَّون" (مت 5: 5).
هتاف. نداء: يا يسوع، يا مَن خفَّفَ عنكَ سِمعانُ القيرينيّ ثِقْلَ الصَّليب، فرافقَكَ جاهِلاً مَعنى طَريقِ الألم، فصارَ حبيبَكَ وضيفَكَ في مَسكنِ المجدِ السَّماويّ، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ التَّاسعَة: يسوعُ يَلتَقي بنساءِ أورشليم
وتبعَهُ جمهورٌ كبيرٌ... (لو 23: 27-31) الغصنُ اليابِس
تأمّل: وتقدَّمَ مَوكبُ المحكومِ علَيه بالمَوت. ورافقَهُ بعضُ الجنودِ وبِضعُ نساءٍ يَبكَينَ، نساءٍ صَعِدنَ من الجليلِ إلى المدينةِ المُقدَّسة، صعِدنَ معهُ ومع تلاميذِه. سمِعنَ كلمةَ الحياة، أحبَبْنَ يسوعَ معلِّمًا ونَبيًّا. وربّما انتظَرْنَ أن يكونَ مُحرِّرَ الشَّعب (لو 24: 21). مهما يكُنْ من أمْر، هنَّ يَبكَين الآنَ هذا الشَّابَ كما يَبكي النَّاسُ على إنسانٍ مَحبوب، كما بكى يسوعُ نفسُه على صديقِه لعازر.
أشركَ يسوعُ هذه النِّسوةَ بألمِه. أرسلَ علَيهنّ نُورًا جديدًا فأضاءَ آلامَهُنّ. وجاءَ صوتُ يسوعَ يتحدَّثُ عن الدَّينونة، ولكنَّهُ يَدعو إلى التَّوبة. وأعلَنَ عذاباتٍ آتية، هي عذاباتُ أمٍّ تستعِدُّ للولادَة. فالعودُ الأخضَرُ يُزهِرُ فيَستفيدُ منه العودُ اليابس.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا ملِكَ المجد، تكلَّلْتَ بالشَّوك، وغطَّى وجهَكَ الدَّمُ والبِصاق. علِّمْنا أن نطلُبَ وجهَكَ في كلِّ حين (مز 27: 8-9) فيُنيرُ ضوؤُه طريقَنا (مز 89: 16). علِّمْنا أن نَتعرَّفَ إلى سِماتِ الإنسانِ الَّذي انطبعَ بالمرَض، هدَمَهُ اليأس، انهارَ تحتَ الظُّلمِ والجَور. وهبْنا أنْ نكتشِفَ في عيونِنا أثرَ وجهِكَ المحبوب، حيثُ "أصغرُ إخوتِك" (مت 25: 40) يكونُ انعِكاسًا مُضيئًا لحُضورِكَ بينَنا وسِرًّا عميقًا.
هتاف: يا يسوع، رافقَكَ إلى مَوضعِ الجلجلةِ فَريقٌ من النِّسوةِ الباكيات: لقد عرَفْنَ وجهَكَ، وجهَ النُّور، وسمِعْنا كلمتَكَ، كلمةَ النِّعمة، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ العاشرة: وصلَبوا يسوع
ولمّا وصلُوا إلى المكانِ المُسمّى بالجُمجُمة، صلبوهُ هناك مع المُجرمَين، واحدًا عن يمينِه والآخَرَ عن شِمالِه (لو 23: 33)... وفي النِّهاية، أعلنَ قائدُ المئة: "في الحقيقةِ كانَ هذا الرَّجلُ بارًّا" (آ 47)
تأمّل: هي تلَّةٌ خارجَ المدينة، ولُجَّةُ الألمِ والذُّلّ. ورجلٌ معلَّقٌ بينَ السَّماء والأرض. سُمِّرَ على الصَّليبِ الَّذي هو أداةُ تعذيبٍ مَحفوظٌ للَّذينَ لعنَهم اللهُ والبشر. بالقربِ منهُ مَحكومان آخَران لا يَستحقّان بعدُ أن يُدعَيا بشرًا. ثمّ يسوعُ الَّذي أحسَّ أنَّ روحَه يتركُه، ولكنَّهُ لا يتركُ سائِرَ البشر. بل يَمدُّ يدَيهِ لكي يستقبلَهم كلَّهم، وهو الَّذي ما قبِلَهُ أحدٌ حتّى من أهل بيتِه. تشوَّهَ وجهُ هذا الإنسانِ بالألمِ وانطبعَ بالشَّتائِم، فحدَّثَ الإنسانُ عن بِرٍّ آخَر.
هذا المحكومُ رُميَ أرضًا كشجرةٍ قُطعَتْ. صارَ مُناسبةً للهُزء والاحتِقار، صارَ مُعيبًا. ومع ذلك، أعطى كلَّ إنسانٍ كرامتَه: إلى أيِّ ألَمٍ يقدِرُ الحبُّ أن يقودَنا: ومن أيِّ حبٍّ وُلدَ افتداؤُنا من كلِّ ألمٍ وعَذاب (لو 23: 47)!
* * *
صلاة: يا يسوع، أنتَ وسْطَ شعبِكَ الَّذي هو قطيعٌ صغيرٌ سُرَّ أبوك بأن يعطيَهُ الملكوت (لو 12: 32). شعبُكَ وحدَهُ عرفَكَ ربًّا ومُخلِّصًا. وروحُكَ القدّوسُ سيجعلُ منه قريبًا شهودَك "في أورشليمَ وفي اليهوديّة كلِّها والسَّامرة، وحتّى أقاصي الأرض" (أع 1: 8). هبِ الَّذينَ يُعلِنون كلمتَكَ في العالمِ كلِّه، الجُرأةَ (فل 1: 14) المجيدةَ والحرِّيّةَ (فلم 8). عندئذٍ يتفجَّرُ روحُك بِقدرَةِ الفِصح. ولغةُ الصَّليبِ الَّتي هي عِثارٌ في نظَرِ العالَم، صارَتْ حكمةً للَّذين يُؤمنون (1 كور 1: 17-18).
هتاف: يا يسوع، موتُكَ الَّذي هو قربانٌ طاهِرٌ من أجلِ حياةِ الجميع، كشَفَ هويّتَكَ أنَّكَ ابنُ الله وابنُ الإنسان. لك المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الحاديةَ عشْرة: وعَدَ يسوعُ اللِّصَّ بالملكوت
ولمّا وصلُوا إلى المكان المُسمَّى بالجُمجمة، صلبوه هناك مع المُجرمَين، واحدًا عن يمينه والآخَرَ عن شِماله. فقالَ يسوعُ: "إغفِرْ لهم، يا أبي، لأنَّهم لا يعرِفون ما يَعملون" (لو 23: 33-34).
وأخذَ أحدُ المُجرمَينِ المُعلَّقَينِ على الصَّليبِ يقولُ لهُ: "أما أنتَ المسيح، فخلِّصْ نفسَكَ وخلِّصْنا"! فانتهرَهُ المُجرِمُ الآخَرُ، قال: "أما تخافُ اللهَ وأنتَ تتحمَّلُ العِقابَ نفسَه؟ نحنُ عِقابُنا عدلٌ نِلناهُ جَزاءَ أعمالِنا. أمّا هو فما عمِلَ سوءًا". وقال: "أُذكرْني يا يسوع، متى جِئتَ في ملكوتك". فأجابَ يسوع: "الحقَّ أقولُ لكَ: ستكونُ اليَومَ معي في الفردَوس" (آ 39-43).
* * *
تأمّل: الموضِعُ المُسمَّى بالجُمجمة هو مَدفنُ آدَم، الإنسانِ القديم، كما يقولُ التَّقليد. وخشبةُ يسوعَ خشبةُ الإنسانِ الجديد. خشبةُ الصَّليبِ الَّتي هي أداةُ موتٍ بارزة، وخزنةُ غُفرانِ لا حدودَ لها. قُربَ يسوعَ الَّذي مرَّ وسْطَ البشرِ وهو يَفعلُ الخَير، سارَ رجُلانِ حُكمَ علَيهما بسببِ ما فعلاهُ من شَرّ. وخلالَ حياةِ يسوعَ طلبَ اثنانِ آخَرانِ أن يَجلِسا واحدٌ عن يمينِه وآخَرُ عن يَساره. وأعلَنا أيضًا استعدادَهما لأنْ يَتقبَّلا المعموديّةَ عينَها ويَشرَبا الكأسَ ذاتَها (مر 10: 38-39). ولكنَّهما ليسا هنا، في هذا الوقت، فقدْ سبقَهما اثنانِ إلى موضعِ الجُمجمة. واحدٌ يدعو يسوعَ لكَي يُخلِّصَ نفسَهُ حالاً ويخلِّصَ مَن معه. والآخَرُ يُنادي يسوعَ لكي يَذكرَهُ حين يَدخلُ إلى ملكوتِه.
ذاك الَّذي شاركَ الجموعَ في الشَّتائِم، لم ينَلْ جَوابًا. أمّا ذاك الَّذي رأى شَخصًا بَريئًا في هذا المحكومِ علَيه بالموت، نالَ وَعْدًا مُباشَرًا بالحياةِ معَ ذاك المصلوب.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا صديقَ العشّارينَ والخَطأة (لو 15: 1-2). ما جئتَ لتُخلِّصَ الأبرارَ بل الخَطأة (مت 9: 13). وأردْتَ أن تُبرهِنَ لنا حبَّكَ العظيمَ ووَفرةَ رحمتِكَ، فقبِلْتَ أن تموتَ لأجلِنا ساعةَ كنّا بعدُ خطأة (روم 5: 8). التفِتْ إلَينا بنظرةِ حنانِكَ الأبويّةِ وغفرانِكَ، وحوِّلْ نجاسةَ الخطيئةِ فينا إلى لباسِ مجْد.
هتاف: يا يسوع، أعلنَ براءتَكَ لصٌّ رافقَكَ في شقائِك. وها قد أتتْ ساعةُ الدُّخولِ إلى الملكوت، لكَ ولرفيقك، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الثَّانيةَ عشْرة: يسوعُ على الصَّليبِ مع أمِّه والتِّلميذ
وهناكَ عندَ صليبِ يسوع، وقفَتْ أمُّهُ وأختُ أمِّه، ومريمُ زوجةُ كلَوبا ومريمُ المِجدليَّة. رأى يسوعُ أمَّه وإلى جانبها التِّلميذَ الحبيب إليه فقالَ لأمِّه: "يا امرأة، هذا ابنُك"! وقال للتِّلميذ: "هذه أمُّك". فأخذَها التِّلميذُ إلى بيتِه من تلك السَّاعة (يو 19: 25-27).
تأمّل: حولَ الصَّليبِ صَرْخاتُ الحقدِ والبُغض. وتحتَ الصَّليبِ حضورُ الحبّ. فأمُّ يسوعَ هي هنا. واقفةٌ. شجاعةٌ. معها نِسوةٌ أخْرياتٌ اتَّحدْنَ في المحبّةِ حولَ ذاك الَّذي يموت. وبقُربِهنَّ، التِّلميذُ الَّذي كانَ يسوعُ يُحبُّه. ولا أحدَ آخَر. وحدَهُ الحبُّ يعرِفُ كيفَ يتجاوَزُ جميعَ الحواجز. وحدَهُ الحبُّ يُواظِبُ إلى النِّهاية. وحدَهُ الحبُّ يُولِّدُ حبًّا آخَر.
وقتَ الصَّليبِ وُلِدَتْ جماعةٌ جديدَة. هنا، في موضِعِ الموت، خرجَ صدى حياةٍ جديد. تقبَّلَتْ مريمُ التِّلميذَ كابنِها، والتِّلميذُ تقبَّلَ مريمَ كأمِّه. "أخذَها إلى بيته" (يو 19: 27) مثلَ كنْزٍ ثمين، فصارَ حارِسًا لها. وحدَهُ الحبُّ يحتفِظُ بالحبّ، وحدَهُ الحبُّ قويٌّ مثلَ المَوت (نش 8: 6)، بل أقوى.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا ابنَ الآبِ الحبيب، أضيفَتْ إلى كلِّ الآلامِ الَّتي احتمَلْتَ على الصَّليب، ألمَكَ لأنْ ترى أمَّكَ المُعذَّبَة، المُتألِّمَة بجانبك.
نُسلِّمُ إليكَ ضيقَ الآباء والأمّهاتِ وثَورَتَهم بعدَ أن ضيَّعَتْهم الآلامُ حين فقَدوا أحدَ أولادِهم. نُسلِّمُ إليكَ يأسَ عددٍ من اليتامى، من الأطفالِ الَّذينَ تركَهم والدوهم يتدبَّرونَ أمرَهم بأمرِهم، بدونِ سندٍ لهم في حياتهم.
أنتَ حاضرٌ في آلامِهم كما كنتَ حاضِرًا على الصَّليبِ قُربَ العذراء مريم. فليَكُنْ يومُ اللقاء بكَ يومًا فيه تُمسَحُ كلُّ دمعةٍ ويكونُ فرحُنا بلا نهاية.
هتاف: يا يسوعُ المائتُ على الصَّليب. سلَّمْتَ أمَّكَ إلى التِّلميذِ الحبيب، سلَّمْتَ الرَّسولَ البتولَ إلى البتولِ النَّقيّةِ الَّتي حملَتْكَ في حشاها، لك المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الثَّالثةَ عشْرة: يسوعُ يموتُ على الصَّليب
وعندَ الظُّهر، خيَّمَ الظَّلامُ على الأرضِ كلِّها حتّى السَّاعةِ الثَّالثة، واحتجبَتِ الشَّمس. وانشقَّ حِجابُ الهيكلِ من الوسَط. وصرَخَ يسوعُ صرخةً قويَّة: "يا أبي، في يدَيكَ، أستودعُ روحي"! قال هذا وأسلمَ الرُّوح (لو 23: 44-46)
تأمّل: في النِّزاعِ في بستانِ الزَّيتون في الجسمانيَّة، يكونُ يسوعُ على الصَّليب. مرّةً أخرى أمامَ أبيه. ففي قلبِ عذابٍ لا يُعبِّرُ عنهُ الكلام، توجَّهَ الابنُ إلى أبيه. صلّى إليهِ وصلاتُه هي أوّلاً نداءٌ إلى الرَّحمةِ من أجلِ جلاّديه. واستعادَ يسوعُ كلماتِ المزمور النَّبويَّة، فصارَتْ كلماتِه، فتجلَّتْ عاطفَةُ استسلامٍ لدى مصلوبٍ وصلَ إلى وقتٍ اختبرَ فيه إلى أيِّ درجةٍ من اليأسِ تَقودُ الخطيئةُ الَّتي تفصِلُ الإنسانَ عن الله.
شربَ يسوعُ كأسَ المرارة حتّى الثَّمالة. ولكنْ من عمقِ لُجَّةِ الألمِ هذا، صعِدَتْ صرخةٌ حطّمَتْ كلَّ يأس: "يا أبي، في يدَيك أستودعُ روحي" (لو 23: 46). تحوَّلَتْ عاطفةٌ جعلَتْ يسوعَ يشعُرُ بأنَّ الآبَ تخلّى عنه، إلى استسلامٍ بين يدَي أبيه. وهكذا صارَتْ آخِرُ شهقةٍ لدى هذا المائتِ صرخةَ الانتصار! كانَتِ البشريّةُ قد ابتعدَتْ في دَوارٍ من الاكتفاءِ الذَّاتيّ فإذا الآبُ يستقبلُها من جديدٍ حين يستقبلُ ابنَه على الصَّليب.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا أخانا في الموت، فتحتَ لنا من جديدٍ الطَّريقَ الَّذي حُرِّمَ علينا منذُ خطيئةِ آدم، خطيئةِ كلِّ إنسان، خطيئتِنا. وسبقتَنا في الطَّريقِ الَّذي يقودُ إلى المَوت (عب 6: 20). أخذتَ على عاتقِكَ خوفَنا منَ المَوتِ ورُعبَنا وحوّلْتَ مَعناهُ تَحويلاً جذْريًّا، وقلبْتَ اليأسَ الَّذي يُحرِّكُهُ الموت، فصارَ لقاء حبّ. عزِّ جميعَ الَّذينَ يَسيرون اليومَ في هذا الطَّريق. إجعَلِ الثِّقةَ لدى الَّذين يَتشتَّتون لئلاّ يُفكِّروا بالموت. وحين تأتي إلينا، نحنُ أيضًا، السَّاعةُ المُخيفةُ والمبارَكة، استقبِلْنا في فرحِكَ الأبديّ، لا من أجلِ استحقاقاتِنا، بل بالنَّظرِ إلى المُعجزاتِ الَّتي أجرَتْها نِعمتُك فينا.
هتاف/ دعاء/ نداء: يا يسوع، حين لفَظْتَ النَّفَسَ الأخير، سلَّمْتَ حياتَكَ بين يدَي أبيك، وأفضتَ على عروسِكَ الكنيسةِ عَطيَّةَ الرُّوحِ المُحيي، لكَ المديحُ والمجدُ إلى الدُّهور. آمين
المرحلةُ الرَّابعةَ عشْرة: ووُضِعَ يسوعُ في القبر
وجاء عُضوٌ في مَجلسِ اليهود، اسمُهُ يوسف، وهو رجلٌ تقيّ، صالِح. عارضَ رأيَ المجلِسِ وتصرُّفَه. وكان من الرَّامة، وهي مدينةٌ يهوديّة، وكان يَنتظِرُ ملكوتَ الله. فدخلَ على بيلاطسَ وطلبَ جسدَ يسوع. ثمَّ أنزلَهُ عن الصَّليب، ولفَّهُ في كفَنٍ من كتّان، ووضعَهُ في قبْرٍ مَحفورٍ في الصَّخر، ما دُفنَ فيه أحدٌ من قبْل. وكان اليومُ يومَ التَّهيئةِ للسَّبت، والسَّبتُ كادَ يبدأ (لو 23: 50-54).
تأمّل: بدأتْ أويقاتُ السَّبتِ الأولى. ذاك كان نورُ العالَم، نزلَ إلى مملكةِ الظُّلمات. ابتلعَتِ الأرضُ جسدَ يسوعَ ومعهُ كلَّ رجاء. غيرَ أنَّ نُزولَهُ إلى مَثوى الأمواتِ لم يَكُنْ من أجلِ المَوت، بل من أجلِ الحياة. أرادَ أنْ يَنتزِعَ كلَّ قوَّةٍ مِن ذاكَ الَّذي امتلَكَ سُلطانَ المَوت، من إبليس (عب 2: 14). أرادَ أن يُدمِّرَ آخِرَ عدوٍّ للإنسان (1 كور 15: 26)، الموتَ نفسَه. أرادَ أن تُشِعَّ الحياةُ وعدَمُ المَوت (2 تم 1: 10). أرادَ أن يَحمِلَ البُشرى للَّذينَ سجنَهمُ المَوت (1 بط 3: 19).
لقد تنازلَ يسوعُ فوصَلَ إلى أوَّلِ عائلةٍ بَشريَّة، إلى آدمَ وحوّاء، بعد أنِ انحنى ظهرُهما تحتَ ثِقْلِ ذنبِهما. مدَّ يسوعُ يدَيهِ إليهما فشَعَّ وجهُهما بمَجدِ القيامَة. واجتمعَ آدمُ الأوَّلُ بآدمَ الثَّاني، وعرَفَ الواحدُ الآخَر. الأوّلُ وجدَ صورتَهُ في ذلك الَّذي سيأتي يَومًا ليُحرِّرَهُ ويُحرِّرَ معهُ نسلَه (تك 1: 26). هذا اليوم وصل، وفي يسوعَ كلُّ موتٍ بعدَ اليوم يَنفتِحُ على الحياة.
* * *
صلاة: يا يسوع، يا ربًّا غنيًّا بالمَراحِم، بتَجسُّدِكَ صِرتَ أخانا، وبموتِكَ حرَّرتَنا من المَوت. نزَلْتَ إلى أسافلِ الأرضِ لتُحرِّرَ البشرَ وتجعلَهُم يَعيشونَ معكَ كقائمينَ منَ المَوت ومَدعوِّين للجُلوسِ بجانبِكَ في السَّماوات (أف 2: 4-6). يا راعيًا صالحًا تقودُنا إلى الحياةِ الهادئة، خذْ بيدِنا عندَ عُبورِ ظِلالِ الموت (مز 23: 2-4) لكي نبقى معكَ فنُشاهِدَ مجدَك إلى الأبد (يو 17: 24).
هتاف: يا يسوع، لفَّكَ الكفَنُ ووُضِعتَ في القبر، وانتظرْتَ أن يتدحرَجَ الحجَر. حينئذٍ يَتحطَّمُ صمْتُ الموتِ بهتافٍ لا يَنتهي: هللويا، هللويا. آمين