الفصل الخامس والعشرون: الوصية الأولى

الفصل الخامس والعشرون
الوصية الأولى
12: 28- 34
يا سياق مناقشة جدلية (12: 18- 38 وز)، جاء كاتب فريسي (مت 22: 35) يستشير يسوع: "ما هي أولى الوصايا (آ 28)؟ أجاب يسوع بأن المحبّة هي القاعدة الأولى في كلّ حياة دينية (ر 29- 31).
1- سؤال الكاتب
مثّل الصادقيون والفريسيون عند اليهود تيارين فكريّين وطريقتين في الحياة متعارضتين (أع 23: 8). سمع كاتب من جماعة الفريسيين (الإختصاصيين في تفاصيل الشريعة ووقائعها) حوار يسوع مع الصادوقيين (12: 18- 27 وز)، ولاحظ أنه أحسن الجواب (أحسن الردّ عليهم) (آ 28). إذا عدنا إلى متى رأينا أن الفريسيين علموا أن يسوع "أسكت الصادوقيين" (كمّ لهم أفواههم)؟ اجتمعوا وأوفدوا بعضاً منهم ليحرجه بسؤال يطرحه عليه (مت 22: 34- 35). أما في مرقس، فهذا الفريسي الغني جاء يسأل يسوع لا تعصّباً لشيعته، بل رغبة في الإفادة من تعليم هذا المعلّم. وسوف نرى أنه قبلَ حُكم يسوع بتعاطف ويقين: "حسن يا معلّم! فأنت على حقّ في قولك..." (آ 32). لهذا، حين لاحظ يسوع أنه تقبّل تعليمه بنيّة طيّبة ولطافة، قال له: "لست ببعيد عن ملكوت الله" (آ 34).
إستعاد الرابانيون في القرنين الأول والثاني ب م، ترتيبات سابقة فأحصوا في الشريعة اليهودية 613 وصية: 365 وصية سلبية (لا تفعل. مثلاً، لا تقتل) و 248 وصية إيجابية (مثلاً، أكرم أباك وأمك). بعض هذه الوصايا كان كبيراً أو خطيراً. والبعض الآخر كان صغيراً أو ضعيفاً.
حسب مت 22: 35، سأل الفريسي: "ما هي أعظم وصيّة في الشريعة"؟ في مت 5: 19، يتحدّث يسوع عن تجاوز "أصغر هذه الوصايا". كان من الطبيعي أن يهتمّ متى بهذه العبارات الساميّة: وصية "كبيرة"، وصية "صغيرة" في "الشريعة". لقد كان يوجّه كلامه إلى قرّاء تربّوا تربية يهودية. أما مرقس الذي يكتب إلى مسيحيين ارتدوا من العالم الوثني، فهو لا يتكلّم عن الشريعة، ويعطي سؤالا الكاتب بعداً أكثر شمولاً: عاد إلى الوصايا من أية فئة أو نظام كانت. وطلب تحديد "أولى" الوصايا، فأحلّ معيار "الأولوية" محل معيار "العظمة". لهذا بدت فريضة المحبّة هنا وصيّة تمز قبل كل شيء.
كان علم الفقه اليهودي قد حدّد أهمية مختلف فرائض الشريعة، الصغيرة منها والكبيرة. ونحن نجد في التلمود سؤالاً شبيهاً بسؤال الإنجيل: "ما هي الوصيّة التي تتفوّق بوزنها على سائر الوصايا كلها"؟ وجاء الجواب: "منع عبادة الأوثان". وسيورد الأدب اليهودي وصايا غيرها. مثلاً، منع سفك الدم. أو تنجيس اسم الله. أو: التعدّي على السبت... ولكن يبدو أن الشركِ (عبادة الأوثان)، والزنى مع الأقارب، والقتل عمداً، اعتبرت أثقل الخطايا. فالعالم اليهودي لم يكن يدرك أولوية وصية المحبة، لأن روحانيته وحياته انحصرتا في فتاوى شريعانية تتوقف على التفاصيل إلى النهاية. أما الكاتب الذي جاء يسأل يسوع، فكان عالماً بالشريعة (فقيهاً).
ومع ذلك، يجب أن لا ننسى أن العالم اليهودي توصّل إلى تقديم تعبير ناجح عن وصية المحبّة، خصوصًا تجاه الله. فرابي هلال أوصى عشرين سنة ب م. بمحبّة القريب على الشكل التالي: "ما لا تحبّه لك، فلا تفعله لقريبك. تلك هي الشريعة كلها. وكل الباقي شروح". هنا نتذكّر عبارة يسوع التي بدت في شكل إيجابي: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أنتم أيضاً بهم، فذلك هو الناموس والأنبياء" (مت 7: 12: لا نفعل الخير لنلاقي الخير. بل نبادر إلى عمل الخير ولا ننتظر الردّ). ونزيد هنا أن الروحانية اليهودية ظلّت مطبوعة بطابع الإستبعاد (القريب هو ابن القبيلة، ابن الدين): "أحبب قريبك (أي ابن قبيلتك) وابغض عدّوك" (أي الغريب عن دينك. وهذا لا يزال سارياً في مجتمعات دينية عديدة) (مت 5: 43). يسوع هو أول من أزال هذه الأسس القديمة (أزال الحاجز بين البعيدين والقريبين، أف 5: 11- 18). وانطلق في بناء جديد يتميّز بجذرية تامة. كل بعيد صار قريباً، فيصبح كل إنسان قريباً من المسيحي.
2- جواب يسوع
في هذا الإطار التعليمي، أعلن يسوع قوله (آ 29- 31) رداً على استشارة هذا الكاتب اليهودي. وقد جاء جوابه واضحاً وقاطعاً، إكتفى بأن يعبرّ عن المبدأ الأساسي لتعليمه الديني، ويكرز "بالوصية الجديدة" (يو 13: 34؛ 1 يو 2: 7- 8). غير أن يسوع يعرف أن سيكون لكلامه وزن أكبر في نظر كاتب فريسي، إن استند إلى الكتب المقدّسة القريببة جداً من هذا العالم بالشريعة. لهذا اكتفى بأن يورد تث 6: 4- 5 ولا 19: 18، لأنهما يتضمّنان عبارات توافق كل الموافقة حديثه.
أ- أحبّ الله فهو الربّ "الواحد"
يتميّز نصّ تث 6: 4- 5 باعترافه بوحدانية الله (بالإله الواحد). يتميّز عن عبارات عديدة مشابهة، يحاول العهد القديم بها أن يدخل محبّة الله إلى القلوب. فهذه المقدمة التوحيدية (تعلن أن الله واحد) (آ 29)، قد استعادها مرقس عمداً: والبرهان على ذلك، هو أن المعلّم جعل الكاتب يردّد نصّ سفر التثنية ويؤكّد وحدانية الله في بداية كلامه: "إن الله واحد ولا إله سواه" (آ 32).
يتحدّث العهد القديم عن مخافة الله أكثر مما يتحدّث عن محبته. نقرأ مثلاً في لا 19: 14: "لا تلعنوا الأصمّ ولا تضعوا حجر عثار أمام الأعمى. هكذا تكون فيكم مخافة إلهكم". وفي آ 32: "قم احتراماً للأشيب، وكرم وجه الشيخ. هكذ تكون فيكم مخافة إلهكم" (رج خر 1: 21؛ يش 4: 24؛ 1 مل 18: 12...). وسفر التثنية نفسه يتحدث مراراً عن هذه المخافة. "اجمع لي الشعب حتى أسمعهم كلامي ليتعلّموا مخافتي" (4: 10؛ رج 6: 24: 14 23...). وفي المزامير نجد عبارة "خائف الله" (أو: متقي الله) التي تدلّ على الإنسان الأمين لله (مز 22: 24؛ 115: 11...).
وفي أماكن أخرى يقال إن على الإنسان أن يخدم (يعبد) الله. إذا عدنا إلى البنتاتوكس (أو: الأسفار الخمسة) لا نجد هذه اللفظة إلا في سفر التثنية (ما عدا خر 20: 6= تث 5: 10) التي يستعملها مراراً (تث 5: 10؛ 6: 5، 7، 9، 10، 12؛ 11: 1، 13، 22...). وهي تميّز بشكل عام الكتب المتأخّرة في التوراة (مثلاً، عزرا، نحميا). مثل هذا التعبير عن الوصية الأولى يعتبر تقدماً ونمواً في الحسّ الديني بالنسبة إلى الوصايا العشر التي تعني الله. إذا عدنا إلى خر 20: 1 ي وتث 5: 7 ي، نجد أن هذه الوصايا هي ثلاث: إله واحد. إكرام اسم الله. حفظ السبت. أحبّه "بكل قلبك، وكل نفسك، وكل فكرك، وكل قدرتك".
بدا سفر التثنية وكأنه استفاد من الصياغة اللاهوتية لدى الإنبياء الذين قابلوا علاقات إسرائيل بالرب بعلاقات امرأة بزوجها: هي علاقات حب، لا واجبات قانونية وعبادية. الله "يحب" شعبه. هذا يقين يؤكّده العهد القديم (1 مل 10: 9؛ 2 أخ 2: 10؛ 9: 8؛ ملا 1: 2: قال الرب: أحببتكم): "الربّ تعلّق بكم وأختاركم، لا لأنكم أكثر من جميع الشعوب... بل لمحبته" (تث 7: 7- 8). إن محبّة الله (الذي اختار إسرائيل) الطوعية هذه هي في أساس كل تعليم هوشع الذي كان أول من فهم علاقة الله بشعبه في لغة الحبّ والزواج. وسيتبعه إرميا وحزقيال وأشعيا الثاني ونشيد الأناشيد.
وهكذا نكتشف جذور وصية محبّة الله ونفهم فهماً أفضل مضمون هذه "المحبّة". لقد أدرك هوشع أنه ليس من عاطفة تربط القلب البشري مثل الحبّ الزوجي الذي يفرض علينا أن نبادل الحبّ بالحبّ. لهذا فرض الله بصوت أنبيائه، فرض على شعبه الخائن أن يحبّه محبّة الزوجة لزوجها. وبدا هذا البرهان أقوى من فكرة الله الشاملة. فكرة الله سيد الكون وخالقه.
وهذا هو الموضوع الذي يشير إليه القديس يوحنا لكي يدفعنا إلى حبّ الله: "تلك هي المحبّة: نحن ما أحببنا الله، بل هو الذي أحبّنا... فعلينا أن نحبّ لأن الله أحبنا أولاً" (1 يو 4: 10، 19). هذا الحبّ الذي يظهره الله "فينا" (1 يو 4: 7، 12، 17)، يحرّك حبنا نحو الله. وهذا الحبّ الذي حمله الله إلى العالم (يو 3: 16 ) وإلينا "حين كنّا بعد خطأة" (روم 5: 8) "قد أفاضه في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا" (روم 5: 5). هذا هو عربون حبّ الله لأخصّائه والمهر الذي يعطيه "العريس" الإلهي لعروسه: هنا نجد القوة التي تنعش كياننا لنحبّ الله ونتعرّف إليه أنه "أبونا" (روم 8: 15). تحدّث هوشع وإرميا على خطاه عن الله "زوج" شعبه. وقد أخذ يوحنا بهذه النظرة فكلّمنا عن سكن اللاهوت في النفس التي يحبّ (يو 14: 23). وعن عشاء يقاسمه المسيح مع ذاك الذي يفتح له بابه (رؤ 3: 20). في الواقع، هو الروح القدس يتمّ وعد النبي: "أتزوّجك لي إلى الأبد. أتزوّجك في البرّ والحقّ، في الحنان والحبّ" (هو 2: 21).
هكذا يجب أن يُفهم مضمون حبّ الله والقريب. الحبّ بعيد كل البعد عن المخافة وعن الاحترام والإكرام والخدمة والشريعة. الحبّ لا يفرضه كبير على صغير وقويّ على ضعيف. حين تحدّث العهد القديم عن الحبّ دلّ فيه على عاطفة طوعية تدفع إلى عطاء الذات. الحبّ هو قوّة في النفس لا نقدر أن نفسرّها. وهذا ما تشير إليه التوراة عامة وسفر التثنية خاصة حين تقول إن حبّ الله هو تعلّق به (تث 10: 20؛ 11: 22؛ 13: 5؛ يش 22: 5؛ 23: 8؛ 2 مل 5: 18). ويعبرّ المرتّل مراراً عن رغبته القوّية بأن يتحد بالله الذي هو وحده سرور قلبه (مز 63: 2- 9؛ 73: 25...). إن تعلّق الإنسان بالله هو تعلّق الزوجة بزوجها والعروس بعريسها. وحين نحبّ الله نتحد به، نرتبط بعلاقات حميمة معه بحيث نصبح وإياه "شخصاً احداً" (يو 17: 21، 22).
يستعمل تث 6: 4 الاسم الشخصي "يهوه"، ويورد مر 12: 29 النصّ كما في اليونانية حيث يهوه هو كيريودس أي الربّ: "الربّ هو إلهنا. الرب هو الواحد. أحبّ يهوه إلهك من كل قلبك". حين نقرأ النصّ نحسّ أن "وحدانية" الله هي الباعث الذي يدفعنا إلى حبّه.
لا نجد في التوراة كلها إعلان إيمان بوحدانية الله مثل هذا. فالعبارة الوحيدة التي تشبهه نقرأها في زك 14: 9 (ويكون الربّ ملكاً على الأرض كلها، فيكون ربّ واحد واسمه واحد) وهي تعني المستقبل وليست تأكيداً شريعياً. من جهة الألفاظ، هناك بناءان شبيهان لما في تث 6: 4. في حز 33: 26 "الواحد" يقابل الكثيرين. أما في تث 6: 9، فإنّ "الوحيد" لا يستبعد كائنات أخرى من الطبيعة نفسها بل يدلّ على سموّ الكائن الذي نتحدّث عنه (رج 2 صم 7: 23).
ينتج من هذه الملاحظات أن تث 6: 4 التي استعادها مر 12: 29 هي فعل إيمان بوحدانية الله. ولكن هذه العبارة ليست إعلاناً فلسفياً بارداً، بل إعلاناً حياتياً له وظيفته بأن ينفح المؤمنين بدينامية روحية توجّه لهم حياتهم.
هنا نجد نكهة خاصة تتخذها "وحدانية" يهوه. لا شكّ في أن "يهوه هو إلهنا" ولكنه ليس فقط إله إسرائيل، الإله الذي يستبعد سائر الآلهة. ولا نكتفي بأن نؤكد أنه ليس إلا يهوه واحد (فهذا لا يحتاج إلى تأكيد)، بل أن نؤكد أن يهوه "وحيد" "فريد" في لاهوته بين كل الآلهة التي يمكن أن نتخيّلها (رج 1 كور 8: 5؛ مز 82: 1). هو أعظم وأكمل إله يمكننا أن "نتخيّله". "لا مثيل لك، ولا إله سواك" (2 صم 7: 22).
كل هذا يجب أن يحرّك في الإنسان حبّاً طوعياً يدفعه إلى الله لأنه "الوحيد"، لأنه ذاك "الذي هو" (خر 3: 14). لأنه الكائن وحده، لأنه ذاك الذي منه كل شيء وإليه نرجع (1 كور 8: 6).
2- أحبب قريبك كنفسك
وحين حدّثنا يسوع عن حبّ القريب، وجد أيضاً تعبيراً كاملاً في العهد القديم. نقرأ في لا 18: 8: "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل أحب قريبك مثل نفسك". قال رابي عقيبة (50- 135 ب م): "هذا مبدأ أساسي في الشريعة". نلاحظ المقابلة بين "القريب" و"أبناء شعبك". وفي 19: 34: "ليكن الغريب كالأصيل، فأحبه كما تحبّ نفسك، لأنكم كنتم غرباء في مصر". هنا يخطو النصّ خطوة في توسيع مفهوم القريب. يصير واحداً منا، فيُعامل كأنه من "شعب الله". أمّا في العهد الجديد، فلا يُستبعد أحد من المحبّة الواجبة للبشر (رج مت 5: 43).
تتضمّن هذه الفريضة كل الوصايا التي عدّدها يسوع في مر 10: 19 وز (لا تقتل، لا تزن...). ولكن تعبير 12: 33 يعيد مجمل الشرائع إلى الوحدة بفضل "الحبّ" الذي يبسّط كل شيء. كما أنه ينفح روحاً وحياة في هيكل عظميّ من القوانين لا تهتمّ إلا بمادية الفريضة التي نتمّها. مثل هذا التتميم في مثل هذه الظروف يكون عقيماً لا ثمر فيه.
يجب أن نشدّد على فكرة "محبّة" القريب، هذه القوة التي تدفعنا إلى التضحية من أجله، فنحسن إليه، ونجعله مسروراً. هذا هو جوهر متطلّبات الرب. فالحبّ هو هذه القوة التي تجعل الإنسان "يصبر ويرفق". فالمحبّ لا يعرف الحسد والتفاخر والكبرياء. المحب لا يفرح بالظلم، بل بالحقّ. المحبّ لا يحتدّ ولا يظن السوء. المحبّ يصفح عن كل شيء، ويصدّق كل شيء، ويرجو كل شيء (1 كور 13: 4- 7).
هنا نتذكر أيضاً ما يقوله القديس بولس في الرسالة إلى أهل غلاطية (5: 4): "فالشريعة كلها تكتمل في وصية واحدة: أحبب قريبك كنفسك". وكان قد قال في روم 13: 8- 10: "من أحب القريب أتمّ الناموس. فالوصايا التي تقول: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشته وسواها من الوصايا، تتلخّص في هذه الكلمة: أحبب قريبك كنفسك. إن المحبّة لا تصنع بالقريب شراً. فالمحبّة اذن هي تمام الشريعة".
لا شكّ في أن العهد الجديد يفرض أن يبرهن الحبّ عن نفسه بالأعمال، بالممارسة اليومية. قال يع 2: 15: "لو كان فيكم أخ عريان... فماذا ينفع قولك له: إذهب بسلام"؟ وقالت 1 يو 3: 17: "فمن كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجاً فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه"؟ غير أن هذه المحبة العملية ليست ثمرة اشتراكية اقتصادية ولا وسيلة لكي نرضي كبرياءنا حين نعطي الآخرين من عليائنا. إن المسيحية تريد لكل عمل اجتماعي أو عمل محبّة، أدن يستلهم عطاء الذات والتضحية والتخلي، وأن يرافقه انتباه إلى الآخرين وخصوصاً المحتاجين منهم. وهكذا تصبح العاطفة الطبيعية أول مرحلة لكي نصل إلى فضيلة المحبّة.
أحبب قريبك "مثل نفسك". كما تحبّ نفسك. هذا لا يعني أنك تفعل لقريبك ما تفعله لنفسك بل الأحرى أن تعامله بالحبّ عينه. هذا ما نكتشفه في خبرة الصداقة بين داود ويوناتان. "تعلّقت نفس يوناتان بنفس داود وأخذ يحبّه كنفسه" (1 صم 18: 1). فالحبّ الحقيقي الذي فيه الشيء الكثير من الحبّ الزواجي، يجعل من القريب "نصف نفسى"، يدخله في كيان الإنسان فيصبح الإثنان روحاً واحداً وقلباً واحداً (رج أع 4: 32).
والسامري الصالح الذي ساعد الجريح في الطريق، لم يدفعه إلى ذلك اهتمام اجتماعي أو قانوني. بل رأى المسكين "فتحرّكت أحشاؤه"، أشفق عليه (لو 10: 33). ومقابل هذا، حين يرفض الإنسان أن يمارس المحبّة فهو "يغلق أحشاءه" (1 يو 3: 17) على أخيه المحتاج.
هناك خطر الإكتفاء بعبارات التهذيب البسيطة التي تبقى على المستوى السطحي، وتدلّ مراراً على أنانية ترفض مدّ يد المساعدة. قال 1 يو 3: 18: "لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ". هذه هي نتيجة برهان بسيط وقاطع من قبل القديس يوحنا. نحن نبرهن على المحبة بالعمل. ولا نكتفي بالأمور السلبية: لا تقتل، لا تسرق... بل نصل إلى المحبة الإيجابية: ماذا عملنا من أجل أخوتنا، من أجل قريبنا الذي نلتقي به كل يوم فعبرّنا عن محبّة الله التي تحرّك قلوبنا؟ إن المحبّة الصحيحة تلزم كل الملكات، وتطلب منا أن نجنّد كل خيراتنا في خدمة القريب.
والحبّ الذي يطلبه منا المسيح تجاه القريب، يذهب أبعد من عمل بسيط. وقال يوحنا: "بهذا عرفنا المحبّة: المسيح بذل حياته عنا. فيجب نحن أيضاً أن نبذل حياتنا من أجل إخوتنا" (1 يو 3: 16). هذا واجب علينا، هذا دين "ندفعه" للمسيح من أجل خير إخوتنا. في هذا الإطار تبرز وتتسجّل وصية يسوع الجديدة: "كما أنا أحببتكم، أنتم أيضاً أحبوا بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً" (يو 12: 34- 35). وزاد يسوع في موضع آخر: "ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه" (يو 15: 12- 13). مثل هذا الحبّ يجعلنا شبيهين بالمسيح الذي "أحبّ أخصّاءه إلى الغاية" (يو 13: 2). إلى غاية الحبّ ونهايته، وكأن للحبّ نهاية.
ويبقى السؤال الذي أثاره هذ الكاتب الذي من مدرسة الفريسيين. هذا السؤال أورده لوقا بعد قول يسوع حول محبّة الله ومحبّة القريب (نص موازٍ لمرقس). "ومن هو قريبي" (لو 10: 29)؟ وجاء الجواب في مثل السامري الصالح (لو 10: 30- 37). بعد أن روى يسوع الخبر سأل الكاتب: "من من الثلاثة (أي: الكاهن واللاوي والسامري) صار في رأيك قريب الإنسان الذي وقع لا أيدي اللصوص"؟ أجاب الكاتب: "ذاك الذي عامله بالرحمة". لم يكن السامري يهودياً مثل "الجريح". كان غريباً عن الجريح، بل محتقراً من اليهود. وهنا يبرز درس أول: إن المحبّة المسيحية تقلب الحواجز على مستوى العرق واللون والوطن والدين. تتجاوز كل خاصية وتنفتح على جميع البشر. تنسى الأفكار المسبقة (هذا عمل في الماضي...) والأحكام المسبقة (على الشعوب) وكل بغض لا يتزحزح بين الشعوب!
وأهمّ من هذا، هو أن يسوع يزيح المحور الذي بالنسبة إليه نقيّم "القرب" (أو البعد، إذا كان بعد من مجال للبعد) من الآخرين. عندما أضع حاجزاً بيني وبين الآخر، يصبح بعيداً عني وعن اهتمامي وعن محبتي، وإن كان قريباً بجسده، بالبيت الذي يسكنه، بالعمل الذي يجمعنا في مكان واحد.
المحور في نظر اليهودي هو "أنا". والآخرون يكونون بعيدين أو قريبين حسب دوائر تكبر شيئاً فشيئاً: أخي وأختي. ابن عمي (وأنا وأخي على ابن عمي!). ابن قبيلتي. ابن بلدتي. ابن ديني... وأخيراً، الغريب الذي لا يدخل في دائرة من هذه الدوائر (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب). وهناك مثل آخر: أنصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً. هل هناك من إنسان ليس أخاً لي؟
أما المسيح فجعل محور الإنسان في "الآخر" (لا فيّ أنا)، ولو كان ذاك الآخر بعيداً عن الدائرة، بل خارج الدائرة. هذا ما نجده في مثل السامري. فالعقلية اليهودية لا تستطيع أن تعتبرّ هذا البائس قريباً من السامري (خلافات عميقة، احتقار). ولكن يسوع يقول إن هذا السامري لم يقدّم له من بعيد بعض الإسعافات وتركه وحاله. اعتبره أخاً له. اعتبره كنفسه. بل أكثر من نفسه: جعله على دابته.
إن القرب من الآخرين كما يطلبه مني المسيح، لا يتولّد من حاجتي (أنا) إليهم، من إستفادتي (أنا) منهم، من إرتياحي (أنا) معهم. اقترب من الآخر لأنه هو بحاجة إلي، مهما كانت علاقاته الماضية بي. إذا إنطلقنا من الوجهة البشرية المحضة، كان "اليهوديان" (الكاهن واللاوي) أقرب إلى الجريح من السامري. ماذا انتفع الجريح من هذه "القرابة"؟ ثم إن السامري لم يقل: هناك آخرون يجب علي مساعدتهم، فلا "أفرّط" في أموالي. أو: لماذا لم يساعد الكاهن واللاوي هذا الجريح، فهما مجبران به لأنه "يخصّهما"؟. لا، لم يقل شيئاً من هذا. رأى حاجة أمامه، فقالت: كيف أستطيع أن أعين الجريح؟ ولم يكتفِ بالقول. أو هو لم يقل شيئاً. بل "دنا من الجريح، وسكب زيتاً وخمراً (أدوية ذلك الزمان) على جراحه وضمّدها، ثم كله على دابته..." (لو 10: 34). عملَ السامري ما عمل، ولم يهتمّ بأن يراه الآخرون. ولم يبرّر تقاعسه بانتقاده أنانيّة الآخرين. وبمختصر الكلام، حين أطرح على المسيح: "من هو قريبي"؟ سيجيبني: "إذهب أنت وأعمل مثله". إعمل مثل هذا السامري. أراد الكاتب أن يعرف، أن يصل إلى "نظرية" حول القريب، أن "يفلسف" الأمور. أمّا يسوع فاكتفى بأن قال لهم: اذهب واعمل مثله.
وقبل أن ننهي تأمّلنا في مثل السامري الصالح، نعرف أن يسوع قلب الأمور رأساً على عقب. ليس الجريح هو الذي يطلب القرب من السامري. ليس الفقير هو الذي يحاول التقرّب من الغني، ولا الصغير من الكبير. على الكبير أن يطلب القرب من الصغير. وعلى السامري أن يتوسّل إلى الجريح ويرجوه أن كان يرضى به قريباً. فمحبّة يسوع هي التي تدفعنا إلى هذا الموقف الذي يزيل كل تعال على الآخرين بسبب مال نمتلكه أو معرفة نتمتع بها، أو صحة وقوة. فكما أن يسوع جاء يداوي البشرية الجريحة، هكذا فعل السامري (هو يمثّل المسيح). وهكذا يفعل كل مسيحي يريد أن يقتدي بالمسيح.
إن الكرازة عن المحبّة الأخوية تستند إلى أسس واسعة في الوحي. فالنبي ملانجي برّر حبّ "القريب" في الجماعة الإسرائيلية بهذا البرهان الرائع: "أليس لنا أب واحد؟ أليس إله واحد خلقنا" (ملا 2: 10)؟ قد يعني الأب الواحد "آدمَ فنكون إخوة في البشرية ومسؤولين بعضنا عن بعض (قايين، ماذا فعلت بأخيك. أنت حارس له، تك 4). وقد يعني "الله". حينئذ يقوى الرباط بين البشر بسبب إرتباطهم كلهم بالذي "خلقهم"، بالذي "ولدهم".
ويحرّض القديس بولس المسيحيين على العيش في السلام والحبّ الأخوي، فيبتن لهم أن هذا الحبّ يستند إلى واقع وهو أن لنا إله واحد وأب واحد لنا جميعاً (أف 4: 3- 6). وهذا ما يعطي بعداً جديداً لواحدنية الله، كما يشير نصّ مرقس. منذ البداية، تمتدّ أبوّة الله على جميع الشعوب. والأخوة الشاملة توحّدهم حوله أبيهم الواحد. ويقدّم لنا يوحنا تعليماً يلج إلى أعماقنا: لماذا نحبّ بعضنا بعضاً؟ "لأن المحبّة هي من الله. وكل محبّ هو مولود من الله ويعرف الله" (1 يو 4: 7). فحين نحبّ نبرهن أننا حقاً أبناء الله. وإلا كنا أبناء ابليس. من لا يحبّ "لم يعرف الله، لأن الله محبّة" (1 يو 4: 8). ويربط يوحنا برباط وثيق محبّة الله ومحبّة القريب فيقول: "إن قال (زعم، إذن أخطأ في نظرته) أحد: أنا أحب الله، وهو يبغض أخاه، فهذا كاذب. فكيف يستطيع من لا يحث أخاه الذي يراه، ألن يحب الله الذي لا يراه؟ فلنا منه هذه الوصية: من أحبّ الله، أحبّ أخاه أيضاً" (1 يو 4: 20- 21).
إن الحبّ ينبعث من الله كما من ينبوعه. وبهذا الحبّ الخصب يلدنا الله "كأبناء". حبّ الآب يمرّ في المسيح، وبالمسيح إلى العالم. فعلى البشر أن ينقلوا هذا الحبّ وهكذا تنمو عائلة الله. وفي النهاية يعود هذا الحبّ إلى الله كهدفه الأخير، فيولّد هذه "الوحدة" الكاملة التي تطلّع إليها يسوع فقال: "إجعلهم كلّهم واحداً ليكونوا واحداً فينا، أيها الآب مثلما أنت فيّ وأنا فيك" (يو 17: 21).
خاتمة
وصية المحبّة وصيتان. وموضع الحبّ موضوعان: الله والقريب. في الواقع، يجب أن نحبّ دائماً. هذا هو النشاط الوحيد المطلوب من الإنسان. ففينا حبّ واحد فريد ينبع من القلب الواحد. وحين حدّثنا يوحنا عن المحبّة، لم يحدّد أين يقع حبّ الله وأين يقع حبّ القريب. حبنا للقريب ينبع من حبنا لله وحبّ الله لنا. وحبنا لله هو علامة عن محبّتنا للقريب وجواباً على حبّ الله لنا.
بحث الكاتب الفريسي عن الوصية الأولى. و"المعلّم الصالح" (10: 17) دلّه في الواقع العملي على وصية واحدة: المحبة. فأدرك أن المعلّم طرح هنا أسسه ديانة جديدة "أفضل من كل الذبائح والمحرقات" (آ 33؛ رج يو 4: 20- 23). أما يسوع فلاحظ أن محاوره "ليس بعيداً عن ملكوت الله" (آ 34. ولكنه لم يدخل بعد إلى هذا الملكوت. ففهمُ تعليم من التعاليم يبقى ناقصاً إن لم نمارسه. لهذا قال يسوع للكاتب الذي "ردّد" ما يعرفه عن الوصية الأولى: "إعمل هذا فتحيا" (لو 10: 28). اعمل هذا فترث "الحياة الأبدية" (لو 10: 25).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM