الفصل الأربعون: حول موت يسوع

الفصل الأربعون
حول موت يسوع
15: 21- 41
ها هي الأحداث تتواصل بسرعة: درب الصليب، صلب ملك اليهود، حفلة من الهزء جديدة أمام هذا المصلوب: المارون، عظماء الكهنة والكتبة، اللصان المصلوبان معه. تمزّق حجاب الهيكل وأعلن قائد المئة أن هذا الرجل هو ابن الله. كل هذا تحت نظر النسوة اللواتي رافقن المعلّم من الجليل ولم يتركنه حتى ساعة الموت والدفن، بانتظار أن ينعمن بحضوره يوم القيامة.
1- تنظيم النصّ
إن التقاليد التي جمعها مر في آ 21- 41 تشكّل كتلة متلاحمة وتدور كلها حول موت يسوع. ونستطيع أن نستخرج عناصر تدلّ على تماسكها. هناك أولاً وحدة المكان: تجري الأحداث على الجلجلة أو في الطريق إلى الجلجلة. وهناك أيضاً ميزتان. الأولى، إشارات إلى الساعة (آ 25، الساعة الثالثة أو التاسعة صباحاً، آ 33، الساعة السادسة أو الظهر). الثانية، تركيز على النصوص الكتابية (آ 24، 29، 34، 36). وإذا أردنا أن نقسم هذه المجموعة، نجد فيها جزئين كبيرين. إن آ 21- 32 يتداخلها موضوع الصلب (نقرأ فعل "صلب" 5 مرات. و"الصليب" 3 مرات) الذي يختفي بعد آ 33. وهناك إشارة أخرى: بين آ 21 وآ 32، فاعل الأفعال هو شخص غير يسوع (ما عدا رفض المرّ في آ 23 ب). أما بعد ذلك، فيسوع هو فاعل الأفعال: "صاح يسوع بصوت جهير...".
ونلاحظ أيضاً تدرّج الألقاب التي ينالها يسوع. في آ 21- 27، المركّزة على الصلب، تدلّ الكتابة على أن يسوع "ملك اليهود" (آ 26). بعد ذلك، ترد كلمات هزء المارّين ورؤساء الكهنة والكتبة (آ 29- 32) على أنه "ملك إسرائيل": لينزل عن الصليب (آ 32). هذا الجزء ينفصل عن الجزء السابق، لأن آ 32 ب تقابل آ 27، فتذكر في ذات الألفاظ رفيقي يسوع في العذاب. وتروي آ 33- 39 الدقائق الأخيرة قبل موت يسوع. حينئذ أعلن قائد المئة: "في الحقيقة، كان هذا الرجل ابن الله".
بعد هذه القسمات الثلاث، نكتشف قسمة رابعة هي لائحة النسوة اللواتي شهدن موت المخلّص (آ 40- 41)، وأخذن بالإستعداد للأحداث المجيدة الآتية. هكذا سندرس هذا المقطع الذي يبدو مهماً جداً في خبر الحاش والآلام.
2- طريق الصليب والصلب (15: 21- 27)
يتضمّن التجمّع الأول في هذه القسمة ثمانية عناصر تتحلّق حول صلب يسوع: طريق (درب) الصليب (آ 21). الوصول إلى الجلجلة (آ 22). الخمر الممزوج بمرّ (آ 23). الإشارة الأولى إلى الصلب (آ 24 أ). إقتسام الثياب (آ 24 ب). الإشارة الئانية إلى الصلب (آ 25). الكتابة (آ 26). اللصان المصلوبان مع يسوع (آ 27).
وكل هذا ينحصر في أشخاص ضمّوا إلى يسوع يا هذا الظرف، في صورتين متعارضتين: سمعان القيريني الذي حمل صليب يسوع. اللصان اللذان يقاسمان يسوع عذابه. ثم إن التدوين يبدو بسيطاً مختصراً، في أسلوب عُرّي من الصور ومن كل ما يحزك العاطفة (نودّ أن نبكي، أو نغضب). فالمعنى الذي يبحث عنه الإنجيلي هو معنى لاهوتي يتوجّه إلى قلب القارئ.
أ- درب الصليب (آ 21)
حين كتب مر أن الجنود اقتادوا يسوع إلى الخارج (خارج المكان الذي هو فيه) أخذ بعين الإعتبار موضع المشهد السابق "داخل القصر" (آ 16). فزاد: "لكي يصلبوه". وهكذا عاد إلى ما أورده في نهاية المحاكمة حين أسلم يسوع إلى بيلاطس "لكي يصلب" (آ 15). هذا الذي أُرسل إليه يسوع يتمّ الآن، بعد أن أخّره مشهد الهزء الذي بدا فاصلاً بين حدثين.
يشكّل تسخير (فعل سخّر، "اغاروواين، يعود إلى الفارسي، وربما البابلي) سمعان القيريني من قبل الجنود ليحمل صليب يسوع، وذكر إسم ولديه الإسكندر وروفس، حاشية تاريخية هامة. بل هي كثر من ذلك. هنا يتذكر القارئ التنبيه الذي تفوّه به يسوع في 8: 34: إن الرجل الذي طُلب منه أن يحمل صليب يسوع، يدلّ على أحد أولئك الذين وجّه يسوع كلامه إليهم فقالت: "إن أراد أحد أن يتبعني (أن يأتي ورائي، أن يسير خلفي، لا أمامي)، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني".
وجاءت اعتراضات على التفسير الذي يجعل من سمعان صورة (أو رمزاً) عن التلميذ الذي يشارك المعلّم في آلامه (رج عب 13: 13: نذهب خارج المحلّة حاملين عاره. تأثير الإنجيل على هذه الآية، خصوصاً على الوضع المشابه). فالصليب الذي يحمله سمعان ليس صليبه الخاص، بل صليب يسوع (لا شكّ في أن سمعان أجبر على ذلك، ولكن الرمزية هي هي، رج 9: 24: أعن قلّة إيماني). ثم إن مشاركة سمعان ليسوع لم تكن بملء إرادته، بل سخر تسخيراً. فكيف نطبّق عليه هذه العبارة: "من أراد أن يتبعني"؟ ولكن مثل هذا المنطق لا يؤثّر على قارئ (أو: ساع) عارف بالأناجيل. فإن كان لا ومر قد تحدّثا عن هذا الواقع (تحدّث لو عن صليب يحمله سمعان على خطى يسوع)، فقد أرادا أن يعطيا الحدث معنى روحياً. ويشهد على "روحانية" سمعان، ولداه الإسكندر وروفس اللذان هما من أعضاء الكنيسة.
ب- الوصول إلى موضع الصلب (آ 22)
إن آ 22 تلي بشكل منطقي آ 20: "إقتادوه إلى خارج" (اكساغوسين). نجد بعد الحديث عن تسخير سمعان القيريني: "وجاؤوا به إلى موضع الجلجلة". حين قال مر هذا الكلام، أورد إشارة مكانية معروفة في الطوبوغرافيا المحلّية التي حملتها إليه مراجعه. لا نجد عنده أي تلميح رمزي إلى اسم المكان هذا. يكفيه أن يترجم الأرامي إلى اليوناني كما فعل في أماكن أخرى (5: 41؛ 7: 34؛ 14: 36؛ 15: 34؛ رج 7: 11) من أجل قرائه.
قد نفترض ولكننا لا نستطيع أن نستنتج حين نقرأ فعل "فاراين" (حرفيا: حمل) أن يسوع كان منهكاً فجرّوه إلى الجلجثة. رج استعمال الفعل عينه في 7: 32؛ 8: 22؛ 9: 17، 19، 20 (رج 1: 32؛ 2: 3)؛ مت 17: 17؛ يو 21: 18. ثم، إذا كان سمعان "راجعاً من الحقل"، فهذا يعني أنه لم يأتِ المدينة. فلا نبحث عن معنى آخر. في آ 22، الجلجثة هي ترجمة الجمجمة.
ج- ورفض يسوع المرّ (آ 23)
إن الفعل "اديدون" (بدل: اديدوسان) يدلي على المحاولة: حاولوا أن يعطوه (رج 9: 38: حاولنا أن نمنعه؛ مت 3: 14؛ لو 1: 9). تحدّث عا 2: 12 عن الخمر الذي يُسقى للمنذورين لكني يضيعوا عقولهم. نحن بعيدون هنا عن هذا المعنى. فالخمر الممزوج بالمرّ هو "تخدير" يُعطى للمصلوبين فيخفّف عنهم آلامهم. قال أم 31: 6: "قدّم الشراب القويّ لمن يموت".
نحن هنا في الواقع أمام فعلة إنسانية تقوم بأن نقدّم للمحكوم عليه بالموت، خمراً ممزوجة بمرّ. لا نجد إشارة كتابية هنا إلا ما أوردنا في أم 31: 6. إحتفظ مر لا بالفعلة، بل برفض يسوع لهذا الشراب. لا ننسب إلى يسوع إرادته بأن يتحمّل آلام الحاش كاملة. فهو لا يبحث عن الألم من أجل الألم، ومثل هذا الكلام لا يجد سنداً له في العهد الجديد. ما أراد الإنجيلي أن يقوله هو أن كرامة يسوع منعته من البحث عن فقدان وعيه في سكرة تقتل فيه الإرادة. إن يسوع يذهب إلى الموت بكامل وعيه وكامل إرادته.
د- إشارة أولى إلى الصلب (آ 24 أ)
قال النصّ: "وصلبوه" (كاي ستاوروسين اوتون). ثلاث كلمات يونانية. لا حاجة إلى تصوير موشع (كما في الأفلام السينمائية)، ولا حاجة لدى الكاتب إلى أن يحرّك عاطفة القرّاء فيحدّثهم مطوّلاً عن عذاب يسوع.
لم يكن الصليب بالنسبة إليهم شيئاً من الماضي، وهم الذين يرونه على حافة الطرقات. لهذا كانوا يعرفولن ماذا يعني. ويكفي أن يُذكر ليعرف القارئ ما وراءه من عار ورعب. ولكنهم كانوا يعرفون أيضاً أنه هكذا تتحقّق رسالة المسيح ومخطّط الله.
و- إقتسام الثياب (آ 24 ب)
ويتحقق هذا المخطّط بشكل أوضح في اقتسام ثياب يسوع. كانت العادة أن تترك ثياب المحكوم عليه للجلاّدين. إستفاد الإنجيلي من هذه المناسبة، فأبرز العار الذي حلّ بذلك الذي تخلىّ عنه الجميع، بذلك الذي يعرّى الآن من كل شيء. ذاك كان مصير البريء الذي يشير إليه مز 22: 19 الذي فسرّ تفسيراً مسيحانياً، وورد هنا للمرّة الأولى. لسنا هنا أمام إيراد واضح كما في يو 19: 24، بل أمام تدوين يستلهم المزمور في هدف نفهمه بسهولة: لقد رسمت الكتب النموذج، وتقوم مهمّة يسوع بأن "تتمه" (14: 21، 27، 49). لقد حقّق الجلاّدون هذه الصورة المقدسة، من دون علم منهم، فكانوا أداة من أجل تحقيق كلام الله في الكتب المقدّسة.
ز- ساعة الصلب (آ 25)
"وكانت الساعة الثالثة (التاسعة صباحاً) لمّا صلبوه". تحديد أول للساعة. وسيليه تحديدان آخران (آ 33، 34). وهكذا أشار الكاتب مرة ثانية إلى الصلب. "حرفياً: كانت الساعة الثالثة، وصلبوه" (الواو بدل لمّا). تحيّر النسّاخ بحرف العطف هذا. فكتب بعضهم مستلهماً مت 27: 36: "وجلسوا هناك يحرسونه".
"الساعة الثالثة". هي أولى ساعات الصلاة بعد "الصباح" الذي فيه أسلم يسوع إلى بيلاطس (15: 1)، وقبل الظهر والساعة التاسعة، و"المساء" الذي هو وقت الدفن (15: 42).
ح- الكتابة (آ 26)
لا تذكر اللافتة (أو: الإعلان، أو: اللوحة) في مر كما في يو 19: 19، بل ما كتب فيها: علّة الحكم: "هو ملك اليهود". عبارة موجزة وسيوضحها سائر الإنجيليين. عبارة فيها احتقار من قبل القاضي والجلاّدين. يلعب هذا اللقب دوراً في بناء المقطع. كما يبرّر على المستوى الإخبار، أقوال الهزء في فم الحاضرين: لم يقل مر إن اللافتة ثبّتت على الصليب (ق مت 27: 37؛ يو 19: 19). ولكننا نستطيع أن نفترض أن عظماء الكهنة عادوا إلى مضمونها ليهزأوا بيسوع (15: 32). ولكن اللقب عينه يعيدنا أيضاً إلى ما سبق في خبر الحاش: المحاكمة الرومانيّة ومساومة بيلاطس مع الشعب (15: 2، 9، 12) من أجل إطلاق مسيحهم. في هذه الظروف، علّق يسوع على الصليب على أنه المسيح الذي رفضه شعبه.
هـ- رفيقا العذاب (آ 27- 28)
إن اللوحة المؤثّرة التي ترينا يسوع مصلوباً بين "لصّين، واحد عن يمينه والآخر عن يساره" تتميّز بقساوتها عن مشهد آخر. فالقارئ يُدعى إلى أن يتذكّر طلباً وجّهه ابنا زبدى إلى يسوع: "أعطنا أن يجلس واحد عن يمينك والآخر عن يسارك، في مجدك" (10: 37). ويتذكّر أيضاً جواب يسوع للأخوين، وفيه يشير إلى العماد وإلى الكأس (رج 14: 36) اللذين ينتظرانه في القريب العاجل.
أما الآن، فالملك هو بين "وزيرين" من نوع خاص. والثلاثة يقاسون عمق الألم والعار. لا يشير مر إلى أش 53: 12 (ورد في لو 22: 37). فقد يكون فكر في هذا النصّ الكتابي: "أحصي مع المجرمين". هناك من أعطى وجهاً سياسياً للمشهد. فالمجرمين ليسا من الثوّار، وليس يسوع قائد ثورة وطالب ملك قتل بعد أن قام "بثورة على السلطة" الرومانية! وبالنسبة إلى مر، لقد خسرت اتهامات المجلس وبيلاطس ليسوع، كل جوهرها. ف "ملك اليهود" البريء في نظر الرومان هو مصلوب، لأنه أعلن أمام السنهدرين أنه "المسيح ابن الله" فحُسب إعلانه تجديفاً. كم نحن بعيدون عن صاحب ثورة تدفعه الرغبة بالملك، الرغبة بالمملكة المسيحانية!
3- أقوال الهزء على الجلجلة (15: 29- 32)
تتركّز هذه القسمة الثانية على موت يسوع، ويحيط بها ذكر المجرمين المصلوبين مع يسوع (آ 27، 32 ب). وهي تتوزّع في مشهدين رئيسيين ومميّزين، ينتهيان بملحق. نرى في المشهد الأول "المارّين" (العابرين) (آ 29- 30). وفي المشهد الثاني (آ 31- 32) عظماء الكهنة والكتبة. وفي الملحق، وحسب القاعدة المثلّثة، نرى اللصين اللذين يضيفان إساءة على إساءة.
في المشهد الأول، توجّه الهازئون مباشرة إلى يسوع. في المشهد الثاني تحادثوا في ما بينهم هازئين: فلينزل الآن عن الصليب لنرى ونؤمن! إستعمل الهزء الأول الكلمة التي تضمنتها شهادة الزور في المحاكمة اليهودية (14: 58). وعاد الهزء الثاني إلى "الإعتداد" المسيحاني في المحاكمتين: إستجوب عظيم الكهنة يسوع: هل أنت "المسيح" (14: 61)؟ وسأله بيلاطس إن كان "ملك اليهود" (15: 2). وهذا اللقب الأخير صار في فم الوجهاء اليهود "ملك إسرائيل". وهكذا نكتشف التداخل الوثيق بين هذا الحدث والمحاكمتين في العالم اليهودي والعالم الروماني.
للمشهدين اللذين يتواليان هنا ترتيب واحد: مقدّمة (آ 29 أ/ آ 31 أ) وكلمة (آ 29 ب- 35/ آ 31 ب- 32 أ). إن ظهور المارّين على الجلجلة وموقفهم في هذا الظرف، يعودان بنا إلى مرا 2: 15 (حسب السبعينية): "كل المارّين في الطريق صفّقوا بالاكفّ عليّ، صفّروا، هزّوا الرأس على بنت أورشليم". ونقرأ أيضاً إر 18: 16 حيث يصوّر الله نتائج عبادة الأصنام في الشعب: "ليجعلوا أرضهم رعباً وعرضة لصفير الهزء. فكل من يمرّ فيها يرتعب ويهزّ رأسه".
ولكن هزّ الرأس كعلامة للهزء والإحتقار هو موضوع معروف في التشكّي الذي ترفعه ضحايا بريئة تجاه مضطهديها (مز 22: 8؛ 109: 25؛ أش 37: 22؛ رج أي 16: 4؛ سي 12: 18؛ 13: 7). وهذا ما يكمّل لوحة عبد الله المتالمّ التي نجدها في خبر الحاش. ويعمل هذا الهزء (دون علم منه) الذي لا شفقة فيه على إعادة صورة مرسومة في الكتب المقدّسة. حين استعمل مر فعل "جدّف" ليدلّ على أقوال المارّين الموجّهة إلى المصلوب، لم يتوقف فقط عند المعنى الدنيوي (عيّر، إفترى) للفظة اليونانية (روم 3: 8؛ 1 كور 4: 12، 10: 30؛ تي 3: 2؛ رج أع 13: 45؛ 18: 6 مع بعض التردّد). بل أشار إلى المعنى الديني، والشخص الذي يهزأ به هو ابن الله (14: 61- 62؛ 15: 39). وإطار الإنجيل كله يجعلنا في هذا الجوّ (2: 7؛ 3: 28- 29؛ 14: 64. نجد المعنى الدنيوي للفظة "بلاسفاميا" في 7: 22).
مقابل هذا لا نجد علاقة مباشرة بين التجديف الذي يصيب يسوع، والتجديف الذي يشير إليه عظيم الكهنة في المحاكمة اليهودية (14: 64). كما لا نجد برهاناً يتيح لنا أن نرى في هذا الكلام صدى لهجوم يهودي على يسوع وتئاعه في بداية الكنيسة (رج أع 6: 13). نحن هنا بالأحرى أمام استعادة موجزة وبشكل هزء لاتهام شهود الزور أمام السنهدرين (14: 58). فهؤلاء استندوا إلى إعلان يسوع القائل بأنه ينقض الهيكل ويعيد بناءه في ثلاثة أيام.
قالوا: إن صاحب مثل هذه الإعتدادات معلّق الآن على الصليب في ضعف وعجز تأمّين. إذن، يتواصل الهزء: دعا المارّون يسوع أن ينزل عن الصليب. لا يتضمّن هذا "النزول" أي تلميح لاهوتي في معارضة مع "صعود" نحو الله يحاول الهازئون أن يمنعوه. ويجب أن نستبعد أيضاً فكرة التجربة (هم لا يهزأون به فقط، بل يجرّبونه ليتهرّب من الصليب): هذا ما لا نجده عند مت ولو اللذين كتبا مطوّلاً عن تجربة يسوع في البرّية. وهذا التفسير لا يجد أساسه في مر حيث خبر التجربة (1: 12- 13) لا يعلن مسبقاً تحدّياً سيكون على الجلجلة (رج لو 4: 13).
هل نجد هنا علاقة مع تنبيه يسوع في 8: 35 (من أراد أن يخلّص حياته يهلكها)، بحيث أنه لو ردّ يسوع على التحدّي (فنزل عن الصليب)، لكان عارض في سلوكه ما يطلبه من الآخرين، وبذلك يحسر الحياة التي قال إنه يستعيدها بعد موته (8: 31؛ 9: 9، 31؛ 15: 34؛ 14: 28)؟ إذا كان جوابنا بالإيجاب، لأعطينا أهمية كبرى لتشابه جزئي، ولما هو هزء مبني على حقيقة ناقصة (في مر، لم يقل يسوع شيئاً من هذا النوع عن الهيكل).
مقابل هذا نستطيع أن نجد هنا صدى مشوّهاً لما في مز 22: 9. هتف المضطهدون: "جعل رجاءه في الرب، فلينجّه! فليخلّصه لأنه يحبه"! وهكذا طلب من يسوع بأن يخلّص نفسه بنفسه من الضيق الذي يجد نفسه فيه. هذه قمة الهزء تجاه ذاك الذي بدا الله وكأنه يتخلىّ عنه، فبرهن عن عجزه بعد أن تجاوز كل حدود في اعتبار نفسه.
وبعد المارّة، جاء عظماء الكهنة، المنظّمون الرئيسيون للآلام. وانضمّ إليهم الكتبة (كما من قبل، 11: 18؛ 14: 1) الذين هم ألدّ أعداء يسوع (2: 6، 16؛ 3: 22؛ 7: 1، 5؛ 11: 18، 27؛ 12: 38- 40). وبدل أن يتوجّه هؤلاء "الوجهاء" إلى يسوع مباشرة، توجّهوا إليه بشكل غير مباشر: تكلّموا "لا ما بينهم" (آ 31) ليسمعهم يسوع.
يبرز هزؤهم التعارض بين عجائب الشفاء التي اجترحها يسوع منذ زمن قريب، وضعف المصلوب الحاضر الذي لا يستطيع أن يخلص نفسه من عود الصليب. تكلّم عظماء الكهنة والكتبة "اللغة الإنجيلية"، فعادوا بالقارئ إلى أخبار يدلّ فيها فعل "خلّص" (سوزاين) على شفاء يُطلب من يسوع فيلبّي الطلب (5: 23، 28، 34؛ 6: 56؛ 10: 52). ذاك الذي كان له سلطان (لا منازعة فيه) به ينجّي المتضايقين من مرضهم، صار الآن عاجزاً كل العجز. هذا ما لاحظه الهازئون. وها هم يتحدّون يسوع بأن ينزلق حالاً (نون، الآن) عن الصليب ليتيح لهم أن يؤمنوا به.
ولكن هذه السخرية ستنقلب عليهم، شأنهم شأن الجنود الرومان الذي هزئوا بيسوع "ملك اليهود" فدلّوا من حيث لا يدرون على الحقيقة. أجل يسوع هو ملك اليهود. والوجهاء الذين سمّوا يسوع على الجلجلة "المسيح، ملك إسرائيل"، أعلنوا ما هو يسوع في الواقع، وهم اليهود الأتقياء العارفون بما في الكتب.
ونفهم نحن نمط هذا المُلك المسيحاني. فقد أهمل يسوع تحدّيهم وظلّ على الصليب، في الصمت، وفي طاعة دلّ عليها بشكل نهائي في صلاته في جتسيماني (14: 36). إن الذي "خلّص" آخرين كثيرين، لن يخلّص نفسه بنفسه. فلو فعل ليبرهن على مسيحانيته، لكان ألغى هذه المسيحانية، لأن الله قرّر أنها تُعاش على الصليب.
وفي نهاية هذا المشهد زاد اللصان المصلوبان مع يسوع كلام الهزء على ما قيل ضدّ يسوع حتى الآن. هذا صدى لسفر المزامير الذي صوّر مسبقاً سمات يسوع المتألم.
4- موت ابن الله (15: 33- 39)
هذا المقطع الذي يروي موت يسوع يبدو متشعّباً، ولكن الأحداث التي ترتبط به تبدو مرتّبة ترتيباً رائعاً. في الوسط (آ 37): موت يسوع نفسه. حوله هذا الموت، سلسلتان متوازيتان من الأحداث: معجزة الظلمة (آ 33) تقابلها معجزة أخرى هي انشقاق حجاب الهيكل (آ 38). والهزء الأخير الذي يلي صلاة يسوع (آ 33- 36) يقابله هذه المرة تقابلاً متعارضاً، إعتراف قائد المئة (آ 39).
تتميّز هذه القطعة عن السياق في أن يسوع الذي صمت منذ إقراره الملوكي أمام بيلاطس (15: 2)، عاد هنا فتكلم للمرة الأخيرة. سمّي باسمه الشخصي (يسوع) فلعب دوراً فاعلاً: هو فاعل الأفعال (صاح يسوع، آ 34؛ رج آ 37). لم يحدث أي شيء مشابه لذلك منذ 15: 2. فمنذ 15: 5 و15: 23، موقف يسوع هو سلبي، بمعنى أنه يتأثّر بما يفعله الآخرون. وهكذا تصوّرُ هذه الآيات ذروة خبر الحاش والآلام. ونحن نتوقعّ كثافتها على المستوى التعليمي.
أ- الظلمة (آ 33)
وتبدأ هذه المقطوعة بمعجزة. "في الساعة السادسة (أي: الظهر) كانت ظلمة على الأرض كلها، حتى الساعة التاسعة" (الثالثة بعد الظهر) (15: 33). هي ظلمة كثيفة، وقد تباينت آراء الشّراح في شأنها. هناك من يرى ظاهرة كونية: كسوف الشمس أو عاصفة رملية آتية من الصحراء على أورشليم. قال أوريجانس: لا يحدث الكسوف في ساعة يكون فيها القمر بدراً. ولكن، وإن كان الأمر كذلك، فلا يتوخّى الكاتب أن يصوّر حدثاً طبيعياً (من عالم الطبيعة)، نحن هنا أمام معجزة يجب أن نكتشف معناها. نذكر ثلاثة تفاسير رئيسية.
* الأول يستند إلى التقليد النبوي والجلياني الذي فيه تدلّ الظلمة مسبقاً على نهاية العالم والدينونة (عا 8: 9- 10؛ رج يو 21: 2، 10؛ 3: 4؛ 4: 15؛ أش 13: 10؛ 24: 23؛ رؤ 6: 12- 13). إن يسوع (في مر) يشير إلى هذه العلامة التي تدلّ على الدينونة فيقول: "في تلك الأيام... تظلم الشمس والقمر لا يعود يعطي ضوءه" (13: 24). هُيئ موت يسوع بهذا الشكل فأعلن ردّة الفعل (بشكل انتقام) حين يظهر "ابن الإنسان بقدرة عظيمة ومجد" (13: 26).
ولكن هناك اعتراضاً على هذا التفسير: فالعلاقات مع النصوص البيبلية ولا سيما مع عا 8: 9- 10، هي ضعيفة وبالتالي تضعف البرهان. أما استلهام مر 13: 24، فهو يعني أننا نستقي من سياق مختلف تفسيراً يجب أن نبحث عنه قبل كل شيء في محيطه المباشر.
* الثاني يستلهم أيضاً العهد القديم فيفسرّ ظلمة الحاش كعلامة عن حضور الله. في سيناء (تث 4: 11؛ 5: 22)، في هيكل أورشليم (1 مل 8: 12)، وخلال الظواهر الكونية (مز 18: 1- 12؛ 97: 2؛ 2 صم 22: 10- 12)، تبدو الظلمة عنصراً يحمي الجلالة الإلهية التي لا تستطيع أن تحتملها العين البشريّة. حينئذ تصبح الظلمة التي تحيط بموت يسوع علامة حضور ذاك الذي قرّر ذلك الموت (عبر تدخّلات البشر وخياراتهم) وأكّد عليه تجاه إرادة يسوع (4 1: 32- 42).
ولكن هناك اعتراضاً. كيف نقرّب بين مشهد الموت هذا وتيوفانيات العهد القديم؟ فهذه التيوفانيات، مهما كانت صاخبة، إن ضمّت الظلمة فلا تضمّها وحدها. أما حجاب الله فمكوّن بالأحرى من الغمام (خر 19: 9، 16؛ 24: 15؛ عد 10: 34؛ 14: 14؛ 1 مل 8: 10-11؛ 2 أخ 5: 13- 14. في الواقع، يخبرنا سليمان وحده في 1 مل 8: 12 حسب السبعينية "8: 53 أ" الله يسكن في الظلمة "غنوفوس". في "سكوتوس"). بالإضافة إلى ذلك، إذا ارتكزنا على التوراة، رأينا أن الظلمة لا تدلّ على حضور الله، بل تخفيه.
* الثالث لا يلجأ إلى العهد القديم، بل يعود إلى "الأخبار" التي تجعل غياب الشمس (وظلمتها) يرافق موت رجل عظيم أو بطل من الأبطال. أو: تعبّر الطبيعة، بهذه الظاهرة، على عدم رضى الله عن جريمة مريعة أو تحمل طابع التجديف على الله. ففي وضع يسوع، لا يستطيع قتل مرسل الله أن يبقى من دون تأثير على العالم المنظور.
طرحٌ له فائدته. ولكن، دونه اعتراضان. الأول بسيط: ندهش حين نرى عند مر صدى لهذه "الصورة الدنيوية" التي لا نجدها في الكتب المقدّسة ولا في التقاليد المسيحية التي عاد إليها الإنجيل الثاني. أما آثار هذا الموضوع عند المسيحيين فهو متأخّر عن العهد القديم (الإمبراطور قسطنطين محدث عن ظلام الشمس والقمر خلاله اضطهاد ديوكلاسيانس للمسيحيين). والإعتراض الئاني أهم، وهو يرتبط بنصّ مر نفسه: إن هذه الظاهرة الكونية (الظلمة) سبقت موت المسيح، وهي تشكّل عنصراً إخبارياً مستقلاً عن هذا الموت. أجل، ليست الظلمة نتيجة موت المسيح ليصحّ التفسير الثالث.
* حلّ مطروح. يستلهم أولاً النصّ والسياق، ويعود إلى الخلفية الكتابية التي رأينا تأثيرها في تأليف أحداث الحاش والآلام.
- حسب مر، إمتدّت الظلمة خلاله الساعات الثلاث التي تفصل الساعة السادسة عن الساعة التاسعة. ولا نعرف إن كانت أيضاً إطار صيحة يسوع (إلهي إلهي). بل هي عنصر مميّز مستقلى عن الخبر. ولا تتداخل مع العنصر التالي الذي لا يساعدنا على تفسيرها.
- في بناء المقطوعة، تجد اللمة (آ 33) ما يوازيها في انشقاق حجاب الهيكل (آ 38). وهكذا نستطيع أن نفسرّ المعجزة الأولى مستلهمين المعجزة الثانية. لا نريد أن نستبق تفسير انشقاق حجاب الهيكل، ولكننا نقول إن "دمار" حجاب الهيكل بشكل نهائي ليس علامة خير للعالم اليهودي، بل له بُعد "هجومي" نكتشف آثاره أيضاً في معجزة الظلمة.
- يتثبّت هذا الإستنتاج الأخير إن فكّر مر في "أرض" إسرائيل حين كتب أن الظلمة امتدّت "على الأرض كلها". تذكّرنا هذه الجملة بما في خر 10: 22 وضربة الظلمة التي غطّت "كل أرض مصر". ولكن الموضوع ليس موضوع مصر. فيجب أن نحدّد معنى لفظة "أرض".
يُطرح السؤال: هل نحن أمام المسكونة كلها أم أمام أرض إسرائيل؟ ليس الجواب بواضح، لأن عبارة مر (في اليونانية) لا تظهر في اليونانية السبعينية التي تنسب إلى لفظة أرض (غاس) هذا المعنى أو ذاك. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نجد عند مر أربعة معانٍ للفظة "أرض"، عدا عن المعنى الذي يشير إلى أرض إسرائيل. (1) الأرض التي تزرع (4: 5، 8، 25، 26، 31؛ 8: 6؛ 9: 20؛ 14: 35): خرج الزارع ليزرع أرضه. (2) الأرض اليابسة أو شاطىء البحيرة (4: 1؛ 6: 47، 53): ولما وصلوا إلى الأرض (بعد السير على البحيرة). (3) الكون المأهول (9: 1 ؟). (4) الأرض التي تقابل السماء (13: 27، 31؛ رج 2: 10: سلطان على الأرض، قد تعني أيضاً الكون المأهول): السماء والأرض تزولان (يعني الكون كله بجميع مخلوقاته).
ولكن يبدو أنه يجب أن نبقى على مستوى "أرض إسرائيل". إن مر يستعيد هنا تقليداً يعود إلى العالم المسيحي الفلسطيني. وقد يكون احتفظ للفظة "أرض" بالمعنى التقليدي في العالم اليهودي، كما فعل بالنسبة إلى ألفاظ أخرى من النوع ذاته. مثلاً: "الجبل" هو موضوع لا يسكن فيه أحد (3: 13؛ 6: 46؛ 13: 14). "بني البشر" (3: 28). "البحر" بدل البحيرة (1: 16...). "طيور السماء" (4: 32؛ ولكن رج حز 17: 23؛ دا 4: 12). "الروح النجس" (1: 23...). "من أجل إسمي" (9: 37). "السماء" في معنى اسم الله (18: 11؛ 12: 30- 31). "المبارك" للدلالة على الإسم الإلهي (14: 61). "الكأس" للدلالة على محنة مؤلمة (10: 38-39؛ 14: 36).
فإذا قبلنا بهذا المعنى (أرض إسرائيل)، فالإنجيل الذي يغرق إسرائيل ثلاث ساعات في الظلمة، وفي وسط النهار، يعود إلى نصّ عا 8: 9- 11 أ حسب السبعينية: "ويحصل في ذلك اليوم، يقول الرب الإله، أن الشمس تغيب في الظهيرة، والنور يظلم على الأرض في وضح النهار. وأبدّل أعيادهم إلى نواح وكل أناشيدهم إلى مراثٍ. وأجعل المسح على كل حقو، والقرع على كل رأس. وأجعل منه (من هذا الوضع أو: هذا اليوم. وربّما "ابن حبيب") كنواح (ابن) حبيب، ومن الذين معه (وأواخره في العبرية) كيوم ألم. ها تأتي أيام، يقول الرب، أرسل الجوع على الأرض".
نجد تذكراً لنصّ السبعينية هذه في مر كما في التقليد الذي يستقي منه. وقد وسّعه الإنجيل الثاني وضمّه إشارة كرستولوجية. وذلك، حين رأى في علّة النواح (أو: الحداد) موت الابن الحبيب (أغاباتوس) الذي أعلنه الله (1: 11، 9: 7) وقتله اليهود من خلال الكرّامين القتلة (12: 6- 7: ابن حبيب). في عاموس، "الأرض" ليست الكون كله، بل أرض إسرائيل التي خطئت فصارت موضوع العفاب القريب. هذا هو خطّ مر الهجومي الذي عرفناه في السابق. لا تقتل جماعة المسيحَ ابن الله ويبقى عملها بلا عقاب. هكذا عاقب الله أرض مصر في "الفصح الأول". وها هو يعاقب أرض إسرائيل في فصح ابن الله.
ب- صلاة الإستسلام (آ 34- 36)
تشكل آ 34- 36 وحدة تامة. فلا نستطيع أن نفصل بين صلاة الإستسلام، وكلام الهزء حول إيليا الذي يتبعها. يقابل هذه الوحدة اعتراف قائد المئة في آ 39. إن الإرتباط مع معجزة الظلمة يبرز في استعادة تحديد الساعة (الساعة التاسعة) لا آ 34، ولكن بدون أن نجعل هذا المناخ يمتدّ على صلاة يسوع وما يرافقها (يؤلّفان لوحة أخرى).
هذه الصلاة هي صراخ. هو أول صراخ ليسوع على الصليب، وسيتبعه صراخ آخر، لا تتوضح كلماته، قبل النفس الاخير (آ 37). أما عبارة المقدمة (وصاح يسوع بصوت جهير) فهي عبارة بيبلية معروفة (عز 5: 95؛ نح 9: 4؛ يه 7: 23، 29؛ 9: 1؛ حز 11: 13) وهي تدلّ على حرارة الصلاة. وهي تورد أولى كلمات مز 22 (رج أيضاً مز 43: 2) في نسخة أرامية تعود إلى ترجمة السبعينية.
حين أورد مر العبارة الأرامية وترجمها حالاً من أجل قرّائه، ذكّرنا بمقاطع أخرى من إنجيله، تدلّ على تقليد فلسطيني قديم حيث وردت بعض أقوال يسوع أولاً في صيغتها الآرامية الأصلية قبل أن تترجم إلى اليونانية (ولكن لا ننسَ أننا هنا أمام استشهاد كتابي، لهذا يختلف الوضع عمّا سبقه). ذكر الإنجيلي هذا الشكل الأرامي، فبيّن خطأ السامعين كما سنتحدّث عنه كنصّ لا يرجع إلى اليونانية.
إن فعل "صاح" (بوان، أنابوان) يرد 46 مرة في السبعينية. وترافقه عبارة "فوناي ميغالاي" (صوت عظيم، جهير). ترد في الحديث عن الصلاة كما ذكرنا، وترد في مناسبات أخرى (1 صم 28: 12؛ 2 مل 18: 28؛ أش 36: 13؛ 2 أخ 32: 18؛ يه 14: 14؛ أي 2: 12؛ أس 4: 1).
يذكر في هذا المجال مز 22 (21 في السبعينية). ويذكر معه مز 43 (42 في السبعينية): 2: لماذا خذلتني؟ هناك فعلان مختلفان في النصّ العبري (مز 22: 2 و43: 2). نقلهما الترجوم الأرامي في فعل واحد "شبقتني" (رج في السريانية: ش ب ق). إن ما نجده يا مر يأخذ فعل السبعينية "إغكاتالبس مي" (الذي لا نجده في مز 43: 2 حسب السبعينية (حيث نقرأ: هيناتي ايوسومي). نشير هنا بشكل عابر إلى تذكّرات مز 22 في مقاطع أخرى من خبر الحاش. إن التلميح إلى مز 42 (41 في السبعينية): 6 ب، 12 ب، 12 أ؛ مز 43 (42 السبعينية): 5 ب، إلى حدث النزاع (مر 14: 34) لا يفرض علينا أن نجده في صلاة يسوع على الصليب.
"إلهي إلهي". نجد في المخطوط البازي "زفتاني" بدل "سبقتني". نحن أمام تصحيح يعود إلى الأصل العبري (ع زب ت ن ي). ونجد "لاما" بدل "ليما" (في العربية: لِمَ) في مخطوط آخر.
إستفاد خبر الحاش في موضع آخر من مز 22، بحيث لا ندهش إن وجدنا كلماته الأولى على شفتي يسوع الذي يعاني سكرات الموت. ولكن يجب أن نتساءل عن المعنى الذي ارتدته هذه الصلاة في فكر الإنجيلي، وعن كيفيّة دخولها في نظرته إلى شخص يسوع ودوره.
فُسرّ هذا المزمور تفاسير عديدة في هذا الإطار. قال بعضهم اليبعد عن يسوع عاطفة اليأس) إن يسوع قد تجاوز في صلاته هذه البداية (إلهي إلهي لماذا تركتني)، فتضقنت صلاته المزمور كله الذي ينتهي بنشيد النصر إكراماً للإله المحرّر (آ 23- 32). ولكن لا ننسَ أن لوقا (ويوحنا) لم يذكر هذه الصلاة. وجاءت مغايرة في "إنجيل بطرس": "يا قوتي، يا قوتي، لقد تركتني!. هذا يعني أن المسيحيين الأولين لم يفهموها في هذا المعنى.
وهناك تفسيران نذكرهما لكي نرى إلى أين تصل مخيّلة جامحة في تفسير الإنجيل. الأول: هناك مقابلة بين صراخ يسوع الثاني (غير واضح) وصراخ الطفل! مات يسوع على الصليب، فوُلد ابن الإنسان السماوي!! الثاني: إن صراخ يسوع (الذي يتخلىّ فيه الله عنه) يدلّ على أن يسوع "يمتلكه شيطان". لم ينتصر عليه في المرة الأولى. ولكن في الصياح الثاني انتصر عليه، فكففه هذا المجهود حياته. طرد يسوع الشيطان من نفسه كما من غيره (رد 1: 26؛ 5: 7)! تفسيران غريبان!
ونجد تفسيراً آخر يربط صراخ يسوع على الصليب بصلاته في بستان النزاع، فيخفّف من قوّته. هذا المعذّب هو لعبة جلاّدين لا يعرفون الشفقة، وذلك بعد محاكمة ظالمة جائرة. أحسّ بأن الله يتركه. ولفظة "لماذا" هنا كما في مقاطع مزمورية أخرى (2: 1؛ 10: 1؛ 74: 1، 11؛ 80: 13؛ 88: 15)، ليست طلباً لتفسير، بل تعبّر عن تشكٍّ عند ذاك الذي يبقى أميناً لإلهه، ولكنه يحست بغيابه الأليم، ويتهمه بأنه لا يفعل شيئاً. هنا نتذكّر مدراش مز 22: 2: "في اليوم الأول، قالت أستير: إلهي. وفي اليوم الثاني، قالت: إلهي لماذا تركتني. وحين قالت في النهاية بصوتٍ عالَ: إلهي، إلهي، لماذا تركتني، استجيبت حالاً". توازٍ قد يُلقي بعض الضوء بقدر ما يرتبط "الصوت العالي" بحرارة الصلاة!
ونتابع التفسير. هذه الصلاة هي الثانية في مر، حيث يتوجّه يسوع إلى الله بكلمات شبيهة. أولى هذه الصلوات هي في بداية خبر الحاش، والثانية (إلهي إلهي) في نهايته. إن صلاة المصلوب هي إمتداد لصلاة يسوع في جتسيماني، وكأن الصلاتين صلاة واحدة. وقد أعلنت الظروف السيكولوجية لصلاة البستان: الرعب، الإكتئاب. ثم: "نفسي حزينة حتى الموت" (14: 33- 34).
ولكننا، لا نستطيع أن نطبّق على أحداث الجلجلة الفنّ الأدبي الخاصّ بخبر النزاع. فعلى الجلجلة، لا يستسلم مرقس إلى أي تحليل سيكولوجي. فيبقى أن يسوع لا يشبه رابي عقيبة الذي يبتسم خلال عذابه، ولا يأخذ سمات الفيلسوف الرواقي الذي يعبر أقسى المحن دون أن يتلفّظ بكلمة تشكٍّ. ولا نجد أيضاً في مر "الأقوال الأخيرة" السامية والتي تبني الجماعة، التي جعلها لوقا (23: 46) ويوحنا (19: 30) على شفتي المعلّم المائت. إن إغفال كل هذا هو جزء من رسالة رسمتها له الكتب المقدّسة: فبهذا الصياح والضيق الذي يلهمه، يحقّق يسوع هنا أيضاً البرنامج المسيحاني كما حدّده المزمور (حين نقبل بالبعد المسيحاني لهذا المزمور، لا نستطيع إلا أن نتحدّث عن رسمة إنباء- تتمة).
ونقدّم هذا التفسير الأخير، قبل العودة إلى مز 22، نرى فيه شططاً يبعدنا عن روح الإنجيل ومضمونه: هناك تعارض بين صلاة يسوع الواثقة إلى الله أبيه في البستان (أبّاً، أيها الآب الحبيب)، والصلاة التي تجعل مسافة بينه وبين الله، فتجعله يناديه "يا إلهي" بعد أن اجتاحه الشكّ على الصليب. مثل هذا القول عارٍ من الصحة. ومن أين جاء صاحبنا بالشكّ يجتاح قلب يسوع؟! فصاحب المزامير لم يفهم مزموره بهذا الشكل، ولا اليهود الأتقياء. وقد فهمه مر بهذا الشكل. ويتابع صاحب التفسير كلامه فيشدّد على بُعد الله الذي ترك يسوع "وقواه الخاصّة" بعد أن قبضوا عليه. نحن هنا أمام قراءة جزئية واعتباطيّة لخبر النزاع. حين يقال أن صلاة يسوع (في البستان) كانت "باطلة"، ينسى قائل هذا القول القسم الثاني منها: هي فعل تعلّق تام بإرادة الله (ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت). و"الساعة" التي طلب يسوع أن ينجو منها (14: 35 ب)، قد قبلها يسوع مسبقاً. وحين "جاءت" (14: 41 د: يسلم ابن البشر)، لم تأخذ على غفلة ذاك الذي أعلن أحداثها منذ زمن بعيد.
ونزيد هنا فنقول إن روح مز 22 وغيره من مزامير التوسّل (6؛ 13؛ 16؛ 17؛ 31؛ 69؛ 91؛ أش 53؛ 2 مك 6: 12- 17)، لا يترك المصليّ في حالة من التخليّ، وبدون نظرة إلى النهوض. فحين أورد الإنجيل هذا الكلام، عرف (في هذه الصلوات) أن الذين يشتكي بأنه متروك من الله، يرى الخلاص يظهر من أجله في المستقبل. ونزيد على هذا فنقول: إن المسيحي الذي يعرف منذ آلان أن يسوع قهر الموت، يتسجّل هذا الرجاء في التشكّي عينه. ولكي نقتنع من هذا الأمر، يكفي أن نلجأ إلى إنباءات الحاش الثلاثة (8: 32؛ 9: 31؛ 10: 34) حيث أوصلنا مر (مثل مت ولو) إلى غاية عذاب الصليب كما رتّبه الله بالذات. فالذي تفوّه بهذه الكلمات في الماضي، هو ذاته الذي يصليّ الآن ويقول: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني"؟ في هذه الحال، لا ينغلق الضيق على ذاته، بل ينفتح بشكل ضمنيّ على المجد.
وماذا كانت نتيجة صلاة يسوع على الحاضرين؟ "بعض الذين كانوا واقفين هنا"، ظنّوا أنهم فهموا (بعدما سمعوا "الوي" في الآرامية) أن يسوع يدعو إيليا إلى عونه (إيليا هو مخلّص الناس من الضيق حسب العالم اليهودي). حينئذ أسرع أحدهم، وأعطى يسوع خلاًّ ليشرب بواسطة اسفنجة جعلها على قصبة. ورافق عملَه هذا الكلام الساخر: "أتركوه! مهلاً! لنرَ هل يأتي إيليا ويُنزله". (كاتالاين: تستعمل لإنزال شخص عن الصليب). بما أننا لا ندرك للوهلة الأولى العلاقة بين الفعلة والكلمة، نفهم أن مت 27: 47- 49 رتّب نصّ سابقه، فنسب هذا الكلام إلى أشخاص غير الذي قدّم الإسفنجة على القصبة. ولكن لا مت ولا مر يوضحان هوية الفاعلين وديانتهم: هل هم يهود أم رومان؟ يميل مر إلى القول بأنهم كانوا وثنيين.
هل فكّر مر أنهم حين أعطوا المصلوب ليشرب، لم يقوموا بعمل رحمة وشفقة، بل أرادوا أن يطيلوا عذابه فيعطوا إيليا مهلة للتدخّل (كل هذا بسخرية)؟ مهما يكن من أمر، فهذا الشراب المصنوع من "الخلّ" وآ 36 أ يذكّراننا بما في مز 69: 22 (حسب السبعينية، وهكذا يواصل يسوع العودة إلى السمات التي رسمتها الكتب المقدّسة عنه). ومن الواضح أيضاً (وهذا ما يعرفه القارئ) أن إيليا الذي اعتبروه آتياً لنجدة يسوع، لن يأتي بمعجزة لينزل يسوع عن عود الصليب. فعلى يسوع أن يموت، وهذا ما يتمّ الآن.
قبل التحدّث عن موت يسوع، نقول إن مز 69 يرد في مقاطع عديدة من العهد الجديد. هناك ما يوازي مر 15: 36= مت 27: 48؛ لو 23: 36؛ يو 19: 29. ونجد آ 5 في يو 15: 25؛ آ 10 في يو 2: 17؛ آ 26 في أع 1: 20؛ آ 23- 24 في روم 11: 9- 10؛ آ 25 في رؤ 16: 1؛ آ 29 في فل 4: 3. هنا لا نقابل بين شراب رفضه يسوع (آ 23) وشراب قبله هنا. فلكي يتحقق كلام المزمور في يسوع، يكفي أن يكونوا قدّموا له خلاًّ. وهكذا نقرأ: "جعلوا في طعامي علقماً، ولا عطشي سقوني خلاًّ".
ج- موت يسوع (آ 37)
وكان صياح آخر (رج تك 45: 2: نتن قوله: أعطى صوتاً) لم تعلن كلماته، وقد سبق بشكل مباشر موت يسوع. لا يعطينا مر المفتاح الذي يتيح لنا أن نعطيه معنى. هناك افتراضات عديدة بعضها وليد المخيّلة كما سبق وذكرنا (صرخة الطفل، صرخة الشيطان).
ونقدّم تفسيرين. الأول يرى في الصياح (صرخة) الثاني تكراراً للصياح الأول وتعبيراً عن صلاة حارة. والثاني عاد إلى الصلوات الجليانية في العالم اليهودي والمسيحي (أش 11: 4؛ 40: 9؛ 58: 1؛ يوء 2: 11؛ 4: 16؛ 1 تس 4: 16؛ رؤ 1: 10؛ 4: 1)، فرأى في هذه الصرخة هتاف الظفر وإعلاناً للدينونة القريبة. ولكن هذين التفسيرين لا ترافقهما براهين كافية. ولكن يبقى واقع لا يمكن التهرّب منه. فهذا الصياح ليس طبيعياً (اعتبر بعضهم أن هذه الصرخة تدلّ على بشرية تامة وموت بدون مجد)، ونحن نفهمه على ضوء السياق الذي فيه يلتقي سائر المعجزات التي تحيط بموت يسوع. فيسوع لا يغوص في الموت بطريقة خفية، بل يعطي العالم علامة لحدث الخلاص الحاسم من أجل العالم.
حين أراد مر أن يتحدّث عن موت يسوع، أوجز كلامه كل الإيجاز كما في حديثه عن الصلب (15: 24- 25). فاكتفى بفعل واحد: أسلم الروح، أعاد الروح إلى خالقها. في لو 23: 46 وبسبب صلاة يسوع، يبرز الفعل خروج نسمة الحياة. وجاءت صيغة الماضي فدلّت، لا على نزاع طويل، بل على موت فجائي ترافقه جلالة من يقاسيه.
د- إنشقاق حجاب الهيكل (آ 38)
إن الحدث العجائبي الذي يشكّله انشقاق حجاب الهيكل (وفي الموضع الذي وضعه فيه في النصّ) هو النتيجة الوحيدة لموت يسوع: فالجملة تبدأ بحرف العطف (كاي) وترتبط بالسابقة التي تذكر هذا الموت، وتتميّز عن التالية حيث تدلّ الأداة "دي" على مرحلة جديدة في الخبر.
ويُطرح سؤال أول على المفسرّ الذي يعرف ترتيب الهيكل في أورشليم. كان يضمّ حجابين رئيسيين: واحد يغلق قدس الأقداس. وآخر يعلّق أمام باب القدس. أي حجاب انشق؟ استعمل مر لفظة "كاتابتسما" التي تنطبق على الإثنين. لهذا السبب كتب عب ليدلّ على الحجاب الداخلي: "الحجاب الثاني" (9: 3؛ رج 6: 19؛ 10: 20). ولكن عبارة "حجاب الهيكل" (الغائبة من العهد القديم؛ يذكر يوسيفوس "حجب الهيكل")، قد تعني ذاك الذي يغطي "القدس" (ناوس)، يغطّي "باب البيت". ثم إن الناس كانوا يرون فقط الحجاب الخارجي. وما كان يدخل إلى "ناوس" إلا الكهنة. ثم إن القياسات الكبيرة لهذا الحجاب تجعل الناس يرون انشقاقه "من أعلى إلى أسفل" كما يقول مر.
ومع ذلك، فالشّراح يقولون هذا الحجاب أو ذاك. ولكن ليس هذا الخبر هو الذي يحدّد تفاسيرهم التي تتوزع لا مجموعتين. بعضهم يرى في الحجاب وظيفة فاصلة. وحين ينشقّ الحجاب يزول الإنفصال. والاخرون يتطلّعون إلى تمزّق (لم يعد يصلح للإستعمال) الحجاب بشكل نهائي، فيرون في المعجزة رمزاً إلى دمار الهيكل وزوال شعائر العبادة فيه. ونجد اختلافات في هذا التفسير وذاك. يقول أصحاب التفسير الأول: بموت المسيح استطاع الوثنيون أن يقتربوا من الله. إنشقّ حجاب الهيكل فصار الوحي كله مكشوفاً. كشف الله عن نفسه في صليب ابنه، فصار قريباً حتى من الوثنيين. أما أصحاب التفسير الثاني فيرون في هذا الإنشقاق بداية دمار مادي، وصورة بعيدة عن دمار الهيكل خلال الحرب اليهودية الرومانية. وتعلن فئة ثالثة: لم يعد للهيكل وشعائر العبادة فيه أية قيمة خلاصيّة. أو: بما أن الله لا يريد أن يسكن وراء حجاب ممزّق، فقد ترك معبده بشكل نهائي. وقيل: لا موت يسوع على الصليب وفي ذروة الضعف والعري نكتشف جلالة الله.
أي جواب نقدّم؟ نبدأ فننطلق من تفسير مر نفسه. نعود إلى مر 11: 7. بعد تطهير الهيكل أورد يسوع أش 56: 7: "بيتي يُدعى بيت صلاة لجميع الشعوب". هنا معنى أول بأن الهيكل سينفتح أمام العالم الوثني. لا في المعنى المادي، بل في المعنى الروحي كدلالة على حضور الله. وهكذا يتكيّف عمل يسوع (طرد الباعة) مع واقع كنسي. ولكن في انشقاق الحجاب، هناك واقع آخر. وهكذا لا يساعدنا التقارب مع طرد الباعة لنجد الجواب على انشقاق حجاب الهيكل.
وهناك برهان يعود إلى تمزق السماء في عماد يسوع (1: 10). لا شكّ في أن الفعل عينه يستعمل في الحالين وإن في صيغتين مختلفتين، ولكن الإتصال بين الجملتين يبقى ضعيفاً: في 1: 10 نحن أمام تيوفانيا ينعم بها يسوع وحده، أما في 15: 38 فلا نجد ألواناً ساطعة تدلّ على المعجزة.
الإعتراض الأساسي ضدّ الرأي القائل بأن انشقاق حجاب الهيكل هو علامة اقتراب الوثنيين من الله، يكمن في أن بني إسرائيل أنفسهم لا يجتازون الحجاب الخارجي إلا إذا كانوا كهنة. أما الحجاب الداخلي فيبقى امتيازاً خاصاً برئيسه الكهنة في عيد التكفير (يوم كيبور). أما التفسير الذي يربط انشقاق حجاب الهيكل بعماد يسوع فقد يكون معقولاً.
ونعود إلى النصّ في آ 38. فالألفاظ لها معناها العميق. لا يتحدّث النصّ عن "فتح" حجاب الهيكل (كما يُفتح الستار)، بل عن انشقاق (تمزّق) الحجاب من أعلى إلى أسفل. هذا لا يعني "خيراً" بالنسبة إلى الهيكل، بل يدلّ على خسارة كبيرة فيه. هنا نتذكّر ما قلنا عن الظلمة التي تتقابل مع انشقاق الحجاب: معجزتان طالعهما نحس.
ولكن ما هي الكارثة التي تحل بالهيكل؟ هل نرى علامة سابقة لدماره المادي، أو بداية هذا الدمار؟ قال أحد الشّراح: قتل يسوع بسبب هذه الكلمة: سأدمّر الهيكل (15: 29- 30). وفي الواقع، سيكون موته تتمة لهذه النبوءة. وتحدّث آخر عن الحجاب الخارجي. فانشقاقه يعني أنه مع موت المسيح يبدأ دمار الهيكل وتنتهي شعائر عبادة العهد القديم.
غير أن هذين التفسيرين يصطدمان بصعوبات جدّية. فالثاني ينسب إلى مر حاشية تضّر بيسوع: فانشقاق الحجاب الذي هو نتيجة موت يمسوع يدلّ على أن لهذا الموت فاعلية أقلّ من الرومان الذين دمّروا الهيكل (قال "إنجيل العبرانيين" إن جناح الهيكل حطم"؛ رج أش 6: 4؛ عا 9: 1). ونعترض على التفسير الأول بما يلي: هذه الظاهرة تتبع بشكل مباشر موت يسوع، ولا يتبع شيء آخر هذا الموت. إذن، ما الذي حدث في تلك اللحظة وبتأثير من موت يسوع؟ لا يمكن أن يكون الدمار المادي للهيكل، لأن الهيكل ظلّ ثابتاً بعد موت يسوع بعشرات السنين، وهذا ما كان يعرفه الناس في أيام مرقس. مقابل هذا، يعرف قارئ مر النتيجة المباشرة لهذا الموت. هذا الموت هو الذبيحة الدموية التي تؤسّس العهد (الميثاق) الجديد وتجعله يصل إلى جميع البشر (10: 45؛ 14: 24. هكذا نعود إلى البعد المسكوني الشامل). ونحن نستنتج أن هذا الموت يضح حداً لشعائر العبادة في الهيكل، يضع حداً للهيكل نفسه الذي يخسر دوره في نظام الخلاص. وهكذا يقوم نظام جديد ساعة يموت يسوع "فدية عن الكثيرين" (10: 45). وهكذا استطاع أن يعلن أنه يدمّر هذا الهيكل الذي صنعته يد البشر (14: 58؛ 15: 29). فإذا لم تظهر في ذلك الوقت (مع انشقاق الهيكل) علامة بناء هيكل آخر "لم تصنعه الأيدي"، فهذا يعني أن هذا الهيكل لن يولد إلا ساعة تجد الذبيحة التي تمّت على الجلجلة، تتويجها في صباح الفصح.
هـ- إعتراف قائد المئة (آ 39)
إن العبارة التي بها رأى قائد المئة في يسوع "ابن الله" في قمّة الخبر المرقسي من الحاش (لا ننسى أن هوية يسوع كشفت أمام السنهدرين، 14: 61- 62)، هي بالنسبة إلى السياق المباشر نتيجة تدزج الألقاب الكرستولوجية (كما رأينا أعلاه، 15: 20 ي). ولكن هذا الإعتراف داخل آ 33- 39، يشكّل تناقضاً مع كلام الهزء تجاه صرخة التخليّ التي صرخها يسوع. يجب أن نأخذ بعين الإعتبار هذه العلاقة لكي نفهم بُعد هذا القول في فكر الإنجيلي.
فقائد المئة (مع أل التعريف) هو، حسب السياق، رئيس الفرقة التي نفّذت حكم الإعدام. درجته عالية. لهذا كان لموقفه المعنى العميق. إنه قائم "بإزاء" يسوع. أهمل الإنجيلي المصلوبين الآخرين (15: 27، 32 ب) وصبّ كل انتباهه (وانتباه القارئ) على ذاك الذي يحتلّ قلب الخبر.
هذه النقطة الأخيرة هي مهمّة إذا أردنا أن نفهم المسألة التي تطرحها العبارة "ولما رآه يسلم الروح". هل لمّح إلى الظلمة؟ إلى صياح يسوع الأخير؟ إلى انشقاق حجاب الهيكل، أم إلى مجمل الظروف التي أحاطت بموت يسوع؟ لا نستطيع أن نتهرّب من السؤال فنترجم "هوتوس" حينئذ (هذا ما لا يجد أساسه في مر). فالظلمة ظاهرة خارقة وكذلك انشتثاق الحجاب. ولكن المعجزتين لا تقابلان ما سبق وشدّدنا عليه (إن قائد المئة والقارئ يوجّهان أنظارهما إلى يسوع)، وما نكمله حين نلاحظ أن موت يسوع هو الذي يحرّك بطابعه الخاص، ردّة الفعل عند الضابط الروماني: وهذا ما يبرهن عليه فعل "اكسابناسن" في آ 37 وآ 39 (أسلم الروح). ونقول الملاحظة عينها بالنسبة إلى حجاب الهيكل مع شيء نضيفه: لو افترضنا أن مر عرف طوبوغرافية أورشليم، فلا نستطيع أن نستند إليه ونقول إن القائد القائم على الجلجلة قد رأى المعجزة. إن العلاقة المباشرة مع موت يسوع تعفينا من اللجوء الى ما يحيط بهذه الظروف. ماذا يبقى إذن؟ الصرخة القوية التي سبقت آخر نسمة عند يسوع، وهي صرخة لم يصل إلينا فحواها.
إن الإختلافة التي تزيد "كراكساس" (صارخاً) في آ 39 توافق طريقة مر في الكتابة وتتأثّر بما في مت 27: 50. إنها توافق وضع الضابط الروماني الملتفت إلى يسوع، وعلاقة كلمته بموت يسوع. إذا كانت نسمته الأخيرة لم تحرّك اعتراف الإيمان، فلا يبقى إلاّ الصرخة العظيمة التي بها ينتهي الموت.
نجد فعل "رأى" بمعنى "سمع" في العهد القديم (خر 20: 18: "رأى الشعب الصوت"؟ رج 20: 22؛ تث 4: 9: "كل هذه الكلمات التي رأيتموها بعيونكم). ولكننا نجد هذا الفعل هنا على شفاه الرؤساء اليهود. على الجلجلة في انتظار معجزة. هم لن "يروا" شيئاً إلاّ ابن الإنسان وذلك لخزيهم (14: 62). أما قائد المئة فـ "رأى" يسوع الذي يدلّ على قدرته في عمق ضعفه.
هذا هو المنطق الإخباري لهذه المقطوعة حيث اعتراف قائد المئة يفترض سبباً كافياً. إذ نقرّ بأن يسوع ليس مجترح معجزات على الجلجلة، لا نستطيع أن نربط هذا الإعتراف بمشهد ضيق وألم، بحيث نسلّم إلى الشخص مهمة ترجمة المفارقة الكرستولوجية في كل قوتها. إن الصرخة القوية التي يطلقها المائت تكفي القارئ فلا يحتاج إلى شيء آخر.
يبقى أن نحدّد البعد الدقيق لهذه بالجملة: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (في مت 14: 33، تأثر اعتراف التلاميذ في السفينة باعتراف قائد المئة في مر). إن هذا النوع من الإعتراف يجعلنا في جوّ ردّة فعل الأشرار أمام انتصار ضحيّتهم. في هذا المجال نقرأ حك 5: 1- 5: "حينئذ يقوم الأبرار بجرأة عظيمة في وجه الذين اضطهدوهم... وحين يرى هؤلاء ذلك يستولي عليهم رعب شديد... ويقولون في أنفسهم: هؤلاء هم الذين احتقرناهم وحسبناهم مثلاً للعار... فكيف يعدون من أبناء الله" (رج 2: 18)؟
قد نستطيع القول إن مر عرف حك واستعمله. وقد نقول إن هذا الموضوع هو معروف في العالم اليهودي. ولكن يطرح السؤال: إن الذي قرأ ما سبق في مر، يظنّ أن لقب ابن الله يرتدي في مر بعداً غير ما نجد في حك، وغير ما يراه اليهودي في لقب يطبّق على البارّ المضطهد.
لا نجد في نصّ مر أل التعريف قبل كلمة "ابن". ولكن هذا لا يؤثّر في الطابع الفريد والإلهي لهذه البنوّة. وهناك من قال إن القائد الروماني رأى في يسوع "ابن إله، أي بطلاً ونصف إله (أو= الإنسان الإلهي). إن غياب أل التعريف لا يؤثّر. وهناك من قال: لماذا الماضي: "كان هذا الرجل"؟ في نظر القائد كان يسوع قبل موته. والذين آمنوا بقيامة المصلوب يستطيعون أن يقولوا: "أنت ابن الله". ولكن كيف نرفض في هذه الظروف أن يكون قائد المئة قد أكّد على علاقة بين ذاك الذي مات الآن والله، على مثال ما فعل المسيحيون منذ حياته على الأرض؟ إن إنجيل مرقس يعارض هذا الموقف.
ولكن هل نستطيع أن نتكلّم عن ارتداد قائد المئة: رأى الجلاّد ضحيّته فعاد إلى الربّ. لا توافق الفكرة الظروف كما تبرز الخبر. فيسوع مات ولا يستطيع الآن أن يكون شخصاً نتعلّق به في الإيمان كما في القيامة. ولكن قائد المئة هو صورة مسبقة عما سيفعله الوثنيون في رومة وفي أماكن أخرى. لا يرى مرقس في يسوع "الشهيد" (مثل لوقا، نتذكّر اسطفانس) الأول، بل المسيح وابن الله. وهكذا يكون اعتراف قائد المئة شبيهاً بما يعلنه المسيحيون في إيمانهم.
وهكذا يتميز قائد المئة عن الرؤساء اليهود، عن عائلة يسوع (3: 21، 31- 35)، والآن عن تلاميذه الأخصّاء. إنه صورة عن غرابة طرق الله الذي يدعو إليه المؤمنين حيث لم يكن يتوقعّ أحد: فالجلاّد الوثني هو في الإنجيل، أول من اعترف بيسوع أنه ابن الله.
5- النساء يشهدن (15: 40- 41)
إن لوحة النسوة اللواتي شاهدن آخر لحظات يسوع، تتميز عمّا سبق ببداية فجائية. هناك علامة انقطاع: فظهور النسوة في الخبر هو معطية مُضافة وجديدة، لأننا حتى الآن لم نتكلّم إلاّ عن الرجال. وإن هاتين الآيتين تبدوان قريبتين من مقطع آخر يدلّ هو أيضاً على بداية جديدة: في مطلع الإنباء الثالث بالحاش (10: 32)، دلّت عدّة ألفاظ نقرأها هنا، على ظاهرة هامة تتيح لنا أن ندرك إدراكاً أفضل بُعد الصورة التي أمامنا.
تمييز عن السياق السابق. ثم توجيه المقطوعة إلى وليْ الخبر. فهذه النسوة اللواتي ينظرن إلى يسوع على الصليب (15: 40) سوف نراهنّ ساعة الدفن: سينظرن الموضع الذي فيه يُسجّى جسد يسوع (15: 47). وسنراهنّ في صباح القيامة، وقد شاهدن الحجر قد دحرج (آ 1: 4). هذه النظرة المثلّثة توحّد الأحداث الثلاثة، التي تتوالى في 15: 40- 41/ 15: 42-47/ 16: 1- 8. هذا ما نعود إليه في ما بعد.
إن آ 40- 41 تبدوان نصاً متداخلاً. "ولكن كان هناك أيضاً نساء ينظرن من بعيد، منهن مريم المجدلية... اللواتي، ساعة كان في الجليل، كنّ يتبعنه ويخدمنه، وغيرهنّ كثيرات صعدن معه إلى أورشليم".
قدّم النصّ النسوة بشكل عام (آ 40 أ). ثم توالت الجمل بشكل أب/ أ أ ب ب:
أ- مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير وأم يوسي (تصغير يوسف).
ب- اللواتي، حين كان في الجليل، كنّ يتبعنه ويخدمنه.
أ أ- وغيرهنّ كثيرات.
ب ب- كنّ قد صعدن معه إلى أورشليم.
على الجلجلة، يسوع هو وحده مع جلاّديه. فالنساء الواتي ينظرن لسن "قرب الصليب" كما في يو 19: 25. بل يقفن "من بعيد". إن مز 38: 12 (حسب السبعينية) (كما في حدث بطرس، 14: 54) يذكّرنا هنا أيضاً أن أقرباء الرجل المتألمّ ابتعدوا عنه. ولكن رغم هذه لإشارة التي ليست في صالح النسوة، فقد تفؤقن على التلاميذ. فهؤلاء التلاميذ قد هربوا "كلّهم" حين أوقف معلّمهم. أما هنا، فلا نجد فقط النساء اللواتي ذُكرت أسماؤهن، بل "غيرهنّ كثيرات". لقد تحلّين بالفطنة فابتعدن عن الصلبان وعن الجنود. ومع ذلك أظهرن أمانتهنّ ليسوع بعد أن تبعنه من الجليل.
إختلف مر عن لو فلم يجعل من هذه الوجهة النموذجية العنصر الذي يشرف على خبر الحاش. مقابل هذا، أحال القارئ إلى زمن الرسالة الجليلية حيث كانت النسوة "يخدمن" يسوع و"يتبعنه". ثم لاحظ أنهن "صعدن معه إلى أورشليم" (لا الأربع فقط، بل جميعهنّ. صحّح مت الأسلوب). وجعل منهنّ رمزاً ومثالاً: أراد يسوع أن "يصعد إلى أورشليم" ليموت فيها. مشى أمام التلاميذ الذين يتبعونه خائفين (10: 32- 33). وها نحن نجد المجموعة بواسطة النسوة، وقد سرن مسيرة التلاميذ ووصلن إلى نهاية السفر. إن عبارة تعلّقن بيسوع "ليتبعنه" تتضمّن مسيرة متواصلة تقود من "الجليل إلى أورشليم"، تقود إلى الموت (8: 34- 38؛ 10: 38- 39؛ 13: 9- 13).
وتعلّق نظر هذه النسوة بالجلجلة. في الواقع، يرد فعل "تيوراين" بدون مفعول به، عكس فعل "هوران" الذي يتحدّث عن قائد المئة. وبعد هذا (15: 47) سيبحث هذا النظر عن الموضع الذي دُفن فيه يسوع، ليتيح للنسوة أن يعدن مع الأطياب (16: 2). وأخيراً حين وصلت النسوة إلى القبر "نظرن" أن الحجر الكبير الذي يغلقه قد دحرج (16: 4). فكأن الإنجيلي أراد أن يجعل من هذه النسوة شاهدات على موت يسوع ودفنه وقيامته.
ولكن هذا النظر، ولا سيّما على الجلجلة، يدلّ على شيء كثر، على أن يسوع قد مات حقاً، وهكذا يقدّم الإنجيلي وجهة دفاعية ترفض "موتاً في الظاهر" أو "شبه موت". أما نظرة النسوة الثانية (15: 47)، فهي لا تتوقف عند الدفن، بل عند الموضع الذي سُجّي فيه. وأخيراً، النظرة إلى الحجر المدحرج (16: 7) تبدأ ولي الخبر وإعلان الملاك، غير أنها ليست فصحيّة بالمعنى الحصري للكلمة. فبطرس والتلاميذ وحدهم سوف "يرون" يسوع. ويبقى في النهاية أن هذا النظر المثلّث يوحّد المقطوعات الثلاث: فللمسيحي الذي يسمعها أو يقرأها، هذا المصلوب الذي وُضع في القبر هو اليوم قائم من الموت. هذا ما سبق وأنبأ به

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM