الفصل الثالث عشر
الرجل الغنى
10: 17- 31
إن مغامرة هذا الملاّك الغنى مع ما فيها من حزن (10: 17- 22) هي جزء من تأليف يتضمّن أيضاً حوار يسوع مع تلاميذه. أرادها مرقس متماسكة وحاملة تعليم للمؤمنين. بعد المثل، تأتي سلسلة من أقوال المعلّم فتنير المثل من أجل قرّاء الإنجيل. ومنظار "الحياة الأبدية" المذكورة في البداية (آ 17) وفي النهاية (آ 30) يشرف على المجموعة ويدلّ على وحدتها.
1- مثل رديء (آ 17- 22)
في مقدّمة الحدث، في اهتمام الرجل، في حركته حين انطرح أمام يسوع، نجد فن مرقس للأخبار الشيّقة (رج 5: 6؛ 9: 15). إذ كان يسوع منطلقاً في الطريق، تقدّم إليه شخص مجهول: هل سيتلقّى أمراً باتباع يسوع (آ 21)؟ ولكن المقدّمة القصيرة تفتح الطريق سريعاً لحوار يذهب إلى الجوهر.
أ- الله وحده صالح
"أيها المعلّم الصالح...". إذا كان لقب "معلّم" (ديدسكالوس) الذي يساوي "رابي" هو أمر عادي، فالصفة تبدو مدهشة ونحن لا نجدها في مكان آخر بهذا الاستعمال. لهذا السبب نقول إنها هنا لتدخل ما بدا في جواب يسوع تصحيحاً. ولكنها تمثّل في الواقع تعليماً أوّل: "لا صالح إلاّ الله وحده". منذ بداية الكنيسة، دُهش المؤمنون حين رأوا يسوع يرفض لقب "الصالح". أما مرقس فصحّح هذا التقليد. فالصفة عنده إنتقلت من المنادى إلى موضوع السؤال: "ماذا يجب أن أعمل من الصلاح" (مت 19: 16)؟ ولكن تصحيح متّى وتأويلات الآباء والشرّاح الطويلة تبدو بدون فائدة حين ندرك الطابع الفجائي والرمزي للجواب: إن يسوع يستفيد من هذا الظرف ليبرز صلاح الله ويقدم له المجد. وهكذا يتصّرف كـ "الصالح" الحقيقي والبار الحقيقي.
ولكن لماذا هذا الموضوع في إطار الحوار مع الغني؟ لا ننكر إمكانية دمج تقليدين وُجدا في الأصل مستقلّين. ولكننا نستطيع أن نقول إن مرقس أراد أن يجمع صلاح الله مع إعلان الوصايا. فلفظة "صالح" تعني "العطوف" و"المحسن". تتضمّن هذه اللفظة عطية خيور ترتبط إرتباطاً مباشراً بكرم الله. "مبارك أنت أيها الصالح والذي تفعل الصلاح". هذه المباركة التي نقرأها في المشناة توافق الفكرة التقليدية التي تحدد موقع "الصالح" لا في عالم المثل المجرّدة، بل في شخص هو الله الذي يكشف عن ذاته في التاريخ. فالشريعة الموسوية التي هي عطية سامية ووحي رفيع لا يمكن إلاّ أن تكون صالحة. نقرأ في أقوال. الآباء: "لا صالح خارجاً. عن الشريعة. فقد قيل (أم 4: 2): "أعطيتكم تعليماً" صالحاً، شريعتي، فلا تتخلّوا عنها".
ب- الحياة الأبدية والوصايا
هذه هي الوصايا. إنها عطية حنان من المحسن السامي وقائد شعبه. وتتميمها (والعمل بها) حسب السؤال المطروح، يوجّهنا إلى "ميراث الحياة الأبدية". هذه العبارة معروفة في العالم اليهودي القديم (مزامير سليمان 14/10؛ 1 أخنوخ 40: 9) وواردة في العهد الجديد (مت 5: 5؛ 25: 34؛ لو 110: 25؛ 1 كور 6: 9، 10؛ 15: 50؛ غل 5: 21...). إن "الميراث" يشير إلى أرض الموعد (تك 15: 7- 8؛ 28: 4؛ خر 23: 30؛ لا 20: 24...). ولكنه تروحن تروحناً كلياً في عبارة "الحياة الأبدية". بعد هذا (آ 21 أ) سيكون الحديث عن "كنز في السماء" أو "الدخول إلى ملكوت الله" (آ 23، 24، 25). إدا أخذنا هدْه التسميات في ذاتها وبمعزل عن السياق، فهي ليست مترادفة. تتحدّد التسميتاًن الأوليان في خط المجازاة الفردية المهيّأة للأبرار. أما التسمية الثالثة فتدلّ على تدخّل الله النهائي ليقيم ملكه في العالم. ولكن هذه الاختلافات التي تدلّ في الوقت الحاضر على تقليدين اثنين، لا تحمل أي تعارض أو تناقض. "فملكوت الله" في نظر مرقس وفي نظر يسوع، هو مدلول متشعّب. بدأ في الحقبة الحالية من العالم (هذا ما تدلّ عليه أعمال يسوع وتصريحاته)، ولكن لن يتحقّق بشكل تام ونهائي إلاّ في المستقبل حيث يحدد المسيحيون موقع مجيء ابن الإنسان المجيد (8: 38- 39؛ 13: 26). حينئذ تتمّ أحداث النهاية: دينونة الخاطئين، مباركة الأبرار، تجديد الكون حسب نظام الله الذي وضعه المسيح. وهذه الوقائع التي تدشّن "العالم المقبل" (آ 30، أو: الآتي)، تفتح أمام تلاميذ يسوع المنطقيين مع دعوتهم، أبواب "الحياة" (9: 43، 45) أو "الحياة الأبدية".
مع أن حدث الرجل الغني يتوجّه إلى قرّاء مسيحيين للإنجيل، إلاّ أنه يجري في إطار العالم اليهودي. فيهودي هو الذي يسأل يسوع. ومثله سيفعل تلاميذ آخرون مع رابي اليعازر بن هركانس: "رابي، علمنا طرق الحياة لكي ندخل بها إلى إمتلاك الحياة في العالم الآتي" (التلمود البابلي، البركات 28 ب). وهكذا يطلب المؤمن من المعلّم أن يدلّه على ما يعتبره الجوهر في الشريعة، أهم شيء في الشريعة، أو على تطبيقات الشريعة الصحيحة.
وجاء جواب يسوع: "احفظ الوصايا". هنا لا نخطئ: فيسوع لا يحيل الرجل إلى الوصايا بشكل عام، بل يدلّ على مقطع من الوصايا معروف. عاد إلى اللوحة الثانية من الشريعة، فعدّد كل الواجبات التي تعني القريب. وخرج من الوصايا بعبارة: "لا تظلم أحداً". تدلّ هذه العبارة على عمل به نحرم الفقير من الضروري (تث 24: 14 أ: لا تهضم أجرة مسكين، ملا 3: 5: يظلمون الأجير في أجرته والأرملة واليتيم؛ سي 4: 1؛ 34: 21- 22؛ يع 5: 4 حسب اختلافة). هذا الملحق الذي رأى مدوّن الإنجيل أنه من الموافق زيادته، ليس قولاً "مميّزاً" وكأن اهتمام المقطوعة كلّها يتركّز على المحبة تجاه الفقراء. فلتعليم الإنجيل موضوع آخر سوف نراه.
أورد يسوع الوصايا ونحن لن نندهش حين نعرف أن إنجيل مرقس نفسه يورد جواباً آخر ليسوع يدلّ على وجهة مماثلة: إن يسوع يضع على مستوى واحد وصايا محبة الله ووصايا محبة القريب، ويؤكّد للكاتب الذي يوافقه الرأي: "لست بعيداً عن ملكوت الله" (12: 28- 34).
موقع هذا الرجل الغني، على ما يبدو، هو موقع مميّز. لقد أعلن: "يا معلّم، من أيام صباي عملت بهذه الوصايا كلّها". لا نستطيع أن نشك بصدقه. ويسوع نفسه لا يعارض حقيقة جوابه. وهكذا ننتظر أن ينتهي الخبر هنا. ولكن الحوار ينطلق في قفزة جديدة. فيبدو أن للراوي شيئاً آخر يقوله لنا.
ج- واجبات غني
هناك إشارة قد يكون مرقس هو صاحبها، تشدّد على أهمية ما يلي: "حينئذٍ نظر (حدّق) إليه يسوع (جعل عليه نظرة لكي يختاره) بمحبة (وأحبّه، وشرع يحبّه)". إكتشف بعض الشّراح هنا أكثر من عاطفة حنان: هي فعلة تشبه فعلة إيليا حين رمى رداءه على كتفي أليشاع (1 مل 19: 19). وهذه الفعلة تدلّ على نداء من أجل وظيفة خاصّة. مهما يكن من أمر هذه الفرضية، إن الإشارة تتجاوز تفصيلاً يهدف إلى التأثير على القارئ، ليدلّنا على تحوّل احتفالي في الخبر.
وجاء التصريح المدهش: "ينقصك شيء واحد: اذهب، بع كل ما تملك ووزّع ثمنه على الفقراء فيكون لك كنز في السماء. ثم تعال واتبعني". لم ينتظر الرجل مثل هذا الطلب. إنه على المحكّ. حسبناه أميناً لا عيب فيه. وها نحن أمام متطلّبة جديدة ستكشفه في وجه جديد. لا يتركنا مرقس في "السراب". يستحيل علينا أن نعيد هذه المتطلّبة إلى حدود الفردية. هذه الحالة هي نموذجية، وبُعدها يبرز من وَليْ النص (آ 28) كما من مجمل الإنجيل (1: 18؛ 2: 14- 15؛ 6: 1؛ 8: 34). ففي الإنجيل الثاني، "تبع يسوع" هو صدى لخبرة التلاميذ الأولين وهو يمد حقل تطبيقه على أكثر من هؤلاء الأربعة: إن هذه العبارة تدلّ منذ اليوم على الدعوة المسيحية، على متطلّباتها والتضحياًت التي تشتمل عليها.
ماذا نعرف في النهاية عن هذا الشخص الذي جعله خبر مرقس "على المسرح"؟ "كان يملك أموالاً كثيرة". ظلّ القارئ ينتظر الجواب، وهو لن يجد مفتاح الحوار إلاّ في الكلمات الأخيرة. كما سيكتشف الدرس: لا توافق بين الغنى والخلاص، لأن أفضل الأغنياء يبتعد عن الخلاص بسبب تعلّقه بأمواله. وبعبارة أخرى، يجب أن نختار بين كنزين: كنز الأرض وكنز السماء (رج مت 6: 9- 12). إن صورة الكنز تدل على المجازاة الاسكاتولوجية للأبرار، وهي لا تقابل بين حالة وحالة، كما لو كنا أمام درجة كبرى من المجازاة.
إذا كان الأمر هكذا، فمرقس لا يوجّه إلى قرّائه تعليماً في الخلق الاجتماعي. وهو لا يتحدّث عن الفقراء إلاّ بمناسبة مصير هذه الخيرات الذي وجب على الغني أن يتخلىّ عنها. ثم، لا فائدة من البحث عن إشارة تدلّ على أننا أمام حياة مسيحية على مستويين: يتطرّق الحدث إلى الغنى والذين يمتلكونه. ولا يؤسّس شكلاً من الفقر الاختياري لا يُدعى إلى ممارسته إلاّ أكثر النفوس سخاء. لا شك في أن هذه الكلمات القوية تدلنا على تفسير قاسٍ: هل نقول إن كل صاحب مال هو في النهاية "هالك بالقوة" (كما نقول في الفلسفة، لا بالفعل)؟ وأين نثبّت الحدود التي فيها ندخل إلى فئة الأغنياء، فنجد نفوسنا مجبرين على بيع كل أموالنا لمساعدة الفقراء؟
من الواضح أننا إن أخذنا بهذا التفسير المادي والحرفي، نسقط لا محالة في عالم الغموض، في أمر لا نستطيع تحقيقه. ومع ذلك، فالتعليم موجود، ونحن ندركه. ولكن شرط أن نأخذ بعين الاعتبار الصورة التي نجدها هنا كما نجدها في عدّة تعاليم إنجيلية أخرى: تجاه الحياة الأبدية، تجاه ملكوت الله، يشكّل الغنى خطراً كبيراً. ويجب أن نتخلّص منه كل مرّة وبقدر ما يكون عائقاً في طريق الخلاص. نتخلّص منه كل مرّة يدخل في قلب الإنسان فيصبح مركز اهتماماته فيخنق الكلمة ويمنعها من أن تحمل ثمراً.
هنا نقدّم ملاحظة. إن الأمر "اذهب وبعْ كل ما تملكه" هو جزء من هذه اللوحة الواسعة. وهو لا يعني أن على كل واحد أن يبيع ما يملك ليكون خاضعاً لأمر يسوع. هذا ما فعله المسيحيون في الكنيسة الأولى (أع 4: 32- 37: برنابا. ثم حنانيا وسفيرة في اع 5: 1- 11). ولكن يبدو أن النتيجة لم تشجّع الكنيسة على متابعة هذه إلىرسة. لا شكّ في أن المسيحي يتخلىّ عن الدرس الذي قدّمه هذا المقطع الإنجيلي، إن اعتبر أنه يستطيع أن يخلص إن ظلّ يعيش في البذخ والرخاء. ولكن الفن الأدبي الذي أخذ به الإنجيل لا يتيح لنا أن نرى في هذا القول أمراً دقيقاً يتوجّه إلى كل صاحب خيرات. المهم هو التجرّد. وبيع الأملاك أو عدم بيعها هو تطبيق لهذا التجرّد.
طُلب من الرجل الغني أن يبيع كل ما يملك. ولكنه رفض "العملية" المفروضة عليه، فاستأذن يسوع ومضى. حينئذٍ إجتاحه حزن عميق: لا بسبب أمواله الكثيرة، بل لأنه خسر الحياة الأبدية بسبب هذه الثروة التي تسجنه برباطاتها بحيث لا يستطيع أن يتحرّر منها. وهكذا يأتي التشديد على النقطة الهامة في الكرازة: أنت الذي تتعلّق بأموالك، هل تفضّل أن تقاسي حزن الندم، حين تقدّم إليك إمكانية الفرح بكنز في السماء، شرط أن تضحّي بأمور عابرة؟ وهكذا حرّك الإنجيلي محيطه النائم وذكّره بخطورة ما يُطلب منه.
2- حوار حول خطر المال (آ 23- 27)
بعد أن ذهب الرجل الغني كان حوار بين يسوع وتلاميذه. سنحاول أن ندرس المرحلة الأولى من هذا الحوار، الذي يتألّف من آ 23- 27.
أ- تأليف صعب وطويل
لن نحاول أن ندخل في التفاصيل التقنيّة. ولكننا نلاحظ أن هذه الآيات الخمس تعرض في الواقع موضوعين متميّزين. الأول يشير إلى صعوبة دخول ملكوت الله على الأغنياء (آ 23 ب، 25). الثاني يتطرّق إلى الصعوبة بشكل عام دون الإشارة إلى الغنى (آ 24 ب). ومن السهل أن نرى هنا نتيجة دمج بين عنصرين حملهما التقليد المسيحي الأول. وكلاهما يلتقيان مع أقوال إنجيلية أخرى ذات المضمون الواحد. وهكذا نجد نفوسنا أمام صدى لكرازة يسوع.
إن القول على الجمل وثقب الإبرة (آ 25) قريب من التعاليم ضد الغنى التي دخلت في مجموعات استعملها متّى ولوقا (لو 12: 33- 34= مت 6: 19- 21؛ لو 16: 13= مت 6: 24). أما الفكرة القائلة بصعوبة الدخول إلى ملكوت الله (آ 24 ب)، فهي تقابل القول (لوغيون) عن الباب الضيّق (لو 13: 24؛ مت 7: 13- 14). وكل هذا يدلّ على أننا أمام تكييف لكلام يسوع: توجّه أولاً إلى اليهود المعاصرين ليسوع، ثم انضم إلى خطبة إرشادية مسيحية. في هذه المرحلة الأخيرة نحدّد موقع خوف التلاميذ، مع التحذير المشجّع الذي يرافق هذا الخوف (آ 26- 27). لا يرتبط هذا الملحق بموضوع الغنى، فيبدو نتيجة مدوِّن مسيحي اهتم بأن يخفّف من قساوة تعجّب آ 24 ب، التي كان على آ 26- 27 أن تحسبانها في المراجع الإنجيلية (وهكذا ترتبط آ 24 ب مع آ 26- 27، ونقرأ آ 25 على حدة).
ضُمّت هذه المواد الأساسية في تأليف قد يعود إلى ما قبل مرقس، ولكنه نال معه شكله النهائي. وتمّت "تصحيحات" لتجعل المقطع كلّه متماسكاً. هكذا دوّنت آ 23 ب كاستباق للآية 24 ب التي زيد عليها إيضاح صغير: إن صعوبة الدخول إلى ملكوت الله تنحصر في "الذين يملكون أموالاً كثيرة". وإضطراب التلاميذ في آ 24 أ يستلهم آ 26 أ ليملأ فراغاً بين قوسين مشابهين. لم تكن نتيجة "العملية" أفضل ما يكون. لهذا قام متّى ومرقس وبعض الناسخين ببعض التصحيحات. ولكن إذا قرأنا هذا النصّ بشكل إجمالي، فالهدف الذي أشرف على صياغته يبدو واضحاً.
هنا نلاحظ أولاَ أن متّى ولوقا انطلقا من نص مرقس. وما عملاه يدلّ على آثار إعادة صياغة في خط الوحدة الموضوعة التي نجدها في مرقس. ونلاحظ ثانياً أن الكودكس فراريانوس قد زاد كلمة "غني" على آ 24 ب (صارت: ما أصعب الدخول على الغني إلى ملكوت الله). وهناك عدد من الشواهد قلبوا آ 24 وآ 25، (صارت آ 25 قبل آ 24. "ما أصعب دخول الأغنياء إلى ملكوت الله. فمرور الجمل في ثقب الإبرة..). وهكذا استطاع هؤلاء الناسخون أن ينتقلوا من حالة خاصة (الأغنياء) إلى اعتبارات عامّة. ولجأ بعض المفسرّين إلى النظرة الروحية التي تشير إلى التخليّ عن الأموال، لا سيما وأنه كان ليسوع أصدقاء أغنياء مثل زكا العشار ويوسف الرامي. لهذا زاد الكودكس البازي على آ 24: "الذين يتكّلون على الغنى". فصارت: "ما أصعب الدخول إلى الملكوت على المتكلين على الغنى".
ب- الغنى حاجز كبير
يقع النصّ في خطّ الخبر السابق، فيتركّز على مسألة الغنى أكثر منه على فكرة الدخول إلى ملكوت الله بشكل عام (مع أنها فكرة إنجيلية). فالأغنياء يظهرون منذ البداية، والنهاية تعنيهم وحدهم على ما يبدو. فإذا فصلنا هذه النهاية عن القول العام (آ 24 ب: ما أصعب الدخول إلى ملكوت الله)، فهي تلي المقابلة مع الجمل. ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل الموضوع المعلن في آ 24 ب (كان من السهل أن نستبعده!). بيد أن هذا الموضوع الذي يوسّع النظرة، يقلّل في الوقت عينه من أهمية الغنى كخطر كبير يهدّد الخلاص. فالحاجز الذي ينصبه أمام المؤمن ليس الوحيد الذي يجب تجاوزه. وحين ذكره الإنجيلي، هيّا الطريق للإعتبارات التي جاءت فيما بعد (آ 29). وقد يكون أراد أن يهيّئ قرّاءه ضد فكرة "مبسّطة" عن شروط الخلاص: ليس الخلاص مؤمَّناً بمجرّد تخلّينا عن أموالنا. هذا ما نقرأه في التعليم الذي يتوزّع مر 8- 10.
أما الآن، فنحن لا ننكر أن النصّ يشدّد على الغنى الذي هو إحدى الصعوبات التي تعارض الدخول إلى الملكوت. فعلى الغنى ينطبق القول الذي نقرأه بشكل صورة في آ 25: "فمرور الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغني إلى ملكوت الله". لقد عرف التلمود تشبيهاً مماثلاً، فحلّ الفيل محلّ الجمل. هذه الفرضية الهائلة تعبّر عن إستحالة "شبه مطلقة". نحن هنا ولا شك أمام صورة. فلسنا أمام تحديد بل أمام تحريض يعود فيه "الواعظ" إلى عبارات "قاطعة". غير أن اللهجة تبقى قاسية. ونحن نخون الإنجيل إن ظننا أن المسيحي يتوجّه إلى مصيره (أي= الخلاص) إذا أحاط نفسه بالرخاء الذي تؤمّنه ثروة كبيرة. فإذا أراد أن يحفظ نفسه من مثل هذا الخطر، إحتاج إلى روح الفقر، إحتاج بأن يفعل ما في وسعه لكي لا يكون غنياً.
ج- قدرة الله
ولكننا لم نقل بعدُ كل شيء. فالنصّ يتابع مورداً حيرة التلاميذ الكبيرة وسؤالهم بما فيه من قلق: "ولكن، من يمكنه أن يخلص"؟ هذا الملحق كان في الأصل امتداداً للقول العام في آ 24 ب (ما أصعب الدخول... إذن من يمكنه أن يخلص؟). فنحن لا نفهم كيف أن المقابلة مع الجمل التي تنحصر في الغنى، قد أثارت هذا السؤال. هل المسيحيون كلّهم أغنياء؟ والتلاميذ الذين أطاعوا أمر المعلّم فتركوا أموالهم وعيالهم ليتبعوه (آ 28)، لم يكونوا أغنياء، وبالتالي كانوا يأملون بالخلاص. لماذا هذا السؤال في هذا المكان؟ هل نقص الإنجيلي بعض المنطق حين دوّن هذا الحوار؟
في الواقع، إن الخوف والكلمة التي تترجمه يُفهمان بسهولة إذا جعلنا نفوسنا في نظرة الكاتب الكرازية. إنه يتطرّق إلى كل الصعوبات التي تمنع المؤمن من الدخول إلى ملكوت الله: أولاً، تلك التي تسبّبها الثروة (هي أولى الصعوبات وهي الصعوبة الرئيسية). ثانياً، كل المعوقات التي تنبت على طريق الملكوت والتي يعدّدها تفسير مثل الزارع (4: 14- 19). وهكذا ندرك السبب الذي حداهم لكي يطرحوا هذا السؤال الدراماتيكي: "من يستطيع أن يخلص"؟ لماذا يتعب الإنسان ليصير مسيحياً إذا كان يسير في طريق مزروعة بفخاخ لا يمكن التغلّب عليها؟
وجاء الجواب سريعاً: "هذا مستحيل (غير ممكن) على البشر، لا على الله. فكل شيء مستطاع عند الله". نحن هنا أمام تذكّر لكلمة قالها الله لإبراهيم (تك 18: 14)، واستعملها لوقا في خبر البشارة (1: 37). كما أن جعل امرأة عجوز تلد ولداً يتعدّى إمكانيات البشر، كذلك لا يستطيع الإنسان المتروك وقواه الخاصة أن ينجو من إنجذابات العالم وسحره. فهو يعثر ويسقط.
الإنسان هو الغني وغير الغني. ولكن الغني معرّض بشكل خاص. تدلّ هذه الكلمات على وضع تاريخي ملموس، فتفهمنا أنه وُجد أغنياء في الكنيسة الأولى، وكانوا قلقين بالنسبة إلى مصيرهم الأبدي. لم يسعَ الإنجيلي لكي يريح ضميرهم على حساب الإنجيل: فالغنى يهدّدهم، فلم يبقَ لهم إلاّ يتخلصوا منه. ولكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف؟ ثم هناك الفقراء الذين اختاروا الفقر لينجوا من هذا الخطر. ولكنهم لا يجدون نفوسهم محرّرين من "هموم هذا العالم". فهناك "شهوات أخرى" تهاجمهم (4: 19). فهل ييأسون؟ ييأسون من الإنسان ومن إمكانيّاته. ولكنهم لا ييأسون من الله الذي تعمل نعمته السامية فيهم المعجزات. وهكذا نسمع صوتاً مشجّعاً يخفّف ما يحمله هذا التعليم من طابع غير إنساني يجعله مستحيل التحقيق.
3- جزاء من ترك كل شيء لأجل المسيح (آ 28- 30)
إن التشجيع في آ 27 (كل شيء ممكن عند الله) ليس درساً في التساهل والتراخي. فالإنجيلي يطمح إلى أن يجتذب قرّاءه إلى الأعالي، مهما كانت التضحياًت التي يتحمّلونها لكي يصلوا. ولكنه يعرف أيضاً أن التنبيه والتهديد لا يكفيان: فسحر المجازاة التي بها يعد المسيح مؤمنيه، هو جزء من الدوافع التي يستعملها معلّمو التقليد المسيحي في الكنيسة الأولى.
أ- تكوين النصّ
هذا النص، شأنه شأن النص السابق، ينتج من عمل أدبي انطلق من معطيات قديمة كانت في الأصل مستقلّة. ثم ضمّت في إطار حوار بين يسوع ومجموعة من أخصّائه الحميمين. العنصر الرئيسي هنا هو القول على التخلي عن خيور الأرض وسائر ما يربطنا بالأرض. ونحن نستنتج أصله التقليدي من اننا نجد ما يقابله في مكان آخر: إنقطاع الروابط العائلية (مت 10: 37؛ لو 14: 26). التخليّ عن الممتلكات (لو 14: 33). لا شكّ في أن هذه الأقوال أشارت في البدء إلى الذين رافقوا يسوع في نشاطه التاريخي، فطلب منهم أن يكونوا مستعدين للعمل معه.
إن شكل التعليم هنا وفي لو 14: 26 (إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه) انطلق من حياة التلاميذ مع يسوع، وعبّرت عنه الكنيسة بطريقتها: فجمع أنماط التخليّ وطريقة تقديم اللائحة يتيحان لنا أن نرى في هذه الأقوال "تعليماً" دوّن في قلب الجماعة المسيحية. ونقول الشيء عينه عمّا يقابل هذه الأقوال على المستوى الزمني: مع أن مرقس فسرّها بطريقته الخاصة، إلاّ أننا أمام نظرة تقول إن نهاية العالم يسبقها ملك المسيح الأرضي وسعادة تامة للبشر. نحن هنا في خط تأويل ماديّ للنبوءات البيبلية. من الصعوبة أن نجعل هذه النظرة (هي هامشية في العهد الجديد) تتوافق مع نظرة ملكوت الله كما كرز بها يسوع. لهذا نقول إننا أمام نص "خلقته" كنيسة مرقس إنطلاقاً من حياة يسوع ومن انتظار ملك المسيح خلال ألف سنة (رؤ 20: 1- 6).
ب- أجران وجزاءان
وتدخّل بطرس. تكلّم باسم الاثني عشر، ففتح الدرفة الأخيرة في المقطوعة (إن آ 28 هي من تدوين مرقس. تبدأ: "فطفق يقول". ثم الدور الذي ينسب إلى بطرس، رج 8: 29؛ 9: 5؛ 11: 21). قال: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك". هذا التصريح يتوافق مع التقليد التاريخي المدوّن في الأناجيل. ومع هذا، فهو يهدف إلى إدخال جواب يسوع إلى قلوب المسيحيين: إنه يفترض أن تضحياًت كبرى فُرضت عليهم حين دخلوا في الكنيسة، كما أن عدداً كبيراً منهم لم يكونوا من هؤلاء الملاّكين الكبار الذين ابتعدوا عن المسيح. ثم إن هذه التضحياًت ما زالت تتوزّع حياتهم فتعرّضهم لتجربة السقوط والاستسلام. من هنا كان هذا القول الذي يتضمّن في الواقع سؤالاً ونداء. هناك فراغ، ويسوع سوف يملأه.
منذ البداية يبدو طابع تدخّله واضحاً. وهذا ما تشير إليه المقدّمة الاحتفالية: "الحق (آمين) أقول لكم" (لا تظهر هذه العبارة إلاّ على شفتَي يسوع). لسنا هنا أمام مجرّد إعلان. بل أمام إلتزام جدّي. فيسوع الحامل كل السلطات يقرّر مصير مؤمنيه. وسيكون مصيراً من السعادة. ولكن يسبق هذا المصير بعض المتطلّبات: "ما من أحد يترك من أجلي ومن أجل الإنجيل بيتاً، أو إخوة، أو أخوات، أو أماً أو أباً، أو بنين أو حقولاً...".
لا نبي ولا رجل الله في العهد القديم ربط خلاص الإنسان بتعلّق بشخصه هو. حين قال يسوع "من أجلي" كشف لنا أنه واع لكيانه ورسالته (8: 38؛ لو 9: 26؛ مت 10: 32- 33؛ لو 12: 8. نقرأ في متّى: "من أجل اسمي" يعني من أجلي). وحين زاد مرقس "من أجل الإنجيل" (رج 8: 35)، لم يعارض العبارة السابقة. فالإنجيل في نظره هو "إنجيل يسوع المسيح، ابن الله" (1: 1). فإن تمّ إعلان الإنجيل بالكرازة بحصر المعنى. أو إن اتخذ شكل خبر البدايات (أو: "إنجيل")، فسيبقى "خطبة الرب" وكلامه: فيسوع نفسه الحي والفاعل هو الذي يتوجّه إلى البشر.
من الواضح أن لائحة الأمور التي يجب التخليّ عنها، حاولت أن لا تنسى شيئاً: بعد البيت جاء ساكنو البيت. أي العائلة. ثم يفصّل النصّ مختلف أعضاء الأسرة. بعد هذا، الممتلكات الخارجية (الحقول) التي تعتاش منها الأسرة. لا نستطيع أن نعزل تخلياً عن الآخر، وكأن كل تخلٍّ وحده يكفي ليؤمِّن لنا المجازاة. ومع ذلك، نلاحظ أن عناصر اللائحة الأولى ترتبط بحرف العطف "أو" (بيتاً أو إخوة.). وعناصر اللائحة الثانية بحرف العطف "و" (من بيوت وأخوة وأخوات). يبدو أن هناك هدفاً من هذه اللائحة: كل شيء تتخلّون عنه يعود إليكم. ويحدّد النصر أننا لسنا أمام ردّ (وتعويض) بسيط. بل هناك مئة ضعف: إن المكافآت الإلهية لا تُقاس بالأعمال التي تجازيها (رج لو 6: 38: كيل ملآن مكبوس مهزوز فائض). هناك مكافآت حتى في هذا الزمن، في هذه الدنيا. أجل، هناك سعادة تبدأ على هذه الأرض وتتفتّح في السماء، وهي تنتج عن عطاء ذواتنا للربّ.
هنا نتساءل: هل اهتم مرقس إهتماماً كبيراً بالمجازاة في المرحلة الأولى (في هذه الدنيا)؟ لا شيء يتيح لنا أن ننسب إليه إسكاتولوجيا على مستويين (في هذه الدنيا، في الآخرة). فمجيء الرب هو الذي يبدو في أفقه. ومع ذلك، نحن هنا أمام لوحة من السعادة على الأرض لدى الذين تخلّوا عن كل شيء من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل.
لا يذكر مرقس الزوجة. أما لوقا (18: 29) فيقول: "ما من أحد ترك بيتاً أو أمرأة أو إخوة" (رج لو 14: 26). غير أنه يذكر بين المكافآت: "الاضطهاد". نجد هنا روح المداعبة. كما نجد إشارة إلى الواقع الذي عاشته كنيسة رومة يوم دوّن مرقس إنجيله. وأخيراً، إن كل المنافع الأرضية تبقى ناقصة، وترافقها تنغيصات ومضايقات. ولكن كل هذا ليست بشيء تجاه المجازاة السامية في "العالم الآتي".
هذا الهدف هو ذاك الذي تطلّع إليه الرجل الغني في بداية هذه المقطوعة: هو أيضاً تكلّم عن "الحياة الأبدية". ولكنه خسرها بسبب تعلّقه بالغنى. وفي النهاية، قدّم تلاميذ يسوع نموذجاً معاكساً. إذن نحن أمام تعليم كامل. والتوافق بين طرفَي هذه المقطوعة يدلّ على تماسكه. فهو يذكّر المسيحيين بأن كل ما ينتمي إلى الأرض هو عابر ونسبي: إنهم متأكّدون أنهم يعيشون منذ الآن في زمن الخلاص، لهذا فهم لا يقدرون أن ينسوا مصيرهم الأخير الذي تحدّده نعمة الله. و"اتباع يسوع" يعني أيضاً أن نتجاوز بالفكر والرغبة حدود هذا العالم العابر. ويعني أيضاً أن نعمل على هذا الأساس مهما كلّفنا هذا العمل من تضحياًت. فلا شيء يبرّر هذه التضحياًت إلاّ إيمان ورجاء ومحبة أولئك الذين نالوا هذه الفضائل كموهبة مجانية أحسن بها الرب عليهم