الشجرة الجديدة للحياة - البطريرك المسكونيّ برتولوميوس الأوّل

درب الصليب:الشجرة الجديدة للحياة

البطريرك المسكونيّ

برتولوميوس الأوّل

 

سنة 1994، شارك البطريرك المسكونيّ برتولوميوس الأوّل في مسيرة درب الصليب، فكان لنا هذه التأمّلات الرائعة التي لا يمكن إلاّ أن تكون مضمّخة بنور القيامة.

 

المرحلة الأولى: يسوع في بستان الزيتون

إنجيلُ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ مَرقُس (14: 32-36)

وجاؤوا إلى مكانٍ اسمُه جتسيماني، فقال لتلاميذه: "اقعَدوا هنا، بينما أنا أُصلّي". وأخذَ معه بطرسَ ويعقوبَ ويوحنّا. وقال لهم: "نفسي حزينةٌ حتّى الموت. انتَظِروا هنا واسهَروا". وابتعدَ قليلاً ووقعَ إلى الأرض يُصلّي: "أبّا، يا أبي! أنتَ قادرٌ على كلِّ شيء! أبعِدْ عنّي هذه الكأس! ولكن لا كما أنا أريد، بل كما أنتَ تُريد".

*  *  *

بستانُ الزَّيتونِ عُمرُهُ آلافُ السِّنين. يجبُ أن نَسحقَ الزَّيتونَ لكي يَفيضَ زيتُ النَّار، الرُّوحُ القدس، على جراحاتِ العالم.

عذابُ يسوع عُزلةٌ. أصدقاؤه الأقربون ناموا.

نجِّنا يا ربّ من هذا النُّعاسِ حين يتأصَّلُ عذابُ المسيح في عذابِ البشر. عذابُ يسوع صمتُ الآب.

"أنا والآبُ واحد" (يو 10: 39). مشيئةٌ واحدة. حبٌّ واحد. غيرَ أنَّ إرادةَ يسوعَ البشريّةَ تَصرخُ من الضِّيق، وكأنَّ عمقَ كيانِه الإلهيِّ والبشريّ يتمزَّق.

إرادةُ يسوعَ البشريّة، تضامُنٌ مع كلِّ عُزلاتِنا وأحزانِنا وتَمرّداتِنا، نحن المنفيّين خارجَ البستان.

في المسيح، شعرَ اللهُ شُعورًا بشريًّا في كلِّ نِزاعاتِنا، النِّزاعِ العظيمِ في التَّاريخ. صرخةُ مصائرِنا الهائلةُ من أيّوب، عرقُ الدّم.

وتأتي الثِّقةُ عَبرَ الظُّلماتِ والصَّوتِ المُرتجفِ والعاثِر: لا ما أريد أنا، بل ما تُريدُ أنت.

قبولٌ: في يسوعَ، قبِلَ الإنسانُ مشيئةَ الآب.

لِنترُكْ هذه المشيئةَ تَغمرُنا عَبْرَ الظُّلمات، فالزَّيتون قد سُحِق.

في كلِّ شجرةٍ يَستيقِظُ صَليبُ الانتظار.

بستانُ البدايات: "اليومَ تكونُ معي في الفردوس" (لو 23: 43)

*  *  *

يا وجهًا مُدمّى، يا وجهَ الآبِ الَّذي يَسيلُ في الظِّلِّ دَمًا، يا وَجهًا جهِلناه، أنت يا قريبًا بلا حدود، إجعَلْ في قلوبِنا الشُّكرَ بدَلَ الضِّيق. وليُصبِحْ فيك عَذابُ البشرِ قيامة.

المجدُ لكَ والحمدُ، يا مسيحًا صِرتَ نحنُ أكثرَ مِمّا نحن.

إملأْ منكَ كلَّ نزاعاتِنا، كلَّ ميتاتِنا. إملأْها من حبّك.

 

المرحلةُ الثَّانية: قبضوا على يسوعَ بعدَ أن خانَهُ يهوذا.

إنجيلُ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (14: 43-46)

وبينما هو يَتكلَّمُ، وصَلَ يهوذا أحدُ الاثنَي عشَر، على رأسِ عِصابةٍ تَحمِلُ السُّيوفَ والعِصي، أرسلَها رُؤساءُ الكهنة ومعلِّمو الشَّريعةِ والشُّيوخ. وصلَ، دنا منه وقال له: رابّي (يا معلّم). وقبَّله.

فألقَوا أيديهم علَيه وأمسكوه.

*  *  *

البعضُ ناموا. والخائنُ كانَ ساهِرًا.

ثِقْلُ النَّوم، الخيانَة. ذاك هو تاريخُنا كلُّه.

القُبلةُ الَّتي تُعبِّرُ عن الحبّ، صارَتْ علامةَ البُغض.

كلُّ عذابِ يسوعَ هو منذُ الآنَ خيانةُ الصَّديق، والحبُّ الَّذي تحوَّلَ إلى بغض.

لمِعَتِ السُّيوفُ في الظِّلّ، ولكنَّ اللهَ لا يُدافِعُ عن نفسِه.

سلَّمَ نفسَهُ إلى أيدي القاتلين، فاحترمَ الإنسانَ كلَّ الاحترام.

سلَّمَ نفسَه إلى أيدي القاتلين، كما يَترُكُهم يقتلونَهُ ليُقدِّمَ حياتَهُ عبْرَ مَوتِه.

الَّذين ظنّوا أنَّهم امتلكوا الله، عظماءُ الكهنة والكتبةُ والشُّيوخ، أرادوه أن يبقى بعيدًا، أن يبقى السُّلطانَ والسيّد.

*  *  *

يا سيِّد، لن أعطيَك قُبلةَ يهوذا، بل أعترِفُ لكَ مِثلَ اللّصّ: أذكرْني حين تأتي في ملكوتك.

لا نعرِفُ عن يهوذا سوى قنوطِه ويأسِه.

غيرَ أنَّ رحمةَ اللهِ لا حدودَ لها.

ولكنْ نجِّني يا ربّ من كلِّ يهوذا يَحمِلُه كلُّ واحدٍ في ذاتِه حين تَستَولي عليهِ رَغبةُ المالِ أو القُوّة.

وذكِّرني، يا ربّ، أنّ السُّيوفَ الَّتي تطعَنُ والعِصيَّ الَّتي تَسحَق، يُمكِنُ أن تحمِلَ الموتَ ولكنّها لا تقدِرُ أنْ تَنتصِر.

مرّاتٍ كثيرةً اضطهدَتْ كنائسُنا أعداءَها.

أعطِ المسيحيّين الآنَ قوّةَ الحبِّ المتواضِع.

 

المرحلةُ الثَّالثة: مَجلِسُ اليهودِ يَحكِمُ على يسوعَ بالموت

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (14: 55-64).

كان رُؤساءُ الكهنةِ والشُّيوخُ ومُعلِّمو الشَّريعةِ يَطلبونَ شهادةً على يسوعَ ليَقتُلوه. فما وجدوا. فقامَ رئيسُ الكهنةِ وسألَ يسوعَ قائلاً: "هل أنتَ المسيحُ، ابنُ المبارَك"؟ فأجابَ يسوعُ: "أنا هو"! فحكَمُوا عليه كلُّهم بأنَّهُ يَستوجِبُ الموت.

*  *  *

منذُ زمانٍ طويلٍ يَحكمُ عليه العُلماءُ وذوو الشَّأن.

قال بعضُهم: هو غيرُ مَوجود. وقال آخرون: ربّما وُجِدَ، ولكنّنا لا نعرِفُ عنهُ شَيئًا. أو: هو مُلهِمٌ عظيم، نبيٌّ عظيم. ولكنَّهُ إنسان ولا شيءَ أكثرُ مِن إنسان.

ونحنُ لا نُفكِّرُ فيه. ونعيشُ وكأنّه غيرُ مَوجود.

ومع ذلك يأتينا يومًا السُّؤالُ المُحرِق: هل أنتَ المسيحُ الَّذي فيه يُعطي اللهُ المبارَكُ نفسَه لنا؟

عندئذٍ يَخرجُ يسوعُ من صمتِه، مع أجراسِ الكنائِس، مع جَمالِ الأيقونات، في عُمقِ قلبِنا، ويقول: "أنا هو". أي أنا هو الله.

فلا يبقى لنا سوى أن نقتُلَهُ، أو أن نَرتَميَ عندَ قدمَيه، مُكرِّرينَ ما قاله هو: "أشكرُكَ، أيُّها الآب، لأنّك أخفَيتَ هذا عن الحكماء والفهماء وكشفتَهُ للأطفال. ذاكَ هو اختيارُ حبِّك" (مت 11: 25-27)

*  *  *

يا يسوعُ، أنت الآتي من هناك. كم نَعطشُ إلى البراءة، نحن قاتلي الحبِّ كلَّ يوم.

أعطِنا أن نُشارِكَ الأبرياء، المجانينَ بالمسيح، الَّذينَ لا يعرِفون شيئًا حين يُعذَّبون في عذابٍ قد يَقودُ إلى الحياة.

أنتَ ما جئتَ لتَحكُمَ، بل لتُخلِّصَ، ما جئتَ لتَسجُنَ، بل لتُحرِّر.

إجعَلْ براءتَكَ في حروبِنا، حروبِ الرُّوح، لكَي تكونَ بدونِ عُنفٍ ولا بُغض. إجعَلْ براءتَك في حبِّنا، في عيالِنا.

إجعَلْ براءتَك في نظراتِنا، لكي نُشاهدَ فيكَ وجهَ الآب، لكي نكشِفَ فيك شُعلةَ الكونِ وأيقونةَ الوُجودِ البشريّ.

 

المرحلةُ الرَّابعة: بطرسُ يُنكِرُ يسوع

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (14: 72)

وفي الحال، صاحَ الدِّيكُ مرّةً ثانية. فتذكَّرَ بطرسُ قَولَ يسوع: "قبْلَ أنْ يَصيحَ الدِّيكُ مرّتين، تُنكِرُني ثلاثَ مرّات". وأخذَ يبكي.

*  *  *

الدِّيكُ يُعلِنُ النَّهار، نهارَ الملكوتِ الَّذي لا يَغيب.

عندئذٍ خافَ بُطرس، لأنَّ الملكوتَ لا يأتي بجوقاتِ الملائكة، ولا برجالٍ يَحمِلون السُّيوفَ والقنابل، بل بالمَوت عن الذَّات. وقبْلَ ذلكَ يَموتُ المعلِّم.

كان بطرس قد قالَ ليسوعَ حين أعلنَ آلامَهُ: "هذا لنْ يحصُلَ لكَ"!

وها هو قد حصَلَ الآن.

أحسَّ يسوعُ بضُعفٍ سرِّيٍّ لدى الأقوى، فالحماسةُ المتسرِّعَةُ خبَتْ فجأة: "قبْلَ أن يَصيحَ الدِّيكُ مرّتين، تُنكِرُني ثلاثَ مرّات".

مضى يهوذا فشنَقَ نفسَهُ بعدَ أن يئِسَ من الخلاص، في يومِ الخلاصِ الشَّامل.

أمّا بطرسُ فأجهشَ بالبكاء.

دموعُ بطرسَ حيث تَحترِقُ كبرياءَه.

دموعُ بطرس: هو لنْ يكونَ الأوّلَ إلاّ كخاطئ غُفِرَ لَهُ، لكي يترأَّسَ الحبَّ، لا المجد.

*  *  *

أعطِنا، يا سيّد، دموعَ بطرسَ حين نُريدُ أن نجهلَ أنّ العذابَ هو ثمنُ الفِصح، وأنّكَ تغلِبُ المَوتَ بالموت. حين نريدُ أن نجهلَ أنّ الصَّليبَ هو وحدَهُ شجرةُ الحياة.

نحنُ المفتخرون بإيمانِنا، والسكرانون بوقوفِنا على العتبَة، نسقطُ فجأةً حين يأتي الرُّعب. أعطِنا دموعَ بطرس، أعطِنا ندامةً واسعة.

 

المرحلةُ الخامسة: بيلاطسُ يَحكُمُ على يسوع

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (15: 14-15)

صاحَ الجمعُ: "اصلُبْه". أرادَ بيلاطسُ أنْ يُرضيَ اليهود، فأطلقَ لهم براباس، وبعدَ ما جلَدَ يسوعَ، أسلَمَهُ ليُصلَب.

*  *  *

حين دخلَ يسوعُ إلى أورشليم، هتفَ الجمْعُ لهُ.

والآن، ها هم يَصيحون: لِيَمُت.

ما عادوا أناسًا، بل ذابوا في وحشٍ كاسِرٍ جَماعيّ، مُتعطِّشٍ إلى التَّعذيبِ والدَّم.

أيُّ سرٍّ هو في الإنسان، أيُّ قبضةِ الظُّلمةِ عليه، لتَجعلَ هذه القساوةُ على البريء هدَفًا لها؟

يسوعُ هو ملك. دخلَ إلى أورشليمَ مِثلَ ملِك.

وها هو الآنَ ملِكٌ بدونِ مَدينة.

هذا هو إلهُنا الَّذي نستبعِدُهُ من خليقتِه، فيأخذُ على نفسِه كلَّ استبعادٍ وكلَّ طرْد، بعدَ أنْ تجسَّدَ فيها.

يا لَلتَّاريخِ القاسي، وعطَشِ الدَّمار! نقتُلُ لكَي نَنسى أنّنا نَموت.

يا لَلتَّاريخِ القاسي، وسخريةِ القدر! فبراباس يَعني "ابنَ الآب".

والإنسانُ الحاكم، بيلاطس، لا حقيقةَ لَهُ سوى قوّتِه. هو يُحالِفُ الجمْعَ ليُوجِّهَ جنونَهم ويُنقِذَ نظامَ قيصَر.

حكمةُ القرَفِ لدى المُتسلِّطين الَّذين يرمونَ أمام الجموعِ كبْشَ المُحرَقَة.

ولكنْ كلُّ شيء سوفَ يَنقلِبُ رأسًا على عقِب: فالخادِمُ المتألِّمُ "يُقدِّمُ حياتَه ذبيحةَ تكفير، ويرى النُّورَ وينالَ كلَّ عطاء" (أش 53: 10-11)

وبه، كلُّ المستبعَدين، كلُّ الَّذين لا وجوهَ لهم فيَشبهون عبيدَ الماضي، سيرَونَ النُّورَ وينالون كلَّ عطاء.

*  *  *

أيّها الرَّبُّ يسوع، يا ملِكًا بدونِ مملكَة، افتحْ بابَ قلوبِنا لكَي يشِعَّ نورُكَ الوديعُ والقويُّ معًا، مِثلَ حياةٍ لا مَوتَ فيها في عالمِ براباس، وفي عالمِ بيلاطس.

أيّها الربُّ يسوع، خطاياك تَجلِدُنا، أنت لم تفكِّرْ يومًا بالشَّرّ، وتنالُ صفعاتِنا صامِتًا. إنتزِعْ منّا ما فينا من ظَلال، انتزِعْ دَوارَ العدَمِ لئلاّ نحتاجَ بعدُ إلى كِبْشِ مُحرقَة، ولكي نرى في كلِّ إنسانٍ "برأبّا" ابنَ الآب، نرى هذا القاتِلَ مُحرَّرًا بطريقةٍ عجيبة.

 

المرحلةُ السَّادسة: يسوعُ يُجلَدُ ويُكلَّلُ بالشَّوك.

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (15: 17-19) والقدّيسِ يوحنّا (19: 5).

ألبسَهُ الجنودُ أرجوانًا.

وضفَروا إكليلاً من الشَّوكِ ووضعوه على رأسِه.

وأخذوا يحيُّونَهُ بِقَولِهم: "السَّلامُ، يا ملِكَ اليَهود"!

وضرَبوهُ بقصَبَةٍ على رأسِه، وبَصَقوا عليه.

فخرجَ يسوعُ وعلَيه إكليلُ الشَّوكِ والثَّوبُ الأرجوانيّ.

فقال لهم بيلاطُس: "ها هو الرَّجل".

*  *  *

حين أُغلِقَ بُستانُ البدايات، أعلنَ اللهُ أنَّ الأرضَ تُنبِتُ شَوكًا: أرضٌ ملعونة، إنسانٌ ضربَهُ المَوت.

الآبُ "جعلَ علَيه ذنوبَنا كلَّها.

عُذِّب فما فتحَ فمَهُ، مِثلَ حمَلٍ يُقادُ إلى الذَّبح" (أش 53: 5).

كلُّ أعضاء جسدِكَ المُقدَّسِ احتَمَلتِ العارَ عنّا. رأسُك الشَّوكَ، وجهُكَ الصَّفعاتِ والبِصاق. ظهرُك الجلْد. يدُكَ القصبَة.

ومع ذلك، أنتَ ملِكٌ، أنتَ ملِكُ الحياة.

الجلاّدون كلّلوكَ، ألبسوك ثَوبًا ملوكيًّا، ثوبَ دمِكَ.

في يدِكَ صولجانُ الهُزء. ومع ذلك هو صَولجان. تنبأوا وهم لا يَدرون.

ومع ذلك، أنت كاهِنٌ، بمهابةٍ وهُدوء تحمِلُ عذابَ العالمِ لكَي تُحرِقَهُ في نارِ حبِّك.

كنت في عرسِ قانا. وها أنتَ في أعراسِ الدَّم.

*  *  *

ها هو الرَّجل. بيِّنْ لنا الإنسانَ في وجهِ كلِّ مُعذَّب.

ها هو الرَّجل. بيِّنْ لنا الإنسان، في وجهِ كلِّ إنسانٍ جائعٍ إلى الخبز أو إلى مَعنى الحياة.

ها هو الرَّجل. بيِّنْ لنا في البهيمةِ المُتخمَةِ الَّتي تسيرُ إلى الوراء، إلى الموت، بيِّنْ لنا وجهَكَ في الإنسانِ الَّذي هو صورةُ الله.

 

المرحلةُ السَّابعة: وحمَّلوا يسوعَ صليبَه.

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ مَرقُس (15: 20)

وبعدما استَهزأوا به، نزَعوا عنه الأرجوان، وألبسوهُ ثيابَهُ، وخَرجوا به ليَصلِبوه.

بعدَ ثوبِ الأرجوان، يَعودُ ثوبُ البياض: بعدَ المَلِك، الكاهِن. وها هو موضِعُ الذَّبيحَة، المذبحُ: الصَّليب.

اقتادوه إلى الخارج. إلى خارجِ المدينةِ المقدَّسة، إلى خارجِ الموضِعِ المكرَّس، المَحميّ، الَّذي يَستبعِدُ كلَّ ما هو عاديّ.

منذُ الآن، هو ينبوعُ القداسة، الَّذي يُلغي كلَّ مَن هو "مِنَ الخارج": ما منا شيءٌ إلاّ ويَتقدَّس.

اقتادوه إلى الخارج، بَعيدًا عن الهيكلِ حيثُ تُذبَحُ الحُملان: هو الحمَلُ الَّذي يحمِلُ خطيئةَ العالم. ليس هناكَ من هيكلٍ واحدٍ سوى جسدِه: الإفخارستيّا مَلجأُنا.

اقتادوه إلى الخارج، أبعدوه عن البشَر، عن الله، يَعتبرون أنَّهم يعرِفونه، "فمَلعونٌ من عُلِّقَ على خشبَة" (تث 21: 23)

اقتادوه إلى الخارج ومعه الصَّليب.

*  *  *

فيا يسوع الَّذي جُعِلَ في الخارج، لا تكُنْ خارِجًا عنّي.

وحِّدْ قلبي لكَي يكونَ مَسكِنًا لَكَ.

فيا يسوعُ الَّذي جُعِلَ في الخارج، لا تكُنْ خارِجَ كنائِسِنا. طردناكَ منها بعدْ أن جعَلْنا كنيسةً تُعارِضُ كنيسة.

فيا يسوعُ الَّذي جُعِلَ في الخارج لئلاّ يكونَ أحدٌ بعدُ "في الخارج"، لئلاّ يُرذَلَ أحدٌ من الوليمةِ الَّتي تُقدِّمُها من جيلٍ إلى جيل.

فيا يسوعُ الَّذي جُعلَ في الخارج، ها أنتَ تُضيءُ على هذا الخارج.

 

المرحلةُ الثَّامنة: سمعانُ القيرينيُّ يُساعِدُ يسوعَ على حمْلِ الصَّليب.

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ مَرقُس (15: 21)

وسخَّروا لحمْلِ صليبِه سمعانَ القيرينيّ، وكان في الطَّريقِ راجِعًا من الحقْل.

*  *  *

سمعانُ اسمٌ يهوديّ، قيريني مدينةٌ يونانيّة، في أفريقيا.

عادَ من أرضِ الآباء الَّتي كان يَفلحُها.

فلاحٌ قويّ، عليه وَحلٌ يحلُم بالغذاء. وقد يكونُ فرِحٌ لأنَّ الأشجارَ زهَّرَتْ.

ها هو على أبوابِ المدينة. عبَرَ وما كانَ يعلَمُ ما يَحصُلُ هنا.

رآهُ الضَّابِطُ قويًّا وفقيرًا. فسخَّرَهُ ليحمِلَ صليبَ يسوعَ ويُعجِّل.

ما هو تلميذ. ولا هو صديق. أمّا الرُّسلُ فتشتَّتوا.

ومع ذلك، ما تهرَّبَ، بل حمِلَ صليبًا لم يكُنْ مُعِدًّا له.

كم منَ النَّاسِ تَفرُضُ عليهم الحياةُ أن يحمِلوا الصَّليبَ دونَ أن يَدروا، لِيَلبسوه، لِيَستقبِلوه.

قالوا للمسيح: "ما عرفناك". أمّا هو فقالَ لهم: "لي أنا فعلتُموه" (مت 25: 35-46).

كانت في عينَي سمعانَ شجرةٌ مُزهِرَة. وقد يكونُ رأى من خلالِ الدَّمِ المُجمَّدِ وجهَ النُّور، واستشفَّ أنَّهُ لا يحمِلُ فقط شَجرةً يابسة، بل الشَّجرةَ الجديدة، شجرةَ الحياة.

*  *  *

يا ربّ، تَفرِضُ علينا الحياةُ أن نحمِلَ الصَّليب.

إكشِفْ لنا أنّه صليبُك، وأنّك أنتَ في الواقع تحمِلُ صلبانَنا.

يا ربّ، نحن نحمِلُ عذاباتِنا مِثلَ صلبان. ما غابَ عنها الحبّ، ولكنْ ما غابَ عنْها الكذب.

بعذابِكَ حرِّرْنا من الأوهام، وحوِّلْ عذاباتِنا. ما غابَ عنها الحبُّ ولا الحنان.

يا ربّ، نحن نحمِلُ صليبَ موتِنا وموتِ أحبّائِنا.

إكشِفْ لنا، في الطَّريقِ الضَّيّقِ القاسي، أنّك تنتظرُنا، أنّكَ تجعَلُ من صليبِنا صليبَك، صليبَ القيامة.

 

المرحلة التَّاسعة: يسوعُ يلتقي بنساءِ أورشليم

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ لوقا (23: 27-31)

وتبعَه جمهورٌ كبيرٌ من الشَّعب. ومن نساءٍ مِمَّن يَلطُمنَ صدورَهنّ وينُحنَ. فالتفتَ يسوعُ إليهنَّ وقال: "يا بناتِ أورشليم، لا تبكَينَ عليّ! بل ابكَينَ على أنفسكنَّ وعلى أولادِكُنَّ. فإذا كانوا هكذا يَفعلونَ بالغُصنِ الأخضر، فكيف تكونُ حالُ الغُصنِ اليابس"؟

*  *  *

حكَمَ الرِّجالُ على يسوع. ولكنَّ النساءَ تبِعنَه باكيات.

ما من نساء بينَ أعداءِ يسوع.

وللدلالةِ على الأمومةِ المشوّهة، قرَعنَ الصُّدور.

أمّا يسوعُ فقالَ لهنَّ: "لا تبكَينَ".

"لا تبكي، يا أمّي، فبعدَ ثلاثةِ أيّامٍ أقوم".

يجبُ أن لا تَبكوا على مصيرِ الإنسان، على ما فعلَهُ الإنسانُ بمصيرِه.

ماتَ لِعازر. وها هو قد أنتَنَ. وها هم الأعداءُ يُحاصِرون المدينة. وقِوى العدوِّ تُحاصِرُ الإنسانَ وتَجتذِبُه إلى هوّةِ الفراغ.

أخذَ يسوعُ على نفسِه هذا المصيرَ لكَي يَتغلَّبَ عليه.

أقامَ لعازر، وهو يستعدُّ أن يُواجِهَ الشِّرّيرَ الَّذي لا شرِكةَ لهُ معه.

وفي يومٍ من الأيّام، سيقولُ لنا: "أمسحُ كلَّ دمعةٍ من عيونِكم. لا موتَ بعدُ ولا صراخَ ولا ألم، لأنَّ العالمَ القديمَ مَضى" (رؤ 21: 4).

*  *  *

برجُ سِلوامَ (لو 13: 4) يسقطُ كلَّ يوم، وكلَّ يوم تُحرِقُ الجيوشُ المدُن.

هذا لا يعني أنَّكَ تُعاقِبُنا. بل نحنُ أصبَحْنا عُودًا يابسًا.

فأنتَ العودُ الأخضر، أعطِنا ماويَّتَكَ لنَعرِفَ كيف نَمسَحُ دموعَ نساء أورشليم.

إجعَلْ مِن كلِّ واحدٍ منّا "فيرونيك" الَّتي مَسحتِ العرقَ عن وجهك، لكي يكونَ وجهُك على أيقوناتِنا، وكلُّ إنسان هو أيقونتُك. ويكونُ هذا الوجهُ لنا بابَ الأبديّة.

 

المرحلةُ العاشرة: يسوعُ يُصلَب

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ مَرقُس (15: 24)

ثمَّ صلَبوه واقتسَموا ثيابَهُ بينَهم بالقُرعة.

*  *  *

في هذا اليوم، يُعلَّقُ على خشبةٍ من يُعلِّقُ العوالِمَ في العظمَة.

عريسُ الكنيسة يُقيَّدُ بالمسامير.

ابنُ العذراء يُطعَنُ بحرْبة.

نسجُدُ لآلامِكَ، أيّها المسيح، فلتَأتِ قيامتُك.

في هذا اليوم، عرَفَ يسوعُ هَولَ الجسدِ الَّذي يَتشلَّع، وضِيقَ النَّفَس، واحتقارَ البشَر.

هو منذُ الآن، أخو المعذَّبين واليائسين والمحتقَرين.

في هذا اليوم، هو وحدَه الحيّ. "أنا القيامةُ والحياة" (يو 11: 25). وُلدَ من العذراء وما مزّقَها، ولكنّه عرَفَ تَمزُّقًا يتجاوزُ كلَّ ما يعرفُهُ البشر.

هو جهالةٌ للَّذينَ يتعبَّدونَ للحكمةِ البشريّة، ولكنَّ لنا قدرةَ الله وحكمةَ الله (1 كور 1: 23)

فيا يسوعُ بيديكَ المفتوحتين، من جنبِكَ المطعون تَجري مياهُ المعموديّة ودمُ الإفخارستيّا.

بعضُ نقطاتٍ من الدَّم تُجدِّدُ الكونَ كلَّه. ومن الجسدِ المعذَّبِ طلَعَ صباحُ الرُّوح.

وُجِبَ أن يتجسَّدَ اللهُ ويموت، لكي نَستطيعَ أن نحيا.

شجرةُ العار صارَتْ شجرةَ الحياة، ومحورُ الكونِ يَجمعُ كلَّ عذاباتِنا ليُقدِّمَها إلى نار الرُّوح.

هذه الشَّجرةُ ترتفِعُ من الأرضِ إلى السَّماء.

هي سلَّمُ يعقوب وطريقُ الملائكة. شجرُها يتضمَّنُ الحياةَ كلَّها. نأكلُ منه. وإذ نأكلُ منه لا نَموت.

*  *  *

يا صليبَ المسيح! أنت وحدَكَ تُعلنُ الدَّينونةَ الَّتي تحكُمُ علينا، أنت وحدَكَ تكشِفُ حُبَّ الآب وما فيه من جُنون.

يا صليبَ المسيح! أنت الجوابُ الوحيدُ لأيّوب، لأيّوباتٍ عديدينَ في التَّاريخ. لتُلغِ رؤيتُنا لك كلَّ ثورةٍ فينا، وتخفِّفْ كلَّ بُغض.

يا صليبَ المسيح! أعطِنا في أحلكِ الأوقات، أن لا نسقُطَ في اليأس، بل أن نَقعَ عندَ قدمَيكَ بحيثُ يَرفعُنا كلَّنا ذاك الأبُ الرَّفيع إلى مجدِه وما فيه من دَهشَة.

 

المرحلةُ الحاديةَ عشْرة: يسوعُ يَعِدُ اللِّصَّ بالملكوت.

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدّيسِ لوقا (23: 39-43)

وأخذَ أحدُ المجرِمَينِ المعلَّقَينِ على الصَّليبِ يَشتُمُهُ ويقولُ: "أما أنت المسيحُ؟ فخلِّصْ نفسَك وخلِّصْنا". فانتهرَهُ الآخَرُ وقال: "أما تخافُ اللهَ وأنتَ تتحمَّلُ العِقابَ نفسَه. نحن عِقابُنا عدلٌ، نِلناهُ جَزاءَ أعمالِنا. أمّا هو، فما عمِلَ سوءًا". وقال: "اذكرْني، يا يسوع، متّى جِئتَ مع ملكوتِك". فأجابَ يسوعُ: "الحقَّ أقولُ لكَ: "ستكونُ اليومَ معي في الفردوس".

*  *  *

نجدُ مُوجَزًا عن مصيرِنا كلِّهِ في مَصيرِ هذَينِ اللِّصَّين.

ليسا غريبين عنّا. هما نحنُ. ولا خيارَ لنا سوى أن نكونَ عن اليمين أو عن اليَسار.

لصُّ اليسارِ حمَلَ إلى يسوعَ التَّجربةَ الأخيرة: "إن كنتَ المسيحَ خلِّصْ نفسَك".

وكان الكهنةُ والجنودُ قد قالوا: "ليخلِّصْ نفسَهُ فنُؤمِنَ به".

وإذ لبثَ يسوعُ صامتًا، توجَّهَ اللِّصُّ الآخَرُ إلى الأوّلِ وقال له: "نحنُ البشر نَقتُلُ ولا نُقتل. أمّا يسوعُ فلا شَرّ فيه. لا مكانَ فيه لقَدريَّةِ الموت. بل فقط المَوتُ حبًّا بالآبِ وبالبشر".

واللِّصُّ المعلَّقُ على الصَّليب، لبِثَ حُرًّا حتّى النِّهاية، بحريَّةِ الإيمان، فصاحَ: "اذكرْني، يا يسوع، حين تأتي مع ملكوتك".

هل استشَفَّ أنَّ الملكوتَ ليس ذاك الَّذي سيأتي فيما بعدُ، بل هو الآنَ حاضرٌ، هو يسوعُ في ذبيحةِ الحُبّ؟

الملكوتُ هو هنا. هو يسوعُ المتَّحِدُ بالآب. فيه تحوَّلَتْ أرضُ الأوجاعِ إلى فردوس.

حينئذٍ وجَّهَ يسوعُ نظرَهُ إلى اللِّصّ وقال: "اليومَ تكونُ معي في الفردوس".

*  *  *

يا يسوعُ، كلُّ واحدٍ منّا هو في الوقتِ عينِه اللِّصُّ الَّذي يُجدِّفُ واللِّصُّ الَّذي يُؤمِن.

أؤمنُ، يا ربّ، فأعِنْ قِلّةَ إيماني.

أنا مسمَّرٌ بالموت. فلا يبقى لي سِوى أن أصرُخَ: "اذكرني، يا يسوع، حين تأتي مع ملكوتك".

أنا يا يسوعُ لا أعرِفُ شيئًا. لا أفهمُ شيئًا في هذا العالم، عالمِ الرُّعب.

أمّا أنت فتأتي إليّ بيدَيكَ المفتوحتَين، بقلبِكَ المفتوح، وحضورُكَ وحدَهُ هو فِردَوسي، سعادَتي.

فاذكرْني حين تأتي مع ملكوتك.

المجدُ والحمدُ لكَ! أنت تستقبلُ المرضى، لا الأصحّاء. ما توقَّعَ أحدٌ أن يكونَ صديقَك لصٌّ تحكُمُ عليه عَدالةُ البشر.

منذُ الآنَ تنزِلُ إلى الجحيم، إلى عالمِ المَوتى، فتحرِّرُ الَّذين حسَبوا نفوسُهم هالِكين. فهم يَصرُخون إليك: "اذكرْنا، يا ربّ، حين تأتي مع ملكوتك".

 

المرحلةُ الثَّانيةَ عشْرَة: يسوعُ على الصَّليب، الأمُّ والتِّلميذ

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيس يوحنّا (19: 26-27)

في تلكَ السَّاعة، رأى يسوعُ أمَّه، وبقربِها التِّلميذَ الَّذي يُحبُّه. فقال لأمِّه: "يا امرأة، هذا ابنُكِ"! ثمّ قال للتِّلميذ: "هذه أمُّك"! ومنذُ تلك السَّاعةِ أخذَها التِّلميذُ إلى بيتِه.

*  *  *

عندَ الصَّليب، وقفَتْ مريمُ ويوحنّا، الأمُّ والتِّلميذُ الحبيب.

مريمُ أمُّ الله: قالَتْ نَعم للملاك فقدَّمَتِ الحلَّ لمأساةِ حرّيّتِنا.

في شفافيَّةِ جسدِها الهادئة، وَلدَت.

الآن يجوزُ سيفٌ في قلبِها.

يوحنّا التِّلميذُ الَّذي ظلَّ أمينًا حتّى النِّهاية.

في العشاء الأخير، ارتاحَ رأسُه على قلبِ المعلّم، على قلبِ العالم.

وحفِظَ في قلبِه الكلماتِ الأخيرة، حَولَ وَحدةِ يسوعَ والآب، حَولَ وعدِ الرُّوح القدس.

قال يسوع: يا امرأة.

في هذه المرأة كلُّ أنوثةٍ وكلُّ حنانٍ وكلُّ جمال.

هي المرأةُ الفاضلة، القديرة. حَفِظَتْ كلَّ هذه الأشياء في قلبِها. ابنُها القائمُ من الموت سيَغيبُ عن عيونِ البشر. ولكن ها هو ابنٌ في ابنِك.

واستقبلَها يوحنّا في بيتِه، في مَحبّتِه، كحضورٍ صامتٍ منذُ الان، حضورِ صَمْتِ السُّجودِ الكبير.

لتَكُنْ هكذا في بيوتِنا فهي أمُّ كلِّ أمانة، أمُّ كلِّ حنان.

لتَكُن هكذا في بيتِ العالم. فهي أرضُ خِصبٍ لا حدَّ له.

وها هي الكنيسةُ الأولى الَّتي وُلدت من خشَبِ الصَّليب.

وكانَتْ عنصرةٌ أولى حين حنى يسوعُ رأسَه وأسلمَ الرُّوح.

*  *  *

يا يسوعُ، يا ابنَ السَّماء بأبيك، وابنَ الأرضِ بأمِّك، إجعَلْنا أبناءَ الأرضِ والسماء، بصلواتِ أمّ الله.

يا يسوع، الحرْبةُ طعنَتْ جنبَكَ، طعنَتْ قلبَك.

وأنتِ، يا مريم، سحَقَ السَّيفُ قلبَك.

أدخِلْنا، يا ربّ، في هذا التَّبادُلِ الهائلِ بِصلواتِ أمِّ الله.

يا يسوعُ، ابنُ العذراء، اجعَلْنا شَبيهين بالتِّلميذِ الَّذي أحببتَ، فنَشهدَ للنُّورِ وللحياة، لِنورِ الحياة، بصلواتِ أمّ الله.

 

المرحلةُ الثَّالثةَ عشْرة: يسوعُ يموتُ على الصَّليب

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ مَرقُس (15: 34، 36-37)

وفي السَّاعةِ التَّاسعة (الثَّالثة بعد الظهر)، صرخَ يسوعُ بصَوتٍ عظيم : "إيلوي، إيلوي، لما شبقتاني"! وترجمتُه: "إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني"؟ وأسرعَ واحدٌ منهم إلى اسفنجةٍ وبلَّلَها بالخلِّ ووضعَها على طرَفِ قصبةٍ ورفعَها ليَسقيه. وصرخَ يسوعُ صرخةً عالية، وأسلمَ الرُّوح.

*  *  *

يسوعُ، الكلمةُ المتجسِّد، مضى إلى أبعدِ مسافةٍ تَستطيعُ البشريّةُ أن تمضيَ إليها.

إلهي، إلهي، لماذا تركتَني؟

مسافةٌ لا محدودَة. تمزّقٌ كبير، معجِزةُ الحبّ.

بينَ الله والله، بينَ الله وابنِه المتجسِّد، يقفُ يأسُنا الَّذي تضامَنَ معه يسوعُ حتّى النِّهاية.

غيابُ الله هو الجحيمُ بكلِّ مَعنى الكلمة. وقالَ يسوعُ أيضًا: "أنا عطشان". فجاء كلامُهُ صَدى للمزمور (22: 26): "يبِسَ حلقي مثل الخزفِ، ولصِقَ لساني بفَكّي، وإلى ترابِ الموتِ تَنقلُني".

اللهُ عطِشٌ إلى الإنسان، والإنسانُ يهرُبُ من الله ويجعَلُ "جِدارًا فاصِلاً".

قال يسوعُ المسمَّرُ على هذا الجدار: "أنا عطشان". فنالَ الخلّ.

عِناقُ الآبِ والابنِ الأبديّ صارَ مِسافةً بين السَّماء والجَحيم. "ألوي، ألوي، لما شبقتاني"!

وكأنَّ الإلهَ وجدَ نفسَه، لحظةً، بدُونِ الله.

عندئذٍ انقلَبَ كلُّ شيء. ففي يسوعَ التصقَتْ مشيئةُ يسوعَ البشريّة بمشيئةِ الله، كما في جَتسمانيّ.

"يا أبتِ، في يدَيكَ، أستودعُ روحي" (لو 23: 46)

وتبخّرَتْ هُوَّةُ اليأس، مثلَ نقطةٍ صغيرةٍ من البُغض، في قوَّةِ الحبِّ اللامحدودة.

والمسافةُ بينَ الآبِ والابن، لم تعُدْ موضِعَ الجحيم، بل مَقامَ الرُّوح.

*  *  *

يا يسوع! أنتَ تلاشَيتَ، فأخذتَ صورةَ عبدٍ حتّى المَوت والموتِ على الصَّليب (فل 2: 7-8). علِّمْنا أن نقولَ في وقت الضِّيق، وفي ساعةِ الموت: "يا أبتاهُ، في يدَيكَ، أستودعُ روحي".

منذُ الآن، امتلأَتْ من النُّورِ السَّماءُ والأرضُ والجحيم.

فلا شيءَ يقدِرُ بعدُ أن يفصِلَنا عنك.

"أين أذهبُ من روحِك؟ إن اختبأتُ في الجحيم، فأنتَ هناك" (مز 139: 7-8).

يا راعيًا مذبوحًا، خُذْنا على كتفَيك وأعدْنا إلى الآب.

وليجِدْ فيكَ مَنْ يتألَّمُ، لأنَّ لا إلهَ لَهُ، الجوابَ الأخير.

الحمدُ لك، يا يسوعُ إلهَنا، لأنَّكَ حوَّلْتَ صليبَ اليأسِ إلى صليبِ الفِصح.

 

المرحلةُ الرَّابعةَ عشْرة: يسوعُ يُوضَعُ في القبر.

من إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ بحسَبِ القدِّيسِ مَرقُس (15: 46)

فاشتَرى يوسفُ الرَّامي كفَنًا. ثمّ أنزلَ جسدَ يسوعَ عن الصَّليب، وكفَّنَهُ ووضعَهُ في قبر محفورٍ في الصَّخر".

*  *  *

يوسفُ أوّلُ حملَكَ وأنتَ طفل، ويوسفُ آخَرُ أنزلَكَ بهدوء عن الصَّليب.

استسلَمْتَ إلى يديه مثلَ طفلٍ بين يدَي أمِّه.

وضعَ في قلبِ الصَّخرةِ ذخيرةَ جسدِكَ الطَّاهر.

ودُحرِجَ الحجَر. وسيطرَ الصَّمتُ. هو السبتُ السرّيّ. كلُّ شيء صامِت، والخليقةُ التقطَتْ أنفاسَها.

نزلَ يسوعُ إلى فراغٍ من الحبِّ تام. ولكنّه نزَلَ مُنتصِرًا.

اشتعلَ بحُبِّ الرُّوح.

اتّصلَتْ به البشريّةُ فاحترقَتْ رباطاتُها.

كيف مُتَّ، أيّها الحياة؟

لتُدمِّرَ قُدرةَ الموت، وتُقيمَ الموتى من الجحيم.

كلُّ شيء صامِت. وانتهَتِ الحربُ الكبيرة. وقُهِرَ ذاك الَّذي يَفصِل.

تحتَ الأرض، وفي أعماقِ نفوسِنا، اشتعلَتْ نارٌ عظيمة.

ليلةَ الفصح. كلُّ شيء صامِت، ولكنَّهُ صَمتُ الرَّجاء.

ومدَّ آدمُ الأخيرُ يدَهُ ليَنتشِلَ آدمَ الأوّل.

وأمُّ اللهِ مسحَتْ دمعةَ حوّاء. وحوْلَ صخرِ الموت، أزهرَ البستان.

*  *  *

يا مخلّصي! ابتعدتُ عنكَ وهرِبتُ إلى كثافةِ الصَّخرِ القاتلة.

ولكنَّك تُحطِّمُ كلَّ حاجز، وتحمِلُ جميعَ المحبوسين، مَحبوسي نفوسِهم ومحبوسي إبليس. تحمِلُهم إلى صباحِ الفِصح، لأنَّ الحبَّ أقوى من الموت (نش 8: 6).

"نفسي في سَلام، وفي سكونٍ مثلَ طفلٍ مع أمِّه" (مز 131: 2).

أعرِفُ أنَّكَ ستَجِدُني.

فيا يسوعُ الملك، أشعِلْ، في الظُّلماتِ، شعلةَ حياة.

ليتَموَّجِ الصّمتُ بحضورِكَ، بحيثُ لن يكونَ العالَمُ بعدُ قبرًا فارِغًا.

تَماهى آدمُ الأوّلُ مع آدمَ الثَّاني، في النُّور، فما بقيَ موتى في القبور".

المسيحُ قامَ من بين الأموات، ووطئَ الموتَ بالموت، ووهبَ الحياةَ للَّذينَ في القبور.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM