الفصل الحادي والأربعون: دفن يسوع

الفصل الحادي والأربعون
دفن يسوع
15: 42- 47
إن خبر دفن يسوع ينقسم في تدوين مر كما يلي: بعد مقدّمة زمنيّة (آ 42)، نجد أربعة أجزاء نكتشفها بفضل البنى الغراماطيقية. يصوّر الأول والثالث (آ 43، 46) عمل يوسف الرامي ويبدأان باسم الفاعل في صيغة الماضي. والثاني والرابع يجعلان أمامنا على "المسرح" أشخاصاً آخرين: بيلاطس (آ 34- 45) من جهة، والنسوة من جهة أخرى (آ 47). ويبدأان بالعبارة عينها "هو دي بيلاطس... هودي مارياً، أما بيلاطس... أما مريم".
يرتبط الحدث بما سبق وبما يلي فيشكّل العنصر الوسط في ثلاثية (الموت، الدفن، القيامة) تبنى على مثلّث "نظر" النسوة (تيوراين، 15: 40، 47؛ 16: 4). وهذا الدفن الذي هو خاتمة دراما مؤلمة جداً وذليلة، ليس هو النقطة الأخيرة في مسيرة يسوع. فهذه المسيرة تتوّج بالقيامة، موضوع إعلان الملاك عند القبر. هذا ما استعدّ له القارئ منذ الإنباءات بالآلام (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 34؛ 14: 28؛ رج 12: 10- 11). وهذا ما يتذكّره الآن.
1- مقدمّة: التسلسل الزمني (15: 42)
إن آ 42 لا تنفصل من الوجهة الغراماطيقية عن الآية التالية. فالآيتان تتداخلان في جمل تصل بنا إلى الجملة الرئيسية. فقبل أن نعرف أن يوسف ذهب أخيراً إلى بيلاطس وطلب منه جسد يسوع، تتوالى العبارات (1): إلى، مقبل. (2) ولأنه كانت التهيئة (سببية). (3) التي هي ليلة السبت (موصولية، مرتبطة بالسببية). (4) آت (اسم فاعل، بدل لما سوف يأتي). (5) يوسف الرامي وهو مشير في المجلس ووجيه (فاعل الجملة الرئيسية مع صفات مرافقة). (آ) الذي كان ينتظر ملكوت الله (موصولية). (7) متجرئ (اسم فاعل، بدل).
من قرأ ما سبق من مر لا يدهش حين يعلم أن الأحداث التي ستروى حصلت "حين أقبل السبت". ليست هذه الإشارة تحديداً مطلقاً، بل هي عنصر اسلوبي يدلّ على بداية خبر جديد (هذا ما نجده مراراً في مر 1: 32؛ 4: 35؛ 6: 47؛ 14: 17). وهي ترسم أيضاً حدود يوم حصلت فيه الحقبة الأخيرة من الحاش مع ساعاته المتوزّعة: منذ "الصباح" الذي فيه اقتيد يسوع أمام بيلاطس (15: 1). وأخيراً، نجد تعارضاً بين المساء (الذي أقبل) الذي هو إطار الدفن، وطلوع الشمس الذي ينير مشهد النسوة عند القبر (16: 2) في صباح القيامة. إذن، يخطئ من يعتبر أن هناك تعارضاً في الخبر الإنجيلي: يلاحظ السبت الذي يبدأ عند غياب الشمس. إذن، لم نعد في وقت التهيئة، لم نعد في الوقت الذي يهيّأ السبت. وهذا ما يشرحه مر للقارئ العادي. في الواقع، الإشارة الأولى (المساء) هي مقدمة. والأهم هي الاشارة الثانية (التهيئة).
ترتبط السببية (لأنه كانت التهيئة) بما يلي فتعطي سبب مسعى يوسف. ولكن ما لا يقوله مر، هو: لماذا قام يوسف بهذا العمل في هذا اليوم؟ في الواقع، يجب أن يتمّ دفن الميت، مهما كان اليوم، قبل غياب الشمس. فالسبب المعطى لا يكفي، ومر هو هنا صدى لتقليد آخر (رج يو 19: 31) فيه جاء رؤساء اليهود إلى بيلاطس وطلبوا منه أن تنزل أجساد المصلوبين عن صلبانها قبل بداية السبت. وهكذا نعرف من مر، وهو أولا إنجيلي، أن يسوع صُلب يوم الجمعة التي نسمّيها الجمعة العظيمة.
2- طلب يوسف جسد يسوع (15: 43)
وقدّم لنا الإنجيلي يوسف: أصله، وظيفته، وضعه الاجتماعي. إنه "مشير وجيه". ولكن "مشير" في أي مجلس؟ هذا ما لا يقوله مر. ولا شيء يسمح لنا بالقول إنه عضو في السنهدرين (ق لو 23: 50- 51) وأنه حكم على يسوع بالموت، أو أنه شارك في الحكم ثم عاد عن ضلاله. فصيغة الفعل المستعمل لا آ 43 تستبعد تبدلاً قريباً بالنظر إلى يسوع: فالرجل كان ينتظر (منذ زمن بعيد) "ملكوت الله". إن كان هذا لا يجعل منه تلميذاً من تلاميذ يسوع بحصر المعنى (مت 27: 57؛ يو 19: 38)، فهو متعاطف معه وموافق على كلامه. إنه مثل ذلك الكاتب الذي تدخّل فى 12: 28- 24. إنه يقابل قائد المئة الوثني. كلاهما جاءا إلى يسوع فدلا على الوثني واليهودي في الكنيسة. وكما أعلن القائد "إبن الله". آمن الوجيه بملكوت الله.
إن بعض الشراح سجّل يوسف الرامي مع المرأة التي مسحت يسوع بالطيب في بيت عنيا، مع حاملات الحنوط في صباح القيامة: لقد عملوا ما كان على التلاميذ أن يعملوه. ثم قال مر إن يوسف هو وجيه، وهذا ما أتاح له أن يدخل قصر بيلاطس ويحصل على ما طلب. وإذ تحدّث عن استعداداته الوثنية، شرح لماذا أراد هذا الرجل أن يقدّم ليسوع الواجبات الأخيرة.
ولكن ماذا تعني العبارة "كان هو أيضاً ينتظر ملكوت الله"؟ لا يستعمل مر إلا في هذا الموضع فعل "بروسداخستاي" (انتظر). ولا يتحدّث أبداً عن "انتظار ملكوت الله". ولا يقول قبل ذلك أن أحداً انتظر" ("هو أيضاً").
هنا نعود إلى السياق السابق. فالنساء اللواتي تحدّث عنهن قد انتظرن "هن أيضاً" ملكوت الله. لقد "تبعن" يسوع، فدللن على رغبتهن في ما يشكّل الموضوع الرئيسي قي كرازته (1: 15)، والذي يعد به يسوع من يتجاوب مع ندائه.
نشير هنا إلى أن فعل "انتظر" المرتبط بالخلاص الاسكاتولوجي يتضمّن رجاء ناشطاً نعيشه في الأمانة لمشيئة الله (لو 2: فى 2، 38؛ 12: 35؛ أع 24: 15؛ تي 2: 13). ثم، إذا عدنا إلى مر 10: 21، 23- 26، 31، نجد أن الدخول إلى ملكوت الله، والخلاص، والحياة الأبدية، أمور تترادف وهي مشروطة باتباع يسوع.
والامالة التي ترينا يوسف "متحركاً" وذاهباً إلى بيلاطس، لا يجب أن تفسرّ كنتيجة الحكم على يسوع كثائر على الأمبراطورية (كما قال بعض الشّراح). فإن بيلاطس، حسب مر، لم يعتقد أن يسوع كان مذنباً (15: 14). أما "الجرأة" التي تحدّث عنها، فلا نجدها في سيكولوجية يوسف، بل في وضعه الإجتماعي: إنه وجيه يقوم بهذا العمل وفيه ما فيه من تهوّر! ويتجرّأ أن يذهب إلى الوالي ليطلب منه هذا الطلب!
طلب "جسد" يسوع. هذا يعني أن يسوع مات، كما عرفنا في آ 37. هذا ما يعرفه القارئ. أما بيلاطس فلا يعرف، ومن هنا كانا ردّة الفعل عنده: "تعجّب".
3- جواب بيلاطس (15: 44- 45)
إن دخول بيلاطس على "المسرح" (هو دي بيلاطس) يبدو هنا كما في المحاكمة (15: 9، 12، 14): تعجّب (15: 5). هناك تعجّب من صمت يسوع، وهنا لأن يسوع مات بهذه السرعة. ولكن في الحالين، نجد صدى لموقف الوالي الوثني أمام أمر غير عادي في نصّ نبويّ (أش 52: 15) (تعجب منه أمم كثيرة): فالمصلوبون كانوا يعانون سكرات الموت أياماً عديدة.
ويزاد على هذا المرجع الكتابي شكل آخر من الابولوجيا (اللاهوت الدفاعي): تعجّب بيلاطس وما توقف عند هذا التعجب. بل قام يبحث ليعرف.
"استدعى بيلاطس" قائد المئة وسأله ليتأكَّد من أساس طلب يوسف. وليتسلّم اثباتاً للموت من رئيس الجلادين والشاهد العيان لتنفيذ الحكم. نلاحظ وجود فعل "مات" مرتين في آ 44. وإذ علم بالأمر من مرجع كيد، لبّى طلب يوسف دون المخاطرة بأن يعطيه "جثة" غير أكيدة. فلا بد من الردّ على اعتراض ضدّ قيامة يسوع يستند إلى موت ظاهر، إلى شبه موت. لهذا، تقبّل القارئ من فم الضابط الروماني الذي وثق بيلاطس بكلامه، كفالة نهائية عن هذا الموت، بعد أن "وقّعت" السلطات الرسمية على ذلك.
4- يوسف يدفن يسوع (15: 46)
"فاشترى كفناً". لم يشُر النصّ إلى تبديل الفاعل. فالعمل هو عمل يوسف لا بيلاطس. وهو يتمّ على مرحلتين. الأولى: اشترى "القماش" من أجل كفن يلفّ به جسد يسوع بعد أن ينزله عن الصليب. الثانية: تتعلّق بالدفن بحصر المعنى. لم تتحدّث المرحلة الأولى عن الغسل والدهن بالطيوب. فستقوم النسوة بهذا العمل في ما بعد. ونجد ذات الإنفتاح على الخبر في المرحلة الثانية: فالحجر الذي "دحرجه" يوسف ليغلق القبر "المنحوت في الصخر"، هو ذاك الذي ستراه النسوة "مدحرجاً" وعلى جانب "باب" القبر.
عملَ يوسف ما عمل بواسطته أو بواسطة مساعديه. ونلاحظ هنا كيف اختار مر ألفاظاً دقيقة. "بتوما" أو، الجثة، الجثمان" (إذدط، مات حقاً). "دورايستاي" (وهب) الذي يدلّ على حظوة كبيرة (تك 30: 20؛ أس 8: 1؛ 2 بط 1: 3- 4). هذا ما يلتقي مع "جرأة" يوسف حين ذهب يطلب جسد يسوع.
نشير هنا إلى أن يسوع قد دهنته بالطيب امرأة بيت عنيا (14: 8)، كعلامة نبويّ’ عن موته (دفنه الذي يؤكّد موته). ولكن هذا الدهن لا يحلّ محل العمل الرسمي الذي لم يقم به يوسف، ولكن استعدّت له النسوة.
"القبر": "مناما". رج 15: 46 أ؛ 16: 2 أو: "منامايون" (15: 46 ب؛ 16: 3؛ رج 5: 2، 3، 5). وكتب مر "إك بتراس"، فدلّ على قبر (لا مصنوع من حجر) محفور في الصخر. كان مت أكثر دقة فقال: "إن تاي بتراي". ونجد كلمة "تيرا" اليونانية: مدخل، باب.
5- النساء واستعداداتهن (15: 47)
ويمتدّ الإستعداد للحدث الأخير في آ 47. فالنساء اللواتي "نظرن" إلى موت يسوع على الجلجلة، ينظرن الآن إلى الموضع الذي جعل فيه الجسد. عرفن المكان، وهكذا يستطعن أن يعدن في الغد ليطيّبن جثمان يسوع. كل شيء قد أعدّ من أجل صباح القيامة. حينذاك، لا حاجة إلى الحنوط. فالميت قد قام. ولا حاجة إلى من يدحرج الحجر، فبيت الموتى لم يعد مقفلاً. إنه مفتوح لأن الحي خرج منه ليجمع الخراف التي تشتتت ويرسلها "إلى العالم أجمع".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM