الفصل الثاني عشر: الزواج، الأطفال وتلاميذ يسوع

الفصل الثاني عشر
الزواج، الأطفال وتلاميذ يسوع
10: 1- 16
النصّ الإنجيلي الذي نقرأه اليوم هو قسم من سلسلة تعاليم يسوع. يحدّد مرقس موضعها في شرقي الأردن (10: 1) بين الإنباءين الأول (9: 30- 32) والثاني (10: 32- 34) بالآلام. نبدأ فندرس كل موضوع على حدة، ثم نتوقّف عند إطار هذا النصّ الطويل في إنجيل مرقس.
1- الزواج والطلاق (آ 1- 12)
نحن هنا أمام مناقشة عامة، ثم حوار خاصّ بين يسوع وتلاميذه.
أ- المناقشة العامة (آ 2- 9)
أولاً: تفسير النصّ
سأل الفريسيون (أو: بعض الناس، كما تقول بعض المخطوطات) يسوع: "أيحلّ للرجل أن يطلّق امرأته"؟ نواياهم سيئة: أرادوا أن يجرّبوا يسوع في نقطة هامة من شريعة موسى. وهناك شّراح اعتبروا أن الفريسيين أرادوا أن يجعلوا يسوع يعارض هيرودس الذي تزوّج امرأة اخيه (6: 17). قد يكون هذا الأمر صحيحاً في زمن يسوع، لا في زمن تدوين إنجيل مرقس.
قدّموا نصاً من الشريعة، فقدّم يسوع نصاً آخر من الشريعة، وهكذا أعطانا في هذا المجال تفسيراً جديداً. إن التعارض بين النصين سيقدّم أساس المناقشة.
النصّ الأول قد أخذ من تث 24: 1: "إذا تزوّج رجل بامرأة ولم تجد حظوة عنده لعيب أنكره عليها، فعليه أن يكتب لها كتاب طلاق ويسلّمه إلى يدها ويصرفها من بيته". إنطلق محاورو يسوع من هذا النصّ وتحدّثوا عن لسماح (حلّل، أجاز). أما يسوع فتكلّم عن وصية (آ 3، 5) مفروضة على المؤمن وهو لا يستطيع أن يتهرّب منها. ولكن يسوع أعلن في الوقت عينه أن هذه الوصية هي تدبير من قبل موسى "من أجلكم"، "من أجل قساوة قلوبكم". لسنا هنا أمام قلب لا شعور فيه، بل أمام قلب لا تخرقه كلمة الله، ولهذا فهو لا يسمع ولا يطيع.
في النظام الموسوي كان كتاب الطلاق يؤمّن حماية المرأة داخل حدود معروفة. ولكن وراء هذا التدبير وهذا السماح بالطلاق الذي يتضمّنه، ندّد يسوع بعدم إمكانية سامعيه إن يدركوا إرادة الله ويحقّقوها في حياتهم. فالقلب القاسي يبقى منغلقاً على نور الله (3: 5 قساوة قلوبهم؛ 6: 52: قلب التلاميذ، 8: 17). الكلمة المستعملة هنا هي "سكلاروكرديا": قلب محجّر. هكذا بدا التلاميذ بعد القيامة (16: 14) وهكذا بدا "اليهودي" في الرسالة إلي رومة (2: 5، "بقساوة قلبك وعنادك"): في خلفية. نصرّ مرقس هذا نجد.. أش 6: 9- 10: "اجعل. قلب هذا الشعب قاسياً واذنيه ثقيلتين وعينيه مغمضتين".
في هذا الإطار، خسرت وصيّة موسى صفة أساسيّة فيها: لم تعد تعبرّ عن إرادة الله. لم تعد إلا اجراء اتّخذ لاعتبارات بشرية تجاه أناس خاطئين يغدر الواحد بالآخر (ملا 2: 10، 14- 16).
وانطلق يسوع من نصٍ ثانٍ من الشريعة ليبين إرادة الله.. لا. ننسى هنا أن الشريعة (أو البنتاتوكس، أو أسفار موسى. الخمسة) تألّفت من خمسة أسفار هي: التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية: إنطبق القريسيون من سفر خبر البدايات كما ورد في سفر التكوين. المقطع الأول يؤسّس التمييز بين الرجل والمرأة مع المحافظة على كرامتهما. "جعلهما الله ذكراً وأنثى" (تك 1: 27). والمقطع الثاني يرتبط بالمقطع الأول ويستخرج: منه النتيجة: "لذلك يترك الرجل أباهْ وأمه ويتّحد بامرأته، فيصير الاثنان جسداً واحداً" (تك 2: 24). إن ربط هذين المقطعين يبرز المقطع الثاني على أنه تعبير عن إرادة الله. أمام إطار سفر التكوين فيبدو في الظاهر أنه كلام يتلّفظ به آدم. ولكن قد نكون في الواقع أمام رتبة زواج، يسمع فيها الكاهنُ الرجلَ واجباته تجاه امرأته. في تك 2: 23، عبارة "لذلك" هي نتيجة تكوين الرجل من المرأة. أمّا في مرقس، فالنتيجة مأخوذة من عمل الله الذي خلق الإنسان رجلاً وأنثى.
إن التمييز بين الرجل والمرأة يتيح جمعهما في وحدة الجسد الواحد (البشرية الواحدة)، أي كائن واحد في اثنين. فاستنتج يسوع لا شريعة الزواج الواحد (رجل واحد وامرأة واحدة) وحسب، بل منع الطلاق أيضاً: "لا يفرّق الإنسان ما جمعه الله".
ثانياً: ملاحظة حول تاريخ التقليد والتدوين
من الواضح أن خبر مرقس دوّن من أجل الجماعات المسيحية التي انفصلت عن العالم اليهودي وجهلت تشريعه (رج 7: 3- 4). فاليهودي الحقيقي في زمن يسوع لا يعبرّ عن سؤاله كما عبرّ عنه مر 10: 2 (أيحلّ للرجل أن يطلق امرأته؟)، بل كما عبرّ عنه مت 19: 3: "أيحل للرجل أن يطلّق امرأته لأي سبب كان"؟ السؤال في مرقس يعني أن الرجل يستطيع أن يطلّق امرأته أو لا يستطيع (لا يحقّ له). أما في متّى، فلا جدال على المبدأ: يحلّ للرجل أن يطلّق امرأته. ويكون السؤال: ما هي الشروط؟ يجب عليه أن يعطيها كتاب طلاق يتيح لها أن تتزوّج مرّة ثانية.
أما نقطة الخلاف الوحيدة بين مفسرّي الشريعة فهي السبب الشرعي الذي. يتيح للرجل أن يطلّق امرأته. إن ما قرأناه في تث 24: 1 يشير إلى شيء معيب. وقد فُهم بشكل واسع أو بشكل ضيّق: سلوك سيئ يجعل الرجل يشكّ بأمانة امرأته له. إذن، سبب وجيه، كما قالت مدرسة شمعي. أما مدرسة هلال فتحدّثت عن كل ما لا يرضى الرجل، حتى ولو كان حرق حساء. في هذه الحالة يستطيع أن يطلّق امراته لأي سبب كان. لم يتأثّر علم الفتاوى هذا بنصّ ملاخي الذي يندّد بالطلاق (ملا 2: 14- 16) ملمّحاً إلى تك 2: 24. ما كان لهذا النصّ الصعب أن يعارض سلطة الشريعة كما وردت في تث 24. ويبدو أيضاً أن هناك نصّاً من قمران يشجب تعدّد الزوجات، كما يشجب الزواج الثاني بعد الطلاق، مستنداً إلى تك 1: 27 وإلى صيغة المفرد: "خلقهما ذكراً وأنثى". ومع ذلك، كان الطلاق معترفاً به بشكل عام.
إن موقف يسوع كما عبرّ عنه بوضوح تقليد قدّمه مرقس هنا، أنهى كل جدال حول تث 24. فبالنسبة إلى مسيحيين عائشين وسط الوثنيين، طُرح السؤال كما في إنجيل مرقس لا كما في إنجيل متى. لهذا استطاع جواب يسوع أن يلفت انتباههم من جهات متعدّدة. فهذا الجواب يدلّ على السلطة التي بها يقرأ يسوع كلمة الله، دون الأخذ بعين الاعتبار مختلف تفاسير الكتبة، كما يكشف معنى هذه الكلمة في تعليمه (1: 21- 22، 27). وإذ حطّ يسوع وصية موسى من مكانتها من أجل مخطّط الله كما يظهر في خلق الرجل والمرأة، فإنه فتح ثغرة في خاصانية العالم اليهودي (مع انغلاقه)، وانطلق في شمولية التعليم الإنجيلي (2: 21- 22، 27- 28؛ 7: 8- 13، 19- 23). مثل هذه الجرأة كان يمكن استغلالها في خطّ الصراع مع السلطات اليهودية: إما ليبرز سلطان ابن الإنسان (2: 10: سلطان به يغفر الخطايا). وإمّا ليدلّ على الطابع الموقت لعدد من الترتيبات داخل النظم الموسوية (7: 1 ي).
ولكن يسوع يلامس هنا علاقات الرجل بالمرأة، وهي مسألة والسعة وسع الكون. لهذا برز الهمّ الخلقي في خبر مرقس، فكسف سائر الإهتمامات. ولم يقل النصّ شيئاً عن ردّة فعل محاربي يسوع. جربّوا يسوع وأرادوا أن يوقعوه: هل نجحوا أو فشلوا؟ هذا ما لا يقوله النصّ. فكلام يسوع يتجاوز مجال الشريعة الذي أرادوا أن يحصروه فيه ليجرّبوه. وهكذا أدرك القارئ إرادة الله لا في فريضة أو تسوية قانونية داخل السلوك البشري، بل في علاقة عميقة بين شخصين، في علاقة تثبتها بنية الزواج الخاص (آ 10- 11).
ب- الحوار الخاصّ (آ 10- 11)
ليست هي المرّة الأولى التي فيها يُتبع مرقس تعليماً (أو عملاً) علنياً من تعاليم يسوع، بحوار خاصّ مع تلاميذه. مثلاً، بعد مثل الزارع، إنفرد بتلاميذه فسألوه (4: 10- 25، 34). وبعد حديثه عن التقاليد أعطى مثلاً فسأله تلاميذه عن مغزى المثل (7: 17- 23؛ رج 9: 28- 29). نجد في هذا التصرف طريقة بها يربط مرقس مواد مبعثرة في التقليد. وهذا هو الوضع هنا. حدّد "الراوي" موقع الحوار الخاصّ "في البيت". لو كنا في كفرناحوم لقدّمت لنا العبارة شيئاً واضحاً (1: 25؛ 2: 15؛ 9: 33). أمّا الآن، فنحن في شرقي الأردن (10: 1). فما هو معنى "في البيت"؟ هي عبارة يدخلها مرقس في كل مكان (7: 17؛ 9: 28)، ليقدّم أحد أقوال يسوع الوارد بدون موقع إخباري في المرجع القديم، والذي نسخه لوقا في 16: 18. (هنا نشير إلى أن البيت يعني على مستوى تدوين الإنجيل: حيث تجتمع الكنيسة).
إن التجميع الذي قام به مرقس يدلّ على وجهة التعليم والفقاهة فيه. فأقوال يسوع الموجّهة إلى التلاميذ بشكل خاصّ تزيد بعض الإيضاحات على تعليمه "العلني" أو تستخرج منه النتائج العملية. لهذا، تبدو أهميته واضحة بالنسبة إلى تعليم المسيحيين وتكوينهم. وهكذا ننتقل من إرادة الله حول الزواج الذي لا يحلّ، إلى حكم خلقي على أعمال ملموسة، وعلى الذين يقومون بهذه الأعمال.
ويتكيّف جواب يسوع للتلاميذ مع الوضع الاجتماعي والحضاري للمسيحيين الآتين في العاِلم الوثني. فيعالج على التوالي وضع الرجل، ثم وضع المرأة التي تطلق زوجها وتتزوّج مرّة ثانية (آ 11- 12). حسب الشريعة اليهودية، لا تستطيع المرأة أن تطلّق زوجها. في بعض الظروف، تستطيع أن تطلب الطلاق، ولكن الطلاق لا يُعلن إلا بفم الزوج. أما الشريعة الرومانية فأقرّت للمرأة بحق الطلاق من زوجها. إن نسخة مرقس (وحدها، رج مت 19: 8؛ لو 16: 18) تدلّ على أن كلمة يسوع ذُكرت كنور حاليّ في الظروف المتبدّلة من الوجود المسيحي. فُهمت كوصية لا شواذ فيها. فتكيّفت مع الأوضاع الجديدة التي يجب أن تمارسَ فيها.
واستمرار الرباط الزواجي هو من القوة بحيث إن الزواج الثاني بعد الطلاق يُعتبر زنى، شأنه شأن الخيانة الزوجية. هذا ما يشدّد عليه مرقس (وحده) بإشارة لم يسمع بها العالم اليهودي: الرجل الذي يطلّق امرأته ويتزوج أخرى، هو زان بالنسبة إلى المرأة الأولى. فالزنى كما حدّد في العالمي اليهودي هو بين امرأة وبين رجل غير زوجها: تستطيع المرأة أن تكون زانية بالنسبة إلى زوجها، ولا يعتبر الرجل زانياً تجاه امرأته. إن نصّ مرقس يفترض المساواة العميقة بين الرجل والمرأة على مستوى الزواج والإحترام الواجب له. نحن ندرك خصب الإنجيل الحي الذي انتقل من أرض فلسطين إلى أرض وثنية.
لا تعالج نسخة متى إلا وضع الرجل الذي يطلّق امرأته. وإذ جعلت جانباً حالة زنى (بورنيا) (= زواج غير شرعي، رد لا 18: 6- 18؛ أع 15: 28- 29) الزوجة، شهدت على انغراس كلمة يسوع في كرازة كنيسة خاصة وفي ممارستها (إن القاطعة "إلا في حالة الزنى" في مت 5: 32؛ 19: 9 هي خاصة بمتى). فتفسير هذه الحالة لا يجد توافقاً بين الشّراح، كما أن هناك اختلافاً في هذا الشأن بين الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية. يكفي من أجل موضوعنا أن نلاحظ هنا أن التوافق بين مرقس ومتى حول إلغاء المبدأ الموسوي المتعلّق بالطلاق، ترافقه اختلافات بالنظر إلى النتائج العملية التي تستخرج من هذا المبدأ. ويشهد بولس من جهته على منع الطلاق والزواج مرّة ثانية بعد الطلاق (هو لا يسمّيه زنى)، كما "يشّرع" في حالة انفصال الزوجين دون زواج جديد (1 كور 7: 10- 16).
وهكذا تُطرح منذ أيام العهد الجديد مسألة العلاقات بين الإنجيل وممارسته في ظروف هذا العالم الملموسة. إن الإنجيل يتجاوز كل تعبير قانوني لإرادة الله. ولكن الأمانة للإنجيل لا تكون صحيحة من دون مراعاة أوضاع الأشخاص في إطارهم الاجتماعي، ومن دون ترتيبات عملية تؤمّن. إلىرسة الجماعية لهذه الأمانة وتميّز الكنائس عن المحيط اليهودي أو الوثني الذي تعيش فيه.
2- يسوع، الأطفال وملكوت الله (آ 13- 16).
لا ينحصر هذا الإنجيل (كما هي العادة في الأناجيل) بتذكير بالظروف التي حدت بيسوع إلى أن يتلفّظ بأقوال جديرة بأن تحفظ. وإن علّم هنا فهو يعلّم بأعماله وبأقواله. إنه يحقّق بل يتجاوز ما انتظره أناس جاؤوا إليه بأطفالهم. وهو يحقّقه رغم معارضة تلاميذه. غضب يسوع على التلاميذ (الذين انتهروا الأطفال)، وتفوّه بأقوال وسّعت بُعد تصرّفه تجاه الأطفال توسيعاً غريباً.
إن الذين قادوا الأطفال إلى يسوع، أرادوا منه أن يلمسهم: لا شكّ في أنهم يطلبون بركة. هناك انتقال من "لمس" (آ 13، وضع يده) إلى "بارك" (آ 16). هنا نعود إلى مر 8: 22- 25 حيث طلب إلى يسوع أن "يلمس" أعمى بيت صيدا. أما يسوع فوضع يديه على عينيه. وهكذا ننتقل من اللمس إلى وضع اليدين. وقد عرفت التوراة المباركة مع وضع اليدين. هذا ما فعله يعقوب مع يوسف وابنيه افرائيم ومنسّى (تك 48: 13- 18). ولقد عرف التقليد اليهودي القديم عادة بها يُطلب من رجل دين أن يبارك الأطفال.
لسنا هنا أمام أطفال رضَّع. ولا يشير النص إلى أن الذين حملوهم قدّموهم. إن لوقا وحده يتكلّم عن أطفالا صغار (برافي). أمّا متّى ومرقس فيستعملان كلمة "بايديا" التي قد تعني ابن 12 سنة (مر 5: 39- 42). هم أطفال. ولكن بما أن "أهلهم" يرافقونهم، فهذا يدلّ على أننا أمام أولاد "كبار". أراد التلاميذ أن يمنعوا الناس من تحقيق هذا المشروع. قاوموا الكبار لا الصغار. لماذا اتخذوا" هذا الموقف؟ لا ندري. ولكن توبيخ يسوع لهم يدلّ على أنهم لا يرون علاقة بين رغبة هؤلاء الناس وعمل يسوع. على كلّ حال، إن يسوع يرفع الموضوع إلى هذا المستوى.
إنه يريد أن يلمس الأطفال. "دعوا الأطفال يأتون إليّ، لا تمنعوهم". يريد الاتصال بهم لأن "ملكوت الله هو لأمثالهم". ويأتي إعلان احتفالي فيوضح السبب: "الحقّ أقوله لكم: من لا يقبل ملكوت الله مثل طفل فلا يدخله". وهكذا جعل يسوع بهذه الكلمات رباطاً بين ملكوت الله من جهة، وبين الأطفال ونفسه من جهة ثانية. وهذ الرباط يؤسّس علاقته بالأطفال الذين يباركهم.
أ- الأطفال وملكوت الله
"إن ملكوت الله هو لأمثالهم". لا "للذين هم أطفال مثل هؤلاء"! فالعبارة السابقة "دعوا الأطفال يأتون إليّ"، تجاوزت الحالة الخاصة لهؤلاء الأطفال الذين جاؤوا بهم إلى يسوع. ولا النصّ يوضح أن "أمثالهم" تتجاوز مقولة الأطفال: "من لا يقبل ملكوت الله مثل طفل، فلا يدخله". من الواضح أن النصّ يشير إلى "الكبار". ولكنه مع هذا لا ينسى الأطفال. ملكوت الله هو لهم. ولهم طريقتهم في تقبّله، وهي شرط ضروري لكل إنسان يريد أن يدخله. الملكوت هو لمن يتقبّله بهذا الشكل أكان طفلاً أم لا.
لا يعتبر يسوع الأطفال كرمز إلى استعداد مطلوب من الكبار. ولا يجعلهم مثالاً يجب أن نحتذي به. إن الأطفال يدلّون على إمكانية قبول هي ضرورية لجميع الذين يطلبون ملكوت الله. هذا الملكوت هو عطية مجانية، ولا حقّ للإنسان فيه، فلا يمكنه أن يعتدّ بأي فضل، بأي استحقاق تجاهه. إذا كان ملكوت الله "يخصّ" الأطفال، فليس بسبب براءتهم أو تواضعهم اللذين يجب على الكبار أن يستعيدوهما بمجهودهم الخاص. فالنسخة المتاوية نفسها تقاوم هذا التفسير. فتحدّد أن الشرط الضروري ليكون الإنسان الأعظم في ملكوت الله، هو ذات الشرط لدخوله: "نصير مثل الأطفال". ،(نصير صغاراً مثل هذا الطفل" (مت 18: 3- 4). لسنا أمام تواضع على المستوى الخلقي (هل الطفل متواضع؟)، بل أمام "صغر" موضوعي، وغياب كل اعتداد وعدم إمكانية الاكتفاء بالذات والاتكال على الذات. ونسخة مرقس هي كثر وضوحاً حين تتحدّث عن القبول. إن الأطفال يدخلون بكل بساطة (بلا مشاكل) ملكوت العظماء لأنهم يعرفون أن يتقبّلوا ما يُعطى لهم، ويسلّموا أمرهم بثقة إلى الذي يعطي.
ب- يسوع وملكوت الله
"الحقّ أقول لكم". هذه العبارة توضح سلطة يسوع حين يتكلّم عن ملكوت الله وعن الشروط لدخوله. نحن أمام الملكوت المقبل (كما في إطار 10: 23)، في إطار "الحياة لأبدية" (10: 17، 30). أمام امتلاك تام لخبرات تدلّ (في اللغة البيبلية) بشكل ملموس على النظام الكامل للعلاقات بين الله والإنسان. هذا الملكوت قد أعلنه يسوع (1: 15). وهيّأ سامعيه له. وحدّد شروط الدخول إليه (9: 43، 45، 47). وهو يعد بهذا الملكوت (9: 41؛ 10: 21، 29- 30): "من ترك بيتاً... نال في الآخرة الحياة الأبدية". وما يقوله يسوع عن الأطفال وأمثالهم يؤكّده التعليم الذي أعلن في التطوبيات (مت 5: 2- 12؛ لو 6: 20- 26). فالعبارة نفسها ترد بالنسبة إلى الأطفال، وبالنسبة إلى الفقراء: ملكوت الله هو لهم. وهو يخضهم لانهم يرثونه. إن هذ الطريقة في التعّرف إلى وارثي الملكوت العتيدين في الزمن الحاضر، يفترض من الآن علاقة خاصة بين هذا الملكوت وبين يسوع.
ونذهب أبعد من هذا. فنحن نجد في العبارة عينها: ملكوت الله هو واقع يجب أن نتقبّله في الحاضر لندخله في المستقبل. ونجد توضيحاً لهذه الثنائية في أمثلة الزرع: ملكوت الله هو الحصاد، أو هو الشجرة. بل هو منذ الآن الحبّة الصغيرة التي ألقيت في الأرض (4: 26- 32). هذه الأمثال ترد بعد مثل الزارع الذي "يزرع الكلمة" (4: 14). وعبارة "تقبل ملكوت الله" قريبة من عبارة "تقبّل كلمة الله". الأولى لا تُقرأ إلا هنا في كل العهد الجديد. أما الثانية فترد في أماكن عديدة (لو 8: 32؛ أع 8: 14؛ 11: 1؛ 17: 1؛ 1 تس 1: 6؛ 2: 13؛ أف 6: 17؛ يع 1: 21؛ ق "تقبل الإنجيل" في 2 كور 11: 4).
حين نتقبل الإنجيل الذي يكرز به يسوع، نتقبل ملكوت الله حسب مرقس، ونتقّبل "نعمة الله" (2 كور 6: 1) حسب بولس الرسول. وحين أعلن يسوع ملكوت الله الآتي، قدّم منذ الآن لمن يتقبّله بالإيمان عطية سوف تتجلىّ في المستقبل: "ملكوت الله هو قريب جداً: توبوا وآمنوا بالإنجيل" (1: 5).
وهكذا يستنير الأمر الذي أعطي للتلاميذ: "دعوا الأطفال يأتون إليّ، لا تمنعوهم". إن يسوع يقدّم عطية الله: ونحن نتقبّل هذه العطية حين نأتي إليه. وسيقول أوريجانس في إيجاز جريء إن يسوع هو ملكوت الله شخصياً. فحين نعامل الأطفال كمزعجين نبيّن اننا لم نعرف يسوع. فهم حين جاؤوا إليه حققوا بشكل ملموس موقف الثقة والقبول الضروري لكل من يريد أن يشارك في ملكوت الله. إن خبر مرقس هذا يعلن بطريقته كلامً يوحناوياً يماثل بين "المجيء إلى يسوع" و"الإيمان به" (6: 35: من جاء إليّ لا يجوع، ومن آمن بي لا يعطش؛ 6: 37، 40)، ويتحدّث في هذا المعنى عن الولادة الجديدة (3: 3، 5).
ج- يسوع، الأطفال... والآخرون
"ثم احتضنهم وباركهم واضعاً يديه عليهم" (آ 16). فالذين جاؤوا بالأطفال انتظروا بركة صغيرة. فإذا هم يحصلون على الشيء الكثير. من أجل بارك، يستعمل مرقس "كاتولوغاين" الذي لا يستعمل إلا في هذا المكان من العهد الجديد. نحن أمام صيغة التشديد لفعل "اولوغاين" بارك بمحبّة كبيرة. ولاحظ مرقس وحده انه "غمرهم وقبّلهم"، احتضنهم.
إن هذا الاتصال الحارّ (اللمس) يتّخذ كامل معناه من كلمات سبق ليسوع وتفؤه بها، ومباركة الأطفال يجب أن ترتبط بملكوت الله الذي وعد به ومنذ الآن أعطي للذي يعرف إن يتقبّله. من هذا القبيل، فالحنان الذي به أحاط يسوع الأطفال لا ينغلق عليهم وحدهم. الأطفال هم هنا من أجل ذاتهم، كأناس نعموا بالملكوت. وهم هنا من أجل "كل من" يعيش الموقف الذي عاشوه تجاه يسوع وتجاه كلمته.
نعرف بواسطة ترتليانس، المفكّر المسيحي الأفريقي (قرطاجة) أن هذا النصّ استعمل كبرهان من أجل عماد الأطفال. ويظنّ بعض الشّراح ان هذا الاستعمال يعود إلى زمن العهد الجديد. فعبارة: "لا تمنعوهم" قريبة من عبارات مماثلة استعملت في أماكن أخرى حول الشروط المطلوبة لكي يقبل الإنسان للمعمودية. مثلاً أع 8: 36: "هوذا الماء. فما المانع من أن أعتمد"؟ أع 10: 47: قال بطرس: "هل يستطيع أحد أن يمنع ماء المعمودية"؟ رج مت 3: 14: "أخذ يوحنا يمانعه".
هذا البرهان ليس بحاسم، ولكن من السهل أن نستنتج من الخبر أن الأطفال هم مؤهّلون للعماد. ولكن لا نحصر هذا النصّ في بُعد ضيّق: فمن خلال الأطفال يُدعى كل إنسان إلى التوبة وإلى الإيمان بعطيّة الله.
وسبب هذا التوسّع هو آ 15 (من لا يقبل ملكوت الله). يتفّق عدد كبير من الشّراح على القول إن هذه الآية لم تنتمِ إلى التقليد الأقدم الذي يرتبط به مرقس: فالنسخة الموازية في متى (19: 13- 15) لا توردها. ونحن لا نجد ما يقابلها إلا في مت 18: 3 (إن لم ترجعوا فتصيروا كالأطفال) وفي سياق آخر مركب من عناصر عديدة. فهذا القول قد سار مسيرته في التقليد بدون ارتباط محدّد، شأنه. شأن عدد من أقواله يسوع. ثم إن التعبير عنه مرقس يعكس تأثير لغة المرسل المسيحي الذي انتقل بسهولة من "قبل الكلمة" إلى "قبلَ ملكوت الله". رج لو 8: 23؛ اع 8: 14؛ 11: 2... يستعمل لوقا عبارة: "بشّر بملكوت الله" (أعلن بشرى ملكوت الله)، رج 4: 43؛ 8: 1؛ 16: 16؛ رج اع 8: 12. ويستعمل أيضاً عبارة "أعلن ملكوت الله" (بلّغ مجيء) في 9: 2، 65؛ أع 2: 25؛ 28: 31. وتكلّم متى عن "إنجيل الملكوت". رج 4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14.
إن خبر مرقس يدلّ على عمل تفكير شامل في مواد تقليدية أوّلية. ولكن، حتى إذا وضعنا جانباً آ 15 وأعدنا التقليد الذي صاغه مرقس إلى نموذج نجد أساسه في مت 19: 13- 15، فهذا التقليد لا ينحصر ببعض تذكرات تدلّ على حنان يسوع تجاه الأطفال (وقساوة التلاميذ تجاههم). ولا يبدو هذا التقليد أيضاً جواباً بسيطاً على المكانة التي يجب أن تحُفظ للأطفال في الجماعات المسيحية. كان يكفي لأجل ذلك قول مثل "ملكوت الله هو لهم". توجّه يسوع إلى الأطفال، ومعهم إلى الكبار الذين صاروا قريبين منهم لأنهم يشبهونهم. وحين حدّد مرقس هذا التشابه على مستوى قبول واثق لعطية الله بالإيمان، أنار التقليد الذي وصل إليه ولم يخنه.
3- سياق النصّ
لا رباط في الزمان والمكان يجمع الخبرين اللذين صفهما مرقس الواحد قرب الآخر. ولكنهما يقيمان في تأليف أوسع وتتبعهما دعوة غني (فاشلة) وحوار حول الغنى وملكوت الله (10: 17- 31). ويتعلّق بهذه المجموعة حاشية صغيرة صقول إن يسوع ذهب إلى اليهودية، إلى عبر الأردن، وعلّم هناك الجموع. معلومتان مهمتان.
نسينا الجموع، والتعاليم التي تلت عنت التلاميذ وحدهم قبل كلّ شيء. فكما في 8: 34، لم يخفّف اهتمام يسوع بعدد كبير من سامعيه، من قوّة كلمة تفرض خياراً نقوم به وتصرفاً علنياً بهما يتميّز التلميذُ عن الآخرين: نعيش حسب إرادة الله في الزواج. نتطلب من الأطفال صغر الإنسان أمام مجانية الله. نترك كل فكر خيالي حول المال. لا نحسب حساب ما نتخلىّ عنه من أجل المسيح والإنجيل. مثل هذا يجعل من المؤمنين "مشهداً للناس وللملائكة". يراهم الناس فيمجّدون الآب الذي في السماء.
وما هو الوضع الجغرافي لهذه التعاليم؟ في منظار أورشليم حيث يصعد يسوع وتلاميذه (10: 32)، بين الإنباءين الثاني والثالث بالآلام. وبعد كل إنباء يحدّد يسوع السلوك الواجب على تلاميذه. "من أراد أن يتبعني ينكر نفسه ويحمل صليبه..." (8: 34- 38). "من أراد أن يكون أول الناس، فليكن آخرهم جميعاً وخادماً لهم..." (9: 33- 50). "من أراد أن يكون الأول فيكم فليكن لجميعكم عبداً..." (10: 35-45). فالعلاقة التي أقامها يسوع بين حياة التلاميذ ومصير ابن الإنسان، أو بالأحرى إن السير على خطى يسوع ينير بنور جديد ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه مجرّد تعليم خلقي.
ما يوحّد قوليَ يسوع عن الزواج وعن الأطفال والغنى نجده على مستوى الوحي والإيمان. فحين يتكلم يسوع "علانية" عن الآلام التي يستمرّ فيها، ويجتذب تلاميذه على طريقه الخاص، فهناك يقين يلهمه: الله حاضر هنا وهو يعمل من أجل مجيء ملكوته. ونجاح الإنسان يمرّ بالجهوزية والثقة والاستسلام. فالله يعرّف الناس بذاته خارج حدود الوحي الموسوي (10: 5- 6، 19- 21). وهو يطلب من الإنسان أكثر مما يتوقّعه الإنسان. غير أن الإنسان جعل الممكن على قدر قواه الخاصة (10: 26- 27). وهو حين يكتشف إرادة الله في إتحاد الرجل والمرأة اتحاداً لا ينفصم، يحياً في جوّ هذا الملكوت. ولكن الملكوت لا يأتي إلاّ إذا قبلناه بالسخاء والعطاء. هذان القولان ليسوع اوردهما مرقس. وهما يساعداننا لنفهم ما يطلبه من كل من يريد أن يتبعه. "كل شيء ممكن عند الله" (لا شيء مستحيل) (10: 27). "كل شيء ممكن لمن يؤمن" (9: 23).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM