الفصل التاسع والعشرون: مجيء ابن الإنسان

الفصل التاسع والعشرون
مجيء ابن الإنسان
13: 24-32
فسرّ أحد الشّراح مر 13 فقال: ما يسقى "الخطبة على المجيء" أو "الرؤيا الإزائية" يعد أصعب مقاطع العهد الجديد فهماً، وأكثر مقاطع التقليد الإزائي جدالاً. فالنصوص حول "رجاسة الخراب" ومجيء ابن الإنسان في السحاب تعكس، على ما يبدو، مضموناً غامضاً. وهذا يرجع إلى أن القارئ الحديث يبدو غريباً على عالم الأفكار التي تستعمله هذه النصوص، وإلى أنه لا يعرف أن يحدّد في عالمه العقلي موقع ابن الإنسان يحيط به جوق من الملائكة، والظواهر الكونية والسماوية التي ترافق مجيئه.
لهذا يتردّد مؤوّلو العهد الجديد في طريقة فهم هذه النصوص، لأسباب عديدة. أولاً، يصعب علينا أن ندرك اللغة الجليانية (جلا، كشف. من هنا سفر الرؤيا). ثانياً، نجد بعض المرّات تردّداً في طريقة تنسيق ف 13 مع سائر تعليم يسوع. فيرى بعض الشرّاح أن يسوع لم يلق هذه الخطبة، بل إن مرقس كيّف رؤيا يهودية صغيرة وجعلها في فم المعلم بعد أن كمّلها بكلمات تفوّه بها يسوع نفسه.
ومهما يكن من أمر، نجد في هذا الفصل آثاراً واضحة للإهتمام الذي يثيره الموضوع عند عدد كبير من معلّمي الكنيسة الأولى. وهذا يظهر في الطريقة التي بها استعمل متى ولوقا المواد التي وصلت إليهما. فيبدو أن هذين الإنجيليين قد فكّرا، شأنهما شأن معلّمين آخرين، أن تقاليد الرب كانت غنية في المضمون بحيث سلّمت إلى الكنيسة كنوزاً خفيّة، فساعدتها على حلّ مشاكلها الخاصة. إن هذه الأفكار تركت أثرها في تفاصيل النصوص بحيث تتيح لنا أن نفهم أن التقليد قد تكيف مع الوضع في ذلك الزمان.
1- الدراسة الأدبية
أ- تكوين النصّ
إنّ النصّ في شكله الحالي لا يكوّن مختصراً لعرض قدّمه يسوع. فمعظم اللاهوتيين البيبليين متّفقون على هذا الموضوع، وإن اختلفت آراؤهم حول أصول عناصر النصّ. نستطيع أن نقوله إن هذا النصّ يستند إلى تعليم يسوع نفسه حوله نهاية الأزمنة. لقد رغب يسوع بأن يحذّر تلاميذه من الأخطار التي تحملها الأزمنة الأخيرة. ولكن، وإن وُجد "أساس" النصّ في تعليم أعطاه يسوع، إلاّ أن ف 13، في شكله الحالي، يعكس وضع الكنيسة الأولى مع الأسئلة التي طرحتها على تقليد يسوع ووجدت لها حلاً حين فسرّت وأعادت تفسير هذا التقليد.
تصّرف يسوع كما تصّرف عدد من المعقمين اليهود في عصره، فانطلق من العهد القديم ليوشع تعليمه حول الآخرة. فمقاطع دانيال حول نهاية الأزمنة تحتلّ مركز الصدارة في ف 13. ونجد فيها أيضاً صدى لنصوص توراتية أخرى يتميّز مضمونها بالاسكاتولوجيا.
في ذلك الوقت كانوا يعتبرون أن إيراد مقطع من العهد القديم يتضمّن مجمل إطاره. وكانوا ينتقلون من نصّ إلى آخر يحمل مضموناً مشابهاً بفضل توارد الأفكار أو الألفاظ. هذه الأطر وهذه المقاطع المتواردة مع تفسيرها، قد أغنت مضمون النصوص التي ارتبطت بالعهد القديم بهذا الشكل. إذن، حين نحاول أن نلج إلى هذه النصوص، سنحاول أن نعيد بناء هذه السلسلة من التواردات.
ب- إطار النصّ
إن المقطوعة التي ندرس هي جزء من الخطبة الاسكاتولوجية. تبدأ هذه الخطبة في آ 5، ولكنها تتوجّه توجّهاً مباشراً إلى قول حول دمار الهيكل. إنها تشكل في تأليفها الحاضر، جواب يسوع على سؤال ورد في آ 4: "قل لنا متى يكون هذا (دمار الهيكل) وما هي العلامة التي تدلّ على قرب حدوثه". لقد فسرّ صاحب سلسلة تأويلية قديمة العلاقة بين هذا السؤال والخطبة كما يلي: "طرح التلاميذ سؤالاً، فأجابهما يسوع بسؤال".
تعالج آ 5- 13 عدّة أخطار: وعّاظ يستطيعون أن يعظوا الناس، حروب وكوارث كونية، إضطهادات وخلافات داخل الأسرة الواحدة. وينتهي هذا السرد بتحريض: "من يثبت إلى المنتهى (أو: حتى الآخرة) فذاك يخلص".
وتصوّر آ 14- 23 محنة المؤمنين العظمى. وتدلّ آ 19 على معناها: تتضمّن هذه الأيام ضيقاً لم يكن مثله ولن يكون. نحن هنا أمام المحنة التي تحدّث عنها دانيال (12: 1) بالنسبة إلى الزمن الذي يسبق الآخرة. وهذا الضيق سيظهر في رجاسة الخراب التي سنهرب منها بسرعة. كما سيظهر في بروز مسحاء كذبة وأنبياء كذبة. وستهاجم قوى الشيطان المؤمنين بشكل ماكر جداً بحيث يجبر الله على التدخّل لئلا يسقط الجميع في هذه المحنة.
على هذه الخلفية المظلمة تبرز المقطوعة التي ندرس والتي تصوّر النصر الأخير، فتعود إلى السؤال الذي طرح في آ 4: "متى يكون هذا"؟ والجواب المعطى على هذا السؤال سيقود الإنجيلي بشكل طبيعي جداً إلى إنهاء المقطع بتحاريض متكرّرة: "كونوا على حذر واسهروا" (آ 33- 36). وهذا الموضوع كان قد تغلغل في كل القسم الأول من الخطبة (آ 5- 6، 9، 21، 23).
2- المجيء (13: 24- 27)
على أثر الأحداث الهائلة التي ذكرتها الآيات السابقة، صوّر مر 13: 24- 32 حدثاً يشُرف على الفصل كله. تستلهم هذه اللوحة ألوانها من العهد القديم، وتفسرّها بطريقة مسيحية صرف. فمن دانيال أخذ الإيراد المركزي في المقطع. وإن نبوءته عن المضايق تنتقل بشكل مباشر إلى تمجيد المؤمنين في 12: 1- 2 و7: 8 ي حيث يماثل "ابنُ الإنسان" "قدّيسيّ العليّ الذين لهم الملكوت" (دا 7: 18، 22، 27). مقابل هذا، يرى مرقس أن ابن الإنسان هو يسوع الذي سيأتي. ثم يصوّر وحي المسيح، ابن الإنسان، بسمات تميّز في العهد القديم الوحي الإلهي عن "يوم الرب". وهكذا نكون مرة ثانية أمام تفسير مسيحي.
أ- المشهد (آ 24- 25)
إذن، تنفتح أمامنا نظرة شاملة (على مستوى الكون) تستعمل صوراً من العهد القديم حول يوم يهوه، يوم الرب (أش 13: 10؛ 34: 4؛ يوء 2: 10؛ 4: 15). فأمام بهاء المسيح الذي هو بهاء الرب، يرتجف الكون، ترتعد الخليقة القديمة وتزول الأزمنة العتيقة، ويظهر ملكوت الله في كل مجده. لا شك في أن عرض "نجوم تتساقط من السماء" يفترض نظرة معروفة إلى العالم: ففي اللغة البيبلية تدلّ "القوى التي في السماء" على أجسام سماوية.
وقد ظنّ بعض الشّراح، أنه يجب أن نتذكّر أن بداية الأزمنة توافق النهاية كما تقول كتب الرؤى اليهودية والمسيحية. وهكذا نعود بهذا العبور إلى الظلمة والخواء اللذين كانا سائدين قبل عمل الخلق، وهذا الخواء يسبق هذه المرة الخليقة الجديدة (رؤ 21: 1).
ويرتبط هذا المشهد ارتباطاً زمنياً بضيق المؤمنين الكبير الذي يذكره القسم السابق من الخطبة. يبدو أن النص يقوله في هذا المجال "نعم" و"كلا". "نعم" على السؤال: هل يعني وقت الضيق هذا أن النهاية قريبة؟ ولكن الذين يلحّون: هل نستطيع أن ننتظر في الحال نهاية اليوم الذي يحلّ فيه هذا الضيق؟ يسمعون الجواب: "كلا"، ليس الآن بل فيما بعد. من المعقول أن هذا "النعم" وهذا "الكلا" يتوجّهان إلى الكنيسة الأولى التي أحسّت بالضيق وتساءلت متى يعود الرب. ولكن من المعقول أيضاً أن مرقس جمع هذا الضيق مع الأحداث المتعلّقة بدمار أورشليم سنة 75. إن هذه الملاحظات تثير أسئلة خطيرة. ما هي العلاقة بين تعليم المعلّم وتفسير هذا التعليم في الكنيسة الأولى؟ هل يتوجّه هذا السؤال إلينا نحن أيضاً؟ سنعود إلى كل هذا حين ندرس آ 30- 32.
ب- ابن الإنسان
على خلفية عالم متزعزع مثل هذا، ترتسم صورة ابن الإنسان التي تصوّر بكلمات دا 7: 13- 14. و"السحاب" لا يدلّ على موكبة بقدر ما يدلي على حضور الله. هكذا اعتاد الكتاب المقدّس أن يصوّر هذا الحضور (خر 13: 21؛ 19: 9؛ 2 أخ 5: 13؛ مت 17: 5). وحين يظهر المسيحُ قدرته ومجده، سيراه العالم كله. إن يقين مجيئه سيتعارض مع الأخبار الكاذبة التي أشار إليها 13: 22 (رج مت 24: 27- 28).
أخذت صورة ابن الإنسان مع ما يرافقها من دانيال ومن مقاطع أخرى من العهد القديم. وهذا ما يتضمّن معطيين أساسيين للكرستولوجيا (كلام عن يسوع المسيح). أولاً، حين تطبّق سمات أخبار التوراة عن يوم يهوه على صورة لمجيء ابن الإنسان، فهذا لا يعني أن الله لم يعد حاضراً في لوحة النهاية، بل يعني أن مجيء المسيح يدلي على تدخّل الله نفسه في يوم يهوه. ملكوت الله يظهر، قدرة الله تتجلى، خلاص الله يتحقّق بواسطة ابن الإنسان: إله حقّ من إله حقّ.
ثم إن ابن الإنسان في دا 7 يرمز إلى الشعب المقدّس. أما حسب تفسير يسوع، فابن الإنسان هو شخص فرد، هو يسوع نفسه. وهو يعطي حياًته فداء عن الكثيرين (10: 45) ويتماهى مع أحقر إخوته (مت 25: 40، 45). إذن، تتوافق هذه النظرة إلى ابن الإنسان مع العبارات اليوحناوية: "اثبتوا في كما أنا فيكم" (يو 15: 4). "أنا فيهم" (يو 17: 23). ومع كلام بولس: "في المسيح". فالإله الذي لا يقاومه شيء، لا يكون إلهاً مجرّداً، إلهاً في ذاته، بل ذاك الذي يلتفت إلينا كما كشف عن ذاته في ابن الإنسان، يسوع الناصري. "فيه" وُضع جسر فوق الهوّة التي تفصل الإنسان عن الله. إنه الشخص الرئيسي في هذا المشهد.
ج- تجميع المختارين (آ 27)
أراد مرقس أن يراعي هدف الخطبة الاسكاتولوجية واتجاهها، فلم يتحدّث هنا عن سحق الشرّ ولا عن دينونة العالم، مع أن النصوص التوراتية المستعَمَلة في آ 24- 25 التي تصوّر مشهد المجيء، تتطرّق كلها إلى دينونة الله. ولَهجة التحريض والتعزية التي تميّز هذا التعليم تدلّ على أن هدف المجيء الأساسي هو تجميع المختارين.
في العهد القديم، الله هو الذي يجمعهم (تث 30: 3- 4؛ زك 2: 10؛ أش 27: 12؛ 43: 5 ي). وهو يأمر الملائكة (مز 18: 11؛ 104: 4؛ دا 7: 10) فتطيعه. حسب الإنتظار اليهودي، الله يجمع يهود الشتات ويأتي بهم إلى الأرض المقدّسة. أما هنا، فالمسيحيون، أعضاء إسرائيل الجديد، سيُجمعون من كل مكان لكي يدخلوا في ملء الإتحاد مع الله. وربهم نفسه، ابن الإنسان، يتمّ ما وعدهم به: "سأعود لاخذكم معي فتكونون أنتم أيضاً حيث أكون أنا" (يو 14: 3).
د- لغة مليئة بالصور
سبق ولمّحنا إلى حيرة المسيحي اليوم حين يقرأ مثل هذا النصّ. كيف تتساقط النجوم؟ هل يأتي ابن الإنسان حقّاً إلينا على سحابة؟ هل سيجمع المؤمنين من كل مكان وكل زمان كما يجمع الراعي خرافه؟
نذكّر هنا أن مواضيع ونصوص التوراة التي تشبه تلك التي نقرأ في مر 13: 24- 32 لم تكن تفسرّ في زمن العهد الجديد بشكل حرفي، بل بحسب بُعدها "اللاهوتي" أو الروحي. لهذا، فمن الممكن أن الإنجيلي وقرّاءه الأولين لم يفهموا هذه التفاصيل على حرفيتها. إذن المسألة الحقيقية هي أن ندخل إلى رمزية هذه الصور. ولا ننتظر أن نكتشف فيها مدلولاً واضحاً ونهائياً. بل نحن في عالم الحدس أكثر منه في عالم المنطق والفكرة الواضحة. ونعطي مثلاً. حاولنا أعلاه أن نترجم تلوّيات الكون بلغة وحي عن ملكوت الله والخليقة الجديدة. وذكرنا المجيء (باروسيا) حين تحدّثنا عن قدرة الله ومجده في المسيح، كما يتجلّيان للبشر، وعن اتحاد المخلّصين فيه. وتجميع المختارين هو اتحاد تام وأبدي مع الله "في المسيح".
3- متى يحدث (13: 28- 32)
هذا هو سؤال التلاميذ الأربعة الذي افتتح هذه الخطبة: "قل لنا متى يحدث هذا وما هي العلامة التي تدلّ على قرب حدوثه" (آ 4)؟ "كل هذا" يدل أولاً على نهاية الهيكل كما أعلنها يسوع (آ 2). ويدلّ أيضاً (كما يشير إليه مضمون الخطبة وصدى دا 12 في السؤال) على نهاية العالم والمجيء. من الواضح أن آ 28- 32 في تدوين مرقس، توافق هذا السؤال الأول. لنلاحظ فقط اختيار الألفاظ لا سيما في آ 30: "حتى يتمّ هذا كله". سنتفحّص أولاً مثل التينة (آ 28- 29) ثم الأقوال الثلاثة التي تتبع (آ 30، 31، 32). غير أنه يجب أن نلاحظ تماسك هذه المجموعة الصغيرة. ترتبط آ 30 مع آ 29 بعبارة "يتمّ هذا" المستعملة في الآيتين. ثم إن آ 31 تستعيد مرتين فعل "زال" الذي تأخذه من آ 30. إن هذا التكرار للألفاظ يدلّ على أن مضامين الآيات ترتبط بعضها ببعض، وهكذا لا يمكن أن ننسب إلى عبارة "كل هذا" في آ 30 عنواناً مختلفاً عن "هذا" لا آ 29 (رج آ 4).
أ- مثل التينة (آ 28- 29)
إن اختيار الصورة المستعملة في هذا المثل الصغير، لما يأتِ صدفة. ففي العهد القديم، ترتبط صور الصيف والقطاف بإعلان النهاية، بالنجاة الأخيرة، بالدينونة (يوء 4: 17؛ عا 8: 1 ي؛ أش 28: 4؛ إر 8: 20). ما يحصل للتينة في الربيع يشبه العلامات التي تعدّدها بداية الخطبة. حين يرى المؤمنون الأنبياء الكذبة، والمجاعات، ورجاسة الخراب... يجب أن يعرفوا أن النهاية قد حلّت.
لا تتحدّث آ 29 عن قرب الحدث. بل عن قرب ابن الإنسان. إذا ترجمنا النصّ حرفياً قرأنا: "إعرفوا أنه على الأبواب". إن صورة الرب الواقف على الباب نجدها في يع 5: 9 (الديّان واقف على الباب) وفي رؤ 3: 20 (ها أنا واقف على الباب أدقّ) وهي تدلّ على المجيء.
من الممكن أن يكون هذا النصّ من تأليف مرقس، كما سبق وقلنا. إذن، هو الذي يفسرّ هنا التقاليد التي تسلّمها. هو الذي يجمع بين مصير أورشليم (آ 1- 2، 14 ي) والآخرة. هو الذي يجعل الرسل يطرحون السؤال: "متى"؟ وهو الذي يجعل يسوع يجيبهم. غير أنه استعمل من أجل هذا مواد قدّمها له التقليد. أراد أن يقول لمسيحيّ عصره: تنبّهوا، لأنكم لا تدركون منذ الآن علامات عن اقتراب الرب. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال: ما هي العلاقة بين المعلّم والإنجيلي؟ ماذا أراد يسوع أن يقوله؟ هذا ما نعود إليه فيما بعد.
ب- أقوال ثلاثة حول "متى" (آ 30- 32)
أولاً: قول حول "هذا الجيل" (آ 30).
كانت مجادلات المؤوّلين حول هذه الآية حامية جداً ومتشعّبة. ناقشوا أصل هذه الآية: هل هي من الإنجيلي، من الجماعة الأولى، أم من يسوع؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، ما هو الإطار الأصلي الذي قيلت فيه؟ يبدو أن الإنجيلي هو الذي دوّن هذه الآية، ولكنه استعمل تقاليد تعود في جذورها إلى يسوع. رج مر 9: 1؛ مت 23: 36 (هذا كله سيقع على هذا الجيل).
وكانت مناقشة حول مضمون هذا القول. ما معنى "هذا كله"؟ وكيف نفسرّ "هذا الجيل"؟ لا بدّ من القول بأن "هذا كلّه" يدل على دمار الهيكل والكوارث التي تسبقه، كما يدلّ على النهاية. هذا ما نستشفّه من بداية الخطبة (آ 2- 4) ومن الخطبة نفسها. والإنجيلي يعلن أن كل هذا يحصل خلال "هذا الجيل".
دافع بعض الشّراح عن رأي يعلن أن هذه اللفظة تحمل كلاماً "محقِّراً" (جيل شّرير وغير مؤمن، مت 12: 38- 45؛ 17: 17؛ مر 8: 38؛ لو 9: 41؛ أع 2: 40؛ فل 2: 15). ولكن إن تضمنّت إشارة "محقّرة" لأنها تدلت على اليهود الذي لا يؤمنون بالمسيح ولا بتعليم الكنيسة، إلا أنه يبدو لنا من الضروري أن نرى فيها هنا معنى زمنياً: هو الجيل المعاصر للإنجيلي.
حين قرأ مسيحيّو الكنيسة الأولى هذا الفصل، أحسّوا أنهم معاصرون لـ "هذا الجيل" وبالتالي مثبّتين في انتظارهم للرب. ولكن في الوقت عينه، يُبقي النصّ على غموض "هذا الجيل" الذي ارتبط بالعالم اليهودي. فقد رأى المسيحيون دينونته في دمار الهيكل. وهكذا تنعش هذه الآية الإنتظار الاسكاتولوجي وتهدّئه في الوقت عينه، فتمنع كل محاولة لتحديد تاريخ النهاية. وسنجد هذه الثنائية أيضاً في آ 32.
ثانياً: يقين أقوال يسوع (آ 31)
وإذ أراد الإنجيلي أن يشدّد على أهمية الإطار، أقحم هنا قولاً أخذه من التقليد. وحسب هذا القول يعطي يسوع لكلامه السلطة الممنوحة لكلام يهوه في العهد القديم. أش 40: 8 (أما كلمة الهنا فتبقى إلى الأبد)؛ 51: 6 (أما خلاصي فمدى الدهر، وعدلي لا يسقط أبداً)؛ 54: 10؛ إر 33: 25- 26؛ رج رؤ 22: 6؛ مت 5: 18.
إن الله خلق بكلمته السماء والأرض، أي الكون كلّه (تك 1: 1 ي؛ مز 33: 6؛ يو 1: 3). وبهذه الكلمة عينها هو يحمل الكون ويدبّره. فالكتاب المقدّس يرى أن لا شيء أثبت في هذا العالم من أساسات الأرض (مز 93: 1؛ 104: 5). فإن أعلن بعض الكتاب أن هذه الأساسات تتزعزع وتنحلّ (مز 102: 27؛ أش 24: 18 ي)، فهم يؤكّدون أن كلمة الله ثابتة عبر كل شيء. والنصّ الذي ندرس يعلن انحلال الكون (آ 24- 25). ولكن كلمات الرب تبقى ثابتة (آ 31) لأنها تستند إلى سلطة الله التي لا شيء يزعزعها.
رتّب الإنجيلي تأليفه فشدّد على أن هذا اليقين يرتبط بتعليم يسوع عن النهاية، بإعلانه عن اقتراب هذه النهاية، بقوله في آ 32 الذي يعلن أن الابن لا يعرف التاريخ الدقيق.
ثالثاً: لا يعرفها إلا الآب (آ 32)
إن لهذه الآية وظيفة دقيقة في تأليف مرقس. لأنّ إحدى المسائل التي أثارتها خطبة يسوع عن النهاية كانت سؤال عن "متى". متى تأتي النهاية؟ متى يظهر الخلاص؟ متى يعود الرب؟ إن الذين أرادو أن يعرفوا التاريخ الدقيق لاقوا رفضاً لكلّ إيضاح في هذا الموضوع. قال لهم مرقس: يسوع نفسه لا يعرف "ذلك اليوم وتلك الساعة". وأنتم تريدون أن تعرفوهما مسبقاً، فتبدأون بالحسابات.
نتوقّف قليلاً عند تفاصيل هذه الآية. إن عبارة "ذلك اليوم" هي موازية لعبارة "تلك الساعة". وللعبارتين المدلول عينه تقريباً (رج مت 24: 50: يوم لا ينتظره، ساعة لا يعرفها؟ 25: 13: لا تعرفون اليوم ولا الساعة). "ذلك اليوم" هو ترجمة لعبارة "يوم الرب (زك 14: 6: في ذلك اليوم لا يكون نور، أش 2: 11، 17: في ذلك اليوم الرب وحده يتعالى) الذي صار يوم ابن الإنسان (2 تس 1: 10: عندما يجيء في ذلك اليوم ليتمجّد في قدّيسيه).
إن تاريخ ذلك اليوم يبقى خفياً على الملائكة. كانوا يعتبرون أن الملائكة يكوّنون مجلس العلي، ويتمّتعون هكذا بمعرفة خاصة للأسرار الإلهية. غير أن العالم اليهودي والكتّاب المسيحيين في ذلك العصر اعتبروا أن الله احتفظ لنفسه ببعض الأسرار الأساسية (رج أف 3: 10؛ 1 بط 1: 1: 12). وإن تاريخ النهاية ينتمي إلى مثل هذه الأسرار كما يقول نصّ مرقس.
بيد أن هذا النصّ بدا صليباً حقيقياً للشّراح، لأنه ينسب إلى الابن جهل تاريخ النهاية، كما نسبه إلى البشر والملائكة. أيكون الابن أقلّ من الآب على مستوى المعرفة؟ كيف يبقى تاريخ النهاية سرّ الآب؟ فهناك تعارض صارخ بين نصّ مرقس ومت 11: 27 حيث يعلن يسوع: "أعطاني أبي كل شيء. ما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن". إذن، ألم يعطِ الآب الابن كل شيء؟ ويأتي حلّ هذه الصعوبة الكرستولوجية كما يلي يتحدّث مت 11 عن مهمة الوحي التي حملها يسوع من أجل خلاص العالم. ولهذا السبب تسلّم من الآب ملء السلطان وملء الوحي. ولكن قد يكون جهل بعض النقاط في مخطّط الله اللاحق، كما أعلن بشكل صريح. يجب أن نفهم هذا الجهل في إطار التجسّد الذي به تخلىّ يسوع بإرادته عن عدد من امتيازاته الإلهية (2 كور 8: 9: افتقر وهو الغني؛ فل 2: 6- 7: أخلى ذاته) ليقاسم بشكل عميق البشر في حالة الضعف التي يعرفون.
ج- أقوال يسوع أو أقوال الإنجيلي
ميّزنا كثر من مرّة بين تقليد يسوع وتأليف الإنجيلي بما فيه من جدّة وخلق. ليس الإنجيلي آلة تسمع وتسجّل أو تكتب. إنه شخص حيّ له طريقته لا الكتابة. ولهذا يختلف مرقس عن لوقا. ثم إن الإنجيلي لا يكتب بصورة إفرادية مثل باحث من الباحثين. إنه صوت الكنيسة التي عاش فيها. هذه الكنيسة قد تسلّمت تقليد الرب وتأمّلت فيه حوله رسول من الرسل، حول شاهد عيان (لو 1: 2)، وقرأته على ضوء الأسفار المقدّسة. ولما تدوّن الإنجيل كان نتيجة ما عاشه يسوع وقاله وعمله، ما اكتشفته الكنيسة ككلّ أو جماعة من الجماعات، وما عرفه الإنجيلي من خلال أبحاثه (لو 1: 3: تحقّقت بدقّة جميع الأشياء) واختبره داخل هذه الكنيسة.
هنا نطرح سؤالين بالنسبة إلى هذا النصّ في مرقس. الأول: ما هي العلاقة بين تعليم يسوع وتفسير هذا التعليم في كتاب الإنجيلى؟ الثاني: هل كان الإنجيلي أميناً لتعليم يسوع أم أنه شوّهه؟ نلاحظ أولا أن المفسرّين يجدون صعوبة لكي يعلنوا بتأكيد "تاريخية" كلمات يسوع. هناك عشرات السنين. هناك انتقال من محيط إلى محيط، ومن لغة (الآرامية التي تكلّم فيها يسوع) إلى لغة (اليونانية التي فيها دوّنت الأناجيل). لهذا، فالمواد كما وصلت إلينا لا تتيح لنا أن نؤكّد ما هو حرفيّ من المسيح، وما هو حصيلة تأمّلات الكنيسة وبحث الإنجيلي.
سبق وقلنا إن الخطبة الاسكاتولوجية تتأسّس على تعليم يسوع، كما فسرّه المعلّمون في الكنيسة الفتية (ومنهم مرقس) وفسرّوه وكيّفوه ليتوافق مع حاجات الكنيسة (هناك شّراح عديدون يعتبرون أن القسم الأكبر من الخطبة لا يعود إلى يسوع). إنّ "أساس" هذه الخطبة العائد إلى يسوع يتكوّن من نبوءات حول المضايق والإضطهادات المختلفة، حوله ما يحدث للهيكل، حول المجيء. وتضمّن هذا التعليم لا كل مرّة تنبيهات وتحريضات لتعدّ المؤمنين للأخطار التي تهدّدهم، ولتشجّعهم في ذلك الوقت التي تهاجم فيه قوى الشيطان ملكوت الله بعنف لا مثيل له.
تأمّل معلّمو الكنيسة. في هذه المعطية الأساسية (ومنهم بولس الرسول، 1 تس 4: 13- 5: 4؛ 2 تس 2: 1- 17). وأعاد مرقس صياغتها. ونحن نستطيع أن نتصوّر إعادة تفسير التقليد وتكييفه على الشكل التالي. آمن المؤمنون في الكنيسة الأولى أن يسوع هو حامل الوحي الإلهي النهائي. لهذا امتلأ تعليمه وتقليد تعليمه بحكمة الله. واكتشف أناس نعموا بروح الحكمة فاكتشفوا في كلمات يسوع معاني جديدة تنطبق على المشاكل الحالية.
مثل هذا التفسير جعل نصّ مرقس يدمج عنصرين: دمار هيكل أورشليم، نهاية العالم. لا شكّ في أن يسوع أنبأ بدمار الهيكل وفسرّه على أنه دينونة الله في شعبه. وجاء الإنجيلي (أو تقليد سابق له) فدمج هذا الإنباء مع الاسكاتولوجيا. وهكذا طبّق تعليم يسوع على وضع معاصريه فنبّههم وهيّأهم كما سبق ليسوع فهيّا تلاميذه للساعات الحالكة.
من جهة، توجّه إلى أناس تراخوا في انتظارهم فلم يعودوا يعيشون في النظرة الاسكاتولوجية، بل تكيّفوا مع هذا العالم وأخذوا روحه. ومن جهة ثانية، عارض أناساً ظنّوا أن النهاية قد حلّت. قال مرقس للأولين: كونوا على حذر، إسهروا. فهناك أحداث وتصّرفات تدلّ على أن الضيق الاسكاتولوجي هو هنا. ثم قال للآخرين: لم يأتِ الإنقضاء بعد. فالابن نفسه لا يعرف اليوم ولا الساعة.
وهكذا فسرّ مرقس تعليم يسوع بالنظر إلى وضع كنيسة رومة، بل إلى وضع الكنائس.
خاتمة
كل هذه الخطبة حول نهاية الأزمنة، ترتبط في النهاية بنظرة متفائلة في أعماقها. فقد يستطيع الشر أن يفعل من وقت إلى آخر. ولكنه لا يستطيع إيقاف زخم العالم الجديد الذي أدخلته في العالم قيامة المسيح وعطية الروح القدس.
أجل، النهاية بدأت مع موت يسوع وقيامته. والكنيسة تعيش منذ موت يسوع زمن النهاية. ولكن على كل واحد منا أن يعيش هذه النهاية في موته الخاص، بانتظار نهاية العالم في مجيء المسيح الثاني. وفي أي حال، النهاية هي عودة إلى بيت الآب بالنسبة إلى المؤمن، وعودة الخليقة كلّها إلى مجد الله بالنسبة إلى العالم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM