الفصل التاسع: شفاء ولد مصروع

الفصل التاسع
شفاء ولد مصروع
9: 14- 29
نزل يسوع ورفاقه من الجبل، وانضموا إلى مجموعة التلاميذ الذين يتجادلون مع الكتبة وسط جمع غفير. أجل، بعد التجليّ عاد يسوع إلى الناس. فذاك الذي ظهر في المجد لم ينسَ مهمته بين البشر. لقد شددّت المقطوعة عن إيليا بأن المجد لم يجعل يسوع ينسى الصليب. هذا ما سوف نكتشفه في شفاء الولد المصروع. ونبدأ أولا بالنصّ الإزائي.
1- النصّ الإنجيلي
متى 17 مرقس9 لوقا 9
14- و 14- و 37- وفي اليوم التالي
لما أتوا إلى آتون إلى التلاميذ لما نزلوا من الجبل
الجمع أبصروا جمعاً كبيراً جمع غفير
حولهم
وكتبة وهم
يباحثونهم
15- وحالما أبصر
الجمع يسوع
تقدّم رجل تحيرّوا
إليه وإذ بادروا جاؤوا إلى لقائه
وجثا له سلّموا عليه
16- فسألهم
فيمَ
تتباحثون معهم
17- وواحد 38- وها رجل
من الجمع من الجمع
15- قال: أجابه: صاح قائلاً:
يارب (سيد) يامعلّم يامعلّم
(جئتك) جئتك أتضرع إليك أن تلقي
إرحم إبني بابني نظرة على ابني
لانه لأنه
مصروع وحيدي
ويتألم جداً
وكثيراً (آ 22): وكثيراً
ما يقع في النار ما يقع في النار
وكثيراً في الماء وفي المياه
به روح إبكم 29- وها إن روحاً
18- وحيثما اعتراه يعتريه
يصرعه (آ 43- صرعه)
وللحال
(آ 26: يزعق يزعق
هزه بعنف) ويهزه
ويزبد مع الزبد
ويصر ويتركه
بأسنانه بالجهد
وييبس بعد أن يرضّضه
جئت به (آ 17: جئت بابني)
وقلت سألت
لتلاميذك لتلاميذك تلاميذك
أن يطردوه أن يطردوه
فلم يستطيعوا فلم يقدروا فلم يستطيعوا
أن يشفوه
فأجاب 19- فأجاب 41- فأجاب
يسوع وقال: هو وقال لهم: يسوع وقال:
أيها الجيل أيها الجيل أيها الجيل
غير المؤمن غير المؤمن غير المؤمن
الأعوج الأعوج
إلى متى إلى متى إلى متى
أكون معكم أكون بقربكم أكون بقربكم
إلى متى إلى متى و
وأحتملكم وأحتملكم وأحتملكم
قده إلي هنا تده إلي جئني بابنك إلى هنا
20- وقادوه إليه 42- وكان يتقدّم بعد
وإذ رآه الروح حين الشيطان
حالاً
(آ 14: صرعه) صرعه
وهزّه بعنف وهزّه بعنف
فسقط على الأرض
وهو يتمرّغ
مزبداً (آ 39: مع الزبد)
21- وسأل أباه:
منذ كم من الزمان
يصيبه هذا؟
قال هذا:
منذ صباه
(آ 15: وكثيراً 22- وكثيراً
ما يقع في النار ما ألقاه في النار
وكثيراً في الماء) وفي المياه
لكي يهلكه
ولكن ان استطعت شيئاً
فأغثنا
شفقة منك علينا.
23- ولكن يسوع قال له:
(آ 20): لايستحيل آه، لو استطعت!
شي عليكم كل شي مستطاع
للذي يؤمن
24- حينئذٍ صاح
ابو الولد وقال:
(آ 20) بسبب أؤمن فأعن
قلة إيمانكم) قلة إيماني:
18- ويسوع 25- ولما رأى يسوع أما يسوع
ان الجمع يتراكض،
انتهره إنتهر الروح النجس إنتهر الروح النجس
قائلاً له: أيها الروح الأبكم
الأصم: أنا آمرك:
أخرج منه
ولا تعد إليه من بعد.
والشيطان 26- وإذ زعق (صرخ) (آ 40: زعق)
هزّه بعنف وهزّه
خرج منه وخرج
فصار
مثل الميت
حتى إن الكثيرين
قالوا: قد مات
و 27- أما يسرع فأخذه و
الولد شُفي بيده وأنهضه شُفي الولد
فقام وردّه إلى أبيه
43- فبهت الجميع
أمام عظمة الله
19- وإذ 27- ولما دخل
اقترب من يسوع إلى البيت
التلاميذ على حدة تلاميذه على حدة (17: 5: قال الرسل
للرب:
قالوا سألوه زدنا إيماناً)
لماذا نحن لماذا نحن
لم نقدر لم نقدر
أن نطرده أن نطرده (نخرجه)
20- فقال لهم: (17: 6: قال الرب)
بسبب قلة إيمانكم.
فالحق أقول لكم
لو كان لكم من الإيمان لو كان لكم من الإيمان
مثل حبّة خردل مثل حبة خردل
لقلتم لهذا الجبل لقلتم لهذه التوتة
إنتقل من هنا إلى هناك إنقلعي وانزرعي في البحر
فتطيعكم
فينتقل
ولما استحال (آ 23: كل شيء ممكن
شيء عليكم للذي يؤمن)
21- ثم 29- ثم قال:
هذا الجنس هذا الجنس
لا يقدر أبداً
لا يذهب أن يخرج
إلا بالصلاة إلاّ بالصلاة
والصوم والصوم

2- السياق الإزائي
نلاحظ أولاً أن السياق اللاحق هو هو في مت، مر، لو. فالإنباء الثاني بالآلام يلي إخراج الشيطان من الولد المصروع. هو يبدأ المجموعة الثانية التي بناها الإزائيون إنطلاقاً من بنية واحدة ليتحدّثوا عن الصعود إلى أورشليم. إكتفى متى (17: 22) ومرقس (9: 30) بالإشارة إلى تبديل المكان: من منطقة قيصرية فيلبّس حيث أعلن بطرس إيمانه، عادت المجموعة الصغيرة إلى الجليل. أما لوقا، فقدّم انتقالة بطريقته الخاصة (9: 43 ب). وهكذا يختم الحدث الذي ندرس أول مجموعة بدأت بإعلان بطرس ليسوع أنه المسيح.
أما الرباط مع الخبر السابق، خبر التجليّ، فهو مباشر عند لوقا الذي لا يقحم بين الحدثين الحوار حول عودة ايليا، بل يقدّم حوار يسوع مع الشخصين السماويين ليكون الحوار حول إيليا. وهكذا يتوالى التجليّ وشفاء المصروع، تربط بينهما لحمة كرونولوجية هي: "وفي الغد".
ولكن الرباط عند متى ومرقس ليس مباشراً بين الحدثين. لقد أقحما بين الخبرين حوار يسوع مع التلاميذ الثلاثة المميّزين. رتّب متى نصه فجاء طبيعياً. فخلال النزول من الجبل، سُئل يسوع حوله عودة إيليا. سأله "التلاميذ" (17: 9- 10) الذين شهدوا التجليّ (17: 6). بعد هذا، التقت المجموعة الصغيرة (يسوع، بطرس، يعقوب، يوحنا) بالجمع الذي خرج منه رجل يطلب الشفاء لابنه المريض بداء الصرع (يُصرع فيقع على الأرض): إن "التلاميذ" (التسعة الآخرين) (17: 16) لم يقدروا أن يشفوه. تنهّد يسوع و "غضب" عليهم ثم طرد الشيطان. حينئذٍ سأل التلاميذ (التسعة) يسوع (17: 19) عن سبب فشلهم.
أما التأليف المرقسي فلا يبدو متناسقاً كما عند متى. فهو يتجنّب لفظة "تلميذ" ليدلّ على الثلاثة الذين نزلوا من الجبل، ويحتفظ به للتسعة الذين حاولوا أن يطردوا الشيطان. وهكذا ميّز الثلاثة عن التسعة.
إن الطابع المصطنع لهذا التركيب يدلّ على أن الحوار بين يسوع والثلاثة المميّزين، قد ارتبط في حقبة متأخرة بخبر التجليّ. لقد تسلّم الإنجيليون الثلاثة من التقليد قبل الإزائي المتتالية التي ضمّت اعتراف بطرس. إعلان مصير ابن الإنسان، ردّة فعل بطرس. وجاء حدث الولد المصروع ليكّمل هذه المجموعة الأولى.
3- الخبر في متى ولوقا
أ- نصّ مت 17: 14- 21
يتضمّن النصّ الحالي في مت قسمين: خبر المعجزة (آ 14- 18)، الحوار بين يسوع وتلاميذه (آ 19: 21). يبدو أن الوالد والتلاميذ رأوا في المصروع مريضاً عادياً. حين شفاه يسوع دلّ على أنه ممسوس. فسؤال التلاميذ لا يشير إلى شفاء. لم يقدروا عليه، بل إن طرد شيطان بدا مستحيلاً. اختلفوا عن "المقسّم" الذي لم يكن يتبع يسوع ولكنه نجح "باسم يسوع" (مر 9: 38- 40). أما هم فنقص إيمانهم، فلم يمارسوا ملء السلطان الذي أعطي لهم على المرض وعلى الشيطان.
إن الحوار بين يسوع والتلاميذ يفهمنا مجمل الخبر: زيد على خبر معجزة ذات مرمى كرستولوجي فأعطانا بعداً فقاهياً يوافق مخطّط يسوع في القسم الثاني من حياًته العلنية: تكوين التلاميذ، تربية إيمانهم.
حين نقرأ الخبر كله، نرى مجموعة التلاميذ تخرج من عمق اللاإيمان وتقف في الصفّ الأول: فمن أجلهم يتكلّم يسوع ويعمل. لم يكن دورهم مجيداً. كانوا قليلي الإيمان. جاء توبيخ يسوع متضمناً في كلام وجّهه يسوع إليهم: لو كان لكم إيمان مثل حبّة الخردل!
هنا نتذكّر "الإيمان" في أربعة مقاطع: مت 17: 20: "لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل، لقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يستحيل عليكم شيء". مت 21: 21: "إن كان لكم إيمان ولا تتردّدون، لا تفعلون ما فعلت بالتينة فقط، بل إن قلتم لهذا الجبل قم من ههنا واهبط في البحر، فإنه يكون ذلك". لو 17: 6: "لو كان لكم من الإيمان مثل حبّة خردل، قلتم لهذه التوتة انقلعي وانغرسي في البحر، فتطيعكم". مر 11: 22- 23: "ليكم لكم إيمان بالله! الحق أقول لكم: إن قال أحد لهذا الجبل انتقل واسقط في البحر، وهو غير مرتاب في قلبه، بل مؤمن بأن ما يقوله يكون، فذلك يكون له".
في مت 17: 20 نرى تعارضاً بين صغر الحبّة وضخامة الجبل. في لو 17: 6 نجد مقابلة بين حبّة في بدايتها وشجرة كبيرة. المهم هو نوعيّة الإيمان. احتفظ مت 21: 21 ومر 11: 22- 23 بالمقابلة مع حبّة الخردل. ولكنهما زادا أن على المؤمن أن لا يشكّ، أن لا يرتاب. حينئذٍ زاد مت 17: 20: لا يستحيل. وصورة نقل التوتة (لو 17: 6) قد تأثرت بما في مت 17: 20 عن الجبل: "إنتقل من هنا إلى هناك".
في مت 17: 20، قد يعني "الجبل"، جبل التجليّ. وهكذا نكون في خلفيّة اسكاتولوجية: الله وحده يمهّد الجبال (أش 40: 4 كما ورد في مت 3: 3) أو يزيحها من مكانها (أي 9: 5). قوة الإيمان هي قوة الله نفسه. والتلاميذ بإيمانهم يشاركون في قدرة الله في الأزمنة الاسكاتولوجية التي يعيشونها مع يسوع.
ويقابل هذا الإيمان مع حبّة الخردل. هذا هو أصل قدرة الإيمان. إنه بذرة في قلب الإنسان. والله هو الذي ينميها. الله مع الإنسان. لا الإنسان بدون الله.
ما هو الدرس الذي أخذه التلاميذ بعد أن اختبروا ضعفهم؟ وُضع فشلهم في ضوء لاهوتي ما زالت يوجّه رؤساء الجماعة: يجب أن يؤمنوا حقاً أن لا شيطان يقاوم المؤمنين الذين يشاركون لا قدرة الله. وهذا الإيمان الذي أعطي لهم كحبة خردل زرعت في الأرض، يجب أن ينمّوه بالصلاة والصوم. حينئذٍ يعملون باسم يسوع لأن يسوع بينهم.
ب- نصّ لو 9: 37- 43
الخبر في لو أقصر منه ممّا في مت. وهو قريب في بعض الأمور من مر الذي سنعود إليه. إنه خبر معجزة حسب فنّه الأدبي النقيّ. ونرى فيه بشكل خاصّ الخاتمة المعروفة التي تتحدّث عن الدهشة، وتحلّ محل الحوار الذي زاده مت ومر: "فبُهت الجميع من عظمة الله". هذا ما يبرزه نصّ لوقا: أعمال الله العظيمة (رج 5: 26؛ 7: 16). الله يتمجّد في ابنه يسوع. وهذه الأعمال العظيمة عينها سوف ينشدها الرسل يوم العنصرة (أع 2: 11).
يحيط بالخبر فعلةُ والد الولد: جاء الآب يقدّم ابنه الوحيد ليسوع، فينال منه ابنه وقد نجا من الروح النجس. تعرّى الحدث من الحوار بين يسوع والتلاميذ، فصار قوياً في بساطته.
ماذا نجد عند لو؟ يسوع وأب تعيس. أهمية الأب في السبب الذي يقدّمه إلى يسوع. أراد أن يشُفى ابنه لا لأنه ممسوس (فيه شيطان)، بل لأنه وحيد (9: 38؛ رج 7: 12؛ 8: 42). ثم يفصّل عوارض المرض. وصلاته إلى يسوع جاءت مثل "صلاته" إلى التلاميذ. حين توجّه إلى يسوع قال فقط: يكفي أن ينظر إلى ابنه ليشفى.
ونطرح السؤال: إلى من يتوجّه كلام يسوع؟ مع أن الأمر أعطي للأب لكي يأتي بابنه، فكلام يسوع لا يتوجّه إليه. أيكون قاله للجميع دون أن يحدد أحداً. أنحتاج هنا إلى مت أو مر لكي نفهم لو؟ الأمر ممكن.
ونشهد كما عند مر حالة الصرع مع بعض التفاصيل التي تثير الشفقة. وبعد التقسيم الذي به يطرد يسوع الشيطان، يشفي الولد، نجد السمة المميّزة: ردّ يسوع الولد إلى أبيه. نحن أمام فعلة حنان تشبه ما فعل يسوع مع أرملة نائين (7: 15): "سلّمه إلى أمه".
وهكذا يقدّم لنا الإنجيلي معجزة أخرى (مأثرة أخرى من مآثر الله) في إنجيل الرحمة الخلاصيّ. ويدعونا لأن ننشد مع الشعب أعمال الله العظيمة. على خلفيّة مظلمة، شكّل ضعف التلاميذ مع مشهد التجليّ المجيد دبتيكا بدرفتين، فأرانا في يسوع المحسن القدير الذي به يصنع الله معجزاته فيدلّ على صلاحه وفدائه: ويعيد يسوع إلى الأب الولد الوحيد الذي غرّبه الشيطان عن عائلته ومجتمعه.
4- الخبر في مر 9: 14- 29
أ- النقد الأدبي
نجد في مر تفاصيل لا نجدها في مت، مع العلم أن نقاط الاتصال عديدة بين الإنجيلين. كيف تدوّن الخبر في مر؟ نستطيع أن نكتشف مرحلتين سابقتين للنصّ الحالي الذي بين أيدينا.
أولاً: روح أصم أبكم
ظاهرياً، ينقسم الحدث كما في مت إلى مشهدين متعاقبين. الأولى: في "الساحة" (آ 14- 27). الثاني: في البيت (آ 28- 29). ارتبط القسمان من جهة المعنى أكثر منه من جهة المبنى. إن جواب يسوع (هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة) يلفت الانباه إلى هذا الجنس الخاص من الشيطان. طرده يسوع. أما التلاميذ فعجزوا هذه المرة رغم الرسالة التي سلّمت إليهم (6: 7) ورغم النجاح الذي سبق وحصلوا عليه (6: 13؛ رج لو 10: 17).
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نحن نعرف أن المقسّم يطرد الشياطين في حوار معهم، فيناديهم بأسمائهم (11: 25؛ 5: 8). ولكن هذا الجنس (هذا الشيطان) هو "أصمّ، أخرس". لا نستطيع أن نناديه باسمه. إذن، إن أردنا أن نطرده، إحتجنا إلى اتحاد وثيق جدا مع قدرة الله. هي إشارة تختلف بعض الشيء عمّا في مت الذي فسرّناه على ضوء الإيمان بالمهمة التي تسلّمها الرسل ليطردوا الشياطين. إذن، نحن هنا أمام حالة خاصّة تفرض الصلاة والصوم، تفرض اللجوء الحارّ إلى الله وحده. فالامتناع عن الأكل طوال النهار، مع أن الطعام عطيّة من عطايا الله، يدلّ على أننا ننتظر كل شي منه، لا من قوانا البشرية. هذا ما فعله بولس وبرنابا: إستعدّا لرسالتهما بالصوم (13: 2- 3).
إذا جعلنا هذا التفصيل جانباً، يبدو أن المحيط الفقاهي الوحيد نقل هذا الدرس إلى التلاميذ. أما الجدال مع الكتبة فسوف نعود إليه.
ثانياً: الخبر في آ 20- 27
أما آ 20- 27 فلا تخضع للمجموعة. جعلت من الرواية خبراً على مستويين: يتحاور يسوع مرتين مع والد الولد (آ 16- 19؛ 21- 24). جاء الجمع إلى يسوع مرتين (آ 15؛ 25). قدّم الوالد ابنه الممسوس مرتين (آ 17- 18؛ 21- 22). لهذا طُرح سؤال حول وحدة الخبر. قد نستطيع أن نعزل خبر المعجزة (حسب الفني الأدبي الكلاسيكي) في آ 20- 27: دخل في رواية أوسع مع درس أعطي للتلاميذ (آ 14- 19؛ آ 28- 29)، فخسر مقدمته وخسر خاتمته التي جاءت ربّما كما في لو 9: 43 (بُهت الجميع من عظمة الله).
هناك تقليد يذكر شفاء ولد مصروع. خلاله نال يسوع من والد الولد فعل إيمان. فالإيمان الذي طُلب من هذا الرجل لا يقابل ذاك المطلوب من التلاميذ في مت: في مت هو إيمان مجترح المعجزة. في مر، هو إيمان طالب المعجزة. واللاإيمان الذي يشتكي منه الأب، يشبه لا إيمان مواطني يسوع (6: 6)، لا عدم إيمان التلاميذ خلال العاصفة (4: 40). إيمانه هو ذاك الذي ينال العجائب (2: 5؛ 5: 34؛ 10: 32).
إن هذا الخبر المعزول يشبه شفاء (طرد الشيطان من) ابنة السورية الفينيقية (7: 24- 30): يضم ميزات ترجع إلى الفن الأدبي عن الشفاء كما عن طرد الشيطان. وإليك بعض التفاصيل التي تدلّ على قرب خبر المصروع من طرد الشيطان. (1) جاء الشيطان فجأة، في الحال (9: 20؛ رج 1: 23؛ 5: 2- 7). (2) يسوع يسأل (9: 21؛ رج 5: 9). (3) يصوّر الشرّ (9: 20- 22؛ رج 5: 3- 5). (4) يسوع يأمر (9: 25؛ رج 1: 25؛ 5: 8- 13؛ 7: 29). (5) أزمة نهائية (9: 26؛ رج 1: 26؛ 5: 13). عاد الممسوس إلى الهدوء (9: 26؛ رج 5: 15؛ 7: 30).
ويشدّد مرقس أيضاً على موضوع الشفاء. (1) نداء إلى الرحمة (9: 22؛ رج 1: 40؛ 5: 23- 27؛ 7: 26- 28؛ 10: 47- 48). (2) كل شي ممكن للذي يؤمن (9: 23؛ رج 2: 5؛ 5: 34، 36؛ 6: 6؛ 10: 52). (3) أخذ يسوع الولد بيده بعد أن نجا (9: 27؛ رج 1: 31؛ 5: 41- 42).
هذه المعجزة المدهشة التي هي انتصار على الشيطان وعمل رحمة، قد رُويت من أجل الكرازة فتوخّت أن تثير الإعجاب بيسوع والإيمان بقدرته.
ثالثاً: وحدة الخبر
ومع ذلك، يبقى نصّ مر موحّداً رغم الأمور الأدبية التي أشرنا إليها. فإذا أردنا أن نكتشف الهدف الأخير، نجعل كل قسم في موضعه. إن إقحام الخبر المعزول (آ 10- 27) ينزع من الحوار دوره المهم في الحدث. هذا ما يدلّ عليه عدم التوازن بين القسمين، انقطاع في الحوار (آ 29: وقال لهم). ولكن إن تركنا التوقّف عند هذه التفاصيل، وإن تذكّرنا يوحنا في تدوين إنجيله، ترتسم أمامنا بنية المجموعة في ثلاثة أقسام: يتألف كل قسم من مشهد وحوار يقوده يسوع.
* آ 14- 19 ج: المشهد الأول. يسوع والجمع المدهوش (آ 14- 15). أول حوار بين يسوع والرجل (آ 16- 19 ج).
* آ 19 د- 24 (هلّم به إليّ): المشهد الثاني. يسوع والولد الممسوس (19 د- 20). حوار بين يسوع ووالد الولد (آ 21- 24). نلاحظ التدرّج من الحوار الأول إلى الحوار الثاني. بعد صورة سريعة عن الشّر واتهام التلاميذ العاجزين، تأتي صورة مفصّلة يتبعها طلب، ثم انطلاقة جديدة للحوار تدفع الولد ليقوم بفعل إيمان كافٍ.
* آ 25- 29: المشهد الثالث: طرد يسوع الشيطان من الولد أمام الجمع الذي ظنّ أن الولد مات. ولكن يسوع أنهضه بيده. فوقف الولد (آ 25- 27). وكان حوار ثالث (آ 28- 29) يقابل على المستوى الأدبي الحوارين الأولين، ويخسر دوره كخاتمة تعطي الحدث معناه.
وهكذا نكون أمام دراما يتداخل فيها خبر المعجزة والدرس للتلاميذ. فنرى يسوع ظافراً بالشيطان. سنتوقف عند المراحل ونتأمل الدور الذي يلعبه كل من الأشخاص.
ب- أشخاص الخبر
أولاً: الجمع
يلعب الجمع في مر دوراً مهماً يتعدّى ما في مت. هم يحيطون بالتلاميذ، يدهشون لدى رؤية يسوع. وهذا ما يجعلنا نفكّر إن الجدال جرى على فاعلية السلطة المعطاة للتلاميذ الذين عجزوا عن ممارستها. وبادر الجمع للسلام على يسوع. ومنه خرج رجل. ويبدو أن كلام يسوع عن "الجيل الغير المؤمن" يتوجّه إليهم. وجيء بالولد. فازدحم الجمع من جديد حول يسوع، وقالوا كلهم إن الولد قد مات. هذا الجمع الذي يذكره مرقس مراراً، ويراه متعاطفاً مع يسوع، مهتماً بأن يكون قرب يسوع، هذا الجمع يبدو هنا الشاهد الحقيقي للمعجزة. يذكّرنا بأولئك الذين شهدوا قيامة لعازر (يو 11: 33- 42؛ رج مر 9: 25: إيدون= راء).
إختلفت هذه المعجزة عن إقامة ابنه يائيرس (5: 40) أو عن شفاء أعمى بيت صيدا (8: 23)، في أنها جرت في الساحة العامة، أما الجموع. هذا الطابع العلني يتخذ من السياق الذي يحيط بالحدث مدلولاً محدّداً. فالإنباء بالآلام الذي توجّه إلى التلاميذ وحدهم (8: 31) قد تبعه مشهد التجليّ الذي كان سرياً هو أيضاً (9: 2- 9). ولكن ضرورة حمل الصليب قد أعلنت على الجمع في الساحة العامة، لا أمام التلاميذ وحدهم (8: 34). وكذا نقوله أيضاً عن انتصار يسوع على الشيطان: فهو يدلّ على أعين الملأ على قدرته. أما الدرس فهو: يجب أن نخسر حياًتنا لنربحها. والولد الممسوس خسر حياًته ظاهرياً، ولكنه استعادها في يسوع.
ثانياً: التلاميذ
دور التلاميذ بسيط، وقد كسفه حضور الجمع، كما كسفه بشكل خاص والد الولد. فكلام يسوع في آ 19 لا يتوجّه إلى التلاميذ وحدهم. بل إلى جميع الحاضرين.
ثالثاً: الأب
أما الأب فهو في المقدّمة. قام بمسيرة الإيمان. فاقتاد ابنه لا إلى التلاميذ (كما في مت ولو)، بل إلى يسوع (جئتك بابن لي). وهكذا دلّ على نيّته الأولى بأن يلجأ إلى المعلّم ولو بواسطة تلاميذه. لم يكن طلبه مليئاً كل الملء بالثقة، فيبدو أنه شكّ بقدرة يسوع (إن استطعت). ولكن طلب منه المخلّص فقام بفعل إيمان متواضع وتام. لجأ إلى يسوع نفسه لكي يحصل على هذا الإيمان العميق (آ 24: رج 5: 36). عبر هذه الدراما الشخصيّة، نستشفّ صورة نموذجية عن مسيرة الإيمان نستطيع أن نقرّبها من حوار يسوع مع السامرية (يو 4). لسنا هنا فقط أمام تفاصيل أخذت ساعة وقوع الحدث: فمثال هذه المسيرة إلى الإيمان يجب أن يدعو القارئ لأن يتّحد بطلب الابن البائس وبثقته القوية.
رابعاً: الكتبة
نندهش حين نرى الكتبة في هذا المكان المنعزل (14: 16). يبدو أن مرقس يشير إلى الكهنة المحلّيين الذين يلعبون عادة دور الخصوم في التظاهرات العلنيّة. وحين يصل يسوع، يهربون. سأل يسوع تلاميذه: "فيمَ تباحثونهم"؟ إذا كان مر قد احتفظ بهذه الحاشية فلأنه رأى في هذا الجدال الذي هدأ ساعة وصولا المعلّم، صورة مسبقة عن انتصار يسوع. في مرحلة أولى هرب الكتبة. وفي المرحلة الثانية سوف حرب الشيطان. فلا حاجة إلى جدال مع الكتبة، حين يستطيع يسوع أن ينتصر عليهم بواسطة تلاميذه.
خامساً: الشيطان
الشيطان شخص مهمّ على المسرح. فالولد الممسوس هو مناسبة تتيح لقدرة الشيطان أن تفعل. هو "روح أبكم". وهو سيتماهى فيما بعد (آ 25) مع الشيطان نفسه. إن عدم التواصل في آ 25 يدلّ على دور الشيطان المسيطر. وفي آ 22، يتسلّط الشيطان على فاعل الفعل. هذا الشيطان هو "القويّ" (3: 27). وقد قاوم التلاميذ الذين كانوا أضعف منه (9: 19).
سادساً: يسوع
ولكن يسوع أقوى من الشيطان. إذ أراد متى أن يجعله مهيباً، خلق فراغاً حوله، وصوّر بإيجاز حركاته وموقف الشهود. ومرقس وجّه الأشخاص، رغم عددهم، إلى يسوع. فيسوع يثير الدهشة. ولكن الناس يتراكضون إليه ليحيّوه. "إليه" جاء الوالد بابنه. ويسوع يردّه إليه معافى.
ثم إن المبادرة هي في يد يسوع، وهذا ما يميّز الخبر المرقسي. جاء فتراكض الناس إليه. سألت عن الجدال، فخرج رجل وشرح له ما حدث. أمر بأن يجيئوه بالولد. فجاؤوه. طرح سؤالاً على الأب فأجاب الأب ودلّ على ضعف إيمانه. شدّد يسوع على كلمة "ضعيف" (الإيمان). فدلّ الرجل على الإيمان الكامل. أخيراً، أمر يسوع الشيطان الذي انتصر في الظاهر فرمى ضحيّته على الأرض. ولكن يسوع أنهض الولد، وهكذا كلّل عمله.
إن هذه المبادرة المتواصلة تلفت انتباهنا. فموقف يسوع يختلف حين يشفي أو يخرج شيطاناً. فالمخلّص يستقبل بمحبة طلب الشفاء. ولكنه يستبق الأمور في طرد الشيطان، كما فعل مع مجنون الجراسيين (5: 6- 8؛ رج 1: 25- 34؛ 3: 11- 12؛ 7: 27). أما الأسئلة التي ترد فهي مجرّد شكليّات. لقد اتخذ يسوع قراره وهو يخلّص هذه "الضحيّة" من براثن الشيطان.
بدأ يسوع فقطع سيل الأسئلة، وطلب أن يجيئوه بالولد. في البدء لما يجب يسوع الرجل. بل تكلّم وحده عن هذا الجيل الكافر والمعوجّ. إنه يُشرف على الحضور. إنه يقف وحده بقامته أمام هؤلاء اللامؤمنين. أمام الشيطان.
وكان صراع بينه وبين الشيطان. وانتصر يسوع. نحن أمام غلبة رمزية. أما الغلبة الحقيقية فستكون في موته وقيامته. هنا نتذكّر الرابط بين هذا الحدث والإنباء بالآلام والقيامة. اعتبروا الولد قد مات. بل قالوا إنه مات. ولكن يسوع "أقامه فقام". هذه هي لغة الإيمان.
خاتمة
إن حدث الولد المصروع بدا أكثر تشعباً من سائر أخبار طرد الشياطين، بمضمونه وبمعناه. يقع في ذروة الإنجيل، حيث يكشف يسوع سرّ ابن الإنسان. هذه الدراما في ثلاثة مشاهد تجري في العلن وتحمل بعداً رمزياً. إنها تدلّ على صراع بين يسوع والشيطان. لقد انتصر يسوع على بعل زبول، بعد أن اتهمه أعداؤه بأنه يطرد الشياطين باسم بعل زبول. لقد أنهى "بيته" (3: 22- 26).
وعلى القارئ أن يعرف أنه ضعيف وحده أمام القوى الشيطانية. أما مع يسوع، فهو يقدر على كل شيء. إنه من هذا الجيل الغير المؤمن. ولكنه يسمع يسوع يدعوه إلى الإيمان، إلى الصلاة والصوم. فإن أراد أن ينجو من الشيطان، عليه أن يلجأ إلى يسوع وحده. وإذ ينظر إلى انتصار يسوع على الشيطان، يعرف أن هذا رمز لانتصاره لا الموت والقيامة كاستباق لانتصار كنيسته بفضل قيامته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM