الفصل التاسع والثلاثون: الجنود يهزأون بيسوع

الفصل التاسع والثلاثون
الجنود يهزأون بيسوع
15: 16- 20
يجري المشهد في دار الولاية وبعد المحاكمة، فيبدو بشكل فاصل بين حركتين. لقد أسلم بيلاطس يسوع "لكي يُصلب" (15: 15). ولكننا نعرف فيما بعد (آ 25 ب) أن الجنود اقتادوا يسوع إلى الخارج ليصلبو. في ذلك الوقت، فى خل حدث جعل الخبر يتأخّر. فالقارئ الذي استعد لأن يتبع يسوع إلى موضع العذاب، يجد نفسه أمام زيادة من الهزء تفرض عليه أن يتوقّف ويتأمّل.
ويُدعى القارئ أيضاً ليذكر مشهداً مماثلاً حصل بعد أول مشهد في محاكمة يسوع اليهودية (14: 65). إذاً، لاحظ أن الهزء (والمعاملة السيئة) تتوزع بين اليهود والرومان. مع بعض الفرق. فالخبر هنا أكثر إتساعاً من الأول. ثم ليس "القاضي" هو الذي يقوم بهذه الأعمال القاسية ولا يأمر بها. بل كل شيء جاء من مبادرة خاضة لدى الجنود. أما في المشهد الأول، فأعضاء المجلس بصقوا على يسوع، وغطّوا وجهه، ولطموه.
يتضمّن الحدث مقدّمة تصوّر التهيئة للمشهد (آ 6). والمشهد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اللباس (آ 17)، التحية (آ 18- 19)، نزع اللباس (آ 20). في النهاية، جعلوا عليه لباسه العادي. ونجد داخل القسم الثاني المعاملة السيئة: الضرب، البصاق (آ 19 أ). هذا ما يبرز التوازي مع 14: 65 ويشذد على مركزية هذا القسم في مشهد الهزء.
وظهر الجنود (لن يُذكروا بعد ذلك في مر) هنا، مع أنهم هم الذين جلدوا يسوع. فرضوا نفوسهم منذ البداية. هم "فاعل" جميع الأفعال: إقتاد، جمع، ألبس... بعد الآن صار يسوع "لعبة" لا أيديهم يصنعون به ما يشاؤون من دون رقيب ولا حسيب. أما الوالي فسوف يظهر فقط في النهاية، ليلعب دوراً إيجابياً في دفن يسوع (15: 43- 44).
اقتيد يسوع إلى داخل القصر، إلى الدار الداخلية، إلى قصر الوالي في أورشليم. هذا يدلي على أن مرقس كان عارفاً بالأمكنة والعادات المعاصرة. لقد صار يسوع الآن بعيداً عن عيون الجموع. ولكنه في الواقع قريبٌ من خلال الكتيبة التي جمعها الجنود. ولا ننسَ أن الكتيبة تضم 600 شخص. فالكتيبة "كلها" هي هنا، وهكذا يشهد الهزءَ بيسوع عددٌ كبير من الناس. لقد هيّئ كلي شيء من أجل حفلة ساخرة تتسم بالقساوة والفظاظة.
نشير هنا إلى أن يو 18: 3، 12 يتحدّث عن "الفرقة" التي هي جزء من الكتيبة. لا ننسَ أن الكتيبة لا تقيم في قصر الوالي، بل في قلعة انطونيا. ولكن مر بحث بالأحرى عن المعنى الديني، فدلّ على العدد الكبير من الناس حين "نضب" يسوع "ملكاً". جعلوا عليه الأرجوان، وكفلوه.
بدأت الحفلة الساخرة بإلباس يسوع شارات الملك. عزي جسده بالجلد، ثم جُعل عليه "الارجوان" (رج كما 27: 28: رداء ارجوانياً)، حلية الملوك. وجعلوا على رأسه أكليلاً من شوك، فزادوا ألمه ألماً. وصار يسوع "ملكاً، ولم يعد ينقصه سوى الصولجان. وستلعب القصبة دور الصولجان. غير أن هذه القصبة استعملت من أجل ضرب يسوع على رأسه لكي يدخل فيه الشوك.
ورافق تحيّئة الجنود هتاف: "سلام، يا ملك اليهود". كان الرومان يهتفون: "سلام (خايري) أيها الأمبراطور". أما هنا، فنحن في خط الخبر الذي تشّرب من لقب "ملك اليهود". فعلى شفاه الجنود الرومان، وخلال ذلك المشهد، وساعة اعترف الجمع اليهودي بشرعية هذا اللقب، اصابت السخرية اليهود من خلال الهزء بشخص يسوع. فكما حدث من قبل في مشهد السنهدرين (14: 65)، وكما سيحدث فيما بعدها أقوال الهزء على الجلجلة (15: 32)، هذا اللقب الذي أعطي ليسوع يقول الحقيقة: فيسوع كمسيح هو حقاً "ملك اليهود". غير أن هذا الملك لا يتمتّع بهيبة ساطعة وسلطان يعرفه أهل هذا العالم. هذا ما بدا منذ المحاكمة اليهودية. وتتواصل السخرية فتنسب إلى الجنود "اعتبارهم" يسوع ملكاً: حيّوا يسوع كأنه الملك حين سجدوا له، جثوا على ركبهم أمامه، كما يُفعل أمام الملك. مع أن هذا الملك يرزح في الذلّ والعار.
حيّوا الملك بكلامهم. وحيوه بسجودهم. وزادوا معاملات سيّئة، فاستعادوا ما فعله أهل المجلس اليهودي (14: 65). فالبصاق له جذوره في الكتاب المقدس (أش 50: 6). واستعملوا القصبة ليضربوه بها.
كل هذا يدلّ على أننا أمام مشهد سخرية وهزء، بل "لعب" وتسلية (امبايزاين). حين نقرأ هذا النصق نتذكّر الإنباء الثالث بالآلام حيث يعلن يسوع أنه يسلّم إلى الوثنيين "فيلعبون به (جهزأون به)، ويبصقون عليه، ويجلدونه، ويقتلونه" (10: 34). فالفعل يدلّ في المقطعين على الهزء (كما على الجلجلة، 5: 31) وعلى المعاملة بالعنف. وهكذا نكون قريبين من أفعال نجدها في حك 12: 25- 26؛ 2 مك 7: 7، 10، مثل: عذّب، أدّب. وأما فعل "امبايزاين" فيدلّ على مصير الأنبياء القاسي. فقد كانوا هم أيضاً موضوع هزء (1 أخ 36: 16؛ عب 11: 36). في الواقع، استعاد الإنجيل المبادرة. فهؤلاء الجنود الذين قسوا على يسوع، حقّقوا نبوءات الكتاب، وكانوا أداة غير واعين لمخطط الله في يسوع.
والقسم الثالث (15: 20 ب) في هذا المشهد المريع يرينا يسوع بعد أن نزعوا عنه الأرجوان، وألبسوه ثيابه العادية التي نُزعت عنه قبل الجلد. وهكذا انتهى هذا المشهد، وسوف ننتقل إلى عذاب آخر. ها هم "خرجوا به ليصلبوه".
إن الخروج من دار الوالي يدشّن المسيرة نحو الجلجلة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM