الفصل الحادي عشر
يسوع يعلّم تلاميذه
9: 38- 50
إن العبور في الجليل عرف وقفة استراحة: كما في بداية الإنجيل إختار كفرناحوم، فوجد التلاميذ نفوسهم معه. سألهم يسوع عن موضوع حديثهم فكان مناقشة عمّن هو الأعظم (9: 33). ولما قال يسوع إن الطفل هو عظيم في نظر الله، فمن يقبله يقبل الابن الحبيب. ولما قال إن الطفل هو التلميذ والمرسل، ظنّ يوحنا أنه فهم وطبّق ما فهم: الذين يعملون إرادة الآب هم التلاميذ. إذن، هم على حقّ حين منعوا مقسّماً يعمل عمله باسم المسيح وليس هو من جماعتهم. وهكذا بدا يوحنا انه "متسلّط" لا خادم، فحصر الرسالة في جماعة الاثني عشر. أعطى يسوع درساً في الضيافة ثم حديثاً عن الشكوك ضد أحد من هؤلاء الصغار الذين يؤمنون به.
1- تنوعّ أقوال يسوع ووحدة النصّ
أ- وضع النصّ
إن تعليم يسوع في 9: 38- 48 يعالج أسئلة متنوّعة في ظاهرها. فسؤال يوحنا وجواب يسوع عن الغريب الذي يخرج الشياطين باسم التلاميذ، يؤلّفان وحدة صغيرة (آ 38- 40). ولكن مع الكلمة حول كأس الماء البارد الذي يُعطى للتلاميذ (آ 41)، ننتقل إلى موضوع آخر دون إنذار (رغم وجود حرف العطف). والمقطع في آ 42 عن المعثرة (الشكّ) تجاه "واحد من هؤلاء (من هم؟) الصغار الذي يؤمنون بي"، يرتبط بصعوبة بالذي سبقه. بعد آ 43، نحن أمام مسألة الشكّ أو مناسبة الخطيئة في منظار الأخلاقية الشخصية.
ويزداد الشعور بالفوضى إذا وضعنا آ 43- 48 في سياقها النصوصي. فهي جزء من حديث ليسوع مع الاثني عشر (9: 33- 50) يبدأ مناقشة عن الأعظم (آ 33- 35)، ثم يأتي تعليم عن قبول "أحد هؤلاء الأطفال" (آ 36- 37). إن العلاقة بين هذين الموضوعين لا تبدو واضحة: اختتمت آ 35 المناقشة التي تحرّك التلاميذ. غير أن الطريقة التي بها أخذ يسوع الطفل ووضعه في وسط الجماعة وضمّه بين يديه (آ 36)، لم تشدّد على الأمثولة حوله التواضع في خطّ آ 35 (رج ست 18: 3- 4)، بل أبرزت طريقة قبول طفل (آ 36). ونحن لا نرى كيف أن هذا المشهد يوصلنا إلى إعلان يوحنا (آ 38) الذي تتسلسل منه أقوال يسوع حتى آ 50.
مثل هذا النصّ يشكّل محنة لحاجتنا إلى رؤية التماسك فيه. غير أن تأليفه وموضعه في إنجيل مرقس يؤمنان له بعض الوحدة.
ب- تأليف النصّ
هناك كلمات عاكفة تربط بين بعضها وعلى مستوى المفردات أخباراً تبدو للوهلة الأولى مبعثرة. وهذا واضح خصوصاً في آ 48- 50. و"نارهم" في آ 48، تدعوا النار في آ 49 حيث "ملّح" يستدعي "الملح" في آ 50. ولكن قبل هذا، كان فعل شكك (عثَّر، أوقع في الخطيئة، من وضع حاجزاً أو فخاً في طريق المؤمن)، هو الذي أمّن التماسك في آ 42- 48. ولفظة "باسم" لساعدت على التقارب بين آ 37 (باسمي) وآ 38- 39 (باسمك، باسمي)، وآ 41 (بما أنكم للمسيح، حرفياً بما أنكم تسميتم باسم المسيح). ونستطيع أن نشير أيضاً إلى المقابلة بين "أحد هؤلاء الأطفال" في آ 37 و"أحد هؤلاء الصغار الذين يؤمنون" في آ 41، رغم أن اللفظة التي تترجم "الطفل" هي غير اللفظة التي تترجم "الصغير". فاللفظتان تدلاّن على شخصين مختلفين.
إن هذا الأسلوب في التأليف يمنعنا من أن نبحث في هذا النصّ عن تماسك في خطبة أو توسيع منطقي. كما يمنعنا أن نرى "تقريراً" عن حوار تمّ كما وصل إلينا. فحسب توارد الألفاظ، حسب أسلوب ذاكري (نسبة إلى الذاكرة) تمّ جمع أقوال تفوّه بها يسوع في ظروف متعدّدة. نقلها التقليد وربطها كيفما استطاع بعضها ببعض من أجل حاجات الكرازة في الكنيسة الأولى. أيكون مرقس قام بهذا التجميع (حسّن مت 18: 9 ولو 9: 46- 50 نصّ مرقس، الذي هو الأقدم، فاظهر التماسك) أم عاد إلى مرجع سبقه، فهذا لا يبدّل هنا مسألة مدلول هذا التجميع.
سنحاول أن نوضح مدلول هذا التجميع انطلاقاً من كل عنصر من عناصره مع الأخذ بعين الاعتبار الفائدة التي جعلت التقليد يحتفظ به. فكل نصّ يجُمع هكذا، يشهد على أن المسيحيين أحسّوا نفوسهم معنيين بحوارات يسوع مع تلاميذه وبوضع الذين تبعوه خلال حياًته على الأرض.
ج- سياق النصّ
تبدو هذه المجموعة في إنجيل مرقس وكأنها وحدة أدبية لم يختر الكاتب موضعها صدفة واتفاقاً. نحن أمام حوار ليسوع مع الاثني عشر. جلس يسوع (هذا هو موقف المعلّم: رج آ 35؛ 4: 1؛ مت 5: 1؛ لو 4: 20؛ 5: 3...) ودعاهم. ولن ينهض إلا في النهاية (10: 1: وقام). تمّ الحوار "في البيت" (آ 33). هذا البيت الذي لا نعرف صاحبه ولا موضعه. جُعل هنا في كفرناحوم. ولكننا نستطيع أيضاً أن نجده في مكان آخر، كل مرّة يحتاج مرقس إليه ليدلّ على تعليم حميم ومحفوظ حصراً للتلاميذ، لتعليم يتمّ على انفراد، وبعيداً عن الشعب (7: 17؛ 9: 28؛ 10: 10). إن "تأليف المكان" هذا يدلّ على الأهمية التي يعلّقها مرقس على كلمات يسوع من أجل المسيحيين في الكنيسة الأولى (البيت هو الكنيسة، وهناك يجتمع المسيحيون الأولون).
ثم إن مر 9: 33- 50 يأتي بعد الإنباء الثاني بالآلام. نحن نعرف أن ثلاثة إنباءات بالآلام توزّعت جزءاً كبيراً من الإنجيل الثاني (8: 31- 10: 45). وتبع كلّ إنباء أحداث تبيّن عدم الفهم عند التلاميذ. وهذا اللافهم يحرّك تعليماً ليسوع عن وحدة المصير التي يريد أن يكوّنها بينه وبينهم. في الإنباء الأول، احتج بطرس، فسمع يسوع يعامله "كشيطان" (مر 8: 32- 33). وجاء تنبيه إلى التلاميذ مع الجموع، بأنهم لا يستطيعون أن يتبعوا يسوع دون أن ينكروا ذواتهم ويحملوا صليبهم (8: 34 ي). وجاء الإنباء الثاني فلقي التلاميذ لا يفهمون كلام يسوع (9: 32). وبعد الإنباء الثالث بالآلام، برز خوف التلاميذ الذين ظلوا بعيدين عن يسوع الصاعد إلى أورشليم (10: 32). كما جاء طلب ابني زبدى (10: 35) وما فيه من طموح، فعبرّ عن عدم تمكن التلاميذ من فهم طريق يسوع، وهي طريق لا بدّ لهم أن يسلكوها. بعد هذا، نقرأ 9: 38- 50 على ضوء يلقيه مرقس على هذا النصّ.
2- المقسّم الغريب (آ 38- 40)
نستطيع أن نفهم الحدث في إطار حياة يسوع كما في إطار الكنيسة الأولى. فيسوع وتلاميذه مارسوا التقسيم (أي طرد الشياطين)، وهكذا فعل يهود آخرون (مت 12: 27؛ لو 11: 19). وفاعلية تقسيمات يسوع تفسرّ لماذا لجأ بعض اليهود إلى اسمه ليطردوا الشياطين. إذن، يعكس إعلان يوحنا (آ 38) مسألة طُرحت في زمن يسوع. وبما أنها نُسبت إلى يوحنا، فهذا يبرهن على أننا أمام معطَية قديمة في التقليد. وإلا فكيف نفسرّ بشكل آخر ذكر اسم هذا الرسول في الخبر؟
ولكن الطريقة التي بها يرد هذا الإعلان، تدلت على تقليد الكنيسة الأولى: هي تفترض أن مجموعة التلاميذ محدّدة تحديداً واضحاً. وهي تميّز المقسّم الغريب عن "نحن". إنه واحد لا يتبعنا نحن (يرد فعل تبع مرتين في آ 38). وهذا الاستعمال لفعل "تبع" هو فريد في الأناجيل. عادة نتبع يسوع لا التلاميذ. أما لوقا 9: 49 فألغى هذه الإشارة الخاصة فقال: "لا يتبع (يسوع) معنا". هذه الطريقة في التعبير (يتبعنا) تُفهم فهماً أفضل إذا جعلناها في إطار الكنيسة البعد فصحية، وقد تكوّنت حول مجموعة التلاميذ.
ثم إن شكل القطعة قد طُبع بطابع استعمالها في الكنيسة. فهذا الخطّ من النصوص حيث عرض واقع (أو سؤال) يحرّك جواباً حاسماً من قبل يسوع، يعود مراراً في الأناجيل. نحن نفهمه كرسمة سريعة اعتادت عليها الكنيسة: إذا أراد المؤمنون أن يجدوا حلاً عملياً لمشاكل ملموسة في الجماعات، تذكّروا كلمات يسوع. وقيمتها كقاعدة حياة قد حدّدت تدريجياً فنّها الأدبي.
يورد اع 19: 13- 16 حالة مقسّمين يهود حاولوا في أفسس بأن يستعملوا اسم يسوع ضد الشياطين. هكذا رأوا بولس يعمل وينجح في ما يعمل. أما هم ففشلوا. وكان فشلهم لمجد الرب يسوع الذي لا نستطيع أن نستخدم اسمه في عبارة سحرية (يروي المؤرخ يوسيفوس أن اسم سليمان استعمل ضد الأرواح النجسة أو من أجل شفاء المرضى. ولا تزال هذه العادة سارية اليوم في المحيطات الشعبية).
إن الحالة التي أوردها يوحنا تعني مقسّمين غرباء عن جماعة التلاميذ. ولكن التجاءهم إلى يسوع يدلّ على بعض الإيمان عندهم. وهذا ما يفرضه جواب يسوع أيضاً: إذا كانوا يطردون الشياطين حقاً باسمه، فهم لا يستطيعون حالاً بعد هذا أن يتكلّموا عليه بسوء. مثل هذا الجواب يتوافق كل الموافقة مع موقف يسوع الذي لم يفرض على سامعيه أن ينضموا إلى مجموعة أولئك الذين دعاهم لكي يتبعوه (5: 19). ولقد ظلّ هذا التذكّر حاضراً في الكنيسة كتحذير ضد التعصّب واللاتسامح، أو ضد تجربة تدعونا أن نحصر الإيمان بيسوع وبجماعة تلاميذه. وما دام الإنسان لم ينفصل بشكل واضح عن "الكنيسة" فهو باق فيها، وعلاقته بها لم تنقطع.
أمّا مسألة معرفة الأشخاص الذين هم جزء من هذه الجماعة والذين ليسوا منها، فهي لا تجد حلاً في هذا التقليد الوحيد. والتحديد "حالاً بعد هذا" قد يدلّ على أن نجاح التقسيمات إلىرسة باسم يسوع، لا تكفل كفالة نهائية كل ما يستطيع أن يقوله هؤلاء المقسّمون عن يسوع. ألغى لوقا من مرقس آ 39 ب، لأنه أحس بحدود هذا المعيار من أجل التمييز، أو بصعوبة اللجوء إليه خارج الإطار الذي فيه تلفّظ يسوع بهذا القول. مهما يكن من أمر، إن الظواهر العديدة والخارقة التي عرفتها الكنائس الأولى، لم تكن كلها علامات عن حضور الروح والشركة مع يسوع. وبولس يذكّر الكورنثيين أن الوثنيين يعرفون مثل هذه "الخبرات"، وأن الاعتراف بيسوع كربّ هو المعيار لعمل الروح القدس (1 كور 12: 1- 3). وإذا عدنا إلى مت 7: 15- 22، نرى أنه لا يكفي أن نكون تنبأنا وطردنا الشياطين وصنعنا معجزات باسم يسوع، لكي يتعرّف إلينا يسوع في يوم الدينونة. يجب أن نكون عملنا إرادة الآب السماوي (هذا ما تقوله الديداكيه أيضاً في 11: 8- 12). والاعتراف بيسوع المسيح هو الذي يشكل في نظر يوحنا (1 يو 4: 1- 3) معيار التمييز بين الأنبياء الحقيقيين والأنبياء الكذبة: "كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد يكون من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله".
إذن، لا تكفي كلمة واحدة من يسوع لتحلّ مسألة قد تُطرح في أوضاع مختلفة. فكلمات يسوع نفسها هي مطبوعة بطابع زمانها وأول السامعين لها. فلا نقرأها بحرفيّتها، بل نؤوّنها من أجل الزمان الذي نعيش فيه.
وهذا ما يجب أن لا ننساه حين نقابل هذين القولين: "من ليس علينا فهولنا" (9: 40). ثم: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يبدّد" (لو 11: 23= مت 12: 30). بما أننا نجهل الظروف الدقيقة التي فيها قيل هذان القولان، يجب أن نفهمهما في إطارهما الإنجيلي الحالي. نحن في الحالتين أمام طرد شيطان. غير أن القول الأول يعذر مقسِّمين يلجأون إلى اسم يسوع فيقرّون أن قدرته آتية من عند الله. أما الثاني فيردّ على برهان الذين ينسبون إلى الشيطان قدرة يسوع على الشياطين،. ثم، ان هناك اختلافاً بسيطاً بين "نحن" في القول الأول (معنا نحن)، و"أنا" في القول الثاني (معي أنا). نستطيع القول إن المقسّم الغريب يجمع مع يسوع: أما المشكلة الوحيدة فهي أنه لا ينتمي إلى مجموعة التلاميذ. ولكن، كما يقول الرب، ليست من الضروري أن ينتمي إلى هذه المجموعة (أو على مستوى تدوين مرقس، إلى جماعة المسيحيين) ليلجأ بالحقيقة إلى اسم يسوع ويفعل بقدرته.
إن جواب يسوع في إطار إنجيل مرقس يشجب ضيق نظرة التلاميذ الذين لا يقدرون أن يفهموا معلّمهم. مع أنه أعلن في الحال عن آلامه للمرة الثانية (9: 30- 32)، فهم يتساءلون عمّن يكون الأكبر بينهم (9: 33- 34). إنهم يحاولون أن يستولوا على يسوع (هو لهم وحدهم. يضعون يدهم عليه ويمنعون الآخرين)، ويعتبرون أنهم يستطيعون أن يمنعوا الآخرين من اللجوء إليه إذا لم ينضمّوا إلى مجموعتهم. كل هذا يدلّ على إرادة التسلّط التي تعارض معارضة مباشرة موقف المعلّم السائر إلى آلامه، وكلمته التي لا تقبل جدالاً ولا مساومة. "من أراد أن يكون أول الناس، فليكن أخرهم جميعاً وخادماً لهم" (9: 35). وعندما يتماهى يسوع مع الطفل الذي يُقبل باسمه (آ 37)، يقول أيضاً في المعنى نفسه: "من قبل واحداً من هؤلاء الأطفال باسمي يكون قبلني". نحن هنا أمام رفض جذري لأفكار بشرية حول العظمة. وسيعود مرقس مرة أخرى إلى هذا الموضوع في ف 10: إن طلب ابني زبدى (آ 35- 40) يتعارض مع الإنباء الثالث بالآلام (10: 32- 34). والخلافات التي سببّها هذا الطلب بين التلاميذ، هي مناسبة ليؤكّد يسوع فيها ما يطلب: هو يطلب خدمة تذهب بنا حتى التضحية التامة، ويرفض نظرات بشرية إلى السلطة (آ 41- 45): "إن رؤساء الأمم يسودونها، وإن عظماءها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم".
من الواضح أن سؤال يوحنا حول التقسيمات والأشفية، يُطرح اليوم بعبارات أخرى. ولكن يبقى سؤالاً حالياً: من هو تلميذ يسوع؟ من ليس تلميذ يسوع؟ وكيف تعمل قدرة يسوع وسط البشر؟ إذا قمنا بالتأوينات اللازمة، يحتفظ سؤال يسوع بقيمته وكأنه طُرح اليوم. فمن منا في الكنيسة يستطيع أن يعتبر نفسه أن تنبيهات مرقس لا تعنيه؟
3- كأس الماء والشكوك
أ- كأس ماء للتلاميذ (آ 41)
لن نبحث عن رباط وثيق بين هذا القول والأقوال التي سبقته، بل نعرف أن الموضوع هو التلاميذ مع مختلف الظروف التي يُوجدون فيها. في آ 39- 40 تحدّد موقفهم بالنسبة إلى أشخاص غريبين عن مجموعتهم. وها نحن الآن أمام الطريقة التي بها يستقبلهم شخص من الأشخاص (كل من سقاكم). إن أصغر فعلة تعمل من أجلهم لأنهم تلاميذ، لها قيمة عند الله، "تنال أجرها" من الله.
يجب أن نقرّب هذا القول من قول آ 37 حيث استقبال طفل باسم يسوع هو استقبال يسوع نفسه واستقباله أبيه. يرى مرقس أن هذين القولين يستنيران الواحد بالآخر، لا سيما وأن يسوع يتحدّث عن الطفل بألفاظ تليق بالمرسل الذي أوفده هو. وما يلفت انتباهنا هو أن التقليد الإنجيلي طبّق على التلاميذ أقوال يسوع وفعلاته تجاه الأطفال: ننتقل بسهولة من الطفل إلى التلميذ الذي يُدعى لكي يكون صغيراً (مت 18: 2- 5؛ أما مر 9: 33- 37 فيسير في الخطّ المعاكس). من الطفل إلى "الصغير الذي يؤمن" أي إلى التلميذ الذي هو ضعيف ولا يساوي شيئاً (مر 9: 42؛ مت 18: 6).
إن آ 37 التي تعني استقبال الطفل باسم يسوع، أي تبعاً لروحه ووصيته، توحّد (على ما يبدو) بين قولين تلفظ بهما يسوع في ظرفين مختلفين. الأول (آ 37 أ) عن الأطفال. الثاني (37 ب) الذي نجده في مت 10: 40 (رج لو 10: 16؛ يو 13: 20)، يعني مرسلي يسوع. وهذه الآية، آ 37، كما يعبرّ عنها مرقس، تتكيف بشكل طبيعي مع التلميذ الذي يُقبل كتلميذ. وإذا كانت كأس الماء المعطاة له ثمينة إلى هذا الحد، فلأن يسوع يتماهى مع تلميذه كما يتماهى مع أصغر اخوته في مت 25: 35- 45.
مثل هذه الأقوال جذّرت لدى المسيحيين الأولين وعيَهم بأنهم ينتمون إلى المسيح، ومسؤولياتهم المرتبطة بهذا الإنتماء (وهذا التضامن): إن يسوع يظلّ حاضراً في العالم بواسطة تلاميذه. إذن، لن نعجب من أن نسمع قوله كما تعبرّ عنه الكرازة بلغتها. هي الكنيسة عبرّت بلغتها عمّا قاله يسوع: "من سقاكم كأس ماء بما أنكم للمسيح، لأنكم تنتمون إلى المسيح". وسيقول بولس الشيء عينه (روم 8: 9؛ 1 كور 1: 12؛ 3: 23: 2 كور 10: 7) بعد ذهاب يسوع، ليدلّ على الرباط الوثيق الذي جعله المسيح بينه وبين الإنسان الذي يثق به ويجعله حاضراً على الأرض.
ب- معثرة للصغار الذين يؤمنون (آ 42)
لسنا على مستوى التدوين الإنجيلي أمام أطفال بالمعنى الحصري للكلمة. بل أمام "مؤمنين"، أمام مسيحيين "صغار". ولماذا يُعتبرون صغاراً؟ لأنهم أضعف من الآخرين، وأقل استنارة، لأنهم معرّضون. إن بولس الرسول يخبرنا عن تنوعّ المسيحيين في الكنائس، ويعلمنا عن تأثيرهم بعضهم على بعض: فالذين لهم "المعرفة" قد يصيرون مناسبة سقوط للضعفاء الذين يقتدون بهم دون أن تكون لهم معرفتهم (1 كور 8: 7- 13؛ 9: 22؛ 10: 24- 29؛ روم 14: 1- 23). "حين تخطئون ضد إخوتكم، حين تجرحون ضمائرهم الضعيفة، إنما تخطئون ضدّ المسيح" (1 كور 8: 12). إن هذا القول البولسي يشدّد بطريقة أخرى على التضامن الذي يوحّد يسوع بأصغر المؤمنين. قال مر 9: 42: "هؤلاء الصغار الذين يؤمنون". وقال مت 18: 6: "هؤلاء الصغار الذين يؤمنون بي". ولكن سياق النصّ في مرقس يكفي ليفهمنا أنه يعني المؤمنين بالمسيح.
في آ 37، كان الطفل الذي تضامن يسوع معه، كان قد اختاره كنموذج للتلميذ. إذن، الخطورة التي يندّد بها على مستوى الشكّ والمعثرة تتوضّح على ضوء كرامة المؤمن الذي لا يعتبر نفسه شيئاً. وقساوة يسوع تعبرّ بما فيه الكفاية على الاكرام والاهتمام الواجبين للمؤمن. فأعظم شّر يمكن أن يقترفه إنسان، هو أن يجتذب إلى الخطيئة واحداً من هؤلاء الصغار. يا ليته ألقي في أعماق البحر مع حجر الرحى على عنقه! فالشّر يكون أقلّ.
إن الألفاظ التي استعملها متى ومرقس، تدلّ على أن الجماعة المسيحية قد طبّقت كلمة يسوع هذه على أبسط المؤمنين و"أصغرهم". فالشكل الأصلي (أي قبل مرقس) لا يحدّد، على ما يبدو، أن الصغار كانوا مؤمنين. فهذا التفصيل غائب من لو 17: 2 (من أن يوقع أحد هؤلاء الصغار في الخطيئة). غير أن عبارة "واحد من هؤلاء الصغار" التي لا نجدها أبداً خارج الأناجيل، قد تكون صدى مباشراً لقول تفوّه به يسوع شخصياً.
"هؤلاء الصغار" هم بلا شكّ أشخاص وضعاء من الطبقة الدنيا، غير متعلمين ومهملون. لم ينتموا إلى أية نخبة اجتماعية أو دينية، فاحتقرهم العالم اليهودي (خصوصاً لأنهم جهّال على مستوى الدين). لهذا جاء التحذير ضد معثرة هؤلاء الصغار ضدّ الرؤساء الدينيين الذين اتهمهم يسوع لأنهم احتكروا "مفاتيح المعرفة"، احتكروا تفسير الأسفار المقدّسة، وأغلقوا باب الملكوت على الذين أرادوا أن يدخلوا (لو 11: 52). على مستوى تعليم يسوع، نستطيع أن نقرأ في الخطّ عينه مثل الأعميين (لو 6: 39؛ مت 15: 14) ومثل النعجة الضالة الو 15: 3- 7؛ مت 18: 12- 14).
وتكييف هذا التعليم على كرازة المسيحيين في أيامنا، يبقى ضرورياً. "فالصغار" الذين نهملهم اليوم والذين قد يهلكون، ليسوا كلهم داخل جماعاتنا المسيحية.
ج- أسباب الخطيئة (آ 43- 48)
ويؤكّد يسوع الآن جدّية الشكوك بالنظر إلى الخطر الذي يهدّد كل واحد. فكل إنسان يستطيع أن يجد في ذاته سبب شكّ ومناسبة سقوط في الخطيئة، فيخسر هكذا الحياة (الأبدية). والخسارة خطيرة بحيث تبرّر التضحية بجزء منا لكي نخلّص الكل.
إذا أردنا أن نفهم كلمات يسوع هذه، يجب أن ننتبه إلى الطريقة الملموسة التي تقال فيه مع ما في هذا الحديث من مفارقة. لن نحاوله أن نعرف الخطايا التي قد تسبّبها اليد أو الرجل أو العين. ثم، إذا ألغينا هذه الأعضاء، لا نلغي الخطر. إنها تمثّل كل ظروف الخطيئة التي يجدها المسيحي في ذاته أو في علاقاته مع القريب. وهي تعبرّ أفضل تعبير عمّا يكلّف هذا "القطع" (إذا اوقعتك رجلك فاقطعها) المطلوب (أو: القلع بالنسبة إلى العين). فما يريد يسوع أن يشدّد عليه هو القيمة المطلقة "للحياة"، لـ "ملكوت الله". كل شيء نسبي تجاههما، ونضحّي بكل شيء من أجلهما. أجل، ملكوت الله (أو الحياة) هو المعيار الحاسم من الجل كل خيار بشري (مر 8: 35- 37 وز؛ 10: 23- 27 وز؛ مت 13: 44- 45).
"الحياة" تعارض "جهنّم"، إنها تعني بوضوح "مكان" العذاب المحفوظ للخطأة الذين يستبعدون نفوسهم من "الحياة". إن الإيراد في آ 48 (حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفئ) يعود بنا إلى نصّ أساسي في أش 66: 22- 24. وهو يذكر مجد أورشليم، عاصمة العالم الديني، بينما نجد في خارج المدينة جثث الذي تمرّدوا على الله فأكلهم الدود وأحرقتهم النار.
جهنم هي كلمة يونانية (جاإنا) تعود إلى العبرية: وادي (في اليونانية: جا أو: غا) هنوّم. وجد هذا الوادي قرب أبواب المدينة (أورشليم) من الجنوب. إعتاد الناس أن يقدّموا فيه محرقات أطفال للاله مولك (2 أخ 28: 3؛ 33: 6). نجسّه يوشيا الملك (2 أخ 23: 1) فصار مكبّ نفايات المدينة ونجاساتها. وهكذا صار رمز اللعنة (إر 7: 31؛ 19: 6). بعد المنفى حرقوا في هذا الوادي الجثث النجسة والنفايات، وكانت النار مشتعلة فيه نهاراً وليلاً. هذا ما أثر على التصوّرات اللاحقة عن عقاب الخطأة في نهاية الأزمنة. وهكذا ارتبطت نصوص العهد الجديد بهذه الصور على خطى أخنوخ وعزرا الرابع (كتابان منحولان). فتحدث مت 5: 22 عن "نار جهنم" (رج يع 3: 6) ومر 9: 43 عن النار والدود، ولو 12: 5 (ونصوص أخرى) عن جهنم التي يُلقى فيها الأشرار.
إختار إرميا "جهنم" كالموضع الذي فيه يتمّ عقاب يهوذا بكل قساوته، لأن خطيئته (ذبح الأطفال) تجاوزت كل حدّ. وتحدّث الرجاء الاسكاتولوجي عن هذه اللفظة فدلّ لا على عقاب يصيب جثثاً لا حراك لها، بل على خطأة سيقومون كما قال دا 12: 2: للعار والرذل الأبدي (مولك يعني الملك والعار). والنار والدود اللذان دلاّ في البداية على ما يصيب الجثث، صارا فيما بعد (يه 16: 17؛ سي 7: 17) رمز المصير المخيف المحفوظ للذين يرفضون النداء إلى التوبة وتنبيهات الله.
وهكذا نكون في مر 9: 43- 48 وفي مت 5: 29- 30 في إطار الدينونة الأخيرة. يبقى أن هذه النصوص لا تهدف إلى تغذية تصوّراتنا عن الآخرة، بل إلى إنارة اختيارنا لطريق نتخذه فيقودنا إلى الحياة (رج مت 7: 13- 14، 24- 27).
د- الملح والنار (آ 49- 50)
تتضمّن هاتان الآيتان ثلاثة أقوال عن الملح: (1) "كل واحد سيملّح بالنار أو: للنار" (وتزيد بعض الشواهد: كل ذبيحة تملّح بالملح) (آ 49). (2) "الملح جيّد، ولكن إذا صار الملح تافهً، فبمَ يُردّ إليه طعمه" (آ 50 أ)؟ (3) "ليكن فيكم ملح وليسالم بعضكم بعضاً" (آ 50 ب).
ترد في آ 49 كلمة "النار" التي قرأناها في أش 66 (مر 9: 48). ليست النار المذكورة هنا بالضرورة نار جهنّم. التمليح بالنار عبارة غريبة، ولكنها تربط لفظتين تتحدّثان عن التطهير. كانت الفريضة في لا 2: 13 تطلب من المؤمن أن يضع ملحاً على التقادم (بعض هذه التقادم تمرّ في النار كالمحرقة). للملح مدلولان. الأولى، يقابل الخمير (الفساد، مت 13: 33؛ 1 كور 5: 6) والعسل، ويتمتّع بصفات تحفظ الطعام وتطهّره (2 مل 2: 19- 22). المدلول الثاني، هو مادة تعطي الطعام نكهته. فبقدر ما تحُسب التقدمة وجبة طعام تقدّم للاله، يكون للملح محلّه في الطعام فيدلّ على العهد (ملح العهد أو عهد الملح، عد 18: 19؛ أخ 13: 5): نحن أمام عهد دائم يرمز إليه الملح الذي يحتفظ بطعمه "إلى الأبد". هذا هو معنى العبارة: "كل ذبيحة تملّح بملح".
ونعود إلى النار. إنها تدمّر وتطهّر في الوقت عينه. هي لا تحرق "الإنسان" كله، بل تحرق فقط ما يجب أن يزول منه (مثل المعادن). وارتباط النار بالملح يدلّ بالأحرى على الحفظ أكثر منه على الدمار. إذن، يتكلّم النصّ عن محنة مطهّرة، عن اضطهاد (1 بط 1: 7)، أو عن نار الدينونة. نحن في إطار اسكاتولوجي. وهكذا يدعو يسوع إلى التخليّ الذي يجعل التلميذ يقتدي بمعلّمه. فالمحنة التي ترمز النار إليها تحكم على التلميذ وعلى مدى تجرّده. إن ملح العهد والخدمة المجرّدة يجعل التلميذ يقبل التضحياًت الضرورية ليستقبل الصغار في الحقّ، وليعيش بسلام في الجماعة.
في العهد الجديد، الملح هو ما يعطي للطعام طعمه. ولكن قد يوضع الملح في الأفران فيخسر طعمه ويصبح تافهاً. فذا ما يحدث للمسيحي الذي قد يمرّ في الإضطهاد، فيتراجع. ويتراخى. لن " يتعود ملحاً فيصبح النور الذي فيه ظلاماً.
إذا ربطنا لو 14: 34- 35- بما يسبقه، كان الملح صورة عمّا. ينقص التلميذ الِذي يريد. أن. يتبع يسوع من دون تجرّد، أو الذي تبعه في البداية ولكنه لم يثابر على التجرّد. وهكذا يكون الكلام. في لوقا نداء إلى الأمانة تجاه. الذات وتجاه الإنجيل. إما في مت 5: 14- 16 فنقرأ عن التلاميذ الذين هم نور العالم، الذين يجتذبون الناس إلى الله. وهم أيضاً ملح الأرض الذي سيحفظ الأرض، الذي سيعطي طعماً للأرض وبالتالي للبشرية. فإن. خسر التلاميذ هذا الطعم فهم لا ينفعون شيئاً.
نجد كلمة "ملّح" في لو 14: 34 (ارتوو). ونجدها؟ أيضاً في كو 4: 6: "ليكن كلامهم لطيفاً (بالحنان) على الدوام، مصلحاً بملح". تدلّ الكلمة هنا على الحكمة. هل من رباط بين نصّ بولس ونصّ مرقس؟ ربما. وهكذا يكون الشق الأول من مر 9: 50 يتحمّل معاني عديدة. (1) ملح يخسر طعمه، تلميذ نسي التجرّد. (2) فكرة قريبة من الذبيحة وبالتالي من آ 49. (3) الحكمة الإنجيلية. (4) حياة من الأمانة يعيشها التلميذ الذي يحفظ العالم من الفساد ويعطيه طعمه.
وتجمع آ 50 ب الملح والسلام. هناك رباط بين الملح والطعام الذي هو علامة المشاركة، والضيافة والصداقة والعهد. نحن أمام صفة أساسية في الجماعة المسيحية، وهي تقابل السلام والمسالمة. بدأت هذه المقطوعة بالمناقشة بين التلاميذ حول المركز الأول وانتهت بالسلام بين الأخوة. ما يجعل السلام ممكنا بين الأخوة هو التجرّد والتخليّ عن الذات.
خاتمة
بدت أقوال يسوع هذه مبعثرة. ولكنها بقيت جديرة بأن تغذّي الكرازة المسيحية. قدّمها مرقس بشكل تعليمات لتلاميذ ساروا في طريق يقود ابن الإنسان إلى الآلام والمجد. وهذا النور أعطي للأجيال الجديدة لتنمهم وتكيّف ما قيل بالنسبة إلى زمن يسوع أو حياة المسيحيين الأولين. ونحن ننفتح على قدرة يسوع حتى خارج حدود جماعاتنا، ونعرف أننا نمثّله على الأرض. نحن نتّصل "بكل أحد"، ومسؤولون عن الصغار، و"الحياة" التي نحن مدعوون إليها تستحقّ كل التضحياًت.
وما يلفت النظر في هذه المجموعة (آ 33- 50) هو أن لا نميّز بين رؤساء الجماعة وبين الآخرين. وحدهم الصغار مميّزون ليسلّموا إلى مسؤولية الجميع. والطريقة التي بها صار الاثنا عشر التلاميذ (آ 31- 33، 35)، وتلك التي بها يتحدّد الجميع (أنتم في آ 41) بانتمائهم إلى المسيح، يدلاّن على ان كل مسيحي يستطيع أن يستفيد من هذه الكرازة. وإذا دلّت آ 35 و38 بصورة خاصة على الرؤساء فلتعلّماهم أن لا يضعوا نفوسهم فوق الآخرين (آ 35) وأن لا يحتكروا سلطة يسوع (آ 38).
يتوجّه الحوار بشكل منظور إلى مثال جماعة يعيش فيها الجميع في سلام بعضهم مع بعض (آ 50 ب)، لأنهم في خدمة بعضهم بعضاً (آ 33- 35). أما الشرط الأساسي فهو التخليّ عن الذات الذي يدلي عليه الملح (آ 50) الذبَ بدونه لا يكون المؤمن تلميذاً حقيقياً. وإذا أردنا أن نعطي عنواناً للمجموعة (آ 33- 50) قلنا: تعليمات حول الطريقة التي بها نكون تلاميذ