الفصل السابع والثلاثون: بطرس ينكر معلّمه

الفصل السابع والثلاثون
بطرس ينكر معلّمه
14: 66- 72
يبدأ خبر إنكارات بطرس ليسوع بحيث نفكّر في ما قيل أعلاه (في آ 54). وهكذا لا نفصل بين ما حدث حول بطرس ومشهد المحاكمة الذي فيه يمثل يسوع أمام قضاته وجلاّديه. تداخل الخبران وترافقا فقدّما تعارضاً يؤثّر في القارئ تأثيراً عميقاً. وتتأكّد هذه الوحدة إذا لاحظنا التقابل الوثيق بين بداية هذا الحدث (آ 66- 72) وتهيئته في آ 54. كل هذا يحيط بمشهد المحاكمة.
1- الوجهة الأدبية
نبدأ فنقدّم التوازي بين بداية مشهد المحاكمة ومشهد إنكارات بطرس ليسوع:
14: 54 14: 66- 67
وبطرس تبعه من بعيد وإذا كان بطرس في الأسفل
حتى داخل القصر... في القصر
وكان جالساً مع الخدم أتت إحدى جواري عظيم الكهنة
ولما رأت بطرس
وكان يصطلي الذي كان يصطلي
حين نتطرّق إلى خبر الإنكارات في حصر المعنى، نكتشف تحفة أدبية قد بُنيت بناء رائعاً. هناك الخاتمة في آ 72 ب ج (قبل أن يصيح الديك). أما الحدث فقد بُني حسب رسمة معروفة في ثلاثة مشاهد: 66-68، 69- 70 أ، 70 ب- 72 أ. وهذه المشاهد تتوزع في شكل متدرّج كما تقذم لنا ترتيباً دائرياً (نعود إلى البداية).
كيف نكتشف التدرّج؟ (1) ننتقل من جارية (المشهدان الأول والثاني) إلى مجموعة "الحاضرين، أي الذين كانوا هنا" (المشهد الثالث). (2) ثم إن بطرس يتخاذل بعد أن ينكر معلّمه مرّة أولى (أرنساتو، صيغة الماضي). ثمّ ينكره مرة ثانية أمام الجارية نفسها (ارنايتو، الماضي الناقص الذي يدلّ على التكرار). وأخيراً، أسند نكرانه الأخير باللعن والحلف وسمّى يسوع "ذاك الرجل الذي تتكلّمون عنه" (ق مع الصيغة الحيادية في آ 68: ما تقولين). (3) وفي كلمات الذين واجهوا بطرس في المرحلة الثالثة يتثبّت التأكيد مع "بالحقيقة" (اليتوس). ثم البرهان: "لأنك (كاي غار) جليلي".
وفي الوقت عينه يلتقي المشهد الأخير مع المشهد الأول. في الأول وجّهت الجارية كلامها إلى بطرس. وفي الأخير، وجّه إليه الحاضرون كلامهم. أما في الوسط فبقي الكلام بين الحاضرين (الجارية قالت). فالمشهد الثاني هو أقصر من المشهدين الأول والثالث، ولا يتضمن كلمة إنكار (نقرأ: فأنكر أيضاً). أما المشهدان الآخران فيتقاطعان في سلسلة من النفي (لا أدري، لا أفهم، لا أعرف). وأخيراً إن الإشارة إلى صياح الديك في آ 68 تقابل ما في آ 72: "وفي الحال صاح الديك ثانية".
إن فعل "أناتيماتيزيان" يستعمل فقط في اللغة البيبلية والكنسية (في العهد القديم يقابل: ح ر م) فيدلّ على تحريم استعمال أي شيء (وربّما تدميره) إكراماً لله. أما الإسم "اناتيما" (تقدمة لله، رج لو 21: 5) فهو عادة أسلاب الحرب المحرّمة على الجنود. وكان تطوّر بعد ذلك، فعبّر الفعل عن التزام احتفالي يتعرّض صاحبه للعنة الله إن هو خانه (أع 23: 12، 14، 21). نجد هذا المعنى في العهد القديم (روم 9: 3؛ 12: 3؛ 16: 22؛ غل 1: 8، 9 بالنسبة إلى "اناتيما").
أما التفسير المعروف في مر 14: 71 وما يوازيه في مت، فيفهم الفعل بمعنى: لعن نفسه مع شرط (لأكن ملعوناً إن كذبت). هناك شّراح اعتبروا أن بطرس "لعن" يسوع، لأن الفعل اليوناني يطلب مفعولاً به. ولكن هذا المعنى لا يستقيم. فبطرس أنكر يسوع، ولعن نفسه إن كان يكذب. أعلن أنه لا يعرفه.
هناك تردّد حول آ 68 "وصاح الديك". كيف نفسرّ هذا الإغفال؟ لو سمع بطرس صياح الديك لكان عاد إلى نفسه. ولكن ذِكرَ صياح الديك مرة ثانية في آ 72، يجعلنا نفترض صياح الديك مرة أولى. سنعود إلى التقليد النصوصي فيما بعد.
يجري الخبر كله في الإطار عينه مع تبدّل مكاني بسيط يدلّ على نحافة الكاتب السيكولوجية وعلى روح "السخرية". فُرض على بطرس أن يعرّف عن نفسه، فخرج إلى "الرواق" (آ 68: بروأوليون. ترد مرة واحدة في العهد الجديد. هناك إسهاب: خرج خارجاً. رج تك 39: 12، 13؛ 15: 1؛ يش 2: 19، مت 26: 75؛ لو 22: 62؛ يو 9: 34، 35؛ 12: 31؛ 19: 4، 5؛ رؤ 3: 12)، خرج إلى الخارج ليتجنّب مناسبة أخرى. ولكنه لم ينجُ هناك من الخطر. فأمامه الجارية عينها التي خرجت هي أيضاً من القصر، إما لسبب خارجي، وإما لأنها تلاحقه (بالين: أيضاً، في آ 69- 70: المعنى الثاني أقرب إلى المعقول).
هنا نجد تحديداً دقيقاً للفن الأدبي: فالخبر دوّن من أجل الرواية. لا نجد أي حكم، كما لا نجد كلاماً إرشادياً، ولا إعلاناً كرستولوجياً. لا شك في أننا أمام تبادل كلام، ولكن عرض الواقع يشرف على هذا النصّ. ولكن إذ حاول الكاتب أن يقدّم للقارئ خبراً مشوقاً، لم يكن حياًدياً، بل أدخله في تأمّل خلاصي سندرك موضوعه من خلال النصّ وقرائنه.
2- الوجهة التعليمية
إشتعلت النار فاضاءت بنورها وجه بطرس. فعرف الناس أنه من تلاميذ يسوع. لقد تجنّب مر اللغة الخاصة، فاستعمل اسلوباً معروفاً (لم يقل: من تلاميذ يسوع): "وأنت أيضاً كنت مع الناصري يسوع" (آ 67). إن لفظة "وأنت" (كاي سي) تفهمنا أن الجارية كانت على علم بوجود مجموعة تلاميذ يسوع.
إن لفظة "نازارينوس" (الناصري) لا تقرأ في العهد الجديد إلا في مرقس (1: 24؛ 10: 47؛ 14: 67؛ 16: 6) ولوقا (4: 34؛ 24: 9). جهل مرقس لفظة "نازورايوس" المستعملة في متى (2: 23؛ 26: 71) وأعمال الرسل (2: 22؛ 3: 6؛ 4: 10؛ 6: 14؛ 22: 8؛ 24: 5؛ 26: 9) ويوحنا (18: 5، 7؛ 19: 19). هنا نعود إلى الأرامية حيث النسبة تكون بزيادة الياء (ناصري) أو الياء والنون (ناصراني).
ثم قالت الجارية (في صيغة الغائب) للحاضرين (هي طريقة أخرى لإتهام يسوع بشكل غير مباشر): "وهذا هو منهم" (آ 69). وبعد ذلك، تدخّل الحاضرون فقالوا (في صيغة المخاطب، كما في المرّة الأولى مع الجارية): "في الحقيقة أنت منهم" (آ 69، 70). إن لفظة "منهم" في آ 69 و 70 قد تدلت على الإحتقار: "أنت من هؤلاء الناس"!
هذه التدخّلات تدلّ بإلحاح على واقع يقوله إن بطرس يرتبط بيسوع وينتمي إلى مجموعة التلاميذ الأمناء له. ولكن بطرس يرفض أن يعترف بهذا الواقع. فالجارية التي أطلقت التحرّك قد حدّقت في بطرس، نظرت إليه ملياً (قد تكون رأته). نلاحظ مرتين وجود "ايدوساً" (آ 67، 69: أبصرت) و"امبلاباسا" (آ 67: تفرّس). ولما نقلت إلى الحاضرين اكتشافها (آ 69)، قدّمت لهم برهاناً يثبتهم في معرفة قد تكون سابقة: بطرس هو جليلي، مثل يسوع.
"أنت جليلي" (آ 70). إن ذكر الجليل يعيد أمام القارئ (وأمام بطرس) سلسلة من الأحداث تمّت في الجليل: الكرازة بملكوت الله (1: 14- 15). نداء بطرس ليتبع يسوع (1: 16- 20). إعلان اللقاء الفصحي من أجل المصالحة (14: 28؛ 16: 1).
ما معنى هذا البرهان: "أنت جليلي"؟ إذا أخذنا بالإختلافة التي تُضاف هنا: "لهجتك تدلّ عليك" فقد نكون أمام دليل "على بطرس". مع أن هذه الإختلافة بعيدة عن مختلف شهود مت 26: 73 (لهجتك تشهد عليك)، نتساءل: كيف يمكن للناسخ أن يغفل هذه الجملة لو قرأها في مر. ولكن يبدو أن الذي أضاف الحاشية كان على صواب: قد يكون هناك حركة تمرّد انتمى إليها بطرس! وهذا ما يدلّ عليه ردّة فعله العنيفة. في الواقع، نفهم ردّة فعله في إطار تدرّج على المستوى الأدبي.
عرف خدّام عظيم الكهنة بطرس واتهموه. وقارئ الإنجيل يعرفه أيضاً، ويفكّر قبل كل شيء بما أنبأ به يسوع خلال العشاء الأخير: إفتخر التلميذ المعتدّ بنفسه بأنه لن يترك معلّمه مهما كلّفه الأمر. أعلن: "حتى لو شكّ الجميع، فأن لا أشكّ". وعاند: "لو أجبرت على الموت معك، لن أنكرك". وتلا هذه العبارة الأخيرة إعلان سيتحقق مضمونه في قصر عظيم الكهنة: "الحق أقول لك، أنت اليوم، في هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات" (14: 29- 31).
نستخلص من هذا التقارب بين المقطعين درساً موضوعه أولاً كرستولوجي (كلام عن يسوع المسيح). وثانياً سوتيريولوجي (كلام عن الخلاص). لقد ضمّ يسوع في مسيرة الآلام المحدّدة، لا تخليّ أصدقائه عنه وحسب (14: 27؛ رج 14: 50) بل نكران بطرس، المتكلّم باسمهم، أيضاً. إذن، ليس هذا الحدث فاصلاً خارجياً عن الدراما الخلاصية التي تتمّ الآن، بل قسماً جوهرياً من هذه الدراما. مع دور خاص بالنسبة إلى بطرس لمنفعة القارئ المسيحي.
قبل كل شيء، هناك عدم فهم لسرّ الألم الذي يتمّ ويجب أن يتمّ (داي، 8: 31؛ 14: 3). هذا السرّ كان قد رفضه بطرس بقوّة (8: 38) فوبّخه يسوع لأنه تجزأ فوقف حاجزاً أمام مخطّط الله. وهنا دل بطرس على ذات الجهل للبعد الحقيقي للآلام (حين ينكر بطرس يسوع سيفهم معنى إعلانه في 8: 29). رأى أن الحدث هو نهاية فشل لا مهرب منه، وأنه لا يستحق أن نخاطر بالكرامة والطمأنينة، بل بأكثر من ذلك. ولهذا ظنّ بطرس أن من المفيد أن يسجن نفسه في النفي (لا أعرف)، مع أنهم عرفوه.
ويعبّر عن هذا النفي (آ 68، 71) بعبارة اللامعرفة التي تجعلها الأناجيل على شفتي يسوع (لو 13: 27؛ مت 25: 12). وهكذا قطع بطرس كل رباط مع يسوع (في آ 71: هذا الرجل! قد تدلّ على احتقار!). بل أكثر من ذلك إذا قابلنا هذه الجمل (خصوصاً آ 68! مع مقاطع أخرى في الإنجيل. أعلن بطرس: "لا أعرف ولا أفهم ما تقولين" (أو: لا أعرف ولا أفهم: ماذا تقولين؟).
إن المعرفة والفهم عند مر هما نتيجة الإيمان بيسوع. والعكس يدلّ على عدم الإيمان. فالذين يسمعون الأمثال دون أن يفهموها (4: 11) هم في هذا الوضع. غير ان هذا ليس نقصاً نجده عند "الذين من الخارج" (4؛ 11) فهو يصيب التلاميذ أيضاً. هم لا يدركون الأمثال، وعلى يسوع أن يشرحها لهم (4: 13). وضياعهم ساعة سار يسوع على مياه البحيرة، سببه أنهم "لم يفهموا" معجزة تكثير الأرغفة. وهذا ما يدل على قساوة قلوبهم (6: 52) وقلّة الإيمان عندهم. وإليهم توجّه أيضاً توبيخ يسوع في 8: 17، 18، 21: "أما تفهمون بعد، أما تدركون؟! أإلى هذا الحد قلوبكم قاسية"؟ "لكم عيون ولا تبصرون، لكم آذان ولا تسمعون. أما تفهمون بعد"؟
وتجاه الآلام الذي ينبئ بها يسوع للمرة الثانية، دلّ التلاميذ على الجهل عينه: "لم يفهموا هذا الكلام وخافوا أن يسألوه" (9: 32). وبطرس لا يبدو كثر فهماً منهم حين يقدّم في التجليّ مظال ليسوع ورفيقيه، شأنه شأن التلميذين الآخرين اللذين لم يكونا يعرفان ما يقولان لأن الخوف استحوذ عليهم (9: 5- 6). في مثل هذا الإطار يتخذ إعلان بطرس في قصر عظيم الكهنة، بُعداً أوسع من مجرّد إنكار تحت وطأة الخوف: إنه يدلّ على نقص جذري في الإيمان.
وهكذا صار بطرس النموذج المقلوب للمسيحيين الذين يخضعون لمحن مماثلة. ونقتنع أكثر إن لاحظنا أن الأفعال التي بها يعبّر عن انكاره هي التي تستعمل في العهد الجديد على الجحود المسيحي بتأثير من الإضطهاد (ارنايستاي، آ 68، 40، ابارنايستاي، آ 72). وبما أن الأمر هو هكذا، يُدعى القارئ إلى أن يتجاوز وضع بطرس الشخصي ليرى فيه صورة عند عدد من المسيحيين الذين يهدّدهم التشكيك والاتهام من محيط معادٍ لهم. فيقطعون الرباطات التي تجمعهم بيسوع. وليس من قبيل الصدف أن يلجأ يسوع إلى الفعل عينه لينبّه تلاميذه إلى شروط التزامهم: التلميذ "الكاذب" ينكره. والتلميذ الحقيقي ينكر نفسه ويحمل صليبه على خطى معلّمه.
الخاتمة
لا بدّ من الخاتمة لكي يكون الدرس كاملاً. فصياح الديك الثاني (اكس دوترو، غائبة من شهود عديدين، ومن بينهم السينائي) يدلّ على نهاية الهجوم الذي انتهى بالنتيجة التي نعرف. غير أن للدراما مخرجاً إيجابياً، كما يليق بالهدف الذي يلاحقه الكاتب. تنبّه بطرس (ومثله القارئ) إلى الكلمة النبوية التي قيلت عنه في بداية هذه الليلة (14: 30). هنا يذكر النصّ أيضاً بإيجاز دون إيراد "في هذه الليلة" ومع اختلافين طفيفين.
أما بطرس "فاسترسل في البكاء"، وهكذا دلّ على ندامته. هذه الدموع الطوعية تدخل في جوّ الخبر الطبيعي. إنها تتميّز عن تعابير أخرى حيث الوجهة الطقسية تغطي على صدق العاطفة. إن دموع بطرس تشبه دموع الخاطئة في لو 7: 38. وتتميّز عن دموع النسوة الباكيات على طريق الجلجلة (لو 23: 27- 28). وهي بعيدة جداً عن تعابير الندامة التي نجدها في عز 10: 1؛ نح 1: 4؛ يوء 2: 12، 17.
وهكذا صوّر لنا بطرس نفسه في كل هذا احدث، بدون كليشيهات أو صور مقولبة. إكتشفناه في ضعفه البشري، لهذا أثر فينا مثَلهُ. إن "سقوط" بطرس هو صورة عن "سقوط" كل واحد منا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM