في خطى المسيح - هنري كارو

في خطى المسيح
هنري كارو  نشرة بيبليّة، العدد 6، نيسان 1994

اعتاد بعض المؤمنين أن يقوموا بدرب الصليب خلال زمن الصوم، خلال أسبوع الآلام أو في أيّام الجمعة من السنة. كلّ هذا على خطى يسوع المسيح الذي انطلق من بستان الزيتون فوصل إلى الصلب والقبر والقيامة. وها نحن نقدّم نموذجًا عن درب الصليب ينبع من الكتاب المقدّس دون أن يتقيّد كلّيًّا بما اعتدنا عليه في عباداتنا.

المرحلة الأولى: النزاعُ في بستانِ الزَّيتون

"يا أبي، إن شئْتَ، فأبعِدْ عنّي هذه الكأس، ولكنْ لتَكُنْ إرادتَك لا إرادتي". وظهرَ لَهُ ملاكٌ من السَّماء يُقوِّيه. ووقعَ في ضيق، فأجهَدَ نفسَهُ في الصَّلاة، وكان عرقُهُ مِثْلَ قطراتِ دمٍ تَتساقَطُ على الأرض" (لو 22: 42- 44)

*  *  *

ليلٌ طويلٌ منَ السَّهرِ والصَّمتِ والعُزلةِ والضِّيق... أين همُ الأصدقاء؟ إنّهم نائمون. لا يرَونَ شيئًا، لا يعرِفون شيئًا. مَن يعرِفُ اليومَ أن يرى ضيقَ أخيه.

يسوعُ ساهرٌ يُصلّي. تَقدمتُهُ تقدمةٌ كاملة: إنّها تقدمةُ اللهِ بالذَّات. وعرقُ جسدِه قطراتُ دم. منذُ الآنَ أُعطيَ قلبُهُ كلُّه.

هل أذهبُ إلى النَّومِ ساعةَ يدخلُ يسوعُ في نِزاعه؟ هذا ما أفعلُهُ في نهاري، حين أترُكُ المائتينَ ومَصيرَهم. حين أسكُتُ أمام الظُّلمِ أو الاضطهاد. حين أعتزِلُ في بيتٍ لئلاّ تَحِلَّ بي المشاكل.

أيُّها الرَّبُّ يسوع، علِّمْني أن أسهرَ معك وأصلّي. اجعلْني دَومًا في حالةِ استعدادٍ وتأهُّبٍ مِن أجلِ كُلِّ إخوتي البشر، ولا سيّما أولئك الَّذينَ يَعيشون اليومَ نزاعَك.

 

المرحلةُ الثَّانية: توقيفُ يسوع

"جعل لهم يهوذا علامةً: "هو ذاك الَّذي أقبِّلُه، فأمسكوه". وتقدَّم إلى يسوعَ وقالَ لَهُ: "السَّلامُ يا معلّم". وقبَّلَهُ. ووضَعَ الآخرون يَدَهم عليه وأمسكوه" (مت 26: 47ي)

*  *  *

أشنَعُ قُبلةٍ عرفَها التَّاريخ. وستَبقى على الدَّوامِ علامةَ الخيانَة. قُبلَةُ يهوذا. خانَ الصَّداقةَ وباعَ الصَّدِيق. أمّا وصيّةُ يسوع فواحدة، وهي المحبَّة. وجاء مَظهرٌ خَدّاعٌ يدُلُّ على فِعلةِ المحبّة فيُسلَّمُ يسوعُ إلى الجلاّدين.

وأنا؟ ماذا لا أعمَلُ مِن أجلِ حَفْنَةٍ من المال؟ ولْيَتدبَّرْ أصدقائي ورفاقي أمرَهم. ما هَمْ إنْ دُستُهم حتّى أصعَدَ وأتسلَّقَ سُلّمَ الكرامات. المُهمُّ أن أُؤمِّنَ "حصَّتي" ولتتدبَّرْ عائلتي أمرَها. هذا إذا كنتُ لا أبيعُ نفسي.

صارَتْ فِعلةُ المحبّةِ دلالةً على الأنانيّة، لا تَعبيرًا عن تقدمةِ الذَّات. فعلةٌ لا حُبَّ فيها. فعلةٌ قصيرةُ النظر، احتقارٌ للآخر، استعبادُه. من السَّهلِ أن نَستغلَّ عَواطِفَ الآخرين، أن نستغلَّ الأشخاصَ ثمّ نرميهم كما النُّواة. هذه هي قبلةُ يهوذا.

أيُّها الربّ، لقد أُسلمْتَ بقُبلة. فعلِّمْني أن أُحِبَّ كما تُحبّ، أنْ أجِدَ سعادتي في سعادةِ الآخرين، وأحفظَ حياتي من الأنانيّة.

 

المرحلةُ الثَّالثة: نِكرانُ بطرسَ ليسوع

"دنَتْ جاريةٌ وقالَتْ لبُطرس: أنتَ أيضًا كنتَ مع يسوعَ الجليليّ!" فأنكرَ أمامَ جميعِ الحاضرينَ: "لا أفهمُ ما تقولين". ورأتْهُ جاريةٌ أخرى فقالَتْ: "هذا الرَّجلُ هو أيضًا منهم". فأخذَ يَلعَنُ ويحلِفُ: "لا أعرفُ هذا الرجل" (مت 26: 69-73).

*  *  *

وبطرسُ أيضًا خاف. هذا الصيّادُ الصَّعبُ الخُلُقِ تَراجع: هو لا يعرِفُ هذا الرَّجلَ الَّذي تَغذّى بِصداقتِهِ خِلالَ ثلاثِ سنوات، ولكنَّ بَطرسَ سيَعودُ إلى نفسِه، وعليه سيَبني يسوعُ كنيستَه. طريقُ بطرس هي طريقُ الأمَلِ والرَّجاء. فلا نَخَفْ من خطايا اقترفْناها. المهمُّ العودَة.

لا أعرفُ هذا الرَّجل. ليسَ من السَّهلِ اليومَ أن نُعلِنَ أنّنا تلاميذُ يسوعَ المسيح، ونُواجِهُ حُكمَ العالم علينا. في العملِ، في العائلة، في المجتمع، أمام خياراتٍ نَقومُ بها... هل نَعرِفُ أن نَقولَ بهدوء وثبات: "أنا مسيحيّ"؟! هل نعرِفُ أن نَترُكَ عملاً أو اجتماعًا أو تَسليةً لِنَذهبَ إلى القُدّاس؟ بدلاً من أن نَكونَ شهودًا، تُعلِنُ حياتُنا ألفَ مرّةٍ في النَّهار: أنا لا أعرِفُ هذا الرَّجل!

شُكرًا لك يا ربّ على ما أعطيتَنا في بطرسَ مِنْ مِثال. بيّنْتَ لنا فيه أنَّ الإيمانَ والمحبّةَ أقوى من الخطيئة. احفَظْنا تحتَ نظرِكَ حين نُخاطِرُ ونبتعِدُ عنك. إجعَلْ منّا شهودًا فيعرِفَكَ العالم.

 

المرحلةُ الرَّابعة: يسوعُ يُحكَمُ عليه بالموت

عرفَ بيلاطسُ أنّ اليهودَ أَسلَموا يسوعَ حسدًا. فسألهم: "ماذا أفعلُ بيسوعَ الَّذي يُقالُ لهُ المسيح؟" فأجابوا جميعًا: "ليُصلَب! دمُهُ علينا وعلى أولادِنا". وبعدَ أن جلَدَ بيلاطسُ يسوع، أسلَمَهُ إليهم ليُصلَب (مت 27: 22-26).

*  *  *

النُّورُ الكثيرُ يُخيفُ الَّذينَ لا يُحبّونَ إلاّ الليل. كثيرٌ من الحبِّ يُضايِقُ الَّذينَ يَعيشونَ في البغض. لم يكرِزْ يسوعُ إلاّ بالحبّ. جاء يُنيرُ طَريقَ البشَر. ومع ذلك، علَيهِ أنْ يَموت. لِيَترُكْنا وأرضَنا، لِيَترُكْنا ورغباتِنا، لِيَترُكْنا وحروبَنا والظَّلامَ الَّذي بَنَينا فيه سعاداتِنا الصَّغيرة. لا نُريدُ الضَّوءَ على كلِّ هذا لِئلاّ يأخُذَ منّا الحياءُ مأخَذُه. قال إنّنا محبوبون. ولكنَّ المحبّةَ تَعني التَّقبُّلَ وتَعني العطاء.

لا، ليَمُتْ. ليُصلب.

حين أزرَعُ الخِلافَ والانقسام، حين أهزأُ من إيمانِ الآخرين، حين أرفُضُ حُلولَ النُّورِ في حياتي والتزاماتي، حين أميلُ بوَجهي عن الَّذي يَحتاجُ إلى نَظرةِ حُبّ. حينذاك أكونُ معَ الشَّعبِ وأصرُخُ: لِيَمُتْ، لِيُصلَب.

أيُّها الرَّبُّ يسوع، يا من حُكِمَ عليك بالموت، أعطِنا نورَك. أعطِنا جوعًا إلى حبِّك. أجذُبْ أنظارَنا إليكَ لكي نعرِفَ أين هي الحياةُ وأين هي سعادتُنا.

 

المرحلةُ الخامسة: إكليلُ الشَّوك

جَرَّدَ الجنودُ يسوعَ من ثيابِهِ وألبسوه رداءً قرمزيًّا. وضفَروا إكليلاً من شوكٍ ووضعوهُ على رأسِه، وجعلوا في يمينِهِ قصبَة، ثمّ جَثَوا أمامَهُ وسخِرُوا منه فقالوا: "السَّلامُ عليك يا ملِكَ اليَهود" (مت 27: 28-30).

*  *  *

قال يسوعُ: "ليستْ مملكتي من هذا العالم".

نحنُ نفهمُ الآن. لقد تبخَّرَتْ أحلامُ القوّةِ والبَذْخ. ملكُنا عريان، وتاجُه من شوك. والحجارةُ الكريمةُ هي قطراتُ دم. هل ربُّنا وسيِّدُنا هذا الإنسانُ الَّذي لا يَقدِرُ أن يُدافعَ عن نفسِه؟ هذا الإنسانُ المهانُ والمجلودُ والَّذي صار لعبةً بين أيدي الكافرين؟ جنونٌ وضُعفٌ في نظَرِ البشر. حِكمةٌ وقُوّةٌ في نظرِ الله وحبِّه. أجل، هذا هو ملكُنا، هذا هو ربُّنا.

نحنُ نَزيدُ شَوكًا على شوكٍ حين نَهزأ بالمساكين، حين نُجدِّفُ على اسمِ الله، حين نَعبدُ الفضّةَ والذَّهب، حين نحلُمُ بالكراماتِ والمكاسِب. لنَجْدُلْ إكليلاً من الاهتمامِ بالآخرين والتَّعاطفِ معهم، من التَّضحيةِ الصَّامتة، من الاحترامِ والحياةِ الدَّاخليّة.

إنّه ملكُنا لأنّه عريانٌ، لأنّه خادِم.

يا يسوعُ، أنتَ عُريانٌ ومُكلَّلٌ بالشَّوك. نحن نصرخُ إليك: أنتَ الرَّبُّ، أنتَ ابنُ الله.

 

المرحلةُ السَّادسة: يسوعُ يَحمِلُ صليبَه

وبعدَما سخِرُوا منه، ألبسوهُ ثِيابَهُ ليُصلَب. فحمَلَ بنفسِه صليبَه. فخرجَ إلى المكانِ الَّذي يُقالُ له الجمجمةَ وفي العِبريّةِ الجلجلة (مت 27: 31-32).

*  *  *

أنهكَ الضَّربُ جسدَ يسوع. فصار كلُّهُ جُرحًا. ولم يعُدْ له وجهٌ بشريّ. هذا لم يكفِ المُتعطِّشين إلى الدم. فعلَيه الآنَ أنْ يصعَدَ طريقَ الجلجلة القاسي، أن يحمِلَ خشبةَ الصَّليبِ الَّذي هو أداةُ عَذابٍ وعَرشٌ للمسيحِ الملك. طريقٌ طويل، طريقٌ يُثقِلُهُ الصَّليب. وسارَ يسوعُ خطوةً خطوة. لم يُعجِّل. فهو يُعطي ذاتَه على مهْلٍ وحتّى النِّهاية.

صلبانُنا ثقيلةٌ على أكتافِنا. صلبانُنا اليوميّة، صلبانٌ تَزرعُها الحياةُ في القلوبِ وفي الأجساد. وطويلةٌ هي الطَّريقُ إلى الجلجلة، وصعبٌ هو قبولُ الصَّليب. لِنَمْشِ خطوةً خطوة. فلِكُلٍّ سِرُّهُ العميق. ولْنَضَعْ صُلبانَنا على صليبِ يسوع فتُصبحَ هي أيضًا شجرةَ حياة.

ولكنْ يجبُ أن لا نُسمّي صليبًا ما هو قَشّة، ما هو شيءٌ صغيرٌ يَدومُ لحظة. ما هو رغبةٌ لم تَتحقَّقْ، ما هو خيبةُ أمَل أو قلَّةُ صَبْر أو مُعارضَةٌ خَفيفَة...

أنتَ تحمِلُ صليبَكَ يا ربّ، وبِهِ تُخلِّصُنا. إجعلْنا أقوياءَ في هذه الحياة. وعلِّمْنا على المثابرةِ فتُزهِرَ صُلبانُنا مِثْلَ صليبِكَ حياةً أبديَّة.

 

المرحلة السَّابعة: سمعانُ القيرينيّ

وبينما هم ذاهبون، أمسكوا سمعان، وهو رجلٌ قيرينيٌّ كان راجعًا من الحقل. فألقوا عليه الصَّليبَ لِيَحمِلَهُ خلْفَ يسوع (لو 23: 26).

*  *  *

إنْ ماتَ يسوعُ في الطَّريق، حرَمَ الجلاّدينَ من لذَّتِهم. ومرَّ سمعانُ من هنا. هو لم يَقصِدْ ذلك. هو لم يقُلْ كلمَة. حمَلَ الصَّليبَ وراءَ يَسوع. فعلةٌ إنسانيّةٌ بَسيطة. صارَ لها طَعمُ الأبديّة. صارَ سمعانُ مُشارِكًا في خلاصِ البشر، مُشارِكًا في تقدمةِ يسوعَ لنفسِه.

اللهُ يَحتاجُ إلى البشر حتّى لِيحمِلَ الصَّليب. احترامٌ لا حدودَ لَهُ. هو لا يُخلِّصُنا بالرّغم منّا. وبواسطةِ سمعانَ صِرْنا حاضرينَ على مُنحدَرِ الجلجلة.

إنّ ثِقْلَ الصَّليبِ على كتِفِ أخي يَرتبِطُ بي أنا. حين أرفُضُ يدًا تَمتدّ، حين أصُمُّ أذُنَيّ عنْ نداءاتِ المرضى، حين أترُكُ العُجَّزَ في عُزلتِهم، أجعلُ الصَّليبَ حَولي ثقيلاً. بالنَّميمَةِ، بالافتراء، بالاحتقار، باللامبالاة، أختارُ جانِبَ الجلاّدين. يَكفي أن أكونَ هنا مِثْلَ سِمعانَ القيرينيّ. أن يكونَ لي قلبٌ عطوفٌ لأخفِّفَ عن الَّذينَ يَنحنونَ تحْتَ الصَّليب. وسيكونُ صليبي خفيفًا حينَ أساعِدُ أخي على حَمْلِ صليبِه.

ربّي، أريدُ أن أحمِلَ صليبي مثلَ سمعانَ القيرينيّ. إفتَحْ قلبي على صُراخِ المساكين واشْفِني من اللامبالاة.

 

المرحلةُ الثَّامنة: نساءُ أورشليم

وتبِعَهُ جمعٌ كبيرٌ من الشَّعب، ومن نساءٍ كُنَّ يَلطِمْنَ الصُّدورَ وينُحْنَ عليه. فالتفتَ يسوعُ إليهنّ وقال: "يا بناتِ أورشليم، لا تبكَينَ عليّ، بل ابكَيْنَ على أنفسِكُنَّ وأولادكنَّ، فسوفَ تأتي أيّامٌ يُقالُ فيها: "طوبى للعواقرِ والبطونِ الَّتي لم تلِدْ والثَّدي الَّتي لم تُرضِع" (لو 23: 27-29).

*  *  *

لم تجعلِ المُصيبةُ يسوعَ أعمى. إنّه يبكي على بناتِ أورشليم. إنّه ذاهبٌ إلى الموت. وهو يعرِفُ لماذا يموتُ ولمَنْ يَموت. وهو يسيرُ إلى غايةِ مهمَّتِه، إلى غايةِ محبَّتِه. أمّا هنّ فلا يعرِفْنَ شخصًا يَستنِدْنَ إليه. سيُسلَّمُ أبناؤُهنّ إلى الشَّكِّ واليأس. فمَنْ نَبكي؟ ذاك الَّذي يعرِفُ إلى أين هو ذاهب، ذاك الَّذي يَسيرُ في طريقِهِ السَّامي دونَ ضَعف، رغمَ صُعوبةِ الطَّريق وواجبِ حَمْلِ الصَّليب؟ أم ذاك الَّذي يبدو في أحسنِ حالٍ لكنْ لا هدَفَ لهُ ولا مِثال؟ مَن نَبكي؟ مَنْ يُعطي ذاتَهُ بكلِّيَتِها أو ذاك الَّذي لا يُريدُ أن يُعطي ولا أن يأخُذَ؟

ولكنَّ النِّساءَ هنا. هنّ أميناتٌ حتّى النهاية. لا يخَفْنَ الشّعبَ الهائجَ ولا الجنود. ونحن ما هي نظرتُنا إلى بعضِنا؟ ما هي نظرةُ الرَّجلِ إلى المرأة والمرأةِ إلى الرَّجل؟ ماذا يعمَلُ الزَّوجُ لزَوجتِهِ والزَّوجَةُ لِزَوجِها؟ ماذا تَعمَلُ الأمُّ لأولادِها والأولادُ لأمّهاتِهم؟

علِّمْنا يا ربّ، أن لا نَبحَثَ في "مصائبِنا" التافهةِ عُذرًا لكَي نهرُبَ ونَعيشَ الأنانيّة. أعطِنا عَينَ قلبِكَ لكَي نَنظُرَ إلى الآخرين كما تَنظُرُ أنتَ إليهم. علِّمْنا أن نكونَ شفّافينَ في علاقاتِنا معَ إخوتِنا.

 

المرحلةُ التَّاسعة: يسوعُ يُصلَب

صلَبوه واقتَسموا ثيابَهُ بينَهم بالقُرعَة. وكانتِ السَّاعةُ التَّاسعَة (أي الثَّالثةَ بعدَ الظّهر) حينَ صلَبوه... وصلبوا معه لِصَّين، أحدَهما عن يمينِه والآخرَ عن شِماله (مر 15: 24-27).

*  *  *

جاء يسوع لكَي يَعيشَ البشرُ في سلام. سيَموتُ، ورفيقاهُ الوحيدانِ لِصّان. واحدٌ عن اليمينِ والآخرُ عن الشمال.

أنظُروا إلى خشبةِ الصَّليب. هي مغروسةٌ في الأرضِ ومُنتَصبةٌ إلى السَّماء. هي نقطةُ وصْلٍ بين الأرضِ والسَّماء. هي عبورٌ من المَوتِ إلى الحياة.

وأنظُروا إلى المسيحِ على الصَّليب. يداهُ مفتوحتان. إنّهما يدا اللهِ المفتوحتان لِتقبُّلِ البشَر، مِثلَ أبٍ يَفتَحُ يدَيهِ حين يُسرِعُ ابنُه إليه.

أنظُروا إلى المسيح. رُفِعَ عن الأرضِ فتطلَّعَ إلى اللامحدود. فملِكُ الكونِ لا عَرْشَ لَهُ إلاّ الصَّليب.

ما هو صليبُ يسوعَ المسيح بالنسبة إليّ؟ شكٌّ وعثارٌ لا أستطيعُ أن أتَخطّاه؟ صورةٌ تقيَّة؟ حِليةٌ تُزيِّنُ صدري مِثلَ غيرِها من الحلى؟ أم شجرةُ حياة؟

يا صليبَ يسوعَ المسيح، يا صليبَ رجائِنا الوحيد. نسجدُ لكَ يا يسوعُ المسيح المسمَّرُ على الصَّليب. أنت ملِكُ الكَون.

 

المرحلةُ العاشرة: يسوعُ وأمُّه

هناك عندَ صليبِ يسوع، وقفَتْ أمُّه... فرأى يسوعُ أمَّه وإلى جانبِها التِّلميذَ الحبيبَ إليه، فقالَ لأمِّه: "يا امرأة، هذا ابنُك". وقال للتِّلميذ: "هذه أمُّك" (يو 19: 25-27).

*  *  *

ماذا يبقى للإنسانِ الَّذي يموتُ بعدَ أن يُعطيَ كلَّ شيء؟ تبقى له أمُّه. وها هو يُعطيها.

رأى يسوع أمَّه. ورأتْ مريمُ ابنَها. فودَّعَ الواحدُ الآخَرَ في سرِّ نَظرَتَين وفي حوارِ القلبين. لقاءٌ مأساويّ مُؤلم. كيفَ تَستطيعُ أمٌّ أن تتحمِّلَ هذه المعاملةَ بلقائِها ابنَها؟ مريمُ واقفةٌ عندَ الصَّليب وهي تشارِكُ ابنَها في عملِه حتّى النِّهاية. مريمُ هي مؤمنة. فمنذُ "نَعَمِ" النّاصرة، كانتْ حياتُها "نَعَم" وعطاءً لا تَراجُعَ عنه.

أرادَ يسوعُ منّا أن نُحِبَّ إلى الغاية، فأعطانا أمَّه. لنا أمٌّ تُحبُّنا، توجِّهُنا، تعزّينا، تفهمُنا.

مريمُ هي أمُّ يسوعَ المسيح. وهي إلى الأبدِ أمُّ جسدِ المسيح الَّذي هو الكنيسة. نتشبَّهُ بالمسيحِ فنُحِبُّ العذراءَ مريم أمَّه وأمَّنا. ونحبُّ الكنيسة.

يا مريمُ، أنتِ أمُّ المخلِّصِ كنتِ واقفةً عندَ الصَّليب. علِّمينا أن نقولَ نَعم حين يدعونا الله. صلّي لأجلِنا الآنَ وفي ساعةِ موتِنا.

 

المرحلةُ الحاديةَ عشْرَة: موتُ يسوع

قال يسوعُ: "إلهي، إلهي لماذا تركتَني؟ يا أبتِ، في يدَيكَ أستودِعُ روحي". ولمّا قال هذا، صرخَ صرخةً عظيمةً وأسلَمَ الرُّوح (مت 27: 46؛ لو 23: 46).

*  *  *

تمَّ كلُّ شيء... تحقَّقَتِ النُّبوءات. انتصَرَ البشَر. ماتَ يسوعُ على الصَّليبِ ضحيّةَ بُغضِهم وجنونِهم الَّذي قادَهم إلى القتْل.

ما مِن حبٍّ أعظمُ مِن أنْ يبذُلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبّائِه.

قدَّمَ يسوعُ حياتَهُ بحريَّةٍ تامَّة. سلَّمَ روحَه بين يَدَي أبيه.

واليومَ، هناك رجالٌ ونساءٌ وأولادٌ يموتون ضحيّةَ جنونِ البشر، ضحيّةَ الجوعِ والحرب. هناكَ رجالٌ ونساءٌ وأولادٌ يُعذَّبون، يُغتصَبون، يُقتَلون.

لِنتعرَّفْ في وجهِ البريء الشَّاحِب، إلى وجهِ الله. لنتعرَّفْ في الإنسانِ الذَّاهبِ إلى المَوت، إلى حضورِ يسوعَ المائِتِ على الصَّليب.

لنَسْكُتِ الآن. ولنتقبَّلْ في قلوبِنا هذا السِّرَّ، سرَّ خلاصِنا.

 

المرحلةُ الثَّانيةَ عشْرَة: الطَّعنُ بالحَرْبة

جاءَ أحدُ الجنودِ إلى يسوعَ فرآه قد مات. فطعَنَهُ بحربةٍ في جنبِه، فخرَجَ على أثرِها دمٌ وماء (يو 19: 34).

*  *  *

ماتَ يسوعُ مُنذُ بعضِ الوقت. وأرادَ الجنديُّ أنْ يتأكَّدَ من موتِه، فطعَنَ جنبَهُ بحربَة. فجرى دمٌ وماء. قال يسوعَ: "أحبّوا. فأنا أحبُّكم. والآبُ يحبُّكم".

كان الحبُّ في كلماتِه مثلَ "طلبةٍ" تتردَّد. أحبَّ حتّى النِّهاية، حتّى الموت. ولكنَّ البشرَ لم يَتحمَّلوه. فطعَنوا قلبَهُ ليُنكِروا علَيهِ إمكانيَّةَ الحُبّ.

وأنا، إن طُعنَ قلبي، هل يَسيلُ بعضُ الماء والدَّم، بعضُ الحبِّ والصَّداقة؟

نحنُ المسيحيّين تلاميذُ يسوع، لا يكُنْ قلبُنا جافًّا. لا نَجعَلْ قلبَ الحجَرِ مكانَ القلبِ من لحمٍ ودم. لا نُعطِ عن الكنيسةِ صورةَ "الأمِّ" القاسية، الجامدة، الحذِرَة. إنّ العالمَ يَموتُ لأنَّ الحبَّ نقصَه.

نحنُ تلاميذُ يسوعَ المسيحِ الَّذي ماتَ لأنّه أحبّ. فكيف نخافُ نحن المسيحيّين من أنْ نُحبَّ، وحتّى غايةِ المحبّة؟

يا قلبَ يسوعَ الَّذي طعنَهُ رُمحُ الجنديّ، تعالَ ودُقَّ في قلوبِنا. معكَ نُحبُّ، فيَعرِفَ العالَمُ أنَّ اللهَ محبّةٌ هو.

 

المرحلةُ الثَّالثةَ عشْرَة: يسوعُ يُوضَعُ في القبر

كان يوسفُ الرَّامي ينتظرُ ملكوتَ الله. ذهبَ إلى بيلاطسَ وطلبَ جسدَ يسوع، ثمّ أنزلَهُ عن الصَّليبِ ولفَّهُ في كفَن، ووضعَهُ في قبرٍ حُفِرَ في الصَّخرِ لم يُدفَنْ فيه أحدٌ قبْلَه... وأبصرَتِ النِّسوةُ القبرَ وكيفَ وُضعَ فيهِ الجسد (لو 23: 51-55).

*  *  *

انتهى كلُّ شيء. ماتَ يسوعُ وماتَ معهُ الأمل. وجاء حجرٌ كبيرٌ أغلَقَ القبر. بَرْدٌ في الطَّقسِ وفي القلوب، وليلٌ... قد أضعْنا وقتَنا! ومع ذلك حسِبْنا أنَّه... هذا ما قالَهُ تلميذا عمّاوس بحزنٍ وكآبة.

ونحن أيضًا، ما زلنا على هذا المستوى. حسِبْنا، أمِلْنا... حينَ يَتغلَّبُ فينا الشَّكُّ على الإيمان. حين لا نرى لصلواتِنا نتيجة. حين يبدو اللهُ بعيدًا، نكادُ نُصدِّقُ أنَّ القبرَ انتصرَ على يسوع. فالمسيحُ هو جثّةٌ هامدة. والحجرُ الكبيرُ يَسحَقُ الأملَ والرَّجاء.

ولكنْ مَن يستطيعُ أن يصدِّقَ أنَّ الحياةَ يسجُنُها القبر، أنَّ نورَ الله لا يخرِقُ الليل، أنَّ الموتَ يتغلَّبُ على الحبّ؟ ماتَ يسوعُ ليَحرِقَ في نار صليبِه العظيمةِ خطيئتَنا وكلَّ ما يَمنعُنا أن نحيا.

بدأ القبرُ يتشقَّقُ، مِثلَ بُرعُمٍ تدفَعُهُ قوَّةُ الحياة، وكلُّ قبورِنا ستَنفَتِحُ لأنّنا نحنُ الَّذين تعمَّدْنا في موتِ يسوع سنقومُ معه.

نؤمنُ يا ربّ أنَّكَ حقًّا مُتَّ لأجلِنا. نؤمنُ بقيامةِ الموتى. نؤمنُ بالحياة الأبديّة.

 

المرحلةُ الرَّابعةَ عشْرة: صباحُ الفصح

"في اليومِ الأوّلِ من الأسبوع (أي يوم الأحد)، جاءتِ النِّسوةُ إلى القبر. لم يجِدْنَ جسدَ الرَّبِّ يسوع... تراءى لهنّ رجلان عليهما ثيابٌ برّاقة، وقالا لهنَّ: "لماذا تبحثْنَ عن الحيّ بين الأموات؟ ليس ههُنا بل قام" (لو 24: 1-8).

*  *  *

ما من طريقٍ يقودُ إلى الحياة إلاّ الجلجلةِ والقبر. ولكنَّ هذا الطريقَ يقودُ مباشرةً إلى عيدِ الحياة. فحبَّةُ الحنطةِ الَّتي أُلقيَتْ في الأرض تُعطي الحياةَ بوَفرة. انتهَتْ أيّامُ الظُّلمة، انتهى زمَنُ اللَّيلِ والخوف. يسوعُ هو حيّ. اللهُ محبّة. اللهُ هو الحياة: لا يُمكنُ أن يترُكَ ابنَهُ خاضِعًا لسلطانِ المَوت.

قامَ المسيح. بموتِه وقيامتِه أعادَ البشريّةَ إلى عهدِها الأوّلِ في العظَمةِ والكرامة. ومعه نهضَ جميعُ البشر، ونالوا وعدًا برؤيةِ اللهِ وَجْهًا إلى وجه، برؤيةِ الإله المحبِّ إلى الأبد.

لا نَبحثُ عن الحيّ بين الموتى. لا نبحثُ عن الَّذينَ "فقدناهم" بين الموتى. المسيحُ قام وهو يُقيمُهم معه.

المسيحُ، أخونا الأكبر، هو حيّ. وهو يَجتذِبُنا إلى الحياة.

يا مسيحًا ماتَ على الصليب، نحنُ نُباركُك. يا مسيحًا قام من بين الأموات، نحن نُسبِّحُك. يا مسيحًا جالِسًا إلى الأبد عن يمينِ الآب، نحنُ نُمجِّدُك.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM