الفصل الثامن والعشرون
الخطبة الاسكاتولوجيّة
13: 1- 23
إختلفت خطبة مر الاسكاتولوجيّة عن خطبة مت التي زادت على صورة دمار أورشليم والهيكل، صورةَ نهاية العالم. احتفظت بالاتجاه الاولاني الذي لا يُعنى إلاّ بدمار أورشليم. ولقد رأى بعض الشرّاح في نصّ مر رؤية يهودية صغيرة استلهمت دا في آ 7- 8، 14- 20، 24- 27 وكملّتها بأقوال يسوع (آ 5- 6، 9- 13، 21- 23، 28- 37). لا نجد شيئاً في هذه الأقوال ولا في الرؤيا اليهودية الأساسية إلا إعلان أزمة مسيحانية وفداء متوقّعاً للشعب المختار. وقد تمّ في دمار أورشليم وقيامة المسيح ومجيئه في الكنيسة. غير أننا لن نتوقّف عند آ 23، بل نواصل القراءة حتى آ 27.
1- نظرة عامّة
يشكل ف 13 حالة فريدة في إنجيل مرقس: هنا ينسب الإنجيلي إلى يسوع خطبة حقيقيّة تمتدّ بدون إنقطاع على 23 آية (آ 5- 37). وبهذا يتميّز ف 13 عن ف 4 الذي هو "خطبة" ثانية ليسوع. ولكنها في الواقع مجموعة تعاليم بشكل أمثال تتميّز بعضها عن بعض بسبع حواش تدلّ على أن يسوع بادر إلى الكلام (4: 1، 2، 11، 13، 21، 24، 26، 30). أما ف 13، فيتوّسع بشكل متواصل في 33 آية. إذا كان مرقس الذي لا يحبّ الخطب الطويلة، قد احتفظ بهذه الخطبة، فهذا يعني أنه علّق عليها أهمية خاصة.
تتألّف هذه الخطبة من عناصر مختلفة. بل معبرّة. فنلاحظ مثلاً على المستوى الغراماطيقي أن الأفعال في الخطبة ترد 27 مرة في صيغة المضارع. وهذه هي الصيغة التي تليق بوحي حول الأحداث المقبلة. ونجد أيضاً 21 فعلاً في صيغة الأمر، وهي الصيغة التي تدلّ السامعين على السلوك الذي يُنتظر منهم في هذه الظروف. هذه الملاحظة السريعة تنبّه القارئ إلى أمرين يميّزان هذه القطعة: فهي تجمع جمعاً وثيقاً بين أحداث تُعلن لمستقبل قريب أو بعيد، وتصّرفات تُفرض على السامعين بسبب هذه الأحداث.
ونتوقّف عند الطريقة التي بها ألّف الإنجيلي هذه الخطبة. هنا يختلف الشّراح. منهم من يقسمها قسمين. وآخرون ثلاثة أو أربعة... مثل هذا الاختلاف يدعونا إلى الحاجة لمعايير تكشف لنا وجهة الإنجيلي نفسه. هنا نجد: وصلات كرونولوجيّة. وصلات إرشادية. تضمينات.
أ- وصلات كرونولوجيّة
هي أول ما يلفت الانتباه، لأنها تقع مباشرة في خطّ السؤال الذي يبدأ الخطبة: "قل لنا متى (بوتي) يكون هذا، وما (تكون) العلامة حين (هوتان) يكون كل هذا مزمعاً أن يتمّ" (آ 4).
نلاحظ أولاً الوصلتين اللتين هما صدى مباشر للسؤال الذي ورد في البداية: "فحين (هوتان دي) تسمعون بالحروب" (آ 7). "فحين (بودان دي) ترون رجاسة الخراب" (آ 14). إن لهذين التحديدين الزمنيين بُعداً نبوياً. فالتحديد الأول يجد امتداده في نهاية آ 7: "لا يكون بعدُ المنتهى". ونهاية آ 8: "هذا يكون بداية الأوجاع". إن الثانية تشرف على الظرف الزماني في آ 14 ب: "حينئذٍ (توتي) وفي آ 21: "وحينئذٍ" (كاي توتي).
إن آ 24 تبدأ الحدث الحاسم لمجيء ابن الإنسان بإشارة زمنية تدلّ أكثر ما يكون على الظرف الذي فيه دوّنت الخطبة كلها. "ولكن في تلك الأيام، من بعد ذلك الضيق". هذه الإشارة تجد امتداداً لها في تحديدين يبدأ ان آ 26 وآ 27: "وحينئذٍ".
أما بالنسبة إلى الزمان الذي تشير إليه آ 24- 27، فمثلُ التينة يعيدنا إلى الوراء، لأنه يدلّ التلاميذ على ما يجب أن يفهموا "حين يرون هذا" (هذه الأشياء) (آ 29): هي عبارة تكرّر ما في آ 14. ونستطيع بصعوبة أن نفصل عن آ 28- 29، الإعلان الاحتفالي في آ 30 التي تشير إلى اقتراب زمان حصول الأحداث التي تكلم النصّ عنها. "الحقّ أقول لكم: لا يزول هذا الجيل حتى يكون هذا كله". وتُسند النبرة الاحتفالية لهذا الإعلان الطريقة التي بها تشدّد آ 31 على السلطة الإلهية لكلام يسوع: "السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلا يزول".
وتُعنى آ 32 بمسألة زمنيّة تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تحدّثت عنها الآيات السابقة: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة...". قد نستطيع أن نترجم: "مقابل هذا (دي)، في ما يخصّ (باري) هذا اليوم وهذه الساعة". وتستخرج آ 33- 37 من جهل اليوم والساعة، استنتاجاً عملياً: السهر. ويسند هذا التحريضَ تكرارُ الإشارة الزمنية في آ 32، مع تنوّع في الألفاظ: "لا تعرفون متى (بوتي) هذا يكون زمانه" (آ 33). "لا تعرفون متى (بوتي) يجيء ربّ البيت: أو في المساء، أو في نصف الليل. أو عند صياح الديك" (آ 35).
إن مجمل الإشارات الكرونولوجيّة تدلّ على اجزاء مميّزة (في الخطبة) تتعلّق بحقبات زمنيّة مختلفة: تنظر آ 7- 8 إلى حقبة لا توافق حقبة الضيق العظيم في آ 14- 23، ولا حقبة مجيء الإنسان التي صوّرتها آ 24- 27. وتتحدّث آ 28- 31 عن اقتراب الأحداث. أما آ 33- 37 فتشدّد على جهل الوقت المحدّد.
ب- وصلات إرشاديّة
تبدأ الخطبة بوصلة إرشادية. فاللفظة الأولى في آ 5 هي صيغة الأمر: انظروا (بلاباتي، أي احذروا). وفي آ 9: "كونوا على حذر". في آ 23: "كونوا أنتم إذن على حذر". وأخيراً في آ 33: "احذروا واسهروا". إن هذه التحذيرات تعطي الخطبة لونها.
في النهاية، يرتبط فعل الأمر (احذروا، بلاباتي) بفعل أمر آخر (اسهروا). فمن فكرة تدعو ألاّ ننام، ينقلنا مثل البوّاب إلى فكرة "السهر" (آ 34). وحين يتكرّر فعل (اسهروا) تنتهي الخطبة (آ 35 و 37). وهكذا تحدّد "الحذر" الذي في البداية، ولكن لم تتبدل طبيعته حقّاً.
تحذيرات (آ 5، 9، 23) تصل بنا إلى نداءات للسهر (آ 33- 37). ونقرّب منها نداءات إلى العلم (الفهم) في آ 28- 29: "من التينة تعلّموا المثل...: تفهمون أدن الصيف قريب. كذلك، إذا ما رأيتم هذه الأشياء تحصل، افهموا أنه قريب على الأبواب".
ونستطيع أن نقول أيضاً إن التحذير الأول (آ 5) يجد امتداداً له في صيغة الأمر في آ 7: "لا تقلقوا". والتحذير الثاني في آ 9 يجد امتداده في آ 11 (مع الأمر): "لا تهتموا مسبقاً". كل هذا يصل بنا إلى القول الذي يبدو بشكل إرشاد غير مباشر: "فمن يثبت حتى المنتهى، فذاك يخلص". إن التنبيه في آ 23 ينهي قسماً فيستعيد في طريقة تميّز الخطبة، توصية كانت قد وجدت لها تعبيراً دقيقاً: "لا تصّدقوا" (آ 21).
هذه التغييرات حول الحذر الذي يخترق الخطبة من البداية إلى النهاية، يمنعنا من وضع تقسيمات داخل كتل صغيرة مثل آ 5- 8؛ 9- 13؛ 12- 23؛ 28- 29؛ 33- 37.
خ- التضمينات
تشكّل التضمينات نمطاً آخر من العلامات التي نأخذها بعين الاعتبار. بعضها خفيف جداً. مثل ذاك الذي يدلّ على وحدة آ 33- 37 (اسهروا... اسهروا). ولكن الأمر يختلف مع تضمين يؤمّن رباطاً خاصاً بين بداية الخطبة والتحذير في آ 21- 23.
في آ 4، سأل التلاميذ يسوع: "قل لنا (ايبون هامين) متى تكون هذه الأشياء". وجاء جواب يسوع بالكلمات التالية: "فأخذ يسوع يقول لهم" (لاغاين). وينتهي هذا الجواب بنهاية آ 23: "قلت لكم مسبقاً (بروايريكا هيمين) كل هذه الأشياء" (أنذرتكم). كانت كلمة يسوع الأولى: بلاباتي)، احذروا (آ 5 ب). وفي آ 23 أ: "أنتم إذن، احذروا". في آ 5 ب 6 دلّ هذا الحذر على خطر الضلال: "احذروا أن يضللكم أحد (بلاناوو): كثيرون سيأتون باسمي... ويضلّون الكثيرين". ونجد الخطر عينه في آ 21- 22، ولكن بألفاظ أوضح: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة... ليضلّوا المختارين، إذا استطاعوا".
هذه الملاحظة تبيّن أن آ 21- 23 (في علاقتها ببداية الخطبة) تبدو كنهاية. لانهاية الخطبة التي لم تنتهِ بعد. بل نهاية الجواب على السؤال الذي طُرح في آ 4. بدا هذا السؤال قصيراً. ولهذا كانت الإضافات في آ 24- 37. ولكن حتى الجواب بالمعنى الحصري قد أكمل: أولاً، بتنبيهين يحيطان به كالإطار (آ 5- 6، 21- 23). ثانياً، بتحذير آ 9- 13. طلب التلاميذ الأربعة إيضاحات، فجاء جواب أوّل في تعداد الكوارث التي سنسمع بها دون أن يكون لها مدلول تحذيري. وجواب ثان في المشهد المخيف الذي تتحدّث عنه آ 14 أ (رجاسة الخراب) والذي هو علامة عن ضيق لم يسمع به أحد: هذا ما يدلّ عليه نداء يدعو المؤمنين إلى أن يهربوا حالاً. وإعلان يقول إن الله يقصّر هذه الأيام من أجل مختاريه.
من أجل هذا كله، نحافظ على وحدات قصيرة تسبقها مقدمة (آ 1- 4). هذه الوحدات هي: 5 ب- 6، 7- 8، 9- 13، 14- 20، 21- 23، 24- 27، 28- 31، 32- 37.
2- مناسبة الخطبة (13: 1- 4)
حين وصل يسوع إلى أورشليم، دخل مرة أولى إلى الهيكل ولم يتأخّر هناك (11: 1). وعاد في اليوم الثاني، فطرد منه الباعة (11: 15- 18). وبعد غد، عاد مرة ثالثة جعل فيها الإنجيلي أحداثاً عديدة يوردها في 11: 27- 12: 44. في 13: 1، ترك يسوع الهيكل بشكل نهائي. حينئذٍ قدّم جوابه لتلاميذه: أعجبوا بضخامة البناء والحجارة التي جُعلت فيه، فأعربوا عن إعجابهم. حينئذٍ أعلن يسوع: "لن يبقى هنا حجر على حجر إلاّ وينقض" (آ 2).
حينئذٍ ذهب يسوع وجلس "على جبل الزيتون تجاه الهيكل" (آ 3). في ذلك الوقت جاءه أربعة من تلاميذه، وقد سمّاهم مرقس: بطرس، يعقوب، يوحنا، اندراوس. وسألوه "على حدة" (كاتيديان). إن مرقس يهتمّ جداً بالأوضاع التي فيها يكون يسوع "على حدة" بالنسبة إلى الجمع. يكون مع تلاميذه (أو مع بعض منهم) ليقدّم لهم تعاليم محفوظة لأشخاص حميمين (4: 10- 34؛ 6: 31- 32؛ 7: 33؛ 9: 2- 28).
تلفظ يسوع بالخطبة الاسكاتولوجيّة أمام أربعة تلاميذ فقط، فبدت للوهلة الأولى كأنها تفسير سرّي عن دمار الهيكل الذي أشار إليه يسوع بشكل علني قبل ذلك الوقت بقليل. إن هذا الإطار يوافق الوحي الجلياني الذي ينطبع بطابع باطني.
إن السؤال المطروح في آ 4 يحدّد عادة برنامج الإيحاءات التي تلي: "قل لنا: متى يكون هذا، وما تكون العلامة إذا ما أوشك هذا أن يتمّ"؟ سؤال في سؤالين. يشير القسم الأول إلى زمن الأحداث: "متى تكون هذه الأشياء" (توتا)؟ ويشير القسم الثاني إلى العلامة التي تتيح لهم أن يروا الحدث مسبقاً وقبل أن يحصل. لسنا هنا أمام موضوعين يتميّزان في الواقع. فالقسم الثاني يحدّد ما قيل في القسم الأول. نجد على ذلك مثلاً: طرح وجهاء اليهود سؤالاً على يسوع: "بأي سلطان تفعل هذا، ومن أعطاك هذا السلطان لكي تفعل هذا" (11: 28)؟ وهنا يشير سؤال التلاميذ لا إلى الزمن الدقيق لحدوث هذا، بل إلى العلامة السابقة التي تدلّ عليه.
غير أن القسم الثاني لا يكتفي بأن يوضح السؤال، بل هو يحاول أن يوسّعه. في القسم الأول، نحن أمام زمان "هذه الأشياء" (توتا): في إطار نبوءة آ 2 حول دمار الهيكل وحاشية آ 3 التي ترينا يسوع جالساً تجاه الهيكل، تنطبق "هذه الأشياء" بشكل طبيعي على الدمار الذي أعلن. أما القسم الثاني فلا يتحدّث فقط عن "هذه الأشياء" بل عن "كل هذه الأشياء" (توتا بنتا- تشديد على كل). ثم إن فعل "كان" المستعمل في القسم الأول، قد حلّ محلّه عبارة "أوشك أن يتمّ". وليس من قبيل الصدف أن تتوافق آخر كلمات آ 4 (أوشك هذا كله أن يتمّ) مع عبارة دا 12: 7. وهكذا ننتقل من نظرة إلى دمار الهيكل، إلى نظرة إلى نهاية الأزمنة.
ويتثبّت الانزلاق الذي دلّ عليه السؤال المزدوج في آ 4، إذا أخذنا بعين الاعتبار الصدى الذي كان لهذه الآية في آ 23: "قلت لكم كل هذه الأشياء من قبل". يعلن هذا التأكيد ما قالته آ 14 أ عن "رجاسة الخراب" التي جعلتنا نفكّر (رج دا 9: 27؛ 11: 31؛ 12: 11؛ رج 1 مك 1: 54) في كارثة تصيب الهيكل. ولكن وليْ النصّ كان قد قدم الحدث كعلامة لبداية ضيق لم يُسمع به (آ 14 ب)، وهو الذي يسبق بشكل مباشر نهاية العالم الحاضر (آ 24).
إذن، إن أخذنا بعين الاعتبار تفسير السؤال في آ 4، والصورة في آ 14- 20، والإعلان في آ 23 ب، تتحدّد النظرة إلى دمار الهيكل كما أعلن في آ 2، في سياق أوسع من الكوارث ستدلّ على نهاية هذا العالم.
3- تحذير من الكذبة (13: 5- 6، 21- 23)
في آ 5 ب- 6، يقدّم الترتيب المتبعّ أولاً التنبيه: "احذروا أن يضلكم أحد" (آ 5 ب). ثم يأتي الإنباء: "كثيرون يأتون" (آ 6). وفي آ 21- 23، هناك أولاً تنبيه: "فحينئذٍ إن قال لكم أحد... لا تصدّقوه" (آ 21). ثم الإنباء: "يقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة" (آ 22). وننتهي مع تنبيه آخر "فأنتم إذن، احذروا" (آ 23) يشكّل تضميناً مع البداية (آ 5 ب).
نجد في آ 6 سمتين تدلاّن على الكذبة. شرح يسوع أولاً فقال: "يأتون باسمي". ثم حدّد بأنهم يقولون: "أنا هو". تتوخى الإشارة الأولى أن توضح معنى الإشارة الثانية. هذا ما نجده في مت 24: 5: "كثيرون يأتون باسمي ويقولون: أنا هو المسيح". هذا يقابل معنى الآية الحقيقي في مر.
وجاء الإنباء في آ 22 كثر وضوحاً. سمّي الكذبة: "مسحاء كذبة، أنبياء كذبة". وركزّوا، شأنهم شأن الأنبياء الكذبة في تث 13: 2، مقالهم على "الأيات والخوارق" التي يصنعونها. فنحسّ وكأن الله يدلّ على صدقهم حين يمنحهم القوّة ليصنعوا هذه المعجزات (رج أع 2: 22).
ونستشفّ من خلال هذه التشبيهات وضع عرّفنا به فلافيوس يوسيفوس حين روى التاريخ المتقلّب الذي عرفته فلسطين في السنوات التي سبقت حصار أورشليم (70 ب. م). فنذكر أيضاً الدور الذي لعبه أشخاص مثل توداس (أع 5: 36) أو ذاك المصري الذي لم يحتفظ التاريخ باسمه (أع 21: 38)، أو غيرهما. قد يختلف وضع يوحنا جسكالا عن وضع هؤلاء، ولكنه يدخل في إطار التحرّك الديني والوطني الذي أدّى إلى كارثة سنة 70.
إن الإنباءات التي كانت سبب التنبيهات التي وجّهها يسوع لتلاميذه في آ 5 ب- 6، 21- 23، لا تشير إذن إلى الخطر الذي يتهدّد الكنيسة من الداخل. فالكذبة الذين يعنيهم النصّ هم المتحمّسون اليهود. والخطر المهدّد لا يعني إلاّ اليهود أو المسيحيين الآتين من العالم اليهودي والعائشين في فلسطين. وهكذا لم يكن الخطر حالياً بالنسبة إلى قرّاء مر الأولين. ولكنهم اطمأنوا حين علموا أن يسوع تحدّث عنه مسبقاً.
4- الجواب على السؤال حول العلامة (13: 7- 8، 14- 20)
في آ 4، سأل التلاميذ يسوع: "قل لنا: متى يكون هذا". ثمّ حدّدوا سؤالهم متحدّثين عن علامة سابقة. استعملوا لفظة "هوتان" (متى) التي صارت كلمة عاكفة في جواب يسوع. وأهمية اللفظة بالنسبة إلى أهمية بناء الخطبة، تدعونا إلي أن لا نهملها في السؤال الذي يرد بشكل حرفي كما يلي: "وما تكون العلامة متى (أي في الوقت الذي) كل هذا يكون على وشك أن يتمّ"؟
هناك جواب سلبي تقدّمه آ 7- 8: "حين تسمعون (بأخبار) الحروب". ويتبعه جواب إيجابي في آ 14: "ولكن حين ترون رجاسة الخراب". فالحروب وسائر الكوارث التي تسمعون بها لا تكون علامة. أما العلامة فتكون أمام عيونكم حين ترون رجاسة الخراب. وهكذا يكون الجوابان متكاملين.
يتألّف الجواب الأول من جملتين، تنتهي كل منهما بإشارة كرونولوجيّة: "يجب أن يحصل هذا ولكن هذا لن يكون المنتهى" (آ 7 ب). "هذه الأشياء تكون بداية الأوجاع" (آ 8 ب). تبدو الجملة الأولى بشكل توصية: "حين تسمعون بالحروب وأخبار الحروب، لا تقلقوا" (آ 7 أ). وتفسرّ الثانية لماذا لا يجب أن نقلق: فالكوارث التي تنصبّ على الأرض، لا ترتبط إرتباطاً مباشراً بالنهاية. الأسلوب هو أسلوب الانباءات الجليانية المملوءة بالتلميحات البيبلية. "فتقوم أمّة على أمّة، ومملكة على مملكة. وتكون زلازل في أماكن شتى، ومجاعات" (آ 18). إذا كانت هذه الكوارث ترتبط بالعالم الجلياني، فهي تُذكر هنا فقط لتعارض الطابع التحذيري الذي حمّلها إياه التقليد الجلياني. إن التنبيه في آ 7 أ يعطينا العلامة: "لا تقلقوا".
أما الجواب الثاني الذي يعطي العلامة الحقيقية المطلوبة، فقد توسّع فيه النصّ توسّعاً ملحوظاً. فهو يشتمل على تحذير من الكذبة في آ 21- 23. لقد سبق ولاحظنا أن الإشارة الكرونولوجيّة التي هي في البداية ("حين ترون"، آ 14 أ) تجد امتدادها لا في التوضيح الذي نجده في آ 14 ب (حينئذٍ) وحسب، بل في "كاي توتي" (وحينئذٍ) التي تبدأ آ 21. وهكذا لا ينفصل الجواب الثاني على طلب العلامة، عن التحذير الثاني. وفي هذا لا يختلف وضعه عن وضع الجواب الأول (آ 7- 8) الذي ارتبط بالتحذير الأول في آ 5- 6.
ويُبنى جواب آ 14- 20، رغم طوله، بناء عاماً وقريباً من بناء آ 7- 8. في آ 7، وُضعت الإشارة الأولى إلى الكوارث (لا آ 7) في خدمة توصية: "لا تقلقوا". في آ 8، بدا الوحي الجلياني بحصر المعنى بشكل شرح مع أداة: "لأن". ونتعرّف إلى البنية عينها في آ 14- 18 التي تشرف عليها سلسة من أفعاله الأمر (آ 14 أ، 14 ب، 15، 16، 18). أما آ 19- 20 اللتان بدأتا مع "لأن" فتبدوان بشكل شرح: يتوجّه الكلام إلى السامعين بشكل مباشر، لا بشكل معلومة بما سيحصل فيعرفونها ولا يهتمون بها.
ويشُار حالاً إلى العلامات التي طلبها التلاميذ، ولكن بشكل يدهشنا: "حين ترون رجاسة الخراب قائمة حيث لا ينبغي". إن لفظة "رجاسة" (بداليغما) هي حيادية (لا مذكّر ولا مؤنّث) في اليونانية. ومع ذلك ترتبط بالمذكر. هذا يعني أن الرجاسة صارت "شخصاً حياً". سميّ منذ أيام دانيال "رجاسة الخراب" فارتبط بتنجّس الهيكل الذي تمّ في أيام انطيوخس الرابع. وحين تبان "الرجاسة" قائمة حيث لا ينبغي، نكون أمام هيكل أورشليم بكلمات مخفيّة. وما يلي مباشرة يدلّ على أن الحدث حصل في "اليهودية" (آ 14 ب).
ولكن سيشدّد النصّ حالاً على الأوامر المعطاة. الأمر الأول عام هو: "ليفهم ذاك الذي يقرأ" (آ 114). والأوامر الثلاثة التالية توحي بالهرب (آ 14 ب) فتبرز عبر صورتين ملموستين، الكارثة التي يسبّبها أي تأخير (آ 15- 16). وإذا أراد أن يشدّد على ضرورة الهرب السريع، ذكرت آ 17- 18 ظرفين يجعلان طابع هذا الهرب مؤلماً وخطراً: حالة النساء الحبالى أو أولئك اللواتي يرضعن (آ 17. بشكل تعجّب: ويل للحبالى والمرضعات!). الحالة التي فيها نواجه تقلّبات الشتاء (صلوا لئلا يكون ذلك في شتاء، آ 18). وتأتي حالاً ملاحظةٌ تفرض نفسها: هذه الأفعال في صيغة الأمر هي بعيدة كل البعد عن تلك المستعملة في الإرشاد الديني والأخلاقي: نحن هنا أمام أسلوب كتابي يبرز الدعوة إلى الهرب على عجل.
والتفسير المكمّل الذي يرد في آ 19- 20، يستلهم كليشاهات تقليدية من عالم الجليان، فيصف الضيق المريع الذي يضع حداً للنظام الحالي للأمور: لا ضيق في التاريخ يقابل بهذا الضيق (آ 19). وان طال، لن يبقى حيّ على الأرض (آ 10: ولكن الله قصّر تلك الأيام). فالثقة بأن الله يقصّر هذا الزمان من أجل المختارين، يجعل هذه اللوحة المظلمة تنتهي لا مناخ من الرجاء.
حين نقرأ آ 14- 20 (الأزمة التي لم يسمع بها أحد والهرب المفاجئ) لا نستطيع أن ننسى أن كل هذا التوسّع توخّى إبراز بُعد الحدث الذي سيكون في الوقت عينه، علامة هذه الحقبة المشؤومة ونقطة انطلاقها: ظهور الشخص الذي اسمه "رجاسة الخراب". الذي يستطيع السامعون أن يروه بعيونهم قائماً في الهيكل. كيف لا نفهم أن هذه الآيات، شأنها شأن آ 5 ب، 6، 21- 23، لا تتعلّق بما يخبرنا التاريخ عن ظروف سقوط أورشليم ودمار الهيكل على يد تيطس سنة 70؟ ولكن كيف لا نتساءل أيضاً عن أنيّة هذه الأحداث بالنسبة إلى مرقس وقرّائه الذين كانوا بعيدين عن فلسطين وأورشليم ساعة ألّف الإنجيل الثاني؟
وهكذا نشعر أن كل هذه التحديدات حول العلامة السابقة والضيق الهائل الذي يتبعها، قد نقلها الإنجيلي لأنه آمن بسلطة الينبوع الذي أخذها منه. لم يجد مناسبة لكي يقحم تطبيقات إرشادية تكشف عن تدخّله الشخصي وتعطي القطعة بعداً آنيّاً بالنسبة إلى قرّائه في الواقع، احتفظ لنفسه بمدى في آ 9- 13 التي تقف بين وحيين جليانيين في آ 7- 8 وفي آ 14- 20.
5- المسيحيون والاضطهاد (13: 9- 13)
ها نحن في قلب المقطع الذي يشكّل جواب يسوع على سؤال التلاميذ حول علامة النهاية. جاء التحذيران في آ 5 ب- 6 و آ 12- 23 بشكل إطار خارجي، وفصلت الآيات المتعلّقة باضطهاد المسيحين بين الآيات المتعلّقة بالكوارث التي ليست علامة (آ 7- 8)، والآيات التي تتحدّث عن علامة الضيق النهائي (آ 14- 20). فصار الموضوع الآن محنة خاصة بالجماعة المسيحيّة. وقد ذُكرت بعد الكوارث التي ترتبط بالتاريخ وقبل الضيق الذي يشكّل علامة النهاية. فالصعوبات التي تصطدم بها الجماعة تنتمي هي أيضاً إلى المسيرة العادية للزمن الحاضر. إنها تميّز زمن الكنيسة. لهذا اهتمّ بها مرقس اهتماماً خاصاً.
إن التنبيه (احذروا) الذي يبدأ هذا القسم من الخطبة ويختمه (آ 5، 23) تكرّر في بداية آ 9 بشكل أكثر دقّة: "احذروا لنفوسكم". نحن هنا أمام تنبيه يتحدّث عن مضايق خاصة لمجموعة التلاميذ.
ويأتي استعمال فعل "أسلم" (باراديدوناي) ثلاث مرات، فيؤكّد وحدة هذه الآيات الخمسة: "يسلّمونكم إلى المحافل" (أي السنهدرين في صيغة الجمع) (آ 9). "ومتّى ساقوكم لكي يسلّموكم" (آ 11). "ويسلّم الأخ أخاه إلى الموت (آ 12). ولكن بين "أسلم" إلى المحاكم، و "أسلم إلى الموت" هناك فرق. فالإمكانيتان تجدان توصيتين مختلفتين: في الحالة الأولى، نجد نداء بأن لا نهتمّ ماذا سوف نقوله (آ 11). في الحالة الثانية، نجد نداء إلى الثبات (آ 13). إذن، يبدو من المفيد أن نميّز في هذه القطعة: أولاً: ما يقاله للمسيحيين الذين يسلّمون إلى المحاكم (آ 9- 11). ثانياً: ما يقال لهم بعد ذلك بالنظر إلى العداوة العنيفة التي تحلّ بهم (آ 11- 12).
أ- المسيحيون أمام المحاكم
تبدأ آ 9 فتصوّر الوضع. ويكفي لذلك ثلاث عبارات: "يسلّمونكم إلى المحافل. تُضربون في المجامع. تمثلون أمام المحاكم والملوك". وتنتهي الآية بتفصيلين لاهوتيين: "من أجلي. شهادة لهم". وحين ذكرت العبارة "شهادة لهم" جاءت التكلمة التي أضيفت في آ 10: "ولا بدّ من قبل أن يُكرز بالإنجيل في جميع الأمم". بعد هذه المعترضة، احتاج النصّ إلى وصلة ليبلغ إلى التوصية التي تدلّ على المسيحيين المساقين أمام المحاكم. "ومتى ساقوكم لكي يسلّموكم. فلا تهتموا، من قبل، بما تتكلّمون، بل قولوا ما يعطى لكم في تلك الساعة، لأنكم لستم أنتم المتكلّمين، بل الروح القدس" (آ 11).
سميّنا الكلمات الأولى في آ 11 (ومتى ساقوكم ليسلّموكم) وصلة. إن كان الأمر كذلك، يجب أن نتساءل عن سبب دخول هذه الوصلة. في الواقع، نجد وصلة في أولى كلمات آ 9: "ولكن احذروا لنفوسكم". في هذه الحالة كان معنى الوصلة واضحاً: يجب أن نزيد على كوارث التاريخ (آ 7- 8) محن الكنيسة التي لا تدلّ على قرب النهاية، شأنها شأن الكوارث. وكان لا بدّ من تنسيق هذه الإضافة مع التحذير العام الذي يميّز مجمل آ 5- 23 (بسبب وجوده في البداية، آ 5، وفي النهاية، آ 23). إذن، بدت إضافة آ 9- 13 نتيجة اهتمام الكاتب بوضع الجماعة المسيحية.
إذا كان واضحاَ أن أولى كلمات آ 11 تشكل وصلة أدبية، فوظيفتها تختلف كل الاختلاف عن وظيفة أولى كلمات آ 9. في آ 11، ليس الموضوع أن نزيد شيئاً جديداً على ما قيل من قبل. بل أن نذكّر بالوضع الذي صوّرته آ 9 لتوجّه إلى التلاميذ فيما بعد التحذير الذي يدلّ عليه هذا الوضع. فالفعل الذي بدأ الصورة في آ 9 (يسلمونكم) يتكرّر في بداية آ 11، ولكن بشكل مبتكر: "متى ساقوكم لكي يسلموكم". إذن، صوّر الوضع في آ 9، ونبّهت بداية هذه الآية القارئ وقدّمت له تحذيراً. وهذا التحذير الذي أعلنته عبارة "احذروا لنفوسكم" قد أوضح في آ 11: "لا تهتموا مسبقاً". إذاً، كانت الوصلة الأدبية ضرورية، لأن عنصراً غريباً دخل بين صورة الموضع والتحذير الذي يتطلّبه هذا الوضع. دخل، فاجتذب الانتباه إلى اعتبار آخر.
وهذا العنصر الذي تعتبره آ 11 متطفلاً، نجده بين التوضيحين اللاهوتيين اللذين ينهيان آ 9: "من أجلي، شهادة لهم". ولكنه يوجد بشكل خاص في إعلان آ 15: "يجب أن يعلن أولاً الإنجيل على جميع الأمم". هذه الحواشي التي تخرب التسلسل الطبيعي بين آ 9 وآ 11، وتبدو متطفّلة على المستوى الأدبي، لها أهمية كبيرة في فكر الإنجيلي: أقحمها هنا رغم كل شيء، فدلّ على نظرته الشخصيّة داخل نصوص جاءت إليه من التقليد.
هنا نقابل آ 9- 11 مع نسخة تورد ذات كلمات يسوع. لن نجدها في مت 10: 17- 20 ولا في لو 21: 12- 15، بل في لو 12: 11- 12 حيث نقرأ: "ومتى قادوكم إلى المجامع والحكّام وأولي السلطان، فلا تهتموا كيف أم بمَ تدافعون عن أنفسكم، أو لما تقولون. فإن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا".
لا يكتفي لوقا بأن ينقل هذا القول كما وجده في مرجعه. احتفظ بتعداد السلطات القضائية المختلفة (المجامع، الحكّام، أولي السلطان). وذكر بينها المجامع. ولكن حين تحدّث عن الحكام (أي القضاء) وأولى السلطات، أبان عمله التدويني. ونحن نعرف لغته المميّزة مع "دافعَ، رافعَ" (ابولوغيوماي)، مع عبارة "في تلك الساعة عينها". والفكرة التي تقول إن الروح "يعلّم" التلاميذ ما يجب أن يقولوه يوافق لاهوت الروح القدس لدى صاحب الإنجيل الثالث.
وهكذا نكون في هذا النصّ من لوقا مع نسخة مختلفة استند إليها مر 13: 9- 11. زاد مرقس "من أجلي"، ففعل كما في 8: 35: "من أجلي ومن أجل الإنجيل" (رج لو 17: 23؛ يو 12: 25)، وكما في 10: 29. ونقرأ أيضاً عنده في 8: 38: "من يستحي بي وبكلامي". هذا يدلّ على عمل مرقس التدويني في آ 9- 11.
وبعد أن أوحى مرقس بعدم الاهتمام بما يجب أن يقوله المسيحيون، حين يمثلون أمام المحاكم، أضاف شرحاً يدعوهم إلى معالجة هذا الوضع في منظار الرسالة. فهذه الدعاوى التي تُدعون فيها لتقدّموا جواباً عن إيمانكم بالمسيح، ستكون لكم مناسبة لتشهدوا أمام الذين تمثلون أمامهم. وهذه الشهادة هي جزء من مهمة الكنيسة في إعلان الإنجيل على جميع الأمم. هي مهمة ويجب أن تتم "أولاً"، أي قبل أن تصل أحداث نهاية الأزمنة. وهكذا يصبح الاضطهاد للكنيسة وسيلة بها تتمّ رسالتها التبشيرية.
نلاحظ أن هذه الفكرة لا ترد إلاّ في إنجيل مرقس. إنها تمثّل نظرة مبتكرة عند هذا الإنجيلي الذي لا يعتبر الاضطهاد فقط محنة تتيح أن تكشف أمانة المسيحيين وثبات إيمانهم، فهذه نظرة سلبيّة. وهناك النظرة الإيجابيّة. الاضطهاد هو أيضاً مناسبة تعطى لهم لكي ينشروا في الكون كله التعليم الإنجيلي.
ب- المسيحيون يواجهون عداوة العالم
إن القسم الثاني من الجزء الذي احتفظ به مرقس للمحن التي تمرّ فيها الجماعة المسيحية، يتركّز على قول حُفظ لنا في نسخ ترتبط بمرقس أو بالنسخة التي أخذ منها مرقس (مت 10: 21- 22؛ 24: 9- 10، 12؛ لو 21: 16- 19). أو حُفظ في نسخة مستقلّة يشهد لها في الوقت عينه مت 10: 34- 36: "لا تظنّوا أني جئت لألقي على الأرض السلام. لا، ما جئت لألقي السلام بل السيف. جئت لأفرّق الرجل عن أبيه، والفتاة عن أمها، والكنة عن حماتها. فأعداء الإنسان أهل بيته الخاصّ".
هذا الشكل المتّاوي يعكس النصّ البيبلي الذي يلهم القول الإنجيلي. هذا النموذج هو جزء من نقد لاذع يرسله النبي ميخا ضد الكذب والعنف اللذين يسيطران على كل المجتمع الإسرائيلي في عصره. قال مي 7: 2: "زالت الأمانة من البلاد. لم يعد بين الناس رجل مستقيم. كلهم يكمنون ليريقوا الدم، وكل واحد ينصب فخّاً لقريبه". وتجد آ 6 صداها في مت 10: 35- 36: "الابن يشتم أباه، وتقف الابنة ضد أمّها، والكنّة ضد حماتها. ولا عدوّ للإنسان إلاّ كل الذين في بيته".
إن هذا الاتهام الذي تلفّظ به النبي ضد معاصريه، صار في التفسير اللاحق قولاً نبوياً يعلن فوضى نهاية الأزمنة. في هذا المعنى وجدت النبوءة تتمتها في النتائج التي جعلت قي التعليم الإنجيلي: أثار الانقسام بين أعضاء الأسرة الواحدة. والذين اتحدوا بأوثق الرباطات، وقفوا الواحد بوجه الآخر. والناس حين يتخذّون موقفاً مع يسوع أو ضده ينقسمون إلى مخيّمين متعاديَيْن تعادياً قاسياً.
إن نسخة مر 13: 12- 13 أ مثّلت بالنسبة إلى مت 10: 35- 36 اختلافة بعيدة عن النموذج الذي قدّمه ميخا: "ويسلّم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه، ويقوم الأبناء على والديهم ويقتلونهم. وتكونون مبغضين من الجميع لأجل اسمي". إن إدخال فعل "أسلم" (إلى الموت) يؤمّن الرباط مع القول السابق الذي فيه ظهر الفعل مرتين (آ 9- 10). وترتّبت رباطات القرابة ترتيباً متوازناً: لم نعد فقط أمام موقف الأولاد تجاه والديهم، بل أمام موقف الوالدين تجاه أولادهم. وتوسّع التأكيد حول الأعداء الذين يجدهم الإنسان في بيته، واتخذ طابعاً شخصياً ليصير في النهاية عداوة من الجميع للتلاميذ. ويوضح مرقس هنا السبب الكرستولوجي: "من أجل اسمي". وسبق وقال في نهاية آ 9: "من أجلي".
ويبقى أن نلاحظ نهاية آ 13: "فالذي يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص". نحن هنا أمام إشارة إرشادية غير مباشرة تكمّل الانباء (يقابل: لا تهتموا مسبقاً في آ 11). ولكن ما يلفت النظر بشكل خاصّ هو وظيفة هذا القول على مستوى البنية. وهو يريد أن يذكّرنا بالمنظار الزمني في نهاية آ 7 (لا يكون بعدُ المنتهى) ونهاية آ 8 (وهذا يكون أول الأوجاع). ما قلناه عن وضع المسيحين الخطير قد امّحى بعض الشيء من الأفق. فوجب على الكاتب أن يذكر من جديد "النهاية"، وذلك ساعة تصل الخطبة إلى المرحلة الحاسمة، مرحلة الضيق النهائي العظيم. أجل، إن القول في آ 13 ب قد تذكّرَ آ 7- 8، وأعذ الطريق من أجل آ 14- 20 و 24- 27، فلعب دور إنتقالة يتطلبها منطق الخطبة في نهاية قسم اهتم بمصير المسيحيين الخاصّ، وكاد يخسر سياق التوسّع العام.
إن هذا القول الذي هو نداء لكي "نثبت"، يدخل في التقليد الإنجيلي موضوع الثبات (هيبوموني) الذي اهتمت به الفقاهة المسيحية في العالم اليوناني، ولكنها ربطته هنا للمرة الأولى بيسوع نفسه. لا نعود نجد هذه الألفاظ في الأناجيل إلاّ في مت 10: 22؛ 24: 12؛ لو 21: 19: مقاطع ثلاثة ترتبط بمرقس 13: 3 ب. كما يرتبط به أيضاً لو 8: 15 بعد لمسة بسيطة (يحفظونها ويثمرون بالصبر). ولكن هذا الموضوع (الثبات) يكون عادياً في الرسائل وسفر الرؤيا. فالمسيحيون يبلغون الخلاص ويجدون نفوسهم بين "المختارين" المذكورين في آ 27، إذا عرفوا أن "يثبتوا" وسط المحن التي يخضعون لها.
توقّفنا بعض الشيء عند آ 9- 13 المكرّسة بشكل مباشر لوضع الجماعة المسيحية: هنا نكتشف عمل مرقس التدويني واهتماماته الخاصّة.
6- مجيء ابن الإنسان (13: 24- 27)
أ- تحليل النصّ
إن بداية آ 24 تؤمّن رباطاً وتعارضاً بين المقطع الذي يبدأ هنا والمقطع الذي سبقه. "ولكن في تلك الأيام". إن ألفاظ هذه المقدّمة تذكّرنا بألفاظ آ 19: "وستكون تلك الأيام ضيقاً لم يكن مثله منذ بدء الخليقة". فمع أنّ هذه الأحداث جاءت بعد الضيق الذي تحدّثنا عنه، هذه الأحداث التي سوف نتحدّث عنها تنتمي إلى ذات "هذه الأيام"، إلى الأيام الأخيرة. والتعارض ظاهر أيضاً مع "ولكن" (ألا) التي تشدّد على انقطاع في التواصل. وظاهر أيضاً بشكل خاص في المقابلة بين تحديد زمني (بعد هذا الضيق) وتأكيد تنتهي فيه الآية السابقة: "قلت لكم من قبل" (آ 23).
كان سبب الخطبة سؤال حول العلامة التي تتيح للتلاميذ بأن يعرفوا مسبقاً أن أحداث النهاية ستحصل قريباً (آ 4). وقد اهتمت هذه الخطبة الآن بكل ما سبق النهاية، بكل ما يسبق الضيق الذي يرتبط بظهور ذاك الذي سمّي "انتيكرست" (المعارض للمسيح، المسحاء الكذبة، الأنبياء الكذبة) (آ 14 - 23). مع آ 24، تتجاوز الخطبة السؤال وما حصل "من قبل"، وتهتمّ اهتماماً مباشراً بما سيحصل "من بعد"، أي بعد الأحداث السابقة (تسبق النهاية). وهكذا تبدو آ 24- 27 تصويراً لأحداث النهاية بحصر المعنى.
ثم إن هذا التصوير سيتبعه جزءان يعيدان القارئ إلى الزمن السابق للنهاية، إلى الزمن الذي يجد فيه نفسه. إذن، ستعود آ 28- 37 إلى الوضع التاريخي كما في آ 15- 23، وكما تجاوزته آ 24- 27. وهكذا تشكّل هذه الآيات الأربع (آ 24- 27) في قلب الخطبة، ذروة تخرق الغيوم التي تغطّي زمن العالم الحاضر. وتحقّق تجاوزاً يتركّز على شخص هو إبن الإنسان الداخل على مسرح عالم تبذل تبدّلاً كليّاً (آ 29).
آيات أربع مهمة بسبب أسلوبها الاحتفالي. وقد سبق ولاحظنا فيها التحديدات الكرونولوجيّة. "ولكن في تلك الأيام، من بعد ذلك الضيق" (آ 24). "وحينئذٍ" (آ 26). "وحينئذٍ" (آ 27). نجد في الآيتين الأوليين عنصرين متوازيين. الأول: "الشمس تظلم، والقمر لا يعطي (يحجب) ضوءه" (آ 24 ب). لقد انطفأ الكوكبان الكبيران. وبعد هذا، تأتي الكواكب الأقل أهمية: "الكواكب (النجوم) تتساقط من السماء، والقوات التي في السموات تتزعزع" (آ 25). في هذه الفوضى الكونيّة، نميّز سقوط النجوم "خارج السماء". وزعزعة القوات "في السماوات". توقّف الكوكبان الكبيران عن القيام بوظيفتهما، وتخلت سائر الكواكب عن موقعها. صارت الفوضى في السماء كاملة. هنا تتلاعب الأفعال حسب "قافية" في اليونانية فتقدم لنا لوحة واحدة موحّدة: من جهة "تظلم" الشمس، ومن جهة أخرى "تتزعزع" القوات.
وتتحد الآيتان التاليتان في أداة (وحينئذٍ ) تتقدمهما، فتعيد الانتباه إلى الأرض. هناك يرى البشر "إبن الإنسان آتياً في السحاب في كثير من الجلال والمجد" (آ 26). نلاحظ هنا أيضاً وجود وصفتين: الجلال (أو القدرة) والمجد. تميّز آ 27 عملين: "يرسل ملائكته، فيجمعون المختارين". وفي نهاية الآية نجد التحديدات المكانيّة: "من مهاب الرياح الأربعة، من أقصى الأرض إلى أقصى السماء". هذه العبارة المدهشة تدلّ على الكون كله في بُعده الأفقي وفي بُعده العمودي (السماء والأرض).
لا نجد في هذه الآيات الأربع إلاّ العنصر التصويري. فلا أثر للعنصر الإرشادي، ولا لكلام يوجّه إلى السامعين. هذه يعني أن آ 24- 27 تختلف كلياً عن آ 5- 23. غير أننا لاحظنا في هذه المجموعة، أن آ 14- 20 تستعمل أفعاله الأمر التي لا تشكّل تحريضات تدلّ السامعين على السلوك الواجب إتباعه، بل صورة عن الوضع المأساوي الذي سيحصل بعد الضيق النهائي. ومع ذلك، انتهت اللوحة الدراماتيكية في هذا القسم على وجهة من الطمأنينة والأمل: فهذه الأيام القاسية قد قصّرها الله "بسبب المختارين الذين اختارهم" (آ 20). لا شك في أن هناك علاقة بين هذه الخاتمة التي تشدّد على "المختارين الذين اختارهم الله" وما تقول آ 27 عن تجمّع المختارين. فلوحة مجيء ابن الإنسان تنتهي، شأنها شأن لوحة الضيق العظيم، في إطار من التعزية للمختارين.
ب- مدلول المشهد
قبل أن نتساءل عن بُعد هذا التصوير نقول إنه حسب النهج الجلياني المعروف، يتألف من سلسلة من التلميحات إلى نبوءات مختلفة من العهد القديم. وهذه النبوءات تساعدنا على فهم معنى النصّ الذي تشكل هذه النبوءات لحمته.
تتحدّث آ 24- 25 عن تقلّبات كونيّة. فتأكيد آ 24 (تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه) هو صدى لما في أش 13: 10 ب: "تظلم الشمس عند شروقها والقمر لا يعطي ضوءه" (حسب السبعينية). و آ 25 (تتساقط النجوم من السماء) تذكّرنا بما في أش 34: 4 ب (حسب السبعينية): "وتتساقط كل النجوم كما تتساقط أوراق الكرم وكما تتساقط أوراق التين". أما آ 5 ب (القوّات التي في السماء تتزعزع)، فترتبط ببداية أش 34: 4 (كما في الفاتيكاني وغيره): "تذوب كل قوات السماء".
نلاحظ أن ما أخذ من أش 13 يعود إلى قول نبوي يعلن مجيء الربّ الذي يسبّب سقوط بابل وعقاب الكون كلّه من أجل شّره (آ 11). والعودة إلى ف 34 تستعمل قولاً نبوياً يعلن انصباب غضب الله على الأمم (آ 2) وخصوصاً على أدوم (آ 5 ي).
وإلى رؤية دا 7: 13- 14 تعود آ 26: "حينئذٍ يرى (البشر) ابن الإنسان آتياً في السحاب بقدرة عظيمة ومجد عظيم". هنا نتذكّر نصّ دا حسب تيودوسيون (إحدى ترجمات العهد القديم إلى اليونانية) القريب من النموذج الذي عاد إليه العهد الجديد: "تأمّلت في رؤى الليل، وها مع سحاب السماء آتٍ مثل ابن إنسان، وبلغ إلى القديم الأيام وقدّم أمامه. وأعطي له السلطان والكرامة والملك، فخدَمته جميع الشعوب والعشائر والألسن: سلطانه هو سلطان أبدي لا يزول، وملكه لا يذبل".
لا يهمّنا أن يتعارض ابن الإنسان هذا في إطار دانيال، مع الحيوانات الأربعة التي ترمز إلى ممالك تاريخية أربع (البابلي، الماداي، الفارسي، اليوناني) يأتي بعدها ملك شعب الله. لم يكن المسيحيون الأولون يقرأون دا على طريقة النقد التاريخي (كما نفعل اليوم)، بل على ضوء إيمانهم. والنبوءة التي يعود إليها مر 13: 26 كانت معروفة جداً بحيث لم يكن من الضروري العودة إلى نصّ مكتوب للتعرف إليها. فقد سبق مر وذكرها في 8: 38: "من يستحي بي وبكلامي في قلب هذا الجيل الفاسق الخاطئ، يستحي به ابن الإنسان أيضاً حين يأتي في مجد أبيه مع ملائكته القديسين". ونجد صدى لهذا القول في إعلان يسوع أمام السنهدرين: "سترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة، آتياً مع سحاب السماء" (14: 62).
حين قالت آ 27 عن ابن الإنسان إنه "يجمع مختاريه من الرياح الأربع"، ذكرتنا بوعد زك 2: 10 (حسب السبعينية): قال الربّ (متوجهاً إلى بني إسرائيل): "أجمعكم من رياح السماء الأربع". غير أن الموضوع متواتر. لهذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار توارده في تث 30: 3- 4 حيث يتوجّه موسى إلى الشعب ليعده (إن تاب بعد أن يكون الربّ شتتّه وسط جميع الأمم) بأن (الربّ) مميرحمكم ويجمعك من جديد من كل الأمم التي شتت فيها: وإن امتدّ شتاتك من أقصى السماء إلى أقصى السماء، فالربّ إلهك يجمعك من هناك". حين كتبت آ 27 "من أقصى السماء إلى أقصى الأرض"، بدت وكأنها تضمّ عبارة تث 35: 4 (من أقصى السماء إلى أقصى السماء، رج 4: 32) مع عبارة تث 13: 8 (من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، رج 28: 64؛ إر 12: 12).
تلك هي المعطيات التي انطلق منها مشهد مجيء ابن الإنسان. وقد تقبّل تفسيرين متعارضين. يشدّد الأول على الوجهة الرهيبة لذاك الذي يأتي ليدين العالم الرديء ويعاقبه العقاب الذي يستحقه، ويقوده إلى الهلاك. وحدها النهاية تقدّم بعض التعزية للمختارين. والثاني يعتبر أن الإنجيلي اغفل وجهة الانتقام في الدينونة ليوجّه مجيء ابن الإنسان المجيد إلى تجمّع المختارين. إن هذين التفسيرين يرتبطان بنهجين مختلفين، وهذا ما سوف نراه.
أولاً: التفسير الانتقامي
يستند هذا التفسير أولاً إلى سمات بها تصوّر آ 24- 25 (في سياقهما الاولاني) التقلّبات الكونية. سبق وقلنا إن أش 13 و 34 (تستلهم منهما هاتان الآيتان) يرسمان لوحة تعلن الانتقام المريع الذي يستخرجه الله من عذابات سامتها الأمم الوثنية لشعبه. فالغضب الإلهي الذي كان سينصبّ سيكون من القوّة بحيث يحرّك عالم الكواكب. وهذا التقلّب الكوني يرافق الآن مجيء ابن الإنسان فيحافظ على ذات المدلول ويبرز الرعبة التي فيها يلقي الحدثُ البشرَ الذين جاء يحكم عليهم.
أما فيما يتعلق بالآية 26، فنلاحظ أن فاعل رؤية ابن الإنسان، الذي كان في الأصل دانيال نفسه، صار جماعة غير محدّدة: "يرون". إن صيغة الجمع هذه نجد ما يقابلها في إعلان يسوع أمام السنهدرين ساعة قرّر السنهدرين أن يميته: "ترون ابن الإنسان آتياً مع سحاب السماء" (14: 62). إذن، فالذين حكموا على يسوع سيرونه آتياً ليدينهم وليحكم عليهم بدوره (وهذا أمر طبيعي). ونلاحظ أن ذات السمة الانتقالية هي الوحيدة التي يحتفظ بها مر حين يورد قول 8: 38. أما النسخة الإنجيلية الأخرى للقول عينه فتتضمّن أولاً وعداً يتوجّه إلى الذين اعترفوا بيسوع أمام البشر: حينئذٍ سيعترف بهم (سيتعرف إليهم) ابن الإنسان في اليوم الأخير. وبعد ذلك يأتي التهديد بأن ينكر أولئك الذين أنكروه أمام البشر (كما 10: 32- 33؛ لو 12: 8- 9).
ولا تظهر السمة المطمئنة التي تحملها آ 27 وما تقوله عن تجمّع المختارين، إلاّ كتصحيح بسيط في لوحات معتمة وسلبية (هذا في نظر أصحاب هذا التفسير). إن مجيء ابن الإنسان يعتبر قبل كل شيء على أنه زمن الدينونة والحكم على البشر. أما وضع المختارين فيبقى حالة شاذّة.
ثانياً: جمع المختارين
أما التفسير الثاني فيهاجم الخطأ المنهجي الذي يشوّه التفسير الأول. فالمواد عينها تستعمل لا أبنية مختلفة جداً. والوظيفة التي تقوم بها في بناء لن تكون هي ذاتها في بناء آخر. قد تناله صورة (أو تعبير) لوناً خاصاً من سياق قول انتقام، وقد تتخذ وجهة مختلفة في ضوء سياق آخر. ويجب أن نقرّ أن السمة الهجومية ضعيفة في الخطبة الاسكاتولوجية. ولا تظهر إلاّ في التحذير من المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة الذين يضلّون التلاميذ (آ 26- 22). وإن كان هؤلاء التلاميذ سيُبغضون من جميع الأمم من أجل اسم "يسوع" (آ 13)، فيبقى عليهم أن "يعلنوا الإنجيل على جميع الأمم" (آ 10). تشير هذه الخطبة إلى كوارث عديدة ولكنها لا تدلّ على المذنبين.
إن موضوع التقلّب الكوني (آ 24- 25) يتوافق كل الموافقة مع النظرة إلى دينونة تحمل الكوارث. ولكن في سياق الإنجيل الذي نقرأ، وحيث لا حديث عن الدينونة والحكم والعقاب، لا تكفي هذه الصور لتتحدّث عن هذه النظرة. وظيفتها هي فقط كروستولوجية: أن تشدّد على البعد الشامل لحدث يشكّله مجيء ابن الإنسان.
أما بالنسبة إلى الفكرة القائلة بأن آ 26 تصوّر مجيء ابن الإنسان بشكل ديّان رهيب، فأصحاب التفسير الأول لا يستطيعون أن يلجأوا إلى إطار دانيال. إذن، نتوجّه إلى مقطعين من مر نفسه. نورد 8: 38 الذي يدلّ على ابن الإنسان الذي يستحي أمام منبر الله من جبانة بعض تلاميذه (تنقصهم الشجاعة): يجب أدن نقرّ بأن الصورة ليست صورة قاضٍ رهيب. ونلجأ أيضاً إلى إعلان يسوع أمام المجلس الأعلى: "سترون ابن الإنسان" (14: 62). ثم يجب أن نتساءل إذا كان مر نقل قول يسوع هذا لقرّائه كتذكّر لتهديد تفوّه به يسوع ضدّ قضاته، أو عرضَه كنموذج اعتراف جريء بالإيمان. وهكذا نقول بوضوح: ما من نصّ في مر يجعل من ابن الإنسان شخصاً يحمل التهديد. فلماذا نفترض مثل هذه الصورة.
وأخيراً، إن آ 23، لا تقوم بتصحيح أي تذكّر يحمل التهديد. فقد بدأ بإشارة زمنية تحدّد موقعه في امتداد مباشر للآيات التي سبقته: "في هذه الأيام، وبعد هذا الضيق... وحينئذٍ... وحينئذٍ". إن نقطة الانطلاق الكرونولوجية لهذه المتتالية تعيدنا إلى "أيام الضيق" العظيم الذي صوّرته آ 14- 20 لا كعقاب، بل كمحنة تصيب "كل بشر"، كل جسد. إن هذا السياف يلقي ضوءاَ على صيغة الجمع اللاشخصية في آ 26: إن الذين "يرون" ابن الإنسان آتياً هم جميع الذين كانوا معنيينّ بالضيق العظيم. فلا شيء يتيح لنا بأن نحصر هذه الرؤية بالهالكين. فنحن لا نفكر فيهم هنا كما لا نفكّر فيهم في آ 14- 20. وهكذا لا يتحوّل الانتباه في آ 20 و آ 22 على "المختارين" الذين يختفي مصيرهم داخل المصير المشترك لجميع البشر.
إذن، ما تقوله آ 27 عن مصير المختارين، قد هيّأه تأكيد آ 20 بأن أيام الضيق العظيم سوف تقصّر، والطريقة التي بها اعتبرت آ 22 أمراً مستحيلاً فرضية ضلال المختارين الذي يقعون في حبال الكذب. وقد فكّر فيهم القسم المتعلّق بالاضطهادات. فانتهى بهذا القول: "من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص" (آ 13). إن تواصل هذه النظرة تنير المشهد الأخير لمجيء ابن الإنسان: تجمّع المختارين وبالتالي خلاصهم. هذا ما يوجّهنا إليه سياق الخطبة، وهذا ما يشكل غايتها ويعطيها مدلولها.
إن الإشارات التي يبرزها التفسير الانتقامي في شكل معاكس، تحافظ على فائدتها: حين تدلّ الصور المستعملة في تصوير مجيء ابن الإنسان على هذا التفسير، فقد تقود القارئ إلى التشديد عك وجهة التهديد. وهكذا تبرز أصالة وجهة التعزية التي تميّز الخطبة كما نقرأها في مر. فهذه الخطبة لا تسعى إلى أن تخيفنا، بل هي تحمل إلينا كلام الرجاء. لا شكّ في أن المحن التي يمرّ فيها المؤمنون هي هائلة، ولكنها تقود إلى مجيء ابن الإنسان، إلى الخلاص النهائي.
خاتمة
أراد مرقس أن يحافظ على اتجاه وهدف الخطبة الاسكاتولوجيّة. لهذا فهو لم يتكلم هنا عن سحق الشّر ولا عن دينونة العالم، وذلك مع أن المقاطع التوراتية المتسعملة في آ 24- 25، والتي صوّرت مشهد المجيء الثاني، تتحدّث كلها عن دينونة الله. فلهجة التحريض والتعزية التي تميّز هذا التعليم، تبرز أيضاً تجمّع المختارين على أنه الهدف الأسمى لمجيء المسيح الثاني