الفصل الثاني والأربعون: أخبار الآلام في الأناجيل الإزائية

الفصل الثاني والأربعون
أخبار الآلام في الأناجيل الإزائية
14: 1- 15: 47
هناك خطر يتربصّ بمن يريد التحدّث عن الآلام. هو أن يعتبر الأخبار الإنجيلية مناجم من المعلومات يستقي منها كيفما شاء. فيأخذ هذا التفصيل من عند متى، وذاك من عند مرقس، وآخر من عند لوقا أو يوحنا، فيظنّ أنه حصل على خبر كامل وأكثر غنى. في الواقع، حين نتصّرف على هذا الشكل، نترك أثمن ما في الإنجيل يفلت من أيدينا. فبالنسبة إلى الكرازة المسيحية، تبدو مادية الوقائع أقلّ أهمية من مدلولها الديني. وهذا المدلول لا يظهر بوضوح إلاّ في مجمل التأليف. فحين نأخذ تفصيلاً من قرائنه وننقله إلى خبر آخر، نمنعه من أن يعطي معناه ونبلبل النظرة اللاهوتية في الخبر الآخر. إذن، من الأفضل أن نراعي الإتجاه الخاص لدى كل من الأخبار الإنجيلية. وإذا أردنا أن نكتشف هذا الإتجاه، نتفحص التأليف الأدبي لكلّ إنجيل من الأناجيل.
1- ملاحظات عامّة
أ- الألم والمجد
بادئ ذي بدء نشدّد على ملاحظة إجمالية: إن خبر الآلام يحتلّ في كل إنجيل حيّزاً هاماً وغير نسبي بالنسبة إلى سائر خبر يسوع. هذا أمر أعتدنا عليه وهو لا يدهشنا. ولكن الأمور ليست بهذه السهولة. نلاحظ أن الأناجيل ألّفت بعد قيامة المسيح، وبواسطة شهود يعيشون في نور هذا الحدث الإنتصاري فوعوا قبل كل شيء أنهم "شهود القيامة" (أع 1: 22؛ رج 2: 22؛ 3: 15 ... 1 كور 15: 14؛ روم 10: 9). من هذا القبيل ما كنا لننتظر مثل هذا الإلحاح على مشاهد الآلام وما فيها من عذاب وذلّ. اما كان يجب أن تلغى ويحلّ محلّها عناصر إيجابية" من حياة يسوع؟ في حياته العلنية، هناك عمله كمجترح معجزات حيث يعلن مسبقاً إنتصاره على الموت. هناك نجاحه لدى الجموع وتعليمه النيرّ الذي يُلقى بسلطان. هناك الطريقة التي بها نظّم تلاميذه. وأخيراً، ظهورات القيامة والسلطات المعطاة للكنيسة. هذا ما كان يجب أن يظهر كأمور هامة وحاسمة. أما خبر الآلام فكان يجب أن يدخل في الظلّ، يختفي، كفاصل مؤسف لم يكن له بفضل الله نتائج دائمة. كان فاصلاً وانتهى.
في هذا الخط توجّه القلب البشري حسب ميله الطبيعي، لانه لا يحب قساوة الواقع، فيلجأ إلى عالم مثالي. في الواقع، لم يسند نور القيامة هذه الطريقة في النظر إلى الأمور. وهي لم تقدنا إلى ديانة سرابية نتهرّب فيها من الواقع. ولم تستبعد المسيحيين من الوجهات المؤلمة في حياة يسوع، بل قادتهم ليعرفوا ثمن حياة المسيح وبالأخص الوجهات المميّزة فيها وهي التعارض والألم.
فالعقل البشري يرى تناقضاً وتعارضاً بين الآلام والقيامة: الآلام هي هزيمة، والقيامة هي نصر يصلح هذا الفشل. الآلام تذلّ الإنسان. القيامة تمجده. ولكن الإيمان المسيحي لا يظلّ عند هذه النظرة التناقضية. فنور القيامة يصل بقوة إلى الآلام نفسها، بحيث إن الآلام والقيامة تكوّن وحدة لا تنفصم. ليس هناك من انقطاع، بل ندرك بينها رباطاً وثيقاً: إن مجد القيامة هو ثمرة الآلام وهو يكشف ثمن الذبيحة. ويدلّ على أن الآلام لم تكن في الواقع هزيمة، بل صراعاً غالباً وتتميماً حقيقياً لمخطّط الله. لهذا اعتبر المسيحيون الآلام في نفسها كنور وكنز. ولم يتركوا تذكّراتها تمحى، بل تعلّقوا بها وتعمّقوا بها. وهذا ما تشهد له الأخبار الإنجيلية ونوعيتها شهادة لا ترد.
هذا الإهتمام المميّز بالآلام يكشف وحي المسيح ويشهد على حقيقته الإلهية. فالتعليم المسيحي ليس بناء سطرياً يتيح لنا أن ننسى الواقع. إنه لا يوجّهنا إلى أحلام تأخذنا إلى البعيد. فالله لا يلغي وقائع الوجود وان ثقل علينا حملها. بل هو يعطيها قيمتها. هو لا يساعدنا على التهرّب من هذا الواقع، بل يعلمنا كيف نلتصق به ونقدّره حقّ قدره، ونهتم به اهتماماً عميقاً ونستفيد منه. إن نور القيامة يكشف قيمة آلام المسيح وبالتالي يرفع قيمة حياتنا اليومية.
ب- تكوين الخبر
وتأتي ملاحظة ثانية فتقوي الأولى وتوضحها. إنها تتحدّث عن مسيرة الخبر الذي يتميّز تميّزاً واضحاً عمّا في سائر الإنجيل. بينما لم تمثل الحياة العلنية إلا ببعض أحداث نستطيع أن نفصلها بعضها عن بعض، إذا بالآلام تشكّل مجموعة متماسكة ومبنية بناء ثابتاً. وهذا ما يدفعنا إلى الظنّ بأن هذا القسم من حياة يسوع كان منذ بداية الكنيسة موضوع إهتمام خاص، فاعتبر وحدة عضوية، إن ضاع جزء منها ضاع الكلّ.
وتتثبّت هذه النقطة في مقابلة بين الإزائيين ويوحنا. نحن نعلم أن إنجيل يوحنا يختلف عادة اختلافاً كبيراً عن الأناجيل الإزائية. فهو يقدّم عن رسالة يسوع عدداً كبيراً من المعطيات لم يحتفظ به التقليد الإزائي. مثلاً، يشير إلى إقامات عديدة ليسوع في أورشليم، وهذا ما يحوّل تحوّلاً كلياً رسمة الحياة العلنية. ولكن حين نصل إلى الآلام، تتقارب الأخبار بشكل لافت. وتتوافق على اختيار الأحداث وترتيب "الرؤية" بشكل عام.
هذا ما نحسّ به منذ يو 11: 47 (المؤامرة على يسوع، الدهن بالزيت في بيت عنيا، مسيرة الشعانين). وسيصبح التوافق أعمق بعد توقيف يسوع في جتسيماني (يو 18: 13). إذن يبدو أن خبراً بادئاً في توقيف يسوع قد تكوّن في وقت مبكر في تقليد الكنيسة الأولى، أو أن رسمة وضعت فحدّدت الخطوط الأساسية.
وهذه الرسمة الأولى قد كمّلت. زيد عليها خاصة مقدمات أشرنا إليها (المؤامرة، الدهن بالزيت، الشعانين)، فألقت ضوءاً على معنى الأحداث. وجاء ترتيب مجموعة الأحداث في مختلف الحلقات الرسالية وحسب معطيات خاصة وصلت إلى يد "الكاتب" وحسب سامعين يتوجّه إليهم.
إن تحليلاً أدبياً لخبر مرقس يقود التأويل الحديث وإل أن يميّز في اللحمة مركَّبتين: من جهة، خبر أساسي موجز ومدوّن بشكل رسمة سريعة وقد كتب لا لغة يونانية أنيقة. ومن جهة ثانية ملحقات اقحمت في هذا الأخبار فأعطتها حياة وحركة (مثلاً، حدث الشاب الذي هرب في مر 14: 51- 52؛ اسم ابني سمعان القيريني في 15: 21) وجعلتها قريبة من السامعين. زادها شاهد عيان فجاءت لغته اليونانية ممزوجة بتعابير ساميّة عديدة.
وإذا قاربنا هذه المعطيات من الشهادات القديمة، نظنّ أن مرقس استعمل خبر آلام تقليدي في كنيسة رومة، فوشعه مستلهماً كرازة بطرس. هو خبر مركب من عناصر متفرقة. وهذا ما نلاحظه أيضاً عند متّى ولوقا. كل هذا يبيِّن أننا لسنا أمام خلق أدبي "فردي"، بل أمام اعلان كنسي (رج 21: 24: هذا التلميذ يشهد). إن آلام يسوع هي كنز الكنيسة، والكنيسة هي التي تقدّمها لنا.
ج- شخصيات الكتّاب
التقليد هو عمل مشترك ولكنه ليس نتاج مجموعة مبعثرة لا شيء يربط بينها ويوحّدها. إن التقليد يستند إلى الشهادة الرسولية. وقد عبرّ عنه تلاميذ لهم ملء السلطان.
غير أن أمانة التلاميذ للتقليد الذي ينقلونه لا تمنعهم من أن يقدّموا لنا عملاً شخصياً. فالمواد المستعملة ليست هي هي. فلوقا مثلاً جاء بإشارات خاصة به إلى خبر الآلام، وهذه الإشارات هي قريبة من التقليد اليوحناوي. متّى ومرقس قريبان الواحد من الآخر. ومع ذلك فكل منهما يقدّم عناصر لا نجدها عن الآخر.
ولكن الإختلاف الأهم يقع على مستوى نظرة كل إنجيلي إلى خبر الآلام. كل واحد يشدّد على أمور خاصة به. وإذا أردنا أن نقدّم رسمة سريعة تميّز مختلف الأخبار نقول:
أولاً: مرقس: خبر كرازي
أعلن مرقس تحقيق مخطّط الله الذي يميّز الإنسان. هو يعرض الأمور في واقع موضوعي. اسلوبه هو أسلوب "ارتجالي" "شفهي، وهذا ما يعطي خبره حيوية ونشاط. خبره خبر شاهد. لا يخاف مرقس أن يصدمنا، بل هو يسعى إلى ذلك. فيبرز التناقضات ويشدّد علي المفارقة: الصليب يشككنا. ومع ذلك فهو يخبرنا عن ابن الله. في مرقس، يفرض سرّ الآلام نفسه علينا ويؤثّر فينا كما من الخارج. والنهاية هي فعل إيمان وخضوع للسر: في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله (15: 39).
ثانياً: متى: خبر كنسي وتعليمي
هو "خبر جماعة المؤمنين". يظهر الإتجاه في الأسلوب نفسه الذي يتوخّى الوضوح ويتحاشى كل إهمال ينتج عن الإرتجال. اسلوب موجز يليق بعالم الليتورجيا. ويظهر هذا الإتجاه بشكل أوضح في تقديم الوقائع: حين تستنير الأحداث بإيمان الكنيسة تصبح "مفهومة". لا يهتم متى مثل مرقس بالتفصيل الملموس، ولكنه يستفيد من كل مناسبة ليشدد على تتمة الكتب المقديمة (ليتمّ الكتاب)، على معرفة يسوع السابقة، على سلطته السامية. ويدل من جهة أخرى على ضلال شعب إسرائيل الذي سار على خطى رؤسائه. لهذا سيؤخذ منه ملكوت الله ويعطي لأمة تصنع ثمراً (21: 43). وينتهي الخبر بتكوين فهم مسيحي للسرّ بالمشاركة في إيمان الكنيسة.
ثالثاً: لوقا: خبر شخصي وإرشادي
يدلّ لوقا في مواضع عديدة على اهتماماته كمؤرخ ومؤلّف: هو يحاول أن يعطي "تقريراً" أفضل عن سيرة الأحداث، أن يعطي خبراً متواصلاً ومبنياً بناء محكماً. ولكنه لا يتوخّى اطلاقاً الموضوعية الباردة التي يعرفها راوٍ لا يأخذ موقفاً (راوٍ حيادي!)، بل إن خبره هو خبر تلميذ يعيش من جديد خبر معلّمه ويعبز عن تعلّقه الشخصي بيسوع حين يؤكد مراراً على براءته، حين يهمل تفاصيل مهينة أو قاسية. فالتلميذ يرى أن الآلام تشكّل في الوقت ذاته نداء يطلب منّا أن نتبع المسيح على طريق الصليب. إذن، خبر لوقا هو خبر شخصي وإرشادي يحرّك (أو يثبت) إلتزام كل واحد منّا على خطى المسيح.
هذا الإتجاه الخاصّ بكل من الإزائيين الثلاثة لا نجده فقط في خبر الآلام، بل هو يشرف على تنظيم مجمل كل إنجيل. ونكتفي هنا ببعض الإشارات السريعة. مرقس هو إنجيل الوقائع (ما يحدث). هو يورد أقوالاً وتعاليم أقل مما عند متّى ولوقا، ولكنه يتوشع في الظروف التي تحيط باخباره. وهو أيضاً انجيل السرّ المسيحاني. أمّا متّى فيقدّم في خطب طويلة تعليماً كنسياً وكرستولوجياً كاملاً. ولوقا من جهته يحاول أن يجعل من كلمات يسوع أقوالاً تتوجّه إلى الشخص. يتحاشى من تجميع التقاليد في خطب طويلة، فيحدّد بالحري إلى من يتوجّه كلّ من تعاليم يسوع. ترد التطويبات عند متّى بلهجة عامة (صيغة الغائب). وعند لوقا بلهجة مباشرة (صيغة المخاطب: طوبى لكم أنتم).
هذه هي بعض الميزات التي يمكن أن نلاحظها بشكل خاصّ حين نتفحّص تنظيم أخبار الآلام عند متّى ومرقس ولوقا. نترك جانباً المقدّمات (المؤامرة، الدهن بالزيت، العشاء الأخير والنزاع) فننطلق في الخبر من توقيف يسوع الذي هو أول حدث في الآلام بالمعنى الحصري. في كل مرحلة نتفحّص أولاً إنجيل مرقس الذي نعتبر تدوينه سابقاً لتدوين متى ولوقا.
أما الرسمة العامة فتبدو كما يلي: بين التوقيف (مر 14: 43- 52) في البداية، والوضع في القبر في النهاية (15: 42- 47) نتوقف عند المحاكمة لدى اليهود (14: 53- 72)، المحاكمة لدى الرومان (15: 1- 15)، وتنفيذ الحكم موتاً على الصليب (15: 16- 41). نجد هذه الرسمة في كل الأناجيل، ولكن التنظيم الداخلي يختلف بين إنجيل وآخر.
2- توقيف يسوع
منذ توقيف يسوع يبدو الإتجاه الخاصّ بكل إنجيلي واضحاً وجلياً.
أ- مرقس: الوقائع التي تصدم
يروي مرقس الوقائع في قساوة واقعيتها. الأسلوب مباشر وفجّ في بعض الأماكن: "وجاء يهوذا، أحد الاثني عشر، ومعه جمهور مع سيوف وعصي" (14: 43). أمسك يسوع. واحد من الذين كانوا هناك استلّ سيفه وضرب. وجاء قول من يسوع فأبرز الوضع بما فيه من تجاوز: "كما على لصّ خرجتم مع سيوف وعلي" (14: 48). وترك الجميع يسوع. كان شاب يتبعه. أمسك فهرب عرياناً تاركاً رداءه في يد الذي حاول أن يمسكه.
لا تفسير، أو تفسير قليل. لا يورد مرقس ما قاله يسوع ليهوذا، ولا إلى الشخص الذي امتشق سيفه وضرب. والملاحظة الموجّهة إلى المهاجمين لا تتوخّى تفسير الوقائع، بل التشديد على ما في المشهد من مفارقة ومن وضع صادم. يشار إلى "مفتاح" المفارقة في عبارة ناقصة (14: 49: كنت في الهيكل فما اسكتموني. ولكن حدث هذا لتتمّ الكتب). وهكذا نبقى في جوّ محيرّ ولا نفهم.
ب- متّى: الأقوال التي تنير
أما متّى فيهتم بأن يشرح الوقائع. إن خبره يترك جانباً بعض التفاصيل البارزة (آخر كلمات مر 14: 44؛ حدث 14: 51- 52). ولكنه يسير باتزان ومهابة ووضوح. فبدلاً من أن يقول "وصل يهوذا"، كتب: "وبينما يسوع يتكلّم وصل يهوذا" (26: 47). وبدل أن يستعمل الضمير وحده (اقترب منه، رج مر 14: 45؛ وضعوا يدهم عليه، مر 14: 46)، سمّى يسوع باسمه بكل احترام. سمّاه أربع مرّات في مت 26: 49- 51. وتجنّب متى الإهمالات في الأسلوب، كما عند مرقس (14: 45: التون اوتوس بروسلتون: وما أقبل حتى تقدّم). وتجنب أيضاً الإلتباسات. في مر 14: 47 نقرأ: وأحد الذين كانوا هناك. هي عبارة غير واضحة: هل هو صديق أم عدو؟ أما متى فقال: "واحد ممن كانوا مع (أصحاب) يسوع" (26: 51). في مر 14: 5، قد نظنّ أن الأعداء هربوا لأن يسوع وجّه إليهم في الحال كلامه. أما مت 26: 56 فاهتم بأن يشير إلى أن "التلاميذ تركوه كلهم وهربوا".
ويوضح متّى بشكل خاصّ الوقائع بالكلام. الكلمة تلقي الضوء على العمل. تحدّث يسوع إلى يهوذا بشكل غامض (إفعل ما جئت له، 26: 55). بيد أننا ندرك تلميحاً إلى مز 55: 13- 14، 21- 22. تحدّث إلى التلميذ الذي استلّ السيف ففسرّ بشكل مطوّل "ستراتيجة" الله (26: 52- 54). إنه تكلّم إلى الجمع: من يأخذ بالسيف...
إذا احتجنا إلى قائد يدلّنا على المعنى اللاهوتي لهذا المشهد، نلجأ إلى متى، وما يقوله لنا يتّخذ أهمية خاصة بالنسبة إلى مسيرة الآلام: فالمبادئ التي تنير موقف يسوع حين توقيفه تلقي الضوء على مجمل السرّ.
ويرينا متى يسوع وقد اختار بكامل معرفته وبملء إرادته طريق الذل، لأنه رأى فيه الطريق الذي حدّده قصد الله. رفض يسوع أن يقاوم العنف بالعنف، لأن هذه الوسيلة لا تحمل الخلاص إلى البشر، بل تسجنهم في حلقة جهنمية (26: 52). ورفض يسوع أن يلجأ إلى تدخّل عجائبي ترسله قدرة الله. هو لا يشكّ مطلقاً بأنه يقدر أن يحصل من أبيه على تدخّل من هذا النوع (26: 54). ولكنه يعرف أيضاً أن هذه الطريق لا تقود إلى الهدف. لقد جاءت الساعة التي فيها "تتمّ الكتب". تعود هذه العبارة مرتين: مرّة أولى في الكلمة الموجّهة إلى الجمع (26: 56). ومرّة ثانية في خاتمة الكلمة الموجّهة "إلى الجميع" (26: 56). في هذا المقطع الأخر تبدو عبارة يسوع واضحة، لا غامضة كما في مرقس. إنها تشكل تأكيداً صريحاً وتتخذ لهجة معلّم يحدّث تلاميذه: "ولمانما كان هذا كله لتتمّ كتب الأنبياء".
ويتعرّف القارئ المسيحي منذ البداية إلى منظار الخبر. لسنا أمام "تقرير" بسيط عمّا حدث. فالكنيسة الأول حين نظرت إلى الآلام، تأمّلت فيها عبر الكتب المقدسة التي تكشف لها معناها. لقد وعت أن هناك مقابلة تامة بين مخطط الله كما أنبأ به العهد القديم، وبين أَحداث أسبوع الآلام التي تحيرّنا للوهلة الأولى. وهذه المقابلة قد أوحى بها يسوع نفسه. فقد دلّ على معرفته بها قبل أن تتم من خلال أقواله وأعماله. لقد دلّ يسوع على الإرتباط بين ما سيحصل ومخطّط الاله كما أوحت به الكتب المقدّسة.
لم يدرك التلاميذ هذا الإرتباط في ذاك الوقت. فكلمات يسوع وأعماله جعلتهم يضيّعون الطريق بشكل تام. وكانت ردّة الفعل عندهم في غير محلّها: إستلوا السيف حين التوقيف، وخلّصوا نفوسهم فيما بعد حين هربوا، أو أنكروا معلمهم. فوجب أن تتم الآلام كلها، وجب الوصول إلى القيامة لكي يجتاحهم النور. وحين تمّ الحدث، بدا توافقه مع الكتاب المقدس في ملء وضوحه. ولكن حين نصل إلى هذا الإدراك يجب أن نتذكر كل شيء لكي نغذي إيماننا. هذا ما يدعونا إليه القديس متى.
ج- لوقا: شخص المعلّم
راعى لوقا المراحل المتعاقبة في الوحي، فلم يعد بالوضوح عينه إلى الكتب المقدسة (كما فعل متى). فالمرحلة السلبية التي يجب على المسيح أن يمرّ فيها تسمّى الساعة. هكذا يسميها يسوع: "ساعة" الأعداء، و"سلطان الظلمة" (22: 53). إن هذا التعبير لا يرتبط إلا إرتباطاً ضميّناً بانباءات الأنبياء. إن لوقا يحتفظ لزمن القيامة باكتشاف تتمة الكتب: فالمسيح القائم من الموت هو الذي "يفتح عقل" تلاميذه لى "يفهموا الكتب" (24: 45- 46؛ رج 24؛ 25- 27، 32؛ يو 2: 22؛ 12: 16).
إن ترتيب الخبر يدلّ على أننا أمام مؤرّخ من الطراز الأول. فمحاولة المقاومة المسلّحة التي رواها متّى ومرقس بعد توقيف يسوع، قد جعلها لوقا قبل هذا التوقيف، وهذا ما يبيّن تسلسلاً أفضل للوقائع. وهناك تفاصيل عديدة تدلّ أيضاً على فنّ لوقا ككاتب: مثلاً، يدلّ على الجمع قبل أن يسمّي يهوذا (22: 47). نبدأ فنبصر الجمع، وبعد هذا نتبين الشخص الذي يقود هذا الجمع (منطق المؤرخ).
ونلاحظ خصوصاً الطريقة التي بها يتكلّم لوقا عن يسوع. فهو لا يتحمّل القولي بأن يهوذا قبّله، فاستعمل عبارة غير مباشرة: "دنا من يسوع لكي يقبّله" (22: 47). مقابل هذا دلّت كلمة يسوع على معرفته بالأمور، كما شدّدت في الوقت عينه على ما في هذا الأسلوب من وجه بغيض: "يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن الإنسان" (22: 47)! وهكذا يطلب من كل مسيحي أن يحذر الخيانة لربّه.
ويتجنّب لوقا أيضاً التشديد على واقع التوقيف (والإعتقال). يذكره بشكل عابر، بواسطة اسم فاعل (22: 54). فتعبّده للرب يجعله يخفّف كل ما يسيء بقساوة إلى كرامة يسوع البشرية، وهذا ما سيفعل في ما بعد، في مشهدي الهزء: في الأول (22: 63- 65) لم يذكر الصفعات ولا البصاق. في المشهد الثاني (23: 16، 12)، أشار إليها بتلميحات مستورة، ولم يذكر بوضوح الجلد ولا التكليل بالشوك.
مقابل هذا، إهتمّ لوقا بإظهار عظمة يسوع، وخصوصاً كبر اخلاقه. هذا بارز في الكلمة التي وجّهها إلى يهوذا: كلمة موجزة تعبرّ عن حزن عميق. وهذا ما ينعكس في السؤال الذي طرحه التلاميذ وهو سؤال يدلّ على أنهم واعون لسلطة معلّمهم: "يا رب، هل نضرب بالسيف" (22: 49)؟ وتظهر عظمة يسوع خصوصاً في جوابه السلبي (كلام)، وفي فعلته: لمس أذن الغلام فابرأه: إذن، لم يكتفِ يسوع بأن يضع حداً لاستعمال السلاح، بل أصلح الضرر، وشفى جراح "خصمه". نحن نعجب هنا من سلطة إلهية تجترح المعجزات، كما نعجب من سخاء أعطى يسوع أجمل مثالٍ له (6: 27- 36).
3- المحاكمة عند اليهود
بعد أن اعتُقل يسوع سلّم إلى سلطات شعبه: فأقتيد إلى عظيم الكهنة. وبدأت المحاكمة. لم ترد الأناجيل الإزائية أن تروي لنا كل ما جرى في هذه المحاكمة. فهي تبدو غير مهتمة بعدد من التفاصيل، فيبقى "المؤرخون" مراراً في الغموض. أما العناصر التي اختارها متّى ومرقس ولوقا، فهي التي فهمها التقليد الأول على ضوء القيامة. إعتبرها مهمة فأدخلها في الكرازة والتعليم. وقدّمت لنا هذه العناصر في ثلاثة تآليف مختلفة.
أ- مشهد المحاكمة
ميّز مرقس زمنين في المحاكمة: الإتهام (والشكوى) الذي يرويه حالاً (14: 53- 64)، وجلسة المحكمة التي تمّت في الصباح الباكر (15: 1). والعبارة التى استعملها للحديث عن هذه الجلسة (هيأوا مجلساً) تعطيها طابعاً قانونياً. غير أن مرقس لم ينتظر ذاك الوقت ليتحدّث عن الاتهامات ضدّ يسوع. فهي ترد في خبره منذ افتتاح الدعوى التي بدت في هذا الإطار القسم الرئيسي في المجموعة. من الوجهة الأدبية، يرتبط ذكر جلسة المجلس بالقسم اللاحق. أشار إليه مرقس باسم الفاعل، فحدّد موقعه في جملة انتقالية تدخل القارئ في المحاكمة لدى الرومان.
أما متّى فاستعمل لجلسة المجلس فعلاً في صيغة الماضي (27: 1). وقبل أن ينتقل إلى المحاكمة الرومانية أقحم حدثاً جديداً (27: 3- 10: موت يهوذا). وهكذا حصل على فصل واضح بين المحاكمة اليهودية والمحاكمة الرومانية. ولكنه توسّع، شأنه شأن مرقس، في الإستجواب الذي تمّ خلال الليل. بل شدّد عليه فأعطى سؤال رئيس الكهنة شكل استحلاف احتفالي (آ 2: 63: استحلفك بالله الحي).
لم يهتم لوقا من جهة إلا بالمثول الرسمي الذي تئم في الصباح (22: 26). وهو لم يقل شيئاً عن الإستجواب السابق (في الليل) الذي يشُكّ في قيمته القانونية. إن اهتمامات المؤرخ تلتقي مع اهتمامات الكاتب الذي رفض البطء في حركة الخبر بسبب الإستجوابات والتكرارات (ق مت 26: 57، 59، 66؛ 27: 1).
ب- التأليف الاجمالي
لا يكتفي أي إنجيلي بإيراد عناصر المحاكمة. معناها. فيسوع لم يخضع فقط لأسئلة واستجواب. وغطّاه الذل والإحتقار.




أولاً مرقس: كرامة مسيحانية ومعاملة سيئة
قدّم مرقس مجمل الخبر في تأليف تتعارض أقسامه تعارضاً قوياً. بعد أن حدّد موقع الحدث وقدّم الأشخاص (14: 53- 54) روى أولاً تقديم الشكوى. وقد تحدّد إتجاه الشكوى منذ البداية: هم يسعون أن يقتلوا يسوع (14: 55). ولكن الوقائع جاءت تعاكس هذا الهدف: لم يجدوا ضد يسوع إتهاماً واحداً له قيمته. وجاءت شهادات عديدة. ولكن مرقس احتفظ فقط بكلمة عن دمار الهيكل. ثم بين أن الشهادات لم تتوافق في هذه النقطة ولا في غيرها. في النهاية، سألت عظيم الكهنة يسوع حول موقفه من مخطّط الله: هل أنت المسيح؟ هل أنت ابن المبارك (أي الله)؟ شكّل جواب يسوع اعلاناً احتفالياً عن مسيحانيته المتعالية. وهكذا بلغت الدعوى إلى نتيجة معاكسة للتي طلبها المجلس: لم يثبت خطأ المتهم، بل انكشفت كرامته السامية: "هو ابن البشر الجالس عن يمين القدرة".
وجاءت المفارقة الثانية: لم يجد وحي شخصية يسوع أي صدى إيجابي. لما يحرّك أي إكرام. لم يلقَ أي قبول. أما نتيجته الوحيدة فكانت ردة فعل بشكل معاكس. صرخوا: إنه يجدّف. وأعلنوا أن يسوع "يستحقّ الموت" (14: 64: إن خاتمة الدعوى تقابل بدايتها، 14: 55). فأساؤوا معاملة يسوع: بصقوا عليه، غطّوا وجهه، لطموه... (14: 65). وأنكره أكثر التلاميذ حماساً له (14: 66- 72). بعد هذا، قيّده أعداؤه كلصّ ليسلّموه إلى بيلاطس (15: 1).
إذا نظرنا إلى الوقائع من الخارج، رأينا أنها "تكذبّ" كلمات يسوع أقسى "تكذيب". وهكذا يُبرز مرقس بالترتيب الذي أخذ به، هذا التعارض وهذه المفارقة بين تأكيدات يسوع على كرامته والمعاملات السيّئة والمهينة التي تنتج عن هذه التأكيدات.
ثانياً: متّى: تعارض تنيره الكتب المقدسة (ثمن الدم)
إحتفظ متى بالعناصر عينها، إلا أن مجمل تدوينه بدا أكثر إيجازاً من الإنجيل الثاني، بدا بشكل رسمة سريعة. تحاشى الأسلوب "الثقيل" والتكرارات التي تميز الإرتجالى الشفهي (ق مت 26: 60، 62 ومر 14: 56- 60). حتى التفاصيل جاءت منسّقة ومرتبة. مثلاً، في انكار بطرس المثلث، حافظ على التدرّج، ثم إنه شدّد بالأحرى على النقاط الهامة (استحلاف عظيم الكهنة، 26: 63؛ إتهام يسوع بالتجديف مرتين، (26: 65).
حين أورد متّى إعلان يسوع الإحتفالي، إحتفظ بإشارة أهملها مرقس. قال يسوع "أنا هو" فجاء جوابه تأكيداً مباشراً (مر 14: 62). أما في مت 26: 64 فعاد جواب يسوع إلى عظيم الكهنة إلى العبارة الذي استعملها هذا الأخير، "أنت قلت". هكذا شدّد يسوع على أنه لم يتخذ بنفسه مبادرة إعلان كرامته الخاصة، فجعل الحاضرين يدركون تحفّظاته بالنسبة إلى نظرة متّهميه المسيحانية.
إن الترتيب العام للمقطع هو شبيه بما في مرقس. إذن، يتضمّن التعارضَ نفسه بين كلام يسوع والمصير الذي يتحمّله. ولكن قبل العبور إلى المحاكمة لدى الرومان، زاد متّى مقطوعة عن "ثمن الدم" (27: 3- 10). هناك تفاصيل في هذا الخبر تتيح لنا أن نرى أن المكان الذي اختاره متى لإقحام هذا الخبر، لا يرتبط بالكرونولوجيا. فعظماء الكهنة والشيوخ لا يستطيعون أن يكونوا في الوقت عينه في الهيكل وفي قصر الوالي. ثم إن شراء الحقل لم يتمّ في الساعة. إن هذا المكان ينتج عن هدف في التأليف. وفي الواقع، إن هذه المعلومة المضافة حوّلت تحويلاً عميقاً منظار الدعوى لدى اليهود.
هذه الإضافة تعطي الدعوى خاتمتها الخاصة. لقد اجتمع المسؤولون كلهم للمرة الأخيرة: يهوذا، عظماء الكهنة، الشيوخ. ويذكر متّى مشروع البيع الذي اتفقوا عليه منذ بضعة أيام، ويشدّد على هذا التذكّر (26: 15). أما الموضوع الذي يشرف على هذه المقطوعة فليس "موت يهوذا" كما قيل مراراً، بل الثلاثين من الفضة، ثمن الدم. يشير متّى الى يهوذا (يوضاس) في كلمة. أما الفضة فتذكر سبع مرّات (4 مرات بالأسم وثلاث مرات بالضمير) ويُذكر الدم ثلاث مرّات.
إن تذكر الفضّة الملعونة تتيح لمتّى أن يقدّم لنا مفتاح المفارقة التي تركها مرقس بدون جواب. فيبرز بوضوح من جهة أن الدعوى ظالمة. فهذا ما تشهد عليه قطع الفضّة. وهذا ما يوافق عليه يهوذا حين يقز: "أخطأت حين سلّمت دماً زكياً". ورمى ثمن خيانته في الهيكل (27: 4- 5). لم يهتمَّ رؤساء الكهنة بالأمر بادئ ذي بدء. وفي النهاية اتفقوا هم أيضاً: "إنها ثمن الدم" (27: 6).
ومن جهة ثانية، عبر مؤامرة يهوذا والسلطات اليهودية، ظهر مخطّط الله الذي تمّ كما أنبأت الكتب. فقطع الفضّة قد ذُكرت في الانبياء (27: 9- 10)، وهي تدلّ على دينونة الله: لم يستفد يهوذا من ربحه المشين، وسجّل رؤساء اليهود على أرضهم شهادة جرمهم الذي ما زال يسمى "حتى اليوم" "حقل الدم" (27: 8). وهكذا تحدّد بوضوح موقفُ اسرائيل القديم وكنيسة المسيح، وفهمنا بُعدي إنجيل متّى: إنجيل تعليمي، إنجيل. كنسي.
ثالثاً: لوقا: موقف التلميذ وشهادة يسوع
أما لوقا فأخذ بترتيب مختلف كل الإختلاف: بدأ فروى نكران بطرس ثم توبته (22: 54- 62). ثم صوّر ما أصاب يسوع من ذلّ على يد الحرس (22: 63- 65). في النهاية أخبرنا عن نتيجة الإستجواب الصباحي (22: 66- 71) وتسليم السجين إلى بيلاطس (23: 1).
هذا التأليف يوافق كل الموافقة المنظار "الشخصي والإرشادي" الخاص بلوقا. فقبل أن تبدأ الدعوى، كانت المسألة الأولى التي تطرح، هي موقف التلميذ خلال مثول معلّمه للمحاكمة. فالإتجاه الطبيعي يدفعنا أن نفكّ الإرتباط (لا يتضامن) مع يسوع المعتقل. لا نحبّ أن نكون تلاميذ معلّم انحطّ إلى هذا المستوى. قال بطرس إنه لا يعرفه (22: 57). وخبر النكران يكشف القناع عن تجربة تتغلغل في قلب كل واحد منا. وخبر توبة بطرس الذي حرّكه نظرُ يسوع الذي التفت إليه (22: 61)، يكشف سرّ كل توبة تتحلى بالسخاء.
لم يشدّد لوقا في لطافته، كما شدّد متّى ومرقس، على خطيئة بطرس. لم يشر إلى الحلف واللعن. ثم إن ترتيب الخبر بدّل العلاقة بين نكران بطرس وهزء الجنود. في مرقس، يأتي النكران حالاً بعد هزء الخدم من يسوع (14: 65)، فيصبح بطرس "واحداً منهم". في لوقا، جُعل النكران قبل مشهد الهزء، وتدخّلت التوبة قبل الحديث عن معاملات سيّئة أصابت يسوع. إذن، هناك انفصال. فبطرس بدموعه ليس بجانب المستهزئين. والقارئ المسيحي ليس معه أيضاً. فهو يسير في طريق آلام مخلّصه بعواطف خاطئ تائب.
وحين مثول يسوع، أغفل لوقا مرور الشهود والإتهام المتعلّق بدمار الهيكل. وركّز الإنتباه فقط على كشف شخص يسوع. أعطى الإستجواب شكلاً جماعياً فتجنّب وضع يسوع أمام عظيم كهنة يكلمه من عليائه ويأمره بالجواب. ثم إن يسوع دل بأقواله على أنه يعرف القلوب، أنه سيّد القلوب (22: 67- 68). والإعلان التالي يعبرّ عنه لوقا بشكل أبسط، وهكذا لا يتحيز القارئ اليوناني. وقسم لوقا السؤال سؤالين (أنت المسيح. أنت ابن الله) وهكذا ميّز بين مسيحانية يسوع وبنوّته الإلهية، وهذا ما أعطى النصّ وضوحاً أكثر.
لا يصف لوقا اعلان البنوّة الإلهية بأنه تجديف. كما أنه لا يورد عبارة الحكم على يسوع. ولن يقول فيما بعد إن يسوع قد حُكم عليه. ويكتفي هنا بأن يلاحظ أن السلطات اليهودية اعتبرت، بعد كلمات يسوع، أنها تستطيع أن تستغني عن أية شهادة أخرى. فاقتادت يسوع إلى بيلاطس. تلك هي الطريقة التي بها شدّد لوقا على الأهمية الحاسمة لشهادة يسوع على نفسه. وهكذا نكتشف في هذا المشهد تعلّق التلميذ بمعلّمه.
4- المحاكمة عند الرومان
أ- المدخل
يروي مرقس مثول يسوع أمام بيلاطس يا بضعة سطور. ونلاحظ هنا أكثر من أي مكان آخر، أن الإنجيلي لا يتوخى أن يروي كل شيء. فالإستجواب بدا بشكل رسمة سريعة فجاء غامضاً. أورد مرقس بدون مقدمة سؤال بيلاطس، وما اهتمّ أي اهتمام بأن يهيئه: "أأنت ملك اليهود" (15: 2)؟ أجاب يسوع: "أنت قلت". ولم يَرد بعد ذلك أي شرح.
حسّن متى تقديم الخبر. فاهتمّ بجعل أسم يسوع في أفضل موقع، وأبرز الطابع الرسمي للمشهد فأعطى بيلاطس لقبه الروماني: "وقف يسوع أمام الحاكم" (الوالي) (27: 11). وهو أيضاً لم يهيّئ سؤال بيلاطس.
أما لوقا فهياً بيلاطس. عمل عمل المؤرّخ فأعطى الكلام للمتهمين الذين عدّدوا اتهاماتهم ومنها اعتبار يسوع لنفسه انه الملك المسيحاني (23: 2). حينئذ بدا سؤال بيلاطس طبيعياً، بدا في مكانه.
حين سمّاه "ملك اليهود"، نقل كرامة المسيح إلى المستوى السياسي. وهكذا شوّه إعلان يسوع، ولكنه احتفظ بانعكاس للواقع. وسيضع يوحنا الأمور في نصابها (يو 18: 33- 38).
ب- التأليف الإجمالي
أولاً: مرقس: اليهود ضدّ ملك اليهود
غاب كل إستعداد، فبرز سؤال بيلاطس عند مرقس. فالدعوى الرومانية هي دعوى، "ملك اليهود". سيعود اللقب أكثر من مرة على شفتي الوالي (15: 9، 12). وسيستعيده الجنود الرومان بدورهم (15: 18) ويستلهمونه من أجل لعبهم القاسي.
محاكمة غريبة! يهود يهاجمون بكل قواهم ملك اليهود، وهو لا يجيب بشيء (15: 3- 5). ويتوالى مشهدان. الأول هو الإستجواب. فبعد السؤال الأول، قدّم رؤساء الكهنة اتهاماتهم. وحاول بيلاطس أن يستعلم عن الحقيقة. ظلّ يسوع صامتاً. وبقي بيلاطس في حيرته الكبيرة.
المشهد الثاني يحيرّنا أيضاً. فقد وُضع "ملك اليهود" تجاه "متمرّد ارتكب جريمة قتل". من نطلق؟ من نعاقب؟ إقترح الحاكم الروماني أن يطلق ملك اليهود (15: 9) الذي لم يقترف جرماً (15: 14). أما جمهور اليهود الذي هيّجه عظماء الكهنة، فطلب العقاب الروماني لملكه، طلب الصلب (15: 13، 14). فتراجع بيلاطس وأسلم يسوع ليصلب.
ثانياً: متى: شعب اسرائيل ودم المسيح
لا يقوم متى إلا ببعض التصحيحات في خبر الاستجواب. أما الشيء الخاص الذي جاء به، فهو وضع خبرين داخل حدث برأبا: تدخل امرأة بيلاطس (27: 19)، ومشهد غسل الأيدي. ولكننا لسنا فقط أمام نصوص أقحمت. فمتى استعاد المجموعة كلها وقدّم لنا تأليفاً جديداً بناه بناء مدهشاً.
* في البداية، نحن أمام الأشخاص، الوالي والشعب. ثم السؤال الذي لا بدّ له من جواب: من نطلق؟ برأبا أم يسوع (27: 15- 17)؟
* وجاء التأثير من الجانبين: حلمت امرأة بيلاطس حلماً بشكل تنبيه، فرأت في يسوع "باراً" وتدخلت من أجله لدى زوجها (27: 19). أما في جانب الشعب اليهودي، فرؤساء الكهنة والشيوخ يعملون من أجل برأبا وضد يسوع (27: 20).
* وكان الحوار بين بيلاطس والشعب: من نطلق؟ برأبا. ماذا نعمل بيسوع؟ إصلبه. حاول بيلاطس أن يعترض، ولكن الجمع لم يتراجع (27: 21- 23).
* في عملية "مسرحية" عبرّ الراوي عن المواقف المتخذة. غسل بيلاطس يديه، فرفض أن يأخذ على عاتقه مسؤولية يسوع. أما الشعب فأعلن مسؤوليته: قدمه علينا وعلى أولادنا (27: 24- 25).
* وتتجاوب الخاتمة مع المقدمة: أطلق بيلاطس برأبا، وأسلم يسوع ليصلب (27: 16).
في التسلسل المنظم لهذا التأليف الدائري، يبدو الهدف التعليمي والكنسي واضحاً: نحن مرة أخرى أمام علاقات المسيح مع شعب إسرائيل. ساعة تشفعت امرأة الوثني من أجل "البار"، طالبت ابنة صهيون بصراخ عظيم بموت المسيح. لم يتحدث متَّى مثل مرقس عن "ملك اليهود"، بل ذكر مرتين: "يسوع الذي يقال له المسيح" (27: 17، 22). والمسؤولية التي رفضها بيلاطس، قد أخذها الشعب (27: 25). هذا الموقف الذي أخذه شعب العهد القديم، يدلّ على منعطف في تاريخ الخلاص: فبعد الآن، إذا أراد الإسرائيلي أن يدخل إلى ملكوت الله، عليه أن يرتدّ وينضمّ إلى العهد الجديد الذي ختمه يسوع بدمه (26: 28).
ثالثاً: لوقا: براءة يسوع
صوّر لوقا المحاكمة الرومانية في منظار آخر. وزاد عليها ملحقات أخرى. سبق وأشرنا إلى لائحة بالإتهامات التي وُضعت في بداية الإستجواب (23: 2). وانطلقت المحاكمة من جديد فحدّدت أصل يسوع الجليلي (23: 5). هذا ما يعطي المؤرخ مناسبة لكي يروي واقعاً جديدا: أعيد يسوع إلى سلطة هيرودس. ذكر متّى (14: 1- 12) مرّة واحدة هيرودس. وذكره مرقس مرتين. أما لوقا فذكره في ستة مقاطع في إنجيله.
إن لهذا اللقاء بين هيرودس ويسوع أهمية خاصة: لقد رأى فيه لوقا مناسبة ليندّد بطريقته الخاصة في التعرف إلى يسوع: روح الحشرية والفضول، حبّ اللهو، لا استعداد البتة للإلتزام الشخصى. وهكذا انقلب اللقاء رذلاً مليئاً بالإحتقار. خلال مثول يسوع أمام هيرودس، سيتكلّم لوقا عن السخرية، ولكن بشكل موجز (23: 11). وفي نهاية المحاكمة، لن يصوّر قساوة الجنود الرومان.
وبسبب هذه التحوّلات المتنوّعة، انقسم خبر لوقا إلى ثلاثة أحداث:
* مثول أمام بيلاطس الذي يعيد المتهم إلى هيرودس (23: 2- 7).
* مثول أمام هيرودس الذي يعيد المتهم إلى بيلاطس (23: 8- 12).
* إجتماع عام ينتهي بتراجع بيلاطس أمام الجموع (23: 13- 25).
في الحدث الأخير، خسر برأبا من أهميته. ذكر متى اسمه خمس مرات. أما لوقا فلم يذكره سوى مرة واحدة (23: 18). لقد أحسّ الإنجيلي الثالث بالإشمئزاز من التشديد على الموازاة بين يسوع ومجرم. أشار إليه إشارة سريعة، فأظهر التعارض بين يسوع البريء وبين ذاك الذي كان في السجن بجريمة قتل وإثارة فتنة (23: 25).
فموضوعه الرئيسي هو براءة يسوع. حالاً بعد السؤال الأول، أعلن بيلاطس أنه لا يجد سبباً يحكم على المتهم (43: 4). هذا الموقف المتخذ يدهش القارئ، لأن لا شيء مما يسبق يفسرّه. فإذا أردنا أن نعرف أكثر من ذلك يجب أن نلجأ إلى توسّعات الإنجيل الرابع (يو 18: 33- 38). فهي تدلّ بصورة أوضح على منظار لوقا.
ويستعيد لوقا إعلان البراءة ويتوسّع فيه فيما بعد: في آ 14 حيث يسيند بيلاطس إلى ما قام به من بحث. في آ 15 حيث يفسرّ في الخط عينه تصرف هيرودس. ويعود بيلاطس مرة رابعة إلى الموضوع حين يطالب اليهود بموت يسوع (آ 22). كان الوالي منطقياً مع نفسه فعبرّ مراراً عن نيته بأن يطلق يسوع (آ 16، 20، 22). ولكن صيحات اليهود تعترض. تعب بيلاطس منهم، "فأسلم يسوع إلى مشيئتهم" (آ 25).
إن تصوير موقف بيلاطس يعكسه ولا شكّ ولاء لوقا لرومة. ولكنه يشكّل مناسبة للتشديد على براءة يسوع، على غياب أي ذنب عند يسوع. وما زال التلميذ الأمين يشدّد على هذه النقطة التي تؤسّس تكريمه للمسيح المتألمّ. وهو يعرف أيضاً أدن للمسيحيين هنا درساً هاماً. فإن اقتيدوا أمام المحاكم، فالذنب ليس ذنبهم، ولكنهم يكونون على مثال معلّمهم فيتمون إرادة الله (1 بط 4: 15- 16). إنهم يتألمون بسبب أمانتهم ليسوع.
5- الجلجلة
حكم على يسوع بالصلب، فأساء الجنود معاملته. ثم اقتيد إلى الجلجلة وهناك نُفّذ الحكم فيه (مر 15: 20؛ مت 27: 31؛ لو 22: 26). إن موته هو الحدث الرئيسي في تاريخ الخلاص. وإن تأليف الأناجيل يدعونا هنا إلى الإعتبار والتأمل.
أ- مرقس: وفي النهاية تفجّر النور من الظلمة
أولاً: مسيرة الخبر
جاء مشهد الهزء بين ذكرين متوازيين للصلب المنتظر ("لكي يُصلب"، مت 15: 15؛ مت 27: 26. "ليصلبوه"، مر 15: 20؛ مت 27: 31)، فبدا كمطلع كقيذ الحكم بالإعدام (مر 15: 16- 20؛ مت 27: 27- 31؛ لا شيء عند لوقا). سارع الجنود ليقدموا صورة عن المحاكمة الرومانية بمشهد خاص: نال "ملك اليهود" رداء من الأرجوان، وإكليلاً وإكراماً. ولكن الإكليل كان من الشوك.
وجاء التنفيذ بحصر المعنى. نستطيع أن نميّز في خبر مرقس ستة أوقات متعاقبة: (1) تسخير سمعان القيريني (15: 21)؛ (2) الصلب (15: 22- 27)؛ (3) الهزء (15: 29- 32)؛ (4) الطلمة (15: 33- 36)؛ (5) موت يسوع وصدى موته (15: 37- 39)؛ (6) ذكر النسوة القديسات (15: 4- 41).
إن ما يحيط بالخبر (حدث سمعان في البداية، ذكر النسوة في النهاية) قد يشير إلى مشاركة في آلام يسوع. ولكن التفاصيل التي جاء بها مرقس تتخذ اتجاهاً آخر: أورد مرقس اسماء: اسم ابني سمعان (اسكندر، روفس)، اسم عدة نساء (مريم المجدلية، مريم أم يوسى). إن هذه الأسماء تكفل حقيقة الأحداث. إنها تحيلنا على شهود نستطيع أن نسألهم. إن مرقس يعلن أحداث الخلاص. هي أحداث محيرّة ولكنها مسجّلة بشكل موضوعي في التاريخ البشري.
ووليْ الخبر يتّجه في خط معيّن. فقد اهتم مرقس بترتيب التفاصيل التي تحمل معنى والتي يقدمها له التقليد الإنجيلي. فليس من قبيل الصدف أنه وضع لقب "ملك اليهود" (15: 26) بين إشارتين إلى الصلب (15: 25- 27). فهذا اللقب (كما لاحظناه) يمئز المحاكمة الرومانية (15: 2، 9، 12، 18). وفعل "صلب" يتوزّع المحاكمة عينها (15: 13، 14، 15، 20). ووضع يسوع بين لصين (15: 27)، هو قريب من وضعه مع المفتن برأبا (15: 6- 15).
نحن هنا إذن أمام خاتمة المحاكمة الرومانية. فالمفارقة التي صوّرت في الكلمات، صارت الآن واقعاً قائماً في ذاته. لقد عرف يسوع أنه "ملك اليهود"، ولكن في سياق يتعارض كل المعارضة مع كرامته: عري كامل (إنتزعوا عنه حتى ثيابه، 15: 24)، ذلّ إلى آخر حدود الذلّ (رفيقاه لصان)، عجز المحكوم عليه الذي سيموت.
وتتواصل سلسلة الهزء ببساطة في مشهد الصلب. ولكن اتجاهها يختلف عن تلك التي سبقتها. هي لا تعود إلى المحاكمة الرومانية، بل إلى المحاكمة اليهودية فتسترجع كل عناصرها تقريباً.
أول مجموعة من الهازئين هم المارون (15: 29): إنهم يقابلون قافلة شهود الزور. إستعادوا الإتهام الذي وجّه إلى يسوع حينذاك (15: 58): زعم يسوع أنه يهدم الهيكل ويعيد بناءه في ثلاثة أيام. والمجموعة الثانية هي مجموعة القضاة ("عظماء الكهنة والكتبة"، 15: 31؛ رج 14: 35). ذكروا السؤال الذي طُرح وقت الإستجواب وإعلان يسوع المسيحاني: "المسيح، ملك إسرائيل" (10: 32؛ رج 14: 61- 62). غير أن مرقس لا يذكر هنا البنوّة الإلهية: لقد احتفظ بهذا العنصر الحاسم للإنقلاب الأخير مع قائد المئة (15: 39).
الإطار هو إطار هزء. والوقائع لا تتماشى مع ما يُنسب إلى يسوع. من الوجهة البشرية، يجب أن ينزل يسوع عن الصليب (15: 30، 32). إذا أراد أن يؤسّس إعتباره بأنه يعيد بناء الهيكل الجديد، عليه الآن أن يفلت من الموت القريب، أن ينجّي نفسه من موت محتّم. وإذا أراد أن يبيّن سلطانه كمسيح، عليه أن ينتصر في هذه الساعة على خصومه. حينئذ نستطيع أن نؤمن به (15: 32).
يعرف الإنجيلي أن هذه الطريقة في النظر إلى الأمور هي خاطئة. ولكنه يترك الناس يعبرّون عنها بقساوة. معه نحتمل صدمة الواقع وننزل أكثر فأكثر إلى ظلمة السرّ.
حينئذ جاءت ساعة دينونة الله. هي لا تبدو أولاً كساعة تحرّر، بل كساعة ضيق مخيف. لقد صارت الظلمة كثيفة جداً (رج يو 2: 1- 2، 10؛ حب 3: 3، 11؛ عا 9: 9...). في هذا المناخ الثقيل، بدا صراخ يسوع (إيراد مز 22) وكأنه يعلن أن المجدّفين هم على حقّ. ليس هيكل أورشليم هو الذي تخلىّ عنه الله وهيأه للدمار، بل يسوع الذي تكلّم ضدّ الهيكل.
وتحملت بشرية يسوع شبه لعنة (وهذا ما يعارض التكريس). إنه سر ذروة المحنة التي هي شرط من شروط كمال العطاء. وهذه "اللعنة" تنتهي (هذا ما يدلّ عليه وليْ المزمور ويبيّنه وَليْ الإنجيل) في ملء وحي ابن الله. حين قبل يسوع مشيئة الله حتى النهاية، دلّ على أنه واحد مع الآب في الحّ. عطية يسوع للآب، عطية الآب ليسوع، عطية الله للبشر. كلّ شيء يتمّ في هذا الحدث الذي تكتنفه الظلمة.
لقد إختار الله "أن يسكن في السحابة المظلمة" (1 مل 8: 12؛ 2 أخ 6: 1). في هذه الساعة بقي كل شيء ملغزاً. والذين حضروا المشهد لم يفهموا شيئاً. وتبقى إمكانية خلاص وحيدة ليسوع. إنتظروها له ببعض الهزء، ولكنها لم تتحقق: هل يأتي إيليا ويخلّصه؟ إيليا "الذي عيّن ليهدئ الغضب" (سي 48: 10) لا يتدخل في شكل من الأشكال. فعلى يسوع أن يشرب الكأدس حتى الثمالة.
وأسلم الروح. يبدو أن كل شيء إنتهى في المعنى السلبي للكلمة. أي، كل شيء عاد إلى العدم. في الواقع، كل شيء إنتهى في المعنى الإيجابي للكلمة: كل شيء قد تمّ.
وحالاً حدثت علامتان تشهدان على تمام كل شيء. الأولى تعني الهيكل الذي انشقّ حجابه (15: 38). الثانية تقوم في فعل إيمان جعله موت يسوع يتفجّر من شفتي قائد المئة: "في الحقيقة، كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39). قد تبدو هاتان العلامتان كلا شيء. ولكنهما حاسمتان كخاتمة كل شيء. إنهما تثبتان معنى الحدث بشكل غير متوقعّ، وذلك بانقلاب أخير عن طريق المفارقة.
ثانياً: وحي المسيح
إذا أردنا أن ندرك إدراكاً تاماً مدلول هاتين العلامتين في فكر الإنجيلي، يجب أن نتنبّه إلى العلاقات التي يقيمها تأليف الخبر بين هاتين العلامتين وبعض المعطيات من المشاهد السابقة. فمجمل الخبر هو الذي يحمل إلينا وحي المسيح (أو: وحياً عن المسيح). فبدون الخاتمة ظلّت العناصر السابقة معلّقة، فما استطعنا أن نصل إلى أي يقين في تفسيرها. ولكن مقابل هذا، تحتاج النهاية إلى هذه العناصر لتبرز بُعدها الحقيقي.
اً- شخص يسوع
ولنأخذ أولاً العلامة الأولى، العلامة "النهائية" النهائية، التي تعني شخص المسيح. إن إعلان إيمان قائد المئة الذي رأى كيف مات يسوع فأعلنه ابن الده (15: 39). هذا الإعلان يتجاوب من جهة مع هزء عظماء الكهنة الذين طالبوا لكي يؤمنوا بأن يروا يسوع ينزل عن الصليب (15: 32). ومن جهة ثانية صار هذا الإعلان سنداً للتصريح الإحتفالي الذي فيه أكد يسوع أنه ابن الله فقال: "سترون ابن الإنسان..." (14: 62). ولكن عظماء الكهنة هزئوا من هذا التصريح.
قد أدركنا خلال المحاكمة الأهمية الأساسية لهذا التصريح الإحتفالي. وها هي تتثبت بواسطة النهاية الأخيرة. فلنتوقّف الآن عند بُعدها التعليمي.
حين سأل عظيم الكهنة يسوع هل هو "المسيح ابن البار"، عاد بسؤاله إلى المواعيد المسيحانية. فالمسيح هو لقب الملك الذي يُمسح بالزيت ويُرسل إلى خلاص شعبه. أما بنوّة المسيح الإلهية فقد أعلنها المزمور الثاثي وأنبأ بها قول ناتان (2 صم 7: 14).
طُرح السؤال على يسوع، فأجاب بالإيجاب (أنت قلت). ولكنه زاد حالاً تفاصيل تثبت بشكل أفضل معنى الألفاظ. إن سؤالى عظيم الكهنة يحتمل جواباً إيجابياً لا يجد فيه العالم اليهودي ما ينتقده فيه. ولكن يسوع أكّد أنه المسيح ابن الله في معنى حكم عليه السنهدرين (مجلس الشيوخ) بأنه يدلّ على التجديف (مر 14: 64؛ مت 26: 65؛ يو 19: 7؛ 10: 33). في الواقع، لقد اتخذ جواب يسوع ملئاً لا يصدّق، لأنه جمع في جملة واحدة عبارة مز 110 التي تعني المسيح، وعبارة دانيال التي تدلّ على إبن الإنسان. ولكن إن فصلنا العبارة عن الأخرى، لن نحصل على المعنى الذي نحصل عليه حين نجملهما.
يقع مز 110 في خطّ المسيحانية الداودية. إنه يدعو ملك صهيون لكي يجلس عن يمين الله. ولكن لا شيء في المزمور يشير إلى جلوس في السماء. فقد تفهم العبارة مشاركة أرضية في سلطان الله: فالملك الذي يقيم في صهيون (آ 2) يجلس على "عرش ملك الله على إسرائيل" (1 أخ 28: 5؛ رج 1 أخ 29: 23؛ 2 أخ 9: 8). لا شكّ في أن التقليد المسيحاني مال إلى التقريب بين الملك المسيح والله نفسه. واتجه إلى إعطاء المسيح أسماء إلهية (رج أش 7: 14؛ 9: 5- 6؛ 11: 1- 2؛ إر 23: 6؛ حز 34: 23) ولكننا لا نجد في العهد القديم نصاً يمنح المسيح مساواة حقيقية مع الله على المستوى السماوي.
أما رؤية دانيال فتقع في خط التقليد الجلياني، أي الظهورات العظيمة التي فيها يتجلىّ مجد يهوه. نستطيع أن نقزبها بشكل خاص من نصّ حزقيال الذي يصوّر الظهور الإلهي "في شكل بشر" كله نار ومعدن متقد (حز 1: 26- 28). حين نقابل رؤية دانيال مع سائر التيوفانيات (الظهورات)، نكتشف فيها عدة سمات لافتة:
* ليست ظهوراً مجيداً لله على الأرض. بل هي مشهد يجري على المستوى السماوي، "على سحاب السماء" (7: 13).
* ويظهر على هذا المستوى شخصان لا شخص واحد. أولاً، "قديم الأيام" أي الله نفسه. هو جالس على عرشه كما في رؤية أشعيا (6: 1 ي) وحزقيال (7: 9). ثانياً، شخص هو "مثل ابن بشر" (7: 13) يتقدّم نحو القديم الأيام.
* في سائر التيوفانيات، لا يقترب الإنسان من الله إلا بالخوف والرعدة (خر 3: 6؛ أش 6: 5). أما هنا فلا يقال شيء مماثل عن ابن الإنسان. إنه يبدو على مستوى الله. يتقدّم إليه ويتسلم منه السلطان الإلهي (7: 14).
غير أن النبوءة بقيت غامضة. فدانيال لا يقول شيئاً عن "شبه ابن الإنسان" هذا: هل هو شخص حي، أم مجرّد فكرة؟ هل هو إنسان أم كائن إلهي؟ هل هو فرد أم جماعة؟ نرى في آ 18 أنه يمثّل "قديسي العلي"، ولكن كيف يمثلهم؟ أهو ملاكهم؟ أهو رئيسهم؟ أهو رمز لهم؟ ثم إن دانيال لا يقول إن هذا الشخص قد أعطي له أن يشارك الله في عرشه.
إن تصريح يسوع يتم الجمع بين النصين فيعلن انهم يرون "ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً مع سحاب السماء" (مت 14: 62). هذا الدمج بين التقليدين يشكّل وحياً جديداً. ويستبعد المعنى المجازي للنق الأول كما للنصّ الثاني.
من جهة، ابن الإنسان (دا 7: 13) لما يعد ظهوراً سرياً، بل إنساناً حقيقياً. هو نسل داود الذي فيه تتحقّق النبوءات المسيحانية (مز 110). ومن جهة ثانية، إن الجلولس عن اليمين (مز 110) لا يدلّ فقط على كرامة ملوكيةّ هي صورة أرضية لملك الله، بل على هذا السلطان الالهي نفسه لأنه يمارس على المستوى السماوي (دا 7: 13). وهكذا أكّد يسوع، جواباً على سؤال عظيم الكهنة، أنه "ابن الله" في معنى يتجاوز النظريات المعروفة وأعلن أن بنوّته ستظهر بممارسته سلطانه الإلهي بحصر المعنى. هذا ما يثير الإتهام بالتجديف الذي يحرّك الباقي كله: قرار السنهدرين، معاملة سيئة، تسليم إلى بيلاطس. وفي النهاية الموت على الصليب.
إن هذه السلسلة من النتائج تبدو وكأنها تعارض تصريح المسيح (كما قلنا). فكيف تتوافق مظاهر الهزء مع وضع الله المتعالي أو مع كرامة المسيح الداودية الذي سيكون ذاك المنتصر حسب النبوءات؟ في الواقع، ليس التعارض إلا في الظاهر. فانحدار يسوع يشكّل تحقيق تقليد نبويّ ثالث، بل هو يجعل الضم بين التحقيقين الآخرين أمراً واقعاً.
هذا التقليد الثالث هو ذاك الذي يشهد على ضرورة الذبيحة. الشخصية وخصبها في إطار مخطّط الله. أساسه هو تاريخ رجال الله: اسحق الذي سيق إلى الذبح، يوسف الذي باعه اخوته فصار مخلّصهم، موسى الذي نبذه أولئك الذين جاء يحرّرهم، الإنبياء المضطهدون، الأبرار المتألمّون الذين ملأت صلواتهم سفر المزامير. هذه السلسلة الطويلة من الوجوه البيبلية وصلت إلى نبوءة عبد يهوه الذي انحدر انحداراً حيرّ الحاضرين، فأعطى حياته ذبيحة (أش 53: 10) ونال هكذا تمجيداً مذهلاً (أش 52: 13) بعد أن برّر الكثيرين (أش 53: 11- 12).
إن إطار الذلّ والألم الذي يرافقه، لا يعارض تصريح يسوع الإحتفالي. بل هو الوسيلة التي تبدو بشكل مفارقة، والتي اختارها الله ليصل بقصده إلى التمام. وإذ أراد لمجده كابن الله أن يتغلغل تغلغلاً تاماً في طبيعته البشرية، وجب على هذه الطبيعة الموروثة من آدم أن تتحمل إعادة "حبّ" في بوتقة الآلام فتتّحد من أساسها بطاعة بنوية على الصليب.
ولكن شيئاً من هذا لا يظهر للوهلة الأولى. هي صورة معكوسة، هو الوجه السلبي الذي تعطينا إياه الأحداث عن السرّ. ولن يتفجّر النور إلاّ في أحلك وقت من الظلام: حين مات يسوع شهدت كلمة الضابط الروماني لبنوّته الإلهية. هذه هي أهم نقطة في شهادة مرقس.
2ً- عمل المسيح
إنكشف شخص المسيح. وانكشف في الوقت عينه عمله. هذا هو معنى العلاقة الثانية التي هيّا لها مرقس الطريق تهيئة خاصة. فتمزّقُ حجاب الهيكل (15: 38) يتجاوب مع هزء المارين (15: 29) ويؤكّد بشكل غير متوقع صحة الإنباء الذي ورد في المحاكمة حول دمار الهيكل (14: 58).
في هذه الحالة كما في سابقتها، تأتي المقابلات الثلاث فتنير هدف الإنجيلي. حين لم يحتفظ مرقس من الشهادات العديدة الكاذبة التي أدليت أمام السنهدرين (14: 56) إلا بشهادة واحدة، فقد كانت له أسبابه. فمن خلال التقديم المغلوط (سأدمّر)، رأى نبوءة حقيقية (رج 13: 1). غير أن معنى هذه النبوءة لم يظهر في الوقت عينه. ولكن المسيحيين أدركوه فيما بعد على ضوء الصليب والقيامة. وهذا يعلنه يوحنا بوضوح (2: 21- 22). أما مرقس فيلقح إليه في إختيار كلماته وفي التقابلات داخل الخبر كما ألّفه.
إن الإنباء عن خراب الهيكل لم يكن تهديداً باطلاً. فعلامة تمزّق الحجاب تؤكد صحة هذا الإنباء. وتبّين في الوقت نفسه أن هذا الدمار إرتبط بموت يسوع. فبين جسد يسوع المائت وبين "هيكل صنعته الايدي" (14: 58)، يوجد تضامن سرّي. فلا نستطيع أن نضرب الواحد دون أن نصيب الآخر. بما أن الهيكل تنجّس بخطيئة البشر (مر 11: 17) فصار إلى الدمار، كذلك تحملت الموتَ طبيعةُ يسوع البشرية. ومقابل هذا، بما أن خطيئة البشر سبّبت موت يسوع، فالهيكل الأرضي أفرغ منذ الآن من جوهره. فلن يعود يستطيع أن يبقى قائماً. والنظام القديم للاشياء الذي كان قاعدته سيزول معه.
ولكننا لسنا أمام إلغاء بسيط. فلقد تضمّن الإنباء مرحلة إيجابية، ترتبط بشكل مباشر بالمرحلة السلبية، مرحلة الدمار. يجب أن يحلّ حالاً محل الهيكل القديم "هيكل" أخر لم تصنعه الأيدي. (14: 58). على الجلجلة، دلت كلمة الضابط الروماني على هذا الإرتباط، لأنها تتعلّق ببناء الهيكل الجديد. وتصوّر مسبقاً التصاق الوثنيين بالإيمان ودخولهم إلى الهيكل الجديد الذي هو "بيت صلاة لجميع الأمم" (رج مر 11: 17 الذي يورد أش 56: 7).
لا شكّ في أن الإنباء تحدّث عن مهلة ثلاثة أيام، فدلّ بذلك على سرّ القيامة. ولا شكّ أيضاً في أن الهيكل الذي لم تصنعه أيدٍ بشرية هو الجسد السري للمسيح القائم من الموت (رج يو 2: 19- 22). غير أن مرقس يفهمنا هنا أن موت يسوع نفسه هو الذي يولّد القيامة. فموت يسوع الذي هو عمل سام من الطاعة البنويّة (رج 14: 36)، يحقّق الوحدة التامة بين بشريته وبين الله، فيقود إلى تكوين الإنسان الجديد الذي كرّسه تكريساً تاماً حضورُ مجد الله (رج خر 40: 34؛ 1 مل 8: 10؛ 2 مك 2: 8). وبعبارة أخرى، إن هذا الموت يقود إلى القيامة، فيؤسّس بشكل إيجابي الهيكل الجديد الذي ندخل فيه بالإيمان.
ونودّ هنا أن نكتشف العلاقات الموجودة بين موضوع الهيكل والتيارات الثلاثة التي اكتشفناها أعلاه في التقليد البيبلي: التيار المسيحاني، نبوءة عبد الله المتألم، نبوءة دانيال.
هذه العلاقات هي أوثق ما يكون مع التيار المسيحاني. فحسب الخبر البيبلي، إن قول ناتان الذي نجده في أساس انتظار المسيح، قد قيل جواباً على نية داود بأن يبنى بيتاً للرب. ليس داود هو الذي يبني بيتاً لله، بل الله هو الذي يبني بيتاً لداود، "فيقيم" له نسلاً. وهذا النسل هو ابن داود الذي عرف كابن الله، وهو الذي سيبني هيكلاً لله (2 صم 7: 2- 17).
بعد هذا، لم تغب البتة العلاقة بين ابن داود وهيكل الله في تقليد إسرائيل. فالهيكل والسلالة متضامنان تضامناً وثيقاً. والكارثة الوطنية (587 ق م) التي أنبأ بها إرميا (21: 11- 22؛ 9؛ 26: 1- 15) قد ثبّتت بشكل مأساوي هذا المصير المشترك (بين الهيكل والسلالة) وحوّل النظرة تحويلاً عميقاً فادخل في الموضوع الحقبة السلبية، حقبة دمار الهيكل وسقوط السلالة التي لن تقوم لها قائمة من بعد.
ولكن عبر الدمار احتفظ وعدُ الله بقيمته. هذا ما أكّده إرميا (33: 14- 22). وسيقدّم حزقيال بدوره في نبوءة واحدة إعلان الملك المسيحاني وإعلان إقامة الهيكل بيد الله (حز 37: 5 2- 28). وبعد العودة من المنفى سيبدأ شخص من نسل داود (اسمه زربابل) بإعادة بناء الهيكل (عز 3: 1 ي؛ 5: 1 ي؛ زك 4: 9). وحين يتأمل المؤزر (دوّن 1 أخ، 2 أخ، عز، نح) في تاريخ إسرائيل، فهو يركّزه كله على هذين الموضوعين: سلالة داود وهيكل أورشليم.
إن خبر الآلام يشكل نهاية هذا التقليد الطويل ويجمع كل عناصره جمعاً عجيباً. ففيه لا ينفصل موضوع الهيكل عن الموضوع المسيحاني. والحقبة السلبية لدمار الهيكل وإذلال المسيح، تهيّئ، على سبيل المفارقة، الحقبة الإيجابية، حقبة تمجيد المسيح وإعادة بناء الهيكل. في سرّ الآلام، أظهر الابن الذي أعطاه الله لداود، أنه ابن الله وأعاد بناء بيت الله. فالتمجيد والبناء هما شيء واحد، لان الهيكل الجديد (كما قلنا) هو بشرية المسيح الممجّدة.
حين نستعيد موضوع الهيكل في العمق، فهو يلتقي ونبوءة عبدالله المتألمّ: حقبة الدمار توافق الآلام. وحقبة إعادة البناء توافق تمجيد عبد الله وخصب ذبيحته.
أما العلاقة مع نبوءة دانيال، فتثبتها عدّة نصوص بيبلية تربط الهيكل بتقليد التيوفانيات (خر 40: 34؛ 1 مل 8: 10؛ 2 مك 2: 8).
وهكذا نفهم أن هذه الجمل القليلة التي أوردها مرقس، تحدّد على الجلجلة موقع تتميم مخطّط الله، ونقطة التقاء التقاليد البيبلية ودمجها. وبما أن حدث الجلجلة يحقق في الوقت عينه نبوءات ما كنا لنظن أنها تتلاقى، فيتجاوز كل انتظار بهذه الشميلة الحياتية غير المنتظرة، فهو يحمل طابعاً إلهياً. إنه يكشف لنا عن شخص ابن الله وعمله.
ثالثاً: الدفن
من الواضح أننا لا نستنتج أنه بما أن موت المسيح كان الصدمة التي منها تفجّر النور، نتوقف هنا مع الخبر ونترك القيامة. هذا لا يعني أننا لم نفهم شيئاً من هدف الإنجيلي. فموت المسيح لم يبدُ له نقطة وقوف، بل نقطة إنطلاق، ولا هذا يقوم معناه وعظمته. فالعلامتان اللتان دلّتا على خصبه، تكشفانه الآن كاندفاع إنتصار نحو القيامة.
إن ذكر النسوة (15: 40- 41) يوجّه القارئ في الخطّ عينه. فهو يدلّ مسبقاً على اقتراب القيامة. فالأسماء التي قرأناها هنا هي التي سنجدها في بداية خبر القيامة (آ 1: 1) "مريم المجدلية، مريم ام يعقوب، سالومة" أم يعقوب ويوحنا.
ويثبت خبر الدفن الرباط عينه بين الموت والقيامة. فهذا الخبر يشهد بشكل واضح لواقع الموت، خصوصاً عند مرقس الذي يسير إلى "تحقق من الموت" ويستعمل لفظة يونانية (بتوما) تدلّ على "جثة الميت" (15: 44- 45). وهو يؤكّد في الوقت عينه ان تبدّل الوضع بدأ منذ الآن: لم نعد أمام إشارة ذلك أو عار. بل هناك شخص وجيه في المجلس (15: 43). أسمه يوسف الرامي. هو الذي يعتني بإعطاء يسوع دفنة تليق به. هو لا يخاف من أن يخسر "سمعته". إن الذي يتكلّم لدى بيلاطس، ليس من خصوم يسوع، بل هو رجل "ينتظر ملكوت الله". إن نهاية الخبر قد قادت القارئ إلى القبر وسمّت مرة أخرى مريم المجدلية ومريم أم يوسى، فهيأته لاكتشاف سيتتم صباح القيامة.
ب- متّى: نهاية زمن قديم وولادة الكنيسة
يبقى علينا أن نتفحّص كيف تكلّم متّى ولوقا عن الأحداث عينها. لا يختلف تأليف متّى اختلافاً كبيراً عن تأليف مرقس. فنحن نجد ذات التوافقات الداخلية. فكما عند مرقس، يحيط بخبر الصلب وموت يسوع ذكُر سمعان القيريني من جهة، وذكُر النسوة القدّيسات من جهة أخرى. سيكون متّى موجزاً حين يتكلّم عن سمعان، ولكنه يرتّب جملته ترتيباً أفضل حين يتكلّم عن النسوة القديسات.
وكما عند مرقس، فالصلب يرتبط بالمحاكمة الرومانية وفيها نجد لقب "ملك اليهود" (27: 37). أحاطت مظاهر الهزء بإشارتين إلى اللصين: فتوزّعت على الشكل التالي: المارّون، السلطات اليهودية. واستعادت عناصر المحاكمة اليهودية: كلمة عن الهيكل، اعلان المسيحانية. وصوّرت ساعات الظلمة كما عند مرقس. وتبع موت يسوع كذلك تمزّقُ حجاب الهيكل واعتراف الإيمان لدى الضابط الروماني.
إذن، ظلّت الرسمة هي هي وقدّمت مضمون الوحي عينه. ولكن ادخل متّى بعض التفاصيل المختلفة فجاء أكثر وضوحاً من مرقس. فشدّد (أكثر من مرقس) على تتمة الكتب المقدسة: فالشراب المرّ الذي قدّم ليسوع حين وصل إلى الجلجلة، والذي سمّاه مر "خمراً ممزوجة بمرّ"، أعطى المناسبة لمتى حتى يذكر مز 69 جاعلاً "المرارة" محلّ المرّ (27: 34؛ رج مز 68: 22 حسب السبعينية، 69 حسب العبرية).
وزاد متّى إيراداً ثالئاً على الإيرادين المأخوذين من مز 22 (إقتسام الثياب، صراخ التخلي): إستفاد من هذا المزمور فكمّل الحديث عن عبارات الهزء الموجّهة إلى يسوع: "توكل على الله. فلينقذه الآن إن كان راضياً عنه" (27: 43: رج مز 22: 9). وإضافة هذه الجملة من المزمور على نهاية النصّ، تعطي القارئ المسيحي "المفتاح" ليفهم ما سبق. فهي تدلّ أن على علامات الإحتقار التي ذاقها المصلوب، أن توافق إنباءات الكتب المقدسة، وتؤكّد ساعة الخلاص القريبة. فالمزمور يقول إن الله نجّى "البار" الذي يدلّ هنا على يسوع المسيح (مز 22: 23- 32).
إحتفظ متّى بلقب ابن الله لساعة النور الأخيرة. أما متّى فذكّرنا به فرات عديدة خلال خبر الآلام (27: 40، 43، 54). فبنوّة يسوع الإلهية هي المعطية الأساسية التي يرتبط بها كل ما تبقى. أي: دمار الهيكل وإعادة بنائه، إنتصار المسيح المصلوب، تدخّل الله من أجله.
أخيراً، نسّق متّى بشكل رهيب ردّات الفعل على موت يسوع، فأبرز البعد الاسكاتولوجي للحدث. فأضاف على تمزّق حجاب الهيكل زعزعة كونية (رجفت الأرض، تصدّعت الصخور) لكي يدلّ على نهاية الزمن القديم. وأبرز حالاً مجيء الزمن الجديد حين أشار إلى قيامة موتى عديدين. وارتبط إعلان إيمان قائد المئة بهذه الزلزلة، فامتدّ إلى رفاقه، وهكذا برز مدلول هذا الإعتراف الإيماني: لم نعد أمام ردّة فعل محصورة في فرد واحد، بل أمام بداية حركة إرتداد ستتخذ أبعاداً واسعة فتصل إلى أقصى الكون.
خلال المحاكمة اليهودية، تضمّن تصريح يسوع عند متّى عبارة "منذ الآن" (26: 64) التي لا نجدها عند مرقس. إن معنى هذا التفصيل يستنير بخبر موت يسوع. فمتّى يبيّن أن هذا الموت هو الحدث الحاسم الذي بدأ تحقيقَ كلمات يسوع التي هي قمة كل الإنباءات النبوية: "منذ الآن" يتمّ تنصيب يسوع مسيحاً، وبنوّته الإلهية تتجلىّ فينال للبشرية الوثنية أيضاً، الدخول إلى الهيكل الجديد والإتحاد بالله. ومرّة أخرى، يطبع الإتجاهُ التعليمي والكنسي عند متّى مجملَ خبره ويتيح له أن يدرك ملئه العجيب.
وضمّ متّى إلى خبر الدفن الموجز (والشبيه بخبر مرقس) حدثاً فيه يجد هذا الإتجاه المضاعف مناسبة أخيرة لكي يعبرّ عن نفسه: حراسة القبر (27: 62- 66). القائمون بهذا العمل هم "عظماء الكهنة والفريسيون" الذين يمثّلون شعب العهد القديم. في عملهم هذا، عارضوا "تلاميذ يسوع". نحن هنا في موضوع كنسي.
ونقطة الخلاف هي قلب تعليم الكنيسة: الإيمان بالقيامة. وقد أعطي عنه عبارتان. الأولى تذكر إنباء يسوع (27: 63). الثانية تستبق الشهادة الرسولية (27: 63). حين أورد متّى هنا هذا التقليد (الذي نُدرك بعده الدفاعي في المقطع الذي يكمّله، 28: 11- 15) أبرز بشكل أفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الآلام بالقيامة: وهكذا عبرّ بشكل واضح عن الوجهة التعليمية.
ج- لوقا: فاعلية الصليب من أجل التوبة
إختلف لوقا عن متّى، فابتعد بعداً كبيراً عن رسمة مرقس. لقد أراد أن يبرز وجهات أخرى للأحداث. إن لوقا يكتب هنا، كما فعل فيما قبل، "إنجيل التلميذ".
ما يحيط بالخبر يدلّنا على معناه. هو لا يقدّم لنا سمعان القيريني والنساء القديسات كشهود جديرين بأن يكفلوا الوقائع، بل كنماذج تجتذب المسيحي لكي يشارك بشكل أقرب في آلام مخلّصه. حين محدّث لوقا عن سمعان القيريني، لم يتحدّث عن "السخرة". بل اختار كلمة لها معنى أعمّ: "كلّفوه". وهذه اللفظة تستعمل من أجل مهمة تسلّم إلى شخص، كما من أجل عمل شاق. ووليْ الجملة هو عبارة الالتزام المسيحي: كلّفوه بأن "يحمل صليبه وراء يسوع" (23: 26؛ رج 9: 23؛ 14: 22). وهكذا شكلت صورة سمعان لكل تلميذ، تذكيراً بدعوته لاتباع المسيح حقاً.
أما النساء القدّيسات فلم تُذكر اسماؤهن، ولم يلفت لوقا نظرنا إلى هويتهن، بل إلى موقفهن. هن جزء من مجموعة الأصدقاء. "كن يقفن هنا"، و"ينظرن" (23: 49). إنهن نموذج الشخص المتأمل. وحضورهن يدعو القارئ ليختلي هو أيضاً ويتأمل.
وإهتم لوقا بإبراز هذه الإشارات. فحالاً بعد أن ذكر سمعان، دلّ على جمع كبير يتبع يسوع ونساء ينحن. أما الأقوال التي وجّهها يسوع إليهن، فتتضمن نداء إلى التوبة. "لا تبكين عليّ، بل ابكين على انفسكن". وهذا النداء يرافقه تحذير من عقاب الله: "إن كانوا قد فعلوا هذا بالعود الرطب، فماذا يكون بالعود اليابس" (23: 27- 31).
وأبرز لوقا أيضاً النهاية: "وأما الجماهير الذين كانوا محتشدين على هذا المنظر، فلما عاينوا ما قد جرى، رجعوا كلهم وهم يقرعون صدورهم" (23: 48). إن هذه الفعلة الأخيرة توافق الموقف الذي طلبه يسوع من بنات أورشليم. وكان التفصيل السابق قد هيّئ خلال الخبر: ففي ساعة الصلب، لاحظ لوقا أن الشعب كان واقفاً هنا ينظر (23: 35).
ويعطي يسوع للتلميذ الذي ينظر إليه على الجلجلة، مثال غفران الذنوب: "يا أبتِ، إغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يصنعون" (23: 34). نجد هنا تتمّة وصيته بأن نحب الأعداء، وهذه الوصية قد شدّد عليها لوقا تشديداً خاصاً (6: 27- 36؛ 17: 3). فاسطفانس، أول الشهداء، سيدخل في ذات الطريق بالسخاء عينه (أع 7: 60).
وترتيب تعابير الهزء حسب نظام مختلف، يدلّ على منظار جديد. نلاحظ أولاً تدرّجاً منحدراً في كرامة الأشخاص. أولاً جاء "الرؤساء" (23: 35) الذين يذكّروننا بحكم المحكمة اليهودية: "فليخلّص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار". وبعدها اقترب "الجند" الذين استعملوا تسمية المحكمة الرومانية: "إن كنت ملك اليهود" (23: 36 ي). في هذا الموضع جعل لوقا حدث الخل الذي أعطاه الجنود ليسوع، وأشار إلى الكتابة التي تتحدّث عن "ملك اليهود" (23: 37).
وجاء أخيراً دور اللصين. أن يكون يسوع نال الإحتقار من رفيقي آلامه، فهذا آخر الذلّ. ولكن حدث هنا تبدّلٌ في الوضع: رفض أحد اللصين أن يشارك رفيقه في "كيل" الشتائم ليسوع. فاعترف بخطأه وخطأ صاحبه، وأقرّ ببراءة يسوع. وعبرّ عن إيمانه في صلاة متواضعة. فأجاب يسوع على هذا الإيمان معلناً له أن طلبته استجيبت في اليوم عينه: "اليوم تكون معي في الفردوس" (23: 43).
بهذا الشكل دلّ لوقا على فاعلية ذبيحة يسوع: فصليب يسوع حوّل العالم مولّداً فيه توبة النفوس، وفاتحاً الفردوس. كل واحد منا مدعوّ مع اللص لكي يتأمّل في آلام يسوع ويقوم بفحص ضمير: "نحن عقابنا عدل. نلناه جزاء ما عملنا. أما هو فما عمل سوءاً" (23: 41).
فجّر صليب يسوع التوبة. وفجّر أيضاً تجديداً لا يصدّق في ثقة اين منها ثقة الأطفال: "يا يسوع، اذكرني متى جئت في ملكوتك" (23: 42). ودلّ جواب يسوع على أن هذه الثقة مؤسّسة أساساً عميقاً: فالمصلوب يفتح باب الرحمة على مصراعيه (رج 6: 36؛ 15: 1 ي؛ 18: 9- 14). إنه يحقق، ولكن على مستوى آخر، ما تحدّاه اللصّ الأول أن يفعل: "خلّص نفسك وخلّصنا" (23: 39).
وساعةَ الموت، تضمّن خبز لوقا أيضاً تبديلاً في الترتيب حوّل معنى التفاصيل. فهو يسير في الوقت عينه إلى تمزّق حجاب الهيكل وإلى ظلمة الساعة السادسة. فصلهما مرقس فشكلا عنده الإعلان (الظلمة) ثم الشهادة (تمزق الحجاب) عن حكم الله. أما عند لوقا فدلاَّ على حداد شامل عمّ الكون (23: 44- 45).
حين مات يسوع أعطى مثال الإستسلام الكامل بين يدَي الآب. هذا الموقف الذي عبرّ عنه بواسطة مز 31: 6 (لو 23: 46)، يقدّم بشكل نهائي صورة عن العبر التي نقلها إلينا لوقا. إختلف لوقا عن متى ومرقس فلم يقل مرّة ثانية على الصليب إن يسوع هو ابن الله. ولكنه بيّن بوضوح كثر منهما موقف يسوع البنوي الذي يموت وهو يتلفظ باسم "الآب" (23: 46؛ 2: 34). وهكذا شدّد لوقا حتى النهاية على المثال الذي أعطاه يسوع. حينئذ جاءت دهشة الروماني فلاحظت أن "هذا الرجل كان باراً" (23: 47).
إن الآيات الأخيرة (آ 44 ي. سبق وتحدّثنا عنها) تسير في خطّ حدث اللص الصالح. لا يسير لوقا إلى إحلال زمن جديد محل زمن قديم. ولا يعطي في خبره الأهمية التي أعطاها متّى ومرقس لموضوع الهيكل. كما لم يظهر اهتمامه بالإشارات الاسكاتولوجية. ولكنه تنبّه إلى تأثير الأحداث في قلوب الناس. وإلى كل ما يمسّ العلاقات الشخصية مع المسيح. لهذا أنهى كلامه ذاكراً موقف التأمل، مشدداً على فاعلية الصليب من أجل إرتداد القلوب (23: 48- 49).
وحين روى لوقا الدفن، شدّد على المستوى الخلقي عند يوسف الرامي (رجل تقي صالح) (23: 51)، على تفاني النساء القديسات اللواتي هيأن حالاً الطيوب والحنوط (23: 56). إن هذه الإشارة الأخيرة تهيّئ بشكل مباشر خبر القيامة.
خاتمة
إن دراسة أخبار الآلام قد ثبتّت ملاحظاتنا الأولى، على ما نظنّ، وأعطتها مكانة في الواقع. فالإزائيون الثلاثة قد استفادوا من المواد التي تسلّموها من التقليد، فاستغلّ كل واحد غناها بطريقته استغلالاً مدهشاً: شدّد مرقس على صدمة الواقع ودلّ متى على المسيح في نور الإيمان وحدّد وضع الكنيسة. وتأمّل لوقا في العلاقة الشخصية مع الرب يسوع.
لم يعرض أحد من الثلاثة آلام وموت يسوع كأحداث سلبية. فالموت على الصليب لا يبدو فشلاً ألغاه بسرعة انتصارُ القيامة. لا يبدو حدثاً مؤسفاً يجب أن ننساه بسرعة، بل يشكّل الموت تحقيقاً إيجابياً أتمّ الكتب فكشف شخص يسوع وأكمل عمله.
لقد تمّ الإنتصار المسيحاني (مز 110)، ورجاء جلياني بظهور حاسم لله (دا 7). فألم الأبرار وجد خاتمته الكاملة (مز 22). حين قبل يسوع أن يكون عبد الله الذليل (مز 53)، دخل في مجده. لا مجد مسيح أرضي، بل مجد ابن الله. وفي الوقت عينه، تحوّل الوضع الديني للبشر: فالهيكل المادي ترك المكان لهيكل حي وروحي يدخل فيه المؤمنون حقاً ليتّحدوا بالله.
وهكذا استنار الإنجيليون بنور القيامة فرأوا في موت يسوع نفسه العمل الذي يحوّل عالمنا فيفتحه على مجد الله. لم ينتظر متّى ومرقس ولوقا القيامة لكي يشهدوا لبناء زمن جديد: موت يسوع هو بداية هذا الزمن. رآه مرقس من خلال علامتين. وأعلنه متّى فصوّر زلزلة كونية. وأشار لوقا إلى ارتداد القلوب.
ينتج عن هذه النظرة الإيمانية، فكرة حياة مسيحية نجدها في كل أسفار العهد الجديد. حين يرجو المسيحي سعادة سماوية، فرجاؤه لا يقوده إلى أن يهرب من الواقع المؤلم والمذلّ الذي يجده في العالم الحاضر. والمسيح لا ينتظر في وضع منفعل تدخّل الله الذي يخرجه بضربة سحرية من وضعه، فالإيمان لا يبعدنا عن الواقع. والمسيحي يهتم يوماً بعد يوم بأن يلتقي في واقع الحياة الوضيع والمحيرّ، مع تدخّل الله الخفي والحاسم.
هو يعرف أن عليه أن "يمرّ بمضايق كثيرة ليدخل إلى ملكوت الله" (أع 14: 22). ويعرف أن المشاركة في مجد المسيح تتضمن المشاركة في آلامه (روم 8: 17؛ 2 كور 4: 10- 11؛ فل 3: 10- 11؛ 1 بط 4: 13). ولهذا، فالمحبة لا تهدم ثقته وافتخاره، بل تؤمّن له أساساً ثابتاً. "فالله سكب محبته في قلوبنا" (روم 5: 2؛ رج يع 1: 2- 4؛ عب 12: 7، أ ع 5: 41).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM