الفصل الثلاثون
البوّاب الساهر
13: 33- 37
تنتهي الخطبة الاسكاتولوجية في مر 13 بتحريض ملحّ على السهر. وهذا التحريض لا يصيب فقط أولئك الذين يتوجّه إليهم خطاب يسوع لا الدرجة الأولى (13: 3)، بل يصيب الجميع (13: 37). فعلى تلاميذ يسوع كلهم أن يسهروا. وهذا مهمّ جداً. ولكن نتساءل عن معنى الكلمة في هذا السياق (ف 13). إنها تقابل في آ 36: نام. ولكن معناها لم يتوضّح بعد.
ويبرز مرقس التحريض بالمقابلة مع البوّاب. قد يساعدنا تحليل هذه المقابلة على إلقاء الضوء على مضمون التحريض.
1- الوجهة الأدبية
أ- صعوبات
إذا قرأنا بتمعّن المثل، نلاحظ أنه يطرح أسئلة عديدة. فقد يأتي رب البيت في أية هجعة من هجعات الليل. أما المثل فيفهمنا بوضوح أن هذا السيد قد قام بسفر طويل. قبل أن يذهب السيّد سلّم عبيده مسؤولية بيته وحدّد لكل واحد مهمته: فلو كان سفره قصيراً لما كان أخذ كل هذه الإستعدادات. ولكن إذا كان غيابه سيطول لماذا يقال إذن: لا تعرفون في أي يوم يأتي؟ ومع ذلك نحن نقرأ: "لا تعرفون متى يجيء ربّ البيت، أفي المساء أم في منتصف الليل أم عند صياح الديك أم في الصباح" (ر 35). إن هذه الإشارات تدلّ على هجعات الليل الأربع حسب التقسيم الروماني (هناك ثلاث هجعات في العالم اليهودي. رج قض 7: 19: لو 12: 28).
هناك فرضية ممكنة: هذا التنافر الداخلي في المثل، قد يفسرّ في إطار أشكال السفر في الشرق القديم. كانت العادة بأن يعود الإنسان من سفر طويل أثناء الليل. في هذه الحالة، تدخل هذه الإشارة دخولاً عضوياً في المثل. ولكن ما نعرفه عن أسفار ذلك الزمان في الشرق (رغم ما نجد في لو 11: 5 ي) لا يسند هذا التفسير. فللطرقات مخاطر تثني المسافر عن السفر خلال الليل. في هذه الحالة، لا يبدو من المعقول أن يعود الإنسان في الهجعة الرابعة من الليل، كما يقول المثل.
وقد نفسرّ التنافر حين نرى ارتباط مرقس بمتّى ولوقا. وهكذا يرتبط موضوع العودة في الليل مثل العبيد الذين ينتظرون سيدهم (لو 12: 35 ي): فالتشديد على واجب السهر قد يكون أدخل هذا الموضوع عند مرقس. أو عكس ذلك. قد يكون الليل العنصر الأصلي في مثل البوّاب. ويكون سفر السيد تاركاً لعبيده الإهتمام ببيته، عنصرا ثانوياً. تجاه هذه المحاولات التفسرية، نتساءل: أما رأى كاتب الإنجيل نقصاً في المنطق حين أعطى هذا العنصر التقليدي شكله الأخير؟ أم هل لم يبال به؟ ويبقى السؤال حاضراً.
ويرى بعض الشراح أن فكرة العودة في الليل تعود إلى الحضّ على السهر. وهذا الحضّ لا يأخذ كامل معناه إلا إذا توجّه إلى أناس ينامون. ولكن "الذين ينامون ففي الليل ينامون" (1 تس 5: 7). فإذا كان الناس في لغة مرقس التصويرية مدعوين إلى السهر، فهذا يجعل موضوع الليل كخلفيّة للمثل. هل هذا تفسير دقيق وكافٍ لواقع هو أن البوّاب في المثل ينتظر عودة سيّده في ساعة من ساعات الليل؟
ب- عناصر الإستعارة في الأمثال
هناك موضوع مبدأي: نجد عناصر استعارة في أمثاله يسوع. فمنذ أيام الكنيسة الأولى إلى أيامنا، سيطر على تفسير الأمثال عنصر الإستعارة. كانوا يجدون في مثل خاص وجهات مختلفة من التعليم المسيحي عن الخلاص، فيفسرّون التفاصيل الثانوية بشكل اعتباطي. واحتجّ شّراح على هذه الطريقة فقالوا: كل مثل يعبرّ عن فكرة واحدة إليها تتوجّه الصورة كلها أو الخبر. أما التفاصيل فتخضع للفكرة الرئيسية.
ولكن تجنبناً خطراً فوقعنا في خطر آخر. لهذا، لا بدّ من قبول بعض عناصر الإستعارة في الأمثال. فيسوع عاش في محيط يهودي فلجأ إلى أساليب أدبية مختلفة عرفها هذا العالم على انتظار يتم في الليل. وفي آ 35، وبعد أن يحتفظ العرض بشكله المصور، يعود إلى التطبيق: هنا ترد فكرة وهي أن السامعين يجهلون في أية ساعة من الليل سيعود السيد. نحن أمام العودة الأسكاتولوجية (للسيّد)، كما تطبّق بشكل مباشر على السامعين. فإذا كان المثل في معرض حديثه عن العودة لا يتحدّث إلا عن السهر، يُطرح السؤال؟ ماذا يعني الليل في النظرة اليهودية؟
2- العهد القديم والعهد الجديد
أ- رمز الليل في العالم اليهودي
إذا عدنا إلى الأدب اليهودي، نرى وعياً للظلمة التي تسود في هذا العالم. هذا ما نجده في كتابات قمران حيث الوجود الحاضر يخضع لقوى بليعال، لقوى الظلمة. وهذا يشكل للمؤمن تجارب وأخطاراً ومحناً مختلفة. ولكن هذا الوضع لا يدوم إلى الأبد. فبحسب النظرات المنتشرة عند يهود ذاك الزمان، فوقت الظلمة سينتهي في يوم من الأيام بالنسبة إلى الأبرار. فساعةَ الإنقلاب الإسكاتولوجى العظيم، ستتبدّل الظلمة نوراً لهم. وتتحدّد الحياة المقبلة للمؤمنين بالله نورا أبدياً.
وإذا عدنا إلى آداب الرابانيين، ترتبط فكرة الليل بهذه المجموعة من الصور. فشعب الله يسمّي الزمن الحاضر ليلاً، والمستقبل نهاراً أو صباحاً. وما قيل في العهد القديم عن الليل، يطبّق على "ليل" هذا العالم. مثلاً نقرأ كلام بوعز لراعوت: "بيتي ليلتك هنا" (را 3: 13). أورد رابي مئير (حوالي 150 ب م) هذه العبارة وربطها "بهذا العالم الذي كله ليل". وقال مز 92: 2- 3: "ما أحسن الحمد للربّ والتسبيح لاسمك أيها العليّ. أعلن رحمتك في الصباح وأمانتك في الليالي". فجاء من طبّق الكلمات الأخيرة على الزمن الحاضر. وقال مز 104: 20 أ: "جعلت الظلام فكان الليل". ففسرّ التلمود هذه العبارة: "وضعت الظلام فكان الليل. هذا يشير إلى العالم الحالي الذي يشبّه بالليل".
وفي أش 21: 11- 12 نقرأ: "يا حارس، ما بقي من الليل، يا حارس، ماذا بقي من الليل؟ وجاء الجواب: يجيء الصبح ثم يعود الليل". قد أورد أدب الرابانيين هذا النصّ مراراً. نقرأ على لسان رابي ناتان: "أمانتك طوال الليالي" (مز 92: 3) ترتبط بالزمن الحاضر الذي يشبّه بالليالي كما كتب: قول على أدوم، صراخ على سعير: يا حارس، ماذا بقي من الليل؟ يا حارس، ماذا بقي من الليل"؟ ويطبّق نصّ أشعيا هذا على الأتقياء وعلى شعب اسرائيل. واللافت هو أن هذه الآية التي تعبرّ عن الإنتظار والرغبة خلال الليل، تعود إلى وضع شعب الله في الحقبة الحالية، إلى خلاصه، وإلى الرفعة التي ينتظرها في نهاية العالم.
ب- في العهد الجديد
هناك أمور هامة في رسائل القديس بولس. فهذا الرسول قد مرّ في مدارس الرابانيين. وكرسول مسيحي أحتلّ مكانة مميّزة في التقليد المسيحي الأولاني. وها نحن نراه، شأن الرابانيين، يلمحّ إلى الليل ليصوّر الزمن الحاضر الذي يمتد إلى مجيء الرب. وهذا واضح بشكل خاصّ في روم 13: 12: "تناهى الليل واقترب النهار". يظهر من سياق هذا النصّ أن "النهار" هنا هو اليوم الاسكاتولوجي، يوم يتمّ الخلاص. و"الليل" هو الزمن الحاضر. ولكن إذا فكّرنا في مثَل القديس مرقس، تواجهنا بعض الأسئلة: هل "الليل" كما يفهمه بولس، يرتبط بدعوة إلى السهر؟ هل نجد عنده آثاراً تتيح لنا أن نعود إلى كرازة يسوع؟
إن السؤال الأول يجد جواباً إيجابياً في النصّ. فبولس يحضّ مسيحيّي رومة على "أن يفيقوا من النوم" (روم 13: 11). لأن الخلاص أقرب إليهم مما كانوا عليه حين بلغوا إلى الإيمان. فالليل تناهى والنهار صار قريباً. ونقرأ في 1 تس 5: 4 ي أن سهر الجماعة المسيحية يرتبط بصورة الليل. قال بولس: "أمّا أنتم، أيهّا الأخوة، فلا تعيشون في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم مفاجأة اللص. لأنكم جميعاً أبناء النور وأبناء النهار. فما نحن من الليل ولا من الظلام. فلا ننم كسائر الناس، بل علينا أن نسهر ونصحو".
إذن، على المسيحيين أن يسهروا في الليل الذي يحيط بهم. وهذا الموقف يدلي على عودة المسيح، على وحي الخلاص التام. على "اليوم" (يوم الربّ) بكل معنى الكلمة.
أمّا الرباط بكرازة يسوع، فهذا ما نكتشفه يا 1 تس 5: 1 ي. في آ 2 يذكّر بولس مراسليه "أن يوم الرب يجيء كاللصّ في الليل". فنحن لا نجد صورة السارق في الليل في هذا المعنى إلا في العهد الجديد (لا في الأدب اليهودي). إذن، يجب أن نفترض أنها عنصر من التقليد المسيحي الخاصّ، وهي تعود إلى يسوع نفسه. فصورة السارق عند الإزائيين، تنبّه التلاميذ إلى ضرورة السهر. وحين ذكَّر بولس التسالونيكيين بكلمات يسوع هذه، شدّد على ضرورة السهر (1 تس 5: 6) في هذا الزمن الحاضر. وهكذا نجد نفوسنا مرتبطين بأقوال يسوع كما وردت في الإنجيل.
وهكذا نرى أن العالم اليهودي ربط صورة الليل بصورة البوّاب. فالليل يذكّرنا بالزمن الحاضر. وهذا ما وجدناه أيضاً عند القديس بولس الذي ربط ضرورة السهر في الجماعة المسيحية، بالليل والظلمة (1 تس 5: 1 ي). في هذا المعنى سنفهم التحريض على السهر كانتظار مجيء المعلّم في الليل، في ساعة لا نعرفها.
3- الليل والسهر
أ- طواعية الصور
ومع ذلك، لاحظنا داخل المثل تنافراً ظاهراً. فعودة المعلّم لا تتمّ إلا في هجعات الليل. وهذا ما لا يتوافق مع سفره إلى البعيد وغيابه الطويل. وهنا نعود أيضاً إلى الفكر اليهودي. وهنا نكتشف طواعية الصور في الشرق القديم. نردد هنا مثلاً رابانياً عن سيدة البيت وخادمتها الحبشية. وسنجد هنا بعض الشبه مع مثل مر 13: 34 ي. يُروى أنه كان لسيدة بيت خادمة حبشية. ذهب زوجها في رحلة إلى ما وراء البحار. وكانت الخادمة تقول لسيدتها طوال الليل: "أنا أجمل منك. والملك يحبّني أكثر منك". أجابتها السيدة: "سيأتي الصباح، فنعرف أينا أجمل وأينا يحبّ الملك". ويتتابع الخبر: تقول الأمم الوثنية لشعب إسرائيل: "أعمالنا ممدوحة، والقدوس تبارك اسمه يرضى عنّا". ويعود الراوي إلى أش 21: 12 و"الصباح" الذي يعني الزمن المقبل. وحين يأتي ذاك الزمن سيعرف الناس عمّن يرضى القدوس.
هذا المثل يرينا مثل مر 13 سيّداً ينطلق في سفر طويل. ثم يتركّز كل شيء فجأة على الليل: وضع العروش (شعب الله) خلال الليل والتحوّل الذي سيتمّ في الصباح حين يظهر حبّ الملك لعروسه. لليل معنى رمزي. وهو يدلّ على الزمن الحاضر، وعلى الظروف المؤلمة التي سيعرفها شعب الله.
هنا تبرز سمةٌ خاصة بأمثال الأناجيل الإزائية حول الليل. ففي مر 13: 33- 37 وفي المقاطع القريبة منه، نحن أمام عودة السيد في ساعة من الليل لا نعرفها. كان العالم اليهودي يتوق إلى مجيء الصباح، إلى مجيء النهار. في تلك الساعة يتمجّد الأبرار (وشعب الله) ويبتهجون في النور الأبدي. في المحيط اليهودي، لا تحتلّ فكرة السهر بانتظار زمن الخلاص الإسكاتولوجي، أي مكان في هذا الشكل. أما الأناجيل فتنبّه تلاميذ يسوع وجميع المسيحيين إلى ضرورة الإستعداد الدائم (نكون دوماً مستعدين)، لأن ابن الإنسان يأتي في وقت لا نعرفه ولا نتوقّعه. إن عنصر "عدم اليقين" يلعب هنا دوراً أساسياً، فيقودنا إلى زمن الليل الذي لا نعرفه والذي فيه يأتي السيّد.
حين أشار مرقس إلى الليل وهجعاته المتعاقبة، فقد لمّح إلى الزمن الحاضر وما فيه من ظلمة. على هذه الخلفية يرتسم الحضّ على السهر. بيد أن مضمون هذا التحريض لا يزال غامضاً. فإذا أردنا أن نحدد معنى الفعل "سهر" نتساءل: لماذا سمّي هذا الزمن "ليلاً"؟ لماذا يحمل سمات الليل؟
ب- أبناء النور في وقت الظلمة
حين كان المحيط اليهودي يتحدّث عن الظلمة والليل، فهو يشير إلى التجارب والمحن والآلام التي يعرفها المؤمن (والشعب) في وسط هذا العالم. سيأتي النهار ويتحوّل كل شيء. غير أننا على المستوى اليهودي، بقينا في إطار وطني. وسيعرف الشعب النصر مرّة ثانية.
أمّا في العهد الجديد، فتزول هذه "اللهجة" الوطنية. فالحرب ليست ضد أعداء من لحم ودم، بل ضدّ أصحاب الرئاسات والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلمة (أف 6: 12). هذا العالم هو في قبضة الشرير (1 يو 5: 19). رئيسه هو عدوّ الله. لقد تحوّل العالم عن الله ينبوع النور. لهذا سمّي الزمن الحاضر زمن ظلمة وليل.
ولكن في داخل هذا الليل هناك نور. ومجيء يسوع يتمّ النبوءة: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً" (أش 9: 1؛ مت 4: 16). يسوع هو نور العالم (لو 2: 32؛ يو 1: 5؛ 8: 12؛ 12: 46). فمن عاش داخل حلقة الزمن الحاضر، ينتمي إلى الليل والظلام. ومن آمن بالمسيح لا يثبت في الظلمة (يو 12: 46). وقد صوّر العهد الجديد الارتداد إلى المسيح على انه انتقال من الظلمة إلى النور. "من يعمل الشّر يكره النور... من يعمل للحقّ يخرج إلى النور" (يو 3: 20). أرسل الله بولس إلى الوثنيين "ليفتح عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، فينالوا غفران خطاياهم وميراثاً مع القديسين" (أع 26: 18). ويحدّث بولس أهل أفسس فيقول لهم: "بالأمس كنتم ظلاماً، واليوم أنتم نور في الربّ" (أف 5: 8؛ رج 1 بط 2: 9).
أن يكون الإنسان المرتد إلى المسيح والحاصل على الخلاص، قد انتقل من الظلام إلى النور، هذا لا يتضمّن أنه دخل في حياة جديدة تتميّز كل التمييز عن الظلمة، أنه لم يعد له أي اتصال بالظلمة. حتى لو انتزع من عالم الظلمة (كو 1: 13) وصار ابن النور والنهار (1 تص 5: 5)، فهو ما زال يعيش في الليل. هذا يعني أنه باقي في وضع المحنة والتجربة. فتلاميذ يسوع معرّضون دوماً لخطر السقوط، لخطر التراخي أمام قوى الظلمة، لخطر الإستسلام لشّر هذا العالم الحاضر. هناك أسباب مختلفة تؤثّر علينا في هذا المجال: من المحن والإضطهاد من أجل الكلمة، إلى اجتذاب الغنى وهموم هذا العالم (رج ست 13: 20- 21). فمن ترك العالم يتغلَّب عليه كان وكأنه نائم. فالنوم يقابل الليل، والإنسان ينام في الليل بشكل طبيعي، فلا يحتاج إلى من يجعله يسقط في سلطان الليل.
ج- السهر المسيحي
ويبرز السهر أمام الليل والنوم، فيتخذ كامل معناه في هذا المثل. ليس السهر قبل كل شيء إنتباهاً وسرعة، وان كان هذان العنصران مهمين. فإن دُعي المسيحيون إلى السهر، فلأن عليهم خلال مسيرتهم في العالم (عالم الليل) أن يحققوا دعوتهم، ويستثمروا الموهبة التي نالوها كأبناء النور، وأن يرفعوا نظرهم إلى الأمام منتظرين عودة السيد واليوم القريب.
إن للسهر بعداً اسكاتولوجياً مميزاً. فهو يوجّهنا بكلّيتنا إلى مجيء المسيح وتمام الخلاص النهائي. لسنا هنا أمام نظريات أو حسابات على الأزمنة والأوقات (مر 13: 23). بل نحن أمام موقف حياتي يدعونا إلى أن نجعل عودة المسيح أمامنا بشكل مباشر. وهذا الموقف الحياتي يبدو في المثل بشكل "خدمة السيد". فقد كلّف البوّاب أن يسهر منتظراً السيد: حين يسهر يكون أميناً لسيّده. وهو يحدّد موقع حياته بالنسبة إلى هذا السيّد. و"السهر" يعني في المثل أن تنطبع حياتنا منذ الآن بما يأتي، بالسيد، بالنهار والنور. هكذا يعبرّ المسيحيون عن وضعهم الاسكاتولوجي (هم في هذا العالم وليسوا من العالم) في هذا العالم: تحرّروا من الليل (والأعمال السيئة، يو 3: 20)، فتطلّعوا إلى عودة ابن الإنسان وإلى الزمن الذي فيه يتمّ الخلاص.
والسهر في هذا المعنى ليس بالأمر السهل. وحين نعرف طبيعة الزمن الحاضر، نفهم أن هذا لا يتمّ بدون جهاد. هذا ما يقوله لنا العهد الجديد في مقاطع عديدة. أوردنا روم 13: 11 ي: فمع التحريض على التخليّ عن النوم، نجد دعوة لكي نترك أعمال الظلمة لنلبس لا أعمال النور، بل "سلاح" النور. وهناك علاقة مماثلة بين السهر والسلاح في 1 تس 5: 6- 7؛ 1 كور 16: 13؛ أف 6: 10- 20؛ 1 بط 5: 8- 9. إن السهر يتضمّن حرباً ضد القوى التي تعمل في الليل (أف 6: 12). والسلاح الذي بين أيدينا ليس "شيئاً" خارجاً عن الحياة المسيحية. السلاح هو من واقع حياتنا. هو الإيمان والرجاء والمحبة والحقيقة والبرّ (1 تس 5: 8؛ أف 6: 13 ي). فمن تثبّت في المسيح واستفاد أعمق استفادة من عطية الخلاص، عرف الدفاع الحقيقي ضد هجمات قوى الظلمة، ضد تجربة العودة إلى الزمن الحاضر. من يتبع يسوع يسهر ويلبس سلاح الله، فيكون مستعداً لعودة الربّ.
ونتساءل: حين يجيء هذا الإنتظار الدائم لمجيء الرب، أمّا يخلّف فينا هذا السهر لامبالاة تجاه الحياة الحاضرة ومشاكلها؟ قد يكون هناك بعض الخطر. ولكنه يزول إن فهمنا حقاً تعليم يسوع. فالسهر في العهد الجديد هو أن نعيش منذ الآن الحياة الآتية، أن نستبق الحياة العتيدة. فالموقف الإسكاتولوجي لا يولّد تنكراً للعالم بل حرية حقيقية تجاه هذا العالم وما فيه من غرور وألم ومحن وتجارب.
خاتمة
السهر في زمن الليل الحاضر منتظرين الربّ العائد، هذا هو التحرّر الحقيقي. وهذا هو الفرح الذي لا يرتبط بتقلّبات الحياة، بل يخرج من ينبوع أزلي. وهذا هو السلام وسط العواصف. وهو الرجاء في عالمنا اليومي مع النظر إلى الأمام، إلى العالم الآتي، إلى ذاك اليوم القريب، يوم الرب