الفصل السادس والعشرون
المسيح ابن داود وربّه
12: 35- 37
الموضوع الذي ندرس في هذا الفصل هو "المسيح ابن داود" (12: 35- 37= مت 22: 41- 46= لو 20: 41- 44). إن صورة المسيح الداودي الذي كانوا ينتظرونه في العالم اليهودي في زمن المسيح، كان نتاج تقليد طويل. ومهما كان متشعّباً التاريخ القديم لهذه الصورة المسيحاوية، فقد نالت عند الإزائيين تفسيراً له معناه العميق. إذن، سنتوقف عند هذا الحدث الذي يغرز جذوره في العهد القديم المتعلّق بابن داود.
1- النصّ الإزائي
مت 22: 41- 46 مر 12: 35- 37 لو 20: 41- 44
41- وفيما الفريسيون 35- وفيما يسوع 41- حينئذٍ قال لهم:
مجتمعون، سألهم يسوع يعلّم في الهيكل
قائلاً قال
42- ماذا ترون في كيف يقول الكتبة كيف يقال
المسيح؟ ابن من إن المسيح إن المسيح
هو؟ قالوا له: هو هو
ابن داود ابن داود؟ ابن داود؟
43- فقال لهم: كيف 36- فإن
إذن داود داود نفسه قال 42- وداود نفسه يقول
بوحي الروح بالروح القدس: في سفر المزامير
يدعوه الرب
ويقول:
44- قال الربّ لربي قال الربّ لربي قال الربّ لربي
اجلس عن يميني اجلس عن يميني اجلس عن يميني
حتى أجعل أعداءك حتى أجعل أعداءك حتى أجعل أعداءك
تحت قدميك تحت قدميك موطئاً (لقدميك)
45 فأن كان داود 37- فداود نفسه إذن، داود
يدعوه رباً يدعوه رباً يدعوه رباً
فكيف يكون فكيف إذن يكون فكيف يكون
هو ابنه؟ ابنه؟ هو ابنه؟
46- فلم يستطع أحد
أن يجيبه بكلمة.
ومن ذلك اليوم،
لم يجرؤ أحد البتة
ن يسأله.
إن هذا الحدث جزء من الخبر الإزائي المتعلّق بأيام يسوع الأخيرة في أورشليم. فالمقطع في شكله الأول (مر) يذكّرنا بإعلان آخر تفوّه به الرب: "وإذ كان يعلّم في الهيكل قال". في مر نكاد نستشف جدالاً. وتطرح المسألة تقريباً كما في لو. أما في مت 22، فقد أحاط التقليدُ الإنجيلي إعلان يسوع ببعض عناصر جدال، بحيث صار المقطع يشبه "قولاً في خبر".
ومهما يكن الإطار الذي قيل فيه، فجوهر الإعلان يبقى هو هو: إن يسوع يسأل التقليد المعاصر عن المسيح، على أنه ابن داود؟ وأفهمهم بسؤاله أنه يجب أن يفسّر المسيح بشكل آخر. وقال بعض الشرّاح: إن الكنيسة الأولى (وليس المسيح) قامت بالمقاربة بين هوية يسوع وهوية ابن داود. وجاء من يردّ عليه: لا يمكن أن يعود هذا القول إلى تعبير استنبطته الجماعة. فمن الصعب أن تعتبر تعليماً عقائدياً في الجماعة، تلميحات يتضمنها هذا القول الذي يخفي ويكشف جزئياً "السر المسيحاني".
قبل أن نسأل عن معنى النصّ، نستعرض التقليد السابق المتعلّق بداود.
2- التقليد الداودي في العهد القديم
لقد توسّع التقليد الداودي لا إطار العهد القديم، على هامش النؤمن القديم في إسرائيل. هذا النؤمن الذي نبع من الحقبة الأولى من تاريخه الخلاصي. ومع الوقت اندمج التقليدان: في زمن المنفى. ومع أنبياء مثل حزقيال، أشعيا، حجاي، زكريا، نحميا. واعتبر تدخّل الله من أجل داود امتدادً لأعمال الله الفدائية التي يذكرها النؤمن القديم في إسرائيل.
نجد أقدم تقليد عن داود في عمل المؤرّخ الاشتراعي، وهو يرتبط بالدور الذي لعبه داود في خبر تابوت العهد (1 صم 4: 1- 7؛ 2 صم 6: 1- 20). وهناك اعتلاؤه العرش (1 صم 16: 1- 2؛ 2 صم 5: 25؛ 6: 16- 23؛ 9: 1- 13). سلالته (2 صح 7: 1- 29؛ 11: 2- 20: 26؛ 1 مل 1: 1- 2: 46). أقواله الأخيرة (2 صم 23: 1- 7). في ذلك الوقت صوّر داود كعابد الربّ الغيور (2 صم 6: 21) الذي نعم بسماع. كلامه (1 صم 25: 31؛ 2 صم 3: 9- 10؛ 5: 2). داود هو الخادم الطائع الذي دلّ على احترامه للربّ حتى في قتل بني عماليق الذين ثاروا على شاول، الذي مسحه الربّ.
غير أن نعم الربّ لداود لا تتوجّه إليه وحده. فعلى داود أن يقود شعبه، ودوره كملك يؤثّر على إسرائيل كلّه. لهذا، كان اختيار الله له حدثاً ذا بعد فدائي كبير في تاريخ الشعب.
هناك مقطعان يشدّدان بشكل خاصّ على هذه الوجهة في دور داود: قول النبي ناتان (2 صم 7: 14- 17). "أقوال داود الأخيرة" (2 صم 23: 1- 17). دلّ ناتان بوضوح على أن نعم الله لا تعطى لداود وحده: "وعندما تتمّ أيامك وترقد مع آبائك، أحافظ بعدك على النسل الذي خرج من صلبك وأثبّت ملكه. هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبّت عرشه إلى الأبد. أكون له أباً ويكون لي ابناً" (2 صم 7: 12- 14).
ونفهم المعنى العميق لهذا القول من أقوال داود الأخيرة التي فيها عُرف مرتّل المزامير باسم "مسيح إله يعقوب" (2 صم 23: 1). سمّي داود بشكل واضح "مسيح"، أي ممثّل الله المكرّس. فالقول هو عهد قطعه الله مع السلالة الداودية (2 صم 23: 5): "قد عقد الله معي عهداً أبديّاً". وهكذا يعبرّ التقليد الداودي عن نفسه الآن في ألفاظ خاصّة بالعهد، فيزاحم في شكل من الأشكال العهد القديم في سيناء. وهكذا يكون لكل تقاليد إسرائيل مركز ثقل جديد.
إن هذا التقليد الأساسي بالنسبة إلى داود، نال تطوراً في المزامير الملكية، عند الأنبياء، وعند الكتّاب اللاحقين. ففي المزامير التي تتحدّث عن داود (مز 18؛ 72؛ 89؛ 132؛ 144) نجد إشارة واضحة تتكرّر مراراً إلى لقب "مسيح" (مز 18: 51؛ 89: 39، 52؛ 132: 10- 17). ثم إن مز 132: 2 ينسب إليه دوراً لافتاً في بناء الهيكل. نقرأ هناك أن داود نذر للربّ أن يبني الهيكل. وصار وعد الربّ في قول ناتان قسماً إلهياً (مز 132: 11؛ 89؛ 4، 36- 37، 50). وستشدّد هذه المزامير بشكل خاصّ على الطابع المستمر وغير المتزعزع للسلالة الداودية (مز 18: 51؛ 82: 5، 30- 37؛ 132: 10- 12). إنها تبقى إلى الأبد. والأناشيد العبادية في المزامير تشهد على هذا التواصل.
إن مز 2 الذي هو مزمور ملكي لا يشير إلى داود، يعد الملك الداودي بسلطة على الكون. فالملك هو "مسيح" الربّ. بل هو ابنه الخاصّ: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7). وهناك مزمور آخر ألّف لتتويج الملك الداودي فصوّره مدعواً من قبل الربّ لكي يجلس عن يمينه ويقاسمه مجده السماوي الرفيع: "قال الربّ لربيّ: اجلس عن يميني، فأجعل أعداءك موطئاً لقدميك" (مز 110: 1). وهكذا وُجدت رباطات وثيقة بين الله وبين الوارث الداودي المكرّس له.
ويتأمّن تواصل السلالة الداودية في زمن الحرب ضد الآراميين وأهل أفرائيم حسب ما أعلنه أشعيا لآحاز: كان خطر قريب يتهدّد الوارث الملكي الذي سيولد: إن "الولد" سيولد. سيكون "مشيراً عجيباً إلهاً جبّاراً أباً أزليّاَ أمير السلام" (كل هذا اسم واحد يحمل كل الصفات المذكورة). يجلس "على عرش داود" (أش 9: 5- 6) ويكون "فرعاً خارجاً من جذر يسَّى" (أش 11: 1). وفي النهاية، أعلن النبي للملك حزقيا بلاغاً آخر: "أنا أحافظ على هذه المدينة وأخلّصها إكراماً لي ولعبدي داود" (أش 37: 35).
وحين وجد إرميا نفسه أمام آخر ملوك السلالة الداودية، قبل هجوم نبوكد نصر على أورشليم، دعا إسرائيل إلى تقوية إيمانه (وأمانته) في النؤمن القديم. وزاد على هذا النداء بعض التلميحات إلى التقليد الداودي. أعلن أن الملك الداودي يوياقيم "لن يكون له شخص (أي: وارث) على عرش داود" (إر 26: 30). ومع ذلك، فالنبي نفسه أطلق الوعد بـ "عهد جديد" وأعلن أن إسرائيل "يخدم الرب إلهه وداود ملكه الذي سأقيمه له" (إر 35: 9).
ففي أقوال إرميا عينها، نجد إتجاهاً له معناه العميق. فهو ينظر منذ الآن إلى "داود" كالوارث الذي يجلس على عرش يقيمه الله. فالملك المثالي يكون "داود". "ها إنها تأتي أيام، يقول الربّ، أقيم لداود رجلاً صدّيقاً يملك كملك حقيقي ويكون حكيماً ويمارس الحق والعدل" (13: 5). الخلاص والعدل والاستقامة هي صفات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بملك ابن داود الجديد. وتعليم حزقيال يُعطي بعض الآمال حين يفكّر بدمار أورشليم: "يكونون شعبي وأكون إلههم. وعبدي داود يملك عليهم. ولا يكون لهم كلهم إلاّ راعٍ واحد" (حز 37: 23- 24).
ونلاحظ في التطور النبوي للمعنى اللاحق لاسم "داود" غياباً تاماً للقب "مسيح". فلا نجد هذه اللفظة إلا مرتين في أسفار الأنبياء: مرة تطبّق على كورش (أش 45: 1). ومرة أخرى تطبّق على الملك والأمّة (حب 3: 13). في الواقع، صار الأنبياء في شكل من الأشكال صدى لقول ناتان. ولكن، مع أن داود سمّي في السابق وبشكل واضح "مسيح" الربّ، إلاّ أنه يجب أن نلاحظ أن الأنبياء لا يتكلّمون عن "مجيء المسيح". إنهم يعلنون فقط الرجاء بأن يروا إعادة بناء مملكة داود لأن الله وعد بذلك.
ولا الزمن الذي بعد المنفى، عرف التقليد الداودي توسّعاً أكبر. لن يملك ملك مع زربابل، حاكم يهوذا، الذي "اختاره" يهوه (حج 2: 23؛ رج زك 6: 12- 14). لقد تطوّر التقليد الداودي تطورّاً له معناه بعد المنفى. وهذا ما نراه عند المؤرّخ الكهنوتي (1 آخ+ 2 آخ+ عز+ نح). فصورة داود ليست فقط صورة مثالية. بل إن خبر ملكه بدا في رسمة سريعة ونموذجية (حُذفت تفاصيل جديدة). مع أنَّ 1 أخ يبدأ بسلسلة أنساب تصل إلى آدم، فتاريخ إسرائيل الحقيقي يبدأ بشاول واعتلاء داود العرش (1 أخ 10). فالمؤرّخ يحاول أن يتصوّر ما تكون عليه مملكة إسرائيل المثالية في حكم الله، فيرسم حكم داود وسليمان بألوان "فردوسية": لا كما كان في الوقت الماضي، بل كما كان يجب أن يكون. وأعطى صورة "خياليّة" عن داود الذي أصبح المؤسّس الحقيقي للهيكل وشعائر العبادة فيه. وهكذا يشدّد الكاتب لا هذا النصّ على تواصل ملك داود (1 أخ 28: 4).
في هذا المجال نفهم معنى التحوّلات التي قام بها المؤرخ على قوله ناتان (2 صم 7: 12، 16؛ 1 أخ 7: 11- 14). في 2 صم يفهم "الزرع" في معنى جماعي. أما 1 أخ فيتحدّث عن نسل فرد في سلالة داود: يختاره الربّ من أبنائك. وعبارة "أثبته إلى الأبد في بيتي وفي مملكتي" تدلّ على تبدّل كبير بالنسبة إلى الأصل. فالتحوّل الذي تمّ يبرز واقعاً يقول إن الملك الداودي الآتي يكون ممثل الله في تيوقراطية يقيمها الربّ. ولكننا، هنا أيضاً، لا نجد لقب "مسيح" للملك الداودي. فإن كان داود نفسه يسمّى كذلك في 2 أخ 6: 42، فالكلام يدلّ على داود التاريخي، لا على الملك الداودي المثالي الذي ينتظره الشعب.
أخيراً، نجد في رؤيا دانيال (القرن الثاني ق. م) ذكراً "لأمير مكرّس" ينتظر في أورشليم: "منذ الوقت الذي فيه خرجت هذه الكلمة، يعودون ويبنون أورشليم إلى أن يأتي أمير مسيح، تكون سبعة أسابيع" (دا 9: 25). من هو هذا الأمير المكرّس، هذا "المسيح"؟ هل هو ابن داود؟ ربّما. غير أن وجود هذه اللفظة في دا هو جزء من مجموعة أوسع حول الآمال المسيحانية التي أخذت تبرز في القرن الثاني ق. م.
3- المسيح الداودي في العالم اليهودي المتأخّر
أن يكون "النبي" دانيال (9: 25- 26) قد حرّك آمال إسرائيل في بناء ملكوت الله بقيادة ملك مثالي، وأن يكون قد سمّاه "مسيح"، هذا ما نجده أيضاً في كتابات قمران. فالمغارة الأولى تلمّح بوضوح إلى دا 9: 25: "إلى مجيء نبيّ ومسيحَيْ هارون وإسرائيل" (قاعدة الجماعة). إذن، يعكس نصّ دانيال ونصوص قمران الفكرة عينها في تطوّر المعتقدات اليهودية: أي من الممكن أن نتحدّث عن مجيء "مسيح" أو "مسيحَين". لا شكّ في أنه يجب أن نحتفظ من قراءة كرستولوجيا (كلام عن يسوع المسيح) العهد القديم في هذه الألفاظ. ولا شكّ أيضاً أننا لا نستطيع أن نقول فقط أننا أمام مجرّد أشخاص مكرّسين. فهذه النصوص تدلّ على أن العهد القديم عرف موضوع ممثل كرّسه الربّ. وهذا الموضوع سيتطوّر حتى انتظار المسيح. وفي الوضع الذي يهمنا: هو انتظار كسيح داودي (نجعل الآن جانباً النبي المنتظر والمسيح الكهنويّ أو مسيح هارون).
إذا عدنا إلى نصوص قمران وجدنا أن المسيح الداودي يسمّى "مسيح إسرائيل". وفي "المباركات الآبائية لما، نقرأ تلميحاً إلى "مسيح الحق" أو الاستقامة، وزرع داود، لأن فيه وفي نسله جعل الحكم الملكي على شعبه في جميع الأجيال الاتية. ونجد أيفاً تفسيراً مهماً لقول ناتان. فبعد أن أورد بشكل موجز 2 صم 7: 11- 14، زاد الكاتب بشكل تفسير: هذا هو زرع داود الذي سيظهر مع مفسرّ الشريعة. إنه يظهر في صهيون، في الأيام الأخيرة، حسب ما كتب: "أقيم بيت داود الذي سقط. هو بيت داود الذي سقط، والربّ يقيمه ليخلّص إسرائيل".
وترتبط بالمسيح الداودي ارتباطاً واضحاً، مهمة خلاصية. هنا نذكر شرح أشعيا الذي يقارب بين أش 11: 1 وزرع داود. ونذكر الشهادات التي تطبّق قول بلعام (عد 24: 5- 7) على المسيح الداودي. وهكذا تشهد أقوال قمران على تفتح ختام لتقليد العهد القديم بالنسبة إلى داود. فلقب "مسيح" أعطي لابن داود المثالي الذي ينتظرونه "في نهاية الأزمنة". فهناك عناصر هذا المعتقد قد رُميت كبذار في كل العهد القديم. وتوسّعت شيئاً فشيئاً لتصبح تقليداً لابيبلياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسفار البيبليّة. حتى الآن، لم نجد في مغاور قمران نصاً واحداً يسمّي المسيح الداودي المقبل "ابن الله". ولكن في المغارة الأولى كان حديث عن الله "الذي يلد المسيح". ولكننا لا نجد تطبيق مز 2: 7؛ 115: 1 على هذا المسيح.
وإذا خرجنا من قمران وظللنا في الزمن السابق للمسيحية، نجد نصوصاً تتحدث عن انتظار ابن داود بشكل مسيح في مزامير سليمان (من أصل فريسي): "أقم لهم، أيها الربّ، ملكاً، ابن داود. لكي يملك على إسرائيل عبدك. في ذلك الوقت، لن يكون بينهم ظلم، لأنهم يكونون كفهم قديسين، ويكون ملكهم مسيح الربّ". هذا الرجاء يجد صدى في التقليد الراباني الذي يواصل الحديث عن التقليد الداودي في تراجيم على أش 11: 1؛ مز 18: 26؛ 21: 1.
4- "ابن داود" في التقليد الإزائي
ونعود الآن إلى أقوال يسوع في مت 22: 41- 46= مر 12: 35- 37= لو 20: 41- 44. كان يسوع يجادل مع الفريسيين، فطرح عليهم سؤالاً حول الأصل الداودي للمسيح. ثم طرح وضع عز 115: كيف يستطيع داود (صاحب هذا المزمور المشهور، داود الملهم) أن يكون أب الملك المسيحاني الذي يسمّيه "ربي"؟ "قال الرب (يهوه، كيريوس) لربيّ (لا أدوني، تو كيريو مو= الملك المكرّس): اجلس عن يميني".
أ- كيف نفسرّ كلمة يسوع هذه
هناك تفاسير عديدة قدّمت.
* نفهم من برهان يسوع أنه يشكّ بالأصل الداودي للمسيح. كان يسوع قد أعلن نفسه المسيح. ولكن هل يكون المسيح ابن داود، مع أن يسوع كان جليليّاً، كان نجاراً وابن يوسف النجار؟ هل يمكن أن يكون المسيح؟ فإذا أراد يسوع أن يتغلّب على هذه الصعوبة الجدّية، عليه أن يجد مقطعاً في الكتاب المقدس لا يكون فيه المسيح بالضرورة ابن داود. تشبّه بالفريسي اللبق ووجده!!
* المسيح هو أعظم من "مجرد" ابن داود. فأصله أنبل وأسمى من داود. وداود نفسه يسمّيه "الربّ"، وهكذا نستشفّ سرّ يسوع. ولكن النصّ ليس واضحاً في هذا المجال.
* في خط التفسير الثاني: عاد يسوع إلى رؤية "ابن الإنسان" في دا 7: 13. يسوع هو حقاً ابن داود. ولكنه أكثر من هذا، إنه ابن الإنسان في معنى خارق جداً.
ب- ماذا نقول في هذه التفاسير
ونترك أولاً التفسير الأول لأنه لا يعقل أن يهاجم يسوع معتقداً يرتكز على الأصل الداودي للمسيح. فالعهد الجديد لا يقدّم لنا أية شهادة عن نيّة مماثلة. فحين "ينكر" يسوع الكتاب المقدّس بهذا الشكل، فهو يقدّم سلاحاً لخصومه لكي يتهموه (يو 8: 5). ثم، إنه لمن الخطأ أن نعتبر أن يسوع جهل انتماءه إلى السلالة الداودية. فهناك تقليد قديم في العهد الجديد يعلنه بصراحة (روم 1: 3: ابنه الذي من ذرّية داود)، ولا يبدي أيّ تحفّظ بالنسبة إلى هذا الموضوع. بل هو يجد صدى في أماكن أخرى: مر 10: 47- 48 (يسوع ابن داود في فم ابن طيما الأعمى): مت 1: 1 (في سلسلة نسب يسوع) لو 3: 31 (سلسلة نسب يسوع) 2 تم 2: 8 حيث نقرأ: "أذكر يسوع المسيح المتحدّر من نسل داود، الذي أقيم من بين الأموات بحسب إنجيلي". إذن، أيكون إنكار يسوع لأصل المسيح الداودي لم يترك أي أثر في العهد الجديد؟ بل إن العهد الجديد يشدّد على هذا الدور الذي يحقق ما قيل في العهد القديم.
* ويبقى التفسيران الثاني والثالث اللذان يجب أن نختار بينهما. هنا نقوم بتمييّز هام. يبدو أن مت بشكل خاص قد أضاف بعض العناصر الثانوية، فجعلنا في التفسير الثالث. ولكن يطرح سؤال: أما تكون الكنيسة الأولى اكتشفت ما اكتشفت انطلاقاً من الحدث الأول على هذا الإيمان الذي نالته في الفصح والعنصرة؟
بما أن الحوار يبدو بشكل جدال مع الفريسيين (رج 2: 9، 17- 19؛ 3: 4)، فقد يكونون هم الذين بدأوا فطرحوا السؤال الثاني: وأنت أيضاً تعلّم أن المسيح هو ابن داود. لم يجب يسوع بلا ولا بنعم، بل طرح سؤالاً معاكساً (رج مت 22: 17). إذن، قد يكون جواب يسوع اتخذ بالأحرى شكل جدال بين الفريسيين، هدفه مواجهة الفريسيين على مستوى التفسير الكتابي، لا الإشارة إلى أصله الذي يمكن أن يكون غير داودي. فالجواب من هذه الجهة أو تلك هو في العمق مسألة تشديد على وجهة ما، لأننا لا نستطيع أن نلغي كلياً الوجهة الأخرى.
* ما هو أساس هذا النوع من الجدال؟ هناك في مت 22 أربعة أنماط من الأسئلة التفسيرية نجدها في التقليد الراباني. هناك سؤال الفريسيين حوله الجزية التي تدفع لقيصر (22: 15- 22 وز). وسؤال الصادوقيين حوله زواج امرأة واحدة بسبعة أخوة ومصيرها في القيامة (22: 23- 33 وز). وسؤال الفريسين حول وصيّة في الشريعة (22: 34- 40 وز). وأخيراً، سؤال الفريسيين حول المسيح ابن داود (22: 41- 46 وز). هذه الأسئلة تتوافق على التوالي مع الترتيب الراباني للأسئلة الأربعة حول الحكمة (تفسير النصوص الشرعية)، حول السذاجة (إظهار بساطة أو سذاجة أحد)، حول طريق الأرض (أي مبادئ السلوك الأخلاقي)، حول الأخبار التي تفسرّ المقاطع الكتابية (هاغاده).
في هذه الحال، قدم يسوع سؤال "هاغاده" أوحاه له تعارضا يقول إن المسيح هو ابن داود وفي الوقت عينه ربّ داود. هذا يعني أن الفكرتين صحيحيتان: فالمسيح هو ابن داود (بوجهه الأرضي، البشري). والمسيح هو ربّ داود (بوجهه السماوي، الإلهي). ولقد أراد يسوع أن يقول في جوابه أن المسيح لا يهتم بالسياسة كما يعتقد عدد كبير من معاصريه.
* نحن نجد في تدوين الأناجيل الإزائية توسّعاً أطول في التقليد حول ابن داود. فحين أدخل الإنجيليون هذا الحدث في أناجيلهم، فقد أرادوا أن يستغلّوا لطائف لقب "كيريودس" ويطبّقوا على يسوع المسيح كلمات مز 110. في ذلك الوقت، تضمّن "كيريوس" كما استعمل في الحديث عن يسوع، أنه مساوٍ ليهوه في العهد القديم. ثم إن مز 110: 1 المستعمل في أمكنة أخرى من العهد الجديد يبرز ارتفاع يسوع لا لقب الرب والمجد السماوي (رج 16: 19؛ 1 كور 15: 25؛ أف 1: 20؛ كو 3: 1؛ عب 8: 1؛ 10: 12، 13؛ 12: 2). ولكن حصل ما حصل لهذا المزمور فشكل تعارضاً مع علاقات المسيح الداودية (أع 2: 29- 35؛ 13: 23- 29؛ عب 1: 3- 13).
* في هذا المجال نلاحظ ثلاثة أمور:
- هناك شك بأن يكون أعطي للمسيح لقب "ابن الإنسان" قبل المسيحية.
- لم يقرّب التلاميذ بين هذين اللقبين خلال حياتهم على الأرض.
- مع أن مز 110 لا يتضمّن تلميحاً مباشراً إلى ابن الإنسان، ولا إلى المسيح الداودي المثالي والمنتظر، فإن العلاقات المقامة هنا تعود إلى يسوع نفسه. فالتلميح إلى مز 110 في مشهد المحاكمة (مت 26: 64) يشير إلى هذه الإمكانية، وقد يكون منطلقاً للتعمّق في تقليد ابن داود في الأناجيل الإزائية. وخاتمة هذه الاعتبارات التي تجد تتويجها في ارتفاع يسوع المجيد وبنوّته الإلهية، تجد أوضح تعبير لها في رسالة برنابا حيث نجد ايراد مز 110: 1. وهذا التعبير يسند الاعتقاد القائل بأن يسوع "ليس ابن الإنسان، بل هو حقّاً ابن الله".
خاتمة
وهكذا شكّل المسيح الداودي مثالاً عن موضوع بيبلي صار تقليداً تشهد له الآداب اللابيبلية، فظلّ مرتبطاً بعالم الكتاب المقدّس. توسّع هذا التقليد ونما خارج العهد القديم، فوجد زخماً جديداً في جدال يسوع مع الفريسيين حول الأصل الداودي للمسيح