الفصل الثامن والثلاثون
يسوع أمام بيلاطس
15: 1- 15
إن مثول يسوع أمام بيلاطس يأتي بعد اجتماع آخر للسنهدرين (15: 1؛ رج 13: 35) بكامل أعضائه كما يقول الإنجيلي مرة أخرى (14: 55). إن المتهم قد "أسلم إلى الأمم" كما قال "الإنباء" الثالث بالآلام (10: 33). لا حديث هنا عن شهود. بل إن بيلاطس يبدأ المحاكمة: هو يسأل وعظماء الكهنة يتهمون. ويأخذ الاستجواب وجهاً سياسياً: فالعلة التي حُفظت على يسوع: إعتبر نفسه: "ملك اليهود"...
بعد أن ندرس السياق والبنية الأدبية، نتوقف عند الاستجواب (15: 1- 5)، وننتهي في مشهد نرى فيه بيلاطس، الجمع، برأبا (15: 6- 15).
1- السياق والبنية الأدبية
إن خبر مثول يسوع أمام بيلاطس يشكل منعطفاً أساسياً في خبر الحاش والآلام. حتى الان، قادت السلطات اليهودية كل شيء. كانت قد ظلّت صامتة بعد سلسلة من المجادلات في أورشليم (12: 34: لم يجسر أحد أن يلقي سؤالاً). وها هي تأخذ بثأرها في المؤامرة على يسوع وما يلي هذه المؤامرة، بل ما يشكل ذروتها. وهو حكم بالاعدام أصدره المجلس بالإجماع (14: 64). بعد الآن، انتقلت القضيّة إلى الملعب الروماني: هذا لا يعني أن اليهود سيكونون مكتوفي الأيدي. ولكن بيلاطس هو الذي يتابع مهمة القتل ومعه جنود الامبراطورية. بدأ اليهود ويكمّل الرومان.
في القسم الثاني من خبر الحاش عند مرقس (15: 1- 47)، مبدأ التنظيم هو أولاً أن نتبع ترتيب الأحداث. لن نجد بنية إجمالية انطلاقاً من إشارات أدبية ما عدا دور بيلاطس في الحدثين الأول والأخير اللذين يشكّلان تضميناً واحتواء. وما عدا موضوع الهزء الذي يتوزّع على ثلاثة أحداث مركزية تبدو متماسكة.
ويرسم الإطار المكاني تصميماً فيه تتسجّل الاحداث المتنوّعة: بعد قصر بيلاطس (15: 1- 20 أ) تنتقل الأحداث إلى الجلجلة (15: 20 ب- 41). وأخيرأ نصل إلى موضع دفن يسوع (15: 42- 47).
ونعود إلى أول هذه الأحداث: مشهد المحاكمة أمام بيلاطس (15: 1- 5). فهذا الخبر وخبر محاكمة يسوع أمام السنهدرين (14: 55- 64) يجعلاننا أمام مشهد محاكمة، ثم يقدّمان اتصالات وثيقة حتى على مستوى اللغة والألفاظ.
لا شك في أن هناك اختلافات بين الخبرين: في خبر المحاكمة اليهودية، تسبق سلسلة الإتهامات السؤال المركزي الذي طرحه عظيم الكهنة (14: 61 ب ج) وجواب يسوع (14: 62). في المحاكمة الرومانية تأتي الإتهامات بعد سؤال بيلاطس الأساسي وجواب يسوع (15: 2).
ومع ذلك فالشّبه بين الحدثين لافت بحيث يدلّ على تدخّل واع من قبل الكاتب ليختم مرحلة ويفتح مرحلة أخرى في مسيرة الحاش والآلام. غير أن العلاقة حاضرة فقط في القسم الأولى من خبر المحاكمة الرومانية.
نجد في هذا الحدث قسمتين اثنتين. الأولى (آ 1- 5)، تضعنا في الإطار، ثمل تصوّر استجواب بيلاطس ليسوع بضغط من رؤساء الكهنة. في الثانية، يتبدل الموضوع والممثلون: حينئذٍ يتركَّز كل شىء على العفو بمناسبة الفصح، فتجري الأمور بين بيلاطس والشعب، ويتوقف عظماء الكهنة عن التدخّل بشكل مباشر (ق آ 11 وآ 3).
وتنتظم كل قسمة في محطات ثلاث: مقدّمة، حوار، خاتمة. في الأولى، المقدمة (آ 1)، لحوار (آ 2- 5 أ). الخاتمة (آ 5 ب). في الثانية، المقدمة (آ 6- 8)، الحوار (آ 9- 14)، الخانمة (آ 15).
في القسمة الأولى (آ 1- 5) يقدّم الحوار (آ 2- 5 أ) بناء دائرياً لافتاً. (أ) الحوار الأول بين بيلاطس ويسوع (آ 2). (ب) تدخّل عظماء الكهنة (آ 3). (أأ) حوار ثان (فاشل) بين بيلاطس ويسوع (آ 4- 5).
ونلاحظ التقابلات الداخلية بين عناصر (أ) وعناصر (أ أ): في الجهتين، بيلاطس هو فاعل الفعل (سأل)، والمفعول هو الضمير "اوتون" (سأله). في آ 5، جاءت عبارة "لم يجب يسوع بشيء" السلبية مقابلة لاسم الفاعل في آ 2: قال مجيباً.
وتستخرج القسمة الثانية (آ 6- 15) تماسكها من موضوع "أطلق" (أسيراً) الذي يحيط بها (آ 6- 15) ويلجها إلى الداخل (آ 5- 11). والحوار المركزي يتوشع هذه المرة بين بيلاطس والجمع (آ 9- 14) في ثلاث محطات (في آ 8 وبداية آ 9 اتخذ الجمع المبادرة، عكس مت 27: 17). ويشار إلى كل محطة بعبارة "هو دي بيلاطس"، أما بيلاطس (آ 9، 12، 14) وعبارة "رؤساء الكهنة"، أو هم (آ 11، 13 ب، 14 ب). وتقحم معترضة تفسيرية داخل هذه المجموعة (آ 10).
رغم هاتين القمستين، يشكل مر 15: 1- 15 وحدة لا تنقسم. فالمثول أمام الوالي الروماني يتطلب خاتمة، حكماً أو شيئاً من ذلك. وهذا ما يحدث بالفعل في النهاية (آ 15). أما حدث برأبا فليس هامشياً، لأنه يشكل الإمتداد العضوي لمسيرة المتهمين التي بدأت في آ 3 وأتاحت للمسيرة أن تصل إلى هدفها.
2- الاستجواب (15: 1- 5)
أ- المقدمة (آ 1)
إلتقت المقدمة مع ما يوازيها في 14: 53، فروت كيف اجتمع المجلس كله (في 14: 55: كل المحفل، هو اسهاب) في الصباح وأنهى ما بدأه في الليل: تشاورٌ أخير كانت نتيجته نقل يسوع إلى ذلك الذي يستطيع وحده أن يحكم عليه بالاعدام. إن لفظة "الصباح" (بروي في 1: 35؛ 11: 20؛ 13: 35؛ 16: 2، 9، ترد مرتين في مت، مرة في يو، ولا ترددا لو). تحدّد مع لفظة "المساء" (مساء الدفن) (15: 42) اليوم الذي فيه تجري المرحلة الأخيرة من مراحل الحاش والآلام. وسوف يدلّنا مر على الساعات المتتالية.
أما عملية نقل يسوع إلى محكمة بيلاطس، فيصوّرها ثلاث أفعال متعاقبة، وفاعلها هو أهل المجلس: هؤلاء أوثقوا يسوع (إسم الفاعل)، إقتادوه، أسلموه إلى بيلاطس: إنحدر القضاة الأجلاّء بدناوة في مشهد الهزء الذي سبق (14: 64). وها هم ينحطّون الآن ليقوموا بوظائف الشرطة. ولكن وجب أن يتحقّق تحقيقاً حرفياً ما أنبأ به يسوع: إن عظماء الكهنة والكتبة "يسلمونه إلى الأمم" (10: 33). الألفاظ تدلّ بالأحرى على القبض على يسوع (في يو 18: 24 يوثق يسوع منذ تلك الساعة). واعتنى الكاتب ليدلّ بأي تحفّظ (14: 44، لا نستطيع أن نتكلّم عن "عقادة" اسحق، حين أوثقه ابوه، تك 22: 9 بسبب الفعل المستعمل) ساقوا هذا الإنسان الخطير وأسلموه (لا رنّة لاهوتية هنا في فعل باراديدوناي) إلى بيلاطس.
ب- الحوا ر (آ 2- 5)
ظهر بيلاطس فجأة. فالمفروض لدى القارئ أنه يعرف وظيفته ودوره في القضيّة. بدأ بيلاطس مرحلة أولى من الاستجواب بسؤال لا مقدّمة له ولا تهيئة في السياق: "أ أنت ملك اليهود" (آ 12)؟ الظاهرة هي هي مع السؤال الموازي الذي طرحه عظيم الكهنة في 14: 61. أما التقديم هنا فيعلن منذ البداية الاتهام الرئيسي الذي سيتردّد في آ 9 (أطلق ملك اليهود)، وفي هزء الجنود (15: 18)، وفي الكتابة عن الجلجلة (15: 26)، وأخيراً بشكل موازٍ على شفاه عظماء الكهنة والكتبة الهازئين من المصلوب، (15: 32). إذن، نحن أمام خط يسري على مدّ المحاكمة الرومانية حتى تنفيذ الاعدام الذي ينهيها. لهذا لن نعجب إذا وجدنا شهادة له منذ البداية.
حكمت المحكمة اليهودية على يسوع كمجدّف: اعتبر نفسه المسيح ابن الله. وسلمته المحكمة عينها إلى بيلاطس. وإذا أخذنا بعين الاعتبار السؤال الأول الذي طرحه الوالي على المتهم، نقول إن الجريمة تحوّلت وكذلك الألفاظ التي تعبرّ عنها. كانت الجريمة دينيّة فصارت سياسيّة. فمرقس وقرّاؤه يعرفون أن من نسبَ لنفسه لقب ملك في إطار الإمبراطورية عدّ تأثراً متمرّداً.
ماذا سيكون تصّرف يسوع بعد هذا السؤال؟ كان جوابه: "أنت تقول". هو يختلف عن جواب يسوع لعظيم الكهنة: "أنا هو" (تأكيد واضح). وهو يبدو أقلّ وضوحاً. لهذا نفهم تردّد الشّراح لفهم معناه. هناك واقع اكيد: رأى سائر الإنجيليين في هذا الجواب جواباً إيجابياً (نعم). وبقدر ما يستعملون مر (وهذا ما لا شك فيه بالنسبة إلى مت) فهم يدلودن على أن القرّاء فهموه "نعم". ولكنهم في الوقت عينه يدلّون على الامالة التي يجب ادخالها في اعلان الهوية هذه. غير ان نظرتهم ليست بضرورية لكي نكتشف السرّ الذي في هذا الجواب حسب مر (هناك من قال: نحن أمام استفهام: "أ أنت تقول ذلك")؟
إذا توقفنا عند فقه اللغة (العبرية، الارامية، اليونانية)، فهذا الجواب الايجابي ليس تأكيداً بكل معنى الكلمة. دياذا عدنا إلى السياق وصلنا إلى النتيجة عينها. إذا كان يسوع قد أقرّ أنه ملك اليهود (هناك من شرحَ: أنت تقول الحقيقة دون أن تعرفها: رج يو 19: 33- 37)، فموقف بيلاطس يعني أنه لا يعتبر هذا الجواب "نعم" من دون تحفّظ. فلو اعتبره كذلك لكان أنهى الجلسة وحكم على يسوع أنه ثائر. وسوف نرى في حدث برأبا أن بيلاطس ليس مقتنعاً بأن يسوع مذنب.
أما في رأي مر، فيسوع هو ملك اليهود، وقد اعترف بذلك، لكن ليس في معنى يدفع السلطات الرومانية أن تحكم عليه. لهذا، تصّرف بيلاطس كما تصّرف.
وتلي آ 3 فتخبرنا أن عظماء الكهنة أكثروا من الشكاوى ضد يسوع أمام منبر بيلاطس. وهذا ما يدخل سؤال بيلاطس الثاني ويبرّره: وما يبرهن على ذلك هو التقابل بين هذه الآية وتلك التي تليها (رفع شكوى). ونرى أيضاً هنا كيف شدّد مر مرة أخرى على حصة السلطة اليهودية في هذه القضيّة: ففي قلب الجلسة الرومانية، ساعة صار بيلاطس وحده القاضي، ظهر عظماء الكهنة بقوّة، وكأن مر خاف أن ننسى مسؤوليتهم في موت يسوع.
وسؤال بيلاطس الثاني كان: "أما تجيب بشيء؟ انظر كل ما يتهمونك به! (آ 4): هذا السؤال يفترض صمتاً سابقاً من قبل يسوع (سيملأ مت 27: 13 هذه الفجوة). وها هو يبلاطس يقدّم له "بسخاء" إمكانية الدفاع عن نفسه. لا يقال هنا بمَ تقوم الشكايات. فما يهتم الراوي قبل كل شيء هو أن يبيّن أن بيلاطس لم يعتبر هذه الشكايات جدّية. ثم أن يعطي ليسوع مناسبة المحافظة على الصمت وتحقيق البرنامج الذي رسمته الكتب المقدّسة (14: 61). بعد الآن، لن يفتح يسوع فمه إلاّ لكي يوجّه إلى الله نداءه الأخير، على الصليب. لقد أعلن من هو وما هي رسالته، فلم يبقَ له شيء يقوله للبشر.
وتعجّب (تومازاين) بيلاطس من صمت يسوع (لا من شكايات عظماء الكهنة، كما قال البعض). وستتجدّد دهشته فيما بعد (15: 44) حين يعرف أنه مات بهذه السرعة. هذا الشعور الذي يبرز شخصيّة المتهّم الخارقة (رج 5: 20: كان الجميع معجبين) يلتقي والتلميح السابق، لأن الدهشة هي الشعور الذي يثيره البار المتألمّ لدى الوثنيين (أش 52: 15 حسب السبعينية).
3- بيلاطس، الجمع، برأبا (15: 6- 15)
إن القسمة الثانية من هذا الخبر تتضمّن، كما قلنا: مقدمة (آ 6- 8) وخاتمة (آ 15). وبين الاثنين حوار في ثلاث محطات حيث يواجه بيلاطس الجمع (آ 9- 14).
أ- المقدمة (آ 6- 8)
تتألّف المقدمة من ثلاثة عناصر حيث يلتقي النصّ الأول والعنصر الثالث (آ 6 وآ 8)، ويقدّم العنصر المتوسّط المادة الملموسة: يقدّم برأبا وقضيّته. وهكذا تعدّنا آ 7 للآية 11 وما يلي، فلا يحضر هذا الشخص في الخبر حضوراً مفاجئاً.
إعتاد بيلاطس "في كل عيد أن يطلق لهم أسيراً، من طلبوا" (آ 6: أو طالبوا به كما في المحكمة). "العيد" هنا هو عيد الفصح كما في 14: 2 (رج 14: 1). لا يحدّد الاشخاص الذين ينالون هذه الحظوة. إن الضمير "هم" (اوتويس) قد يدلّ على عظماء الكهنة المذكورين في آ 3. ولكن ما يلي من النصّ يعارض هذا التفسير. فالضمير نفسه في آ 8، 11، 15 (رج هيمين في آ 9: أجابهم) يدلّ بوضوح على الجمع الذي يستعمله عظماء الكهنة كأداة ويعملون من خلاله (آ 11). إذن، الجمع هو فاعل الفعل "طلبوا". وسيشدّد الخبر هنا على الشعب ومطالبته ببرأبا، ساعة يطلب بصياح قيم أن يُصلب يسوع. في الواقع، لا يلعب بيلاطس الدور الرئيسي في هذه القضيّة: فالمبادرة تأتي من الجمع الذي نال ما أراد.
في هذه السنة، الناعم بالعفو هو برأبا: إنه سجين جُعل مع "الذين اقترفوا القتل وهم يقومون بفتنة". هذه الصورة ليمست حيادية: لا شكّ في أنها ليست في مصلحة برأبا. ولكنها تشكّل بصورة خاصة اتهاماً للرؤساء اليهود. لا شك في أن لوقا يشدّد في أع 3: 14 على الخيار البغيض الذي قام به اليهود في هذا الظرف (أنكرتم القدّوس وطالبتم برجل قاتل). وأحسن مر بالشيء عينه فجعل هذا السجين بين القتلة. وإذ شدّد على مشاركته في فتنة (رج 4 1: 48- 49؛ 15: 28؛ رج لو 22: 37: ليس يسوع مع المجرمين، بل يفضّل عليهم. رج يو 18: 40)، يجب أن نفترض أن مر أراد أن يبيّن كيف كان عظماء الكهنة يحرّكون الجموع لتأخذ جانب قاتل سجنه الرومان ضدّ يسوع. نحن هنا أيضاً أمام موضوع لاهوتي يرتبط مع 10: 45 وكلمات الافخارستيا (14: 24): لقد صار برأبا رمز الإنسان الخاطئ الذي يخلّصه موت يسوع. أجل، إن برأبا يبدو "أنتي يسوع" (ضدّ يسوع) الذي ينجو بعفو من بيلاطس. نجا من موت مادي، فكانت نجاته رمزا إلى الفداء.
وتدلّنا آ 8 على الجموع التي تصيح باتجاه بيلاطس فتطبّق العادة المذكورة في آ 6. إن الجمع في حدّ ذاته (في 14: 33 نحن أمام "أوخلوس" بدون أل التعريف: مجموعة الشرطة التي يقودها يسوع) لا يتدخّل إلاّ في قضيّة برأبا (آ 8، 11، 15) ليجعل عنصراً جديداً في دينامية الحاش والآلام.
إذا أردنا أن نتعرّف إلى دوره، نعود إلى الإنجيل كله. هناك من اعتبر خطأ أن الجمع يمئل الناس الذين لم يصل إليهم الإنجيل، والتلاميذ هم المسيحيون. في الواقع، المجموعتان تتبعان يسوع. هؤلاء الناس تبعوا يسوع، سمعوه، فهموا تعليمه، ولكنهم ظلّوا هنا: قد يستطيعون أن يتركوه (كما فعل تلاميذه، 14: 50)، وقد يطالبون يموته (كما سوف نرى).
نشير هنا إلى أن يسوع دعا الجموع (7: 14؛ 8: 34) فتبعته (3: 7؛ 5: 24؛ رج أيضاً 2: 13؛ 3: 20، 32؛ 5: 21، 31؛ 10: 46؛ 11: 9). سمعت له بارتياح (12: 37). ومقابل هذا، انغلقت على الوحي (4: 1، 10- 12، 33). ولكن التلاميذ لم يكونوا أفضل منها: فهم لم يفهموا أيضاً (4: 13؛ 8: 17- 18، 21؛ 8: 33؛ 9: 10، 32).
لم يقل النصّ إن الجمع صعد ليطالب بشكل خاص ببرأبا، ولكن ليطلب من الوالي العفو الذي اعتاد أن يمنحه. ولكن لا شكّ في نظر مرقس وقرّائه: حين نعرف مضمون آ 7، نفهم أنهم جاؤوا جماعات لكي يطالبوا بإطلاق برأبا. وبالتالي بصلب يسوع.
ب- الحوار (آ 9- 14)
أولاً: المحطة الأولى (آ 9- 11)
إن أول محطة في حوار بيلاطس مع الجمع تتضمّن آ 9- 11. تبدأ بسؤال يطرحه الوالي: "أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود"؟ هذا السؤال هو في الواقع جواب على طلب الجمع. ولكنه جواب غريب لسببين. أولاً طلب الجمع إطلاق برأبا، فاقترح بيلاطس "ملك اليهود". لم يقل: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود بدلا من الذي تطالبون به (في آ 11، نجد "ملون"، بالحري، نفضّل)؟ بل تصّرف وكأن الجمع لم يقترح أي اسم، كأن الجمع طالب بسجين وترك لبيلاطس الحرية باختيار من يريد. ثانياً كلّم بيلاطس الشعب عن ملك اليهود، فهل يعرفون من هو. حتى الآن لم يشهد الجمع إلا مطالبة بهذا اللقب في فم يسوع، أو نسبة هذا اللقب إلى يسوع. وحده القارئ يعرف بالوضع بفضل استجواب بيلاطس (15: 2).
مهما يكن من أمر هذه "الفوضى" على مستوى الخبر، فالكاتب لا يهتمّ بما هو معقول على المستوى السيكولوجي لدى الاشخاص. يكافيه أن يعرّف قارئيه أن الجمع، ومن خلاله عظماء الكهنة، فضّلوا مجرماً على يسوع. وقمة السخرية، أن الذي رفضوه هو في الواقع ملكهم ومسيحهم.
إن آ 10 هي قاطعة تتوخى تبرير ما عرضه بيلاطس: "كان يعلم أن رؤساء الكهنة (نقصت العبارة في الفاتيكاني. ربّما رفض الناسخ التكرار) أسلموه عن حسد". وبعبارة أخرى: كان بيلاطس مقتنعاً ببراءة المتهم. أراد أن يخلّصه بفعل العفو الفصحي. هو بريء. ولكنه خاطىء من قبل رؤساء الكهنة الذين يهاجمونه من جديد سماعة يدافع عنه بيلاطس.
ليس الحسد (فتونوس) هنا عاطفة بسيطة، بل هي نظرة سيئة وعدائية تحاولي أن تسيء إلى الآخر، أن تقتله (تختلف اللفظة عن "الغيرة"= "زالوس" التي قد تكون إيجابية. هناك من تحدّث عن غيرة الرؤساء، من أجل الله). قال حك 2: 24: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم". ولقد أراد عظماء الكهنة موت يسوع، وعاطفة الحسد تولّدت عندهم من نجاح يسوع لدى الشعب، وخوف الوجهاء منه (11: 18؛ 12: 12؛ 14: 1- 2).
قدّم بيلاطس عرضه. فتدخّل عظماء الكهنة الذين كانوا حاضرين أمام منبره (15: 1)، وإن جعلوا الشعب في الصفوف الأمامية يصرخ ويصيح. إنهم يعملون في الخفاء دون أن يتدخّلوا بشكل مباشر. كانوا محافظين على "القيادة". قام دورهم بأن "يحركوا" (اناسياين، هنا وفي لو 23: 5) الجمع، ويدفعوه بأن يطلب من بيلاطس: "أن يطلق لهم بالحري برأبا" (أي: يفضّلونه على يسوع). لسنا فقط أمام اختيار: هم يفضّلون، ولكن ليفعل بيلاطس ما يشاء. فإن شاء فليحرّر يسوع! كلا. ما قرروّه هم يعارضر قراره: لا يُطلق يسوع، بل برأبا. هذا ما نراه فيما بعد، وهذا ما يؤكده مت 27: 10؛ لو 23: 18.
ثانياً: المحطة الثانية (آ 12- 13)
إذن، الرفض واضح. ولكن بيلاطس لم يعتبر أنه هُزم. وفُتحت المحثنة الثانية من الحوار (آ 12- 13) بسؤال جديد (بالين) طرحه الوالي.
هنا نتوقّف عند مسائل من النقد النصوصي. وإحدى هذه المسائل، مهما كان الخيار الذي نتخذه، لا تؤثّر على المعنى. فإن اخترنا النص القصير ("إذن، ماذا افعل"؟) أو النصّ الطويل ("إذن، ماذا تريدون أن أفعل"؟) لا يتبدّل شيء. ففي الحالتين، يجعل بيلاطس نفسه رهن مشيئة محاوريه (دخل فعل "تريدون" في خط آ 9. رج "أتريدون" ومت 27: 17- 21).
وهناك اختلافات تؤثر على ولي الجملة: "إذن، ماذا أفعل (أو: إذن، ماذا تريدودن أن أفعل) بذاك الذي تدعونه (تقولونه) ملك اليهود"؟ أو: "ماذا أفعل بملك اليهود"؟ إذا أخذنا بالنصّ الطويل، نرى أن محاوري يبلاطس لم يدلّوا مرة واحدة على يسوع أنه "ملك اليهود". فسيظهر هذا اللقب فيما بعد فقط، في كلام الجنود الهازئين (15: 18)، وفي الكتابة على الصليب (15: 26). أما عظماء الكهنة والكتبة الذين كانوا على الجلجلة، فقد استعادوا هزءاً وسخرية ما كُتب فوق الصليب. ونادوا يسوع: "المسيح" و "ملك إسرائيل" (15: 32). في الواقع، بيلاطس وحده هو الذي أعطى يسوع هذا اللقب، فوافقه يسوع (أيكون بيلاطس استنبط هذا اللقب في خطّ شكايات رؤساء الكهنة؟ رج لو 23: 2) (15: 2).
هنا نفهم لماذا ألغى الناسخ إضافة حيرّته. أما مت، فتجنّب الكلمات "الصعبة" في مر. وفي الوقت عينه عرف النصّ الطويل عند مر فكتب: "إذن، ماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى الاغومانون) المسيح" (27: 22)؟ إذن، إن احتفظنا بالنصّ الطويل، نتساءل ما الذي أراد أن يلمّح إليه في سياق لا يتفق معه إلاّ قليلاً؟
حين نفرض امالة من السخرية الهازئة، نلتقي مع الحدث الموازي في يو 19: 15 حيث يهزأ بيلاطس صراحةً من اليهود. فيسألهم: "أأصلب ملككم"؟ ولكن لا شيء في مر يدلّ على هذه الستراتيجيّة. وإذا أردنا أن نبقى في منطق السياق، كنا نقرأ: "ذاك الذي يسمّي نفسه ملك اليهود" (رج آ 2)، لا "ذاك الذي تسمّونه ملك اليهود".
ولكن رغم هذه الفجوة، ندرك إلى أين يريد مرقس أن يوجّهنا. نفهم أن هدفه هو هدف الإنجيل الرابع، إن لم يكن قريباً منه. نلاحظ أولاً نهجا أدبياً بشكل تصاعدي من سؤال يطرحه بيلاطس إلى آخر: مع عبارة "ذاك الذي تدعونه" (آ 12)، زاد النصّ توضيحاً كان ناقصاً في آ 9. ونلاحظ ثانياً: لا يرفض الجمع ما ينسب إليه بيلاطس من قول: فيبدو وكأنه يجيب: "أصلب ذاك الذي نسضيه ملك اليهود". وهكذا يجعل الكاتب الشعب (بدافع من عظماء الكهنة) يطالب بصلب ذاك الذي يعترفون به ضمنياً (لم يقولوا شيئاً. إذن وافقوا) كملك اليهود، كملكهم. ولكي نثبت هذا القول: نتذكر الموقف الإيجابي السابق لدى الجمع. وها قد انقلب بفعل عظماء الكهنة، فخاف ذاك الذي تعلّقوا به فيما مضى. كان الموقف ملتبساً، وها هو يجد تعبيره الكامل هنا.
وارتفع الصياح أيضاً (بالين. هو الصياح عينه. قد نترجم: حينئذٍ، رج 4: 1؛ 7: 14، 31) نحو بيلاطس. إن فعل "صاح (كرازاين) يذكّر القارئ بما حدث في الشعانين: كان الشعب "أمامه ووراءه يصرخون: هوشعنا" (11: 9). نجد هنا التعارض والانقلاب في الموقف! نشير هنا إلى أن الشعب" (اوخلوس) لا يُذكر في خبر مر عن الشعانين، بل يمال "كثيرون" (11: 8، 9: بولوي. نجد في مت 21: 8، 9: اوخلوس). ولكن لا فرق. وهذا ما يدلي على الدور الملتبس الذي يلعبه الشعب.
وتابع الشعب مسيرته بقدم ثابتة ليصل إلى الهدف. صاحوا: "أصلبه". وهكذا اتخذ الحكم بالاعدام (8: 31، 9: 31؛ 10: 34) شكلاً محدّداً وملموساً. وحين يسمع القارئ المسيحي هذا الكلام، يعود بالذاكرة...
ثالثاً: المحطة الثالثة (آ 14)
تصرّف بيلاطس وكأن هذا الكلام لم يؤثّر عليه، فدخل المحطّة الثالثة(آ 14). طرح على الجمع سؤالأ: "وأي شّر فعل" (إذن، أي شّر فعل. غار في اليونانية)؟ لقد أكّد بيلاطس ما عرفناه سابقاً (يسوع بريء). في الواقع، هو لا يطلب أن يعرف ما فعل يسوع من شّر ليستحق لأجله الصلب. تيقّن من براءة المتهم، فطرح سؤالاً يعني في الواقع: "ولكنه لم يفعل أي شّر". إن الوالي الروماني هو صدى للنبي الذي صوّر عبد الله الذليل والمتألمّ، "هو الذي لم يقترف اثماً" (أش 53: 9 حسب السبعينية).
أصمّ الجمع اذنه على محاولة بيلاطس الأخيرة، فازداد صياحاً، مكرّراً طلبه بأن يصلب. وهكذا وصلنا إلى نهاية المحاولات الثلاث التي قام بها "القاضي" لكي يخلّص ذاك الذي يعتبره بريئاً. لقد انتهت بالفشل والاستسلام.
خ- الخاتمة (آ 15)
ونصل إلى خاتمة الخبر. فبيلاطس نفسه الذي عمل وسعه لكي ينجّي يسوع من الموت، قد أخذ على عاتقه مسؤوليّة هذا الموت، وذلك بملء إرادته (بولومانوس، إذ أراد). ولكن يبقى أن القرار فرض عليه فرضاً: تراجعت إرادته أمام ضغط الجمع، وعبر ذلك، أمام ضغط رؤساء الكهنة.
ونال الجمع ما طلبه: إطلاق برأبا. لقد "صعد" (آ 8) نحو بيلاطس من أجل هذا. وطلب ما أراد بدفع من عظماء الكهنة (آ 11). لهذا ذُكر نجاحه أولاً. فقضية برأبا تبني الخبر حقاً. وهذا الخبر ينتهي حين يطلق بيلاطس السجين.
وبقي يسوع. بعد أن مال بيلاطس إلى برأبا، لم يبقَ له خيار إلاّ خيار الجمع والذين يحرّكونه. إختلفت محكمة رومة عن المحكمة اليهودية (14: 64)، فاكتفت بالإذعان لإرادة شريرة، إرادة الذين حكموا على يسوع: إن عظماء الكهنة اليهود تلاعبوا بالشعب المتقلّب. وهكذا نرى في النهاية من يتحمّل مسؤوليّة موت "ملك اليهود" (مت 27: 25 يدلّ بشكل واضح ومباشر على أن الشعب يتحمّل هذه المسؤوليّة: دمه علينا وعلى أولادنا).
فلم يبقَ لبيلاطس إلاّ أن "يسلم" يسوع (فعل "باراديدوناي": لا معنى لاهوتي له هنا وفي آ 10). لمن؟ هذا ما لا يقوله النصّ؟ في الواقع، سيسلم يسوع إلى الجنود (آ 16). غير أن هؤلاء هم أداة مسيرة قضائيّة دخل فيها يسوع بإرادة الرؤساء اليهود: هم أسلموا يسوع إلى بيلاطس (15: 1، 10). وبيلاطس بدوره أسلم يسوع. وجاء الفعل مع ما يكمله في النهاية: "أسلم لكي يُصلب".
وهكذا تتواصل الأحداث ونحن نستشفّ نهايتها المؤلمة. وفي الوقت عينه تشير آ 13- 14 إلى النتيجة الإيجابية لما طلبه الجمع. جاء ليطلب تحرير برأبا. فجعله رؤساء الكهنة يحصل في النهاية على شيء آخر لم يأتِ لأجله. لا شك في أن عبر هذه المحاولات البشرية، الله يحقّق مخطّطه المرسوم في "الكتب المقدّسة" (14: 49 ب).
خاتمة
عرف مر أن يسوع قد احتمل قبل الصلب، عذاب الجلد المريع. أشار إليه بطريقة ضعيفة وكأنه لا يريد أن يذكره، لأنه يدخل في عقاب العقابات. أرسل إلى الصلب: هذا يعني أنه يجلد قبل ذلك (مت 27: 26 ب). نلاحظ أن مر يحاول أن يحافظ على كرامة يسوع، فلا يطيل تصوير توقيف يسوع (14: 46)، كما لا يطيل الحديث عن صلبه (15: 25). تلك هي الطريقة اللطيفة التي يستعملها الإنجيليون للحديث عن آلام يسوع